عندما أتى ياسر عرفات في زورق إلى طرابلس سنة 1983، في إحدى أكبر مغامراته وأشدها خطورة تحدث عن احتمال سرقة الثورات، قال انه أتى كي لا تُسرق الثورة الفلسطينية.
كان ذلك في لحظة فلسطينية بالغة الصعوبة، يوم نجحت استراتيجية «الأكورديون» في خنق الفلسطينيين في لبنان. إسرائيل في الجنوب وبيروت، وجيش حافظ الأسد وأتباعه في الشمال. وعبارة «استراتيجية الأكورديون» صكّها «الختيار» باعتبارها لحظة اختناق قد تحصل، عندما تأتلف استراتيجية النظام السوري مع إسرائيل في قرار معقّد قوامه الخلاص من الفلسطينيين تمهيدا لاستمرار صراع النفوذ على لبنان بين القوتين الإقليميتين.
في طرابلس نجح عرفات في سحب قواته من لبنان، بفضل تلك المغامرة، التي لا يقوم بها سوى من امتلك حس القائد التاريخي.
نجح عرفات في إنقاذ ثورته من السرقة وأخذها إلى مسارات جديدة، وصلت إلى نهايتها التراجيدية بعد فشل رهانه الأوسلوي، هذا الفشل الذي قاده إلى إشعال الإنتفاضة الثانية، التي سُرقت بعد موته شهيداً بسمّ الحصار الإسرائيلي، وهذه حكاية طويلة، تستحق أن تروى.
لكن معركة طرابلس، لم تمنع سرقة لبنان، ولعل سرقة هذا الوطن الصغير، الذي استولى عليه أمراء الطوائف من جديد، في حروبهم المريرة وتحالفاتهم الإقليمية، وخضوع معظمهم في النهاية للمستبد السوري، هي البداية، التي أوصلتنا بعد ذلك إلى سرقة الثورات في سوريا ومصر، محوّلة المشرق العربي إلى ملعب مفتوح للاستبداد والجيوش المحتلة، بعد بصيص الضوء الذي أشعله الناس وهم يهتفون للحرية في مواجهات غير متكافئة مع آلة الاستبداد الوحشية.
الثورات تُسرق وتُمتهن وتتبدد، ومع سرقة الثورات، تُسرق الأوطان أيضاً.
هذا ما شهدناه في مصر يوم مذبحة ماسبيرو الشهيرة، حين كانت الآليات المجنزرة التابعة للمجلس العسكري تدوس أجساد شباب ميدان التحرير، وعندما صارت فحوص العذرية مناسبة لامتهان أجساد الفتيات، وإذلال الناس، عبر تحويل الاغتصاب إلى ممارسة «شرعية»، تقوم بها أجهزة الأمن. هذا قبل أن تصل مصر إلى مجزرة رابعة، وما تلاها.
وهذا ما شهدته سوريا، في مسار بالغ التعقيد، بدأ بالدبابات تقصف المتظاهرين في ساحة الساعة في حمص، واتخذ شكله الفاقع مع الميليشيات التابعة لإيران والتدخل العسكري لحزب الله في قمع السوريات والسوريين، وانتهى بنجاح أنظمة الكاز والغاز في تسليط الإسلاميين على المناطق المحررة، وصولاً إلى التدخل الروسي والايراني والتركي والإسرائيلي، بحيث فقدت سورية استقلالها.
حين سُرقت الثورة السورية سُرقت سورية أيضاً.
هذا هو الدرس البليغ الذي نتعلمه اليوم بالدم والأسى.
لكن ماذا يعني هذا؟
هل يعني أن سرقة ثوراتنا هو قدرنا، وأن العرب محكومون بالفشل لأسباب ميتافيزيقة كما يدعي المستشرقون وبعض تلامذتهم المحليين؟
ألم يأتِ الوقت الذي تعترف فيه النخب اليسارية والديمقراطية والعلمانية عن مسؤوليتها عن هذا المسار الكارثي؟
هناك بالطبع أسباب عديدة ومعقدة، موضوعية وذاتية لهذا التقصير المخيف، الذي لم يسمح لنا بحد أدنى من الدفاع المشرّف عن ثورات الناس التي أعلنا الانتماء اليها. وهي أسباب في حاجة إلى دراسة وتبصّر، تمهيداً للوصول إلى استنتاجات عقلانية، تحمي التيارات الديموقراطية من الاندثار وتبني أفقاً جديداً للتغيير.
الثورات تُسرق والديمقراطية يمكن أن تسرق أيضاً.
ولعل المثال الأبرز لتحوّل الديمقراطية إلى وسيلة لإفراغ الديمقراطية من معناها هو الانتخابات البرلمانية التي أُجريت أول من أمس في لبنان.
فبينما حصلت معارك انتخابية «تقليدية»، داخل جميع الطوائف والمناطق، بقيت طائفة واحدة عصية على المعارك، إذ تمت مبايعة الثنائي الشيعي في الجنوب والبقاع الشمالي بنسب تجاوزت التسعين في المئة في أغلب الأحيان، بحيث يمكن القول أن ما جرى في لبنان كان نصف انتخابات تقليدية في مقابل إستفتاء على طريقة الأنظمة العربية.
تحليل هذه النتائج، وفهم آليات تراجع الحريرية وتقلّص التيار العوني ونجاحات القوات، وثبات الزعامة الجنبلاطية في مواقعها، على أهميته ودلالاته، لا يغيّر من واقع الانقلاب الزاحف الذي يتعرض له لبنان، بحيث صارت هناك مرجعية للدولة قوامها الثنائية الشيعية، تدور جميع القوى السياسية في فلكها جذباً ونبذاً، وصار حزب الله في طريقه الى التحول إلى الدولة العميقة القادرة على التحكم في مفاصل الدولة.
فلبنان لا يزال وفياً لدوره بصفته مرآة المشرق العربي، فيه تنعكس موازين القوى الاقليمية بشكل واضح. فسرقة ثورة الشعب السوري على أيدي إسلاميي النفط الخليجي، كانت تمهيداً مباشراً لتقدم المحور الايراني المستقوي بالطائرات الروسية، فصارت سوريا أشلاء وطن، وانعكس ذلك بشكل واضح على لبنان، الذي أسلم نفسه بشكل «ديمقراطي»، للمنتصر.
اتخذت الأمور في لبنان مسارات مختلفة كي تصل إلى نتيجة مشابهة، رغم أن تعقيدات البنى الطائفية اللبنانية تجعل المسألة أكثر غموضاً، من دون أن يستطيع الغموض الطائفي حجب الصورة الإجمالية للإنقلاب الزاحف الذي بدأ في 7 أيار/ مايو 2008، ووصل إلى ذروته في 6 أيار 2018.
ولعل المآل المحزن لما يسمّى المجتمع المدني، في تلك الصيغة الفضفافة التي أطلق عليها إسم «كلنا وطني»، وهي صيغة هجينة حاولت أن ترث نضالات القوى الديمقراطية والعلمانية أو المدنية، وخاض الانتخابات بـ 66 مرشحة ومرشحاً، يعبّر عن مأزق عميق، لا يمكن تغطيته بفوز هامشي حصدته مرشحة حزب سبعة (وهو حزب لا يمت بأي صلة للحراك المدني) أو بالتباس حول مقعد آخر تدور من حول خسارته اتهامات بالتزوير في دائرة بيروت الأولى. يشير هذا المأزق إلى أن القوى التي تصدرت بناء هذا المشروع لم تكن تمتلك القدرة على بلورة أفق سياسي حقيقي يستطيع التعبير عن التوق الى التغيير.
إنكشف هذا التحالف على تناقضاته، وعجز عن بلورة إطار عمل جبهوي عريض. فاختلط حابل «حزب سبعة» بنابل يساريين يلهثون للوصول إلى السلطة، واصطدم التحالف بجدار عقلية تكنوقراطية تسعى إلى إيصال «خبراء» يشبهون جماعات البنك الدولي إلى المجلس النيابي بأي ثمن.
الانتخابات صارت وراءنا، ولا نرى أمامنا سوى الانقلاب الزاحف الذي يستولي على لبنان.
فكيف نقاوم هذا الانقلاب؟
هذا هو السؤال.