جريمة في عرف القانون الدولي اعتمدها نظام الأسد استراتيجية بدعم من «حزب الله» وإيران
رلى موفّق

بيروت ـ «القدس العربي»: المدنيون هم الحلقة الأضعف خلال النزاعات المسلحة. صحيح أن القانون الدولي الإنساني يحمي المدنيين بشكل مبدئي في الحروب، لكن النتائج تأتي كارثية حين يتم ضرب الاتفاقيات الدولية عرض الحائط وسط تقاعس الأمم المتحدة عن القيام بدورها في تأمين الحماية، وأحياناً تواطئها! فتكون النتيجة قتلاً وتدميراً وحصاراً وتجويعاً ونزوحاً وتهجيراً قسرياً، وصولاً إلى التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي. إنها جرائم حرب متمادية تُسجّل في أكثر من بلد عربي حيث الحروب مشتعلة، لكن أخطر فصولها ما تشهده سوريا اليوم مع عملية «التبادل السكاني» التي يجري تنفيذها في إطار ما يُسمى «اتفاقية المدن الأربع».
«لا أحد يرغب في ترك أرضه وبيته بإرادته»، تقول هبة، ابنة حمص، التي تستعيد شريط الأحداث منذ بداية الثورة السورية في 2011 وحتى اليوم. في البدايات، كان المسار يُعيد نفسه: «صلاة الجمعة، تظاهرات سلمية، إطلاق النار من قبل جيش النظام، سقوط شهداء، تشييع الشهداء في اليوم التالي، ومن ثم عود على بدء في يوم الجمعة المقبل. استمرت الأمور على هذا المنوال وأخذت الوتيرة ترتفع مع الإضراب العام في مركز المحافظة، حيث شُلّت الدوائر، وباتت المدينة وأحياؤها في عهدة أبنائها لحمايتها من ممارسات النظام».
بدايات التهجير القسري سُجلت في 15 أيار/ مايو 2011 عند بداية الأزمة مع سكان تلخ كلخ المجاورة لوادي خالد على الحدود اللبنانية في محافظة عكار الشمالية، وكذلك تهجير أحياءٍ من حمص باتجاه إدلب ولبنان، ولاحقاً بدأت عسكرة الثورة في ظل تمادي قمع النظام. فكان حصار حي «باب عمر» وشن أعنف هجوم عليه وتدميره وتهجير سكانه، لتتوالى السبحة من هناك كاستراتيجية معتمدة.

«استراتيجية التفريغ»

استراتيجية النظام وحلفائه من ميليشيات «حزب الله» كان هدفها وصل الحدود اللبنانية، حيث سيطرة «حزب الله»، بالمناطق السورية. هذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تفريغ المناطق عبر تهجير قسري للسكان الذي اتخذ بعداً طائفياً في حمص تحديداً، نظراً لأن منهجية «حزب الله» كانت تهدف إلى ربط شريط قرى سورية في منطقة «القصير» يسكنها لبنانيون شيعة بالقرى الشيعية المتاخمة لها على الجانب اللبناني في الهرمل، والتي لم يكن يفصل بينها شيء سوى ساقية مياه من هنا وسياج من هناك، بحيث أنها امتداد طبيعي لتلك القرى. وهو ما حققه بداية ليتوسع في سياسة تطهير المناطق من خلال خطة مدروسة وممنهجة ضمن مشروع ما بات يعرف بـ «سوريا المفيدة»، والتي تتطلب تطهير الريف الغربي لحماة وحمص وريف دمشق لتأمين تواصلها بالحدود اللبنانية ومناطق سيطرة «حزب الله».
هي «جرائم حرب موصوفة»وفق القانون الدولي الإنساني، ذلك أن التهجير هنا لم يحصل نتيجة هزيمة المعارضة، ولا نتيجة النزوح الاضطراري أو الإرادي للسكان بفعل الحرب، بل هو نتاج دفعهم إلى الرحيل عبر استخدام وسائل الضغط والترهيب والاضطهاد التي قامت بها قوات نظامية وقوى مليشياوية شبه عسكرية. ويُعرّف القانون الدولي التهجير القسري بأنه «ممارسة ممنهجة تنفذها حكومات أو قوى شبه عسكرية أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية أو دينية أو مذهبية بهدف إخلاء مدن وقرى وأراض معينة وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلا عنها» مختلفة عرقيا أو مذهبيا أو طائفيا بديلا عنها، ليصار إلى تغيير سكاني ـ ديمغرافي. وهو إخلاء قسري وغير قانوني ويرقى إلى «جريمة حرب» حسب نظام روما الأساسي.
«الوصفة الخبيثة» تتمثل في الحصار العسكري المطبق ومعه الحصار الإنساني وضرب المستشفيات وإلقاء البراميل المتفجرة والقصف والتدمير بغية دفعهم إلى اليأس والخضوع.
ورغم كل تلك الضغوط على مدى سنوات، لم يُفلح النظام وحلفاؤه في تحقيق تلك السيطرة ولا سيما في الزبداني ومضايا وداريا وخان الشيخ والتل ووادي بردى وحتى حي الوعر، لكن دخول روسيا على خط التهديد بتحويل المناطق إلى مناطق محروقة، على غرار ما حصل في حلب الشرقية، وما قدمته من نموذج في وادي بردى، جعل المقاتلين في البلدات المطلوب إخلاؤها تحت الأمر الواقع، ذلك أن الثمن الذي ستدفعه عائلاتهم وبلداتهم هو ثمن كبير لا يمكن تحمله. وبذلك تصبح عملية البقاء ليست عملية استسلام بل عملية انتحار جماعي مع استخدام «نموذج غروزني»، العاصمة الشيشانية التي سوّاها الروس بالأرض.

التبادل السكاني سابقة خطيرة!

وإذا كان إخضاع السكان المدنيين للحصار واستسلامهم هو تهجير قسري يرقى إلى مستوى جرائم حرب، فما الجديد في عملية «اتفاقية المدن الأربع»، والتي سُجّلت كسابقة تحصل للمرة الأولى منذ قيام الحرب السورية؟
يقول مدير «مؤسسة لايف» المحامي نبيل الحلبي، الذي لعب دوراً أساسياً في مفاوضات إخراج جرحى الزبداني وفي عملية إطلاق سراح العسكريين اللبنانيين الذين كانوا مختطفين لدى جبهة «النصرة»: إن «الخطورة تتمثل في حصول اتفاق تبادل سكاني على أساس طائفي، فيما في المرّات السابقة كان هناك تهجير من طرف واحد، وفي اتجاه واحد. اليوم نحن أمام اتفاق «يرسم خريطة»، اتفاق ذي طابع طائفي وتهجير سكاني من طائفة معينة (سنية) باتجاه مناطق ذات لون واحد، وآخرين من لون طائفي آخر ( شيعة) نهجّرهم من قريتين ونُسكنهم في مناطق سنية».
في الوقائع، وفق الحلبي، هناك أربع بلدات محاصرة من قبل أطراف مختلفة. كانت مضايا والزبداني محاصرتين من قبل جيش النظام السوري و»حزب الله» في ريف دمشق، وكفريا والفوعة في ريف إدلب محاصرتين من قبل تنظيمات تابعة للمعارضة، وإن كانت تنظيمات دينية. بالرغم من هذا الحصار، كانت المساعدات تدخل إلى هذه المناطق بين فترة وأخرى، وبالتالي سكان هذه البلدات لم تكن لديهم الرغبة بمغادرة بلداتهم. ما حصل أنه كان هناك اتفاق بين المقاتلين، بين «حزب الله» والطرف الإيراني من خلفه، وبين مقاتلي «جبهة النصرة» وأحرار الشام في ريف إدلب، على أن ينسحبوا من الزبداني ومضايا مقابل انسحاب مقاتلي «حزب الله» من كفريا والفوعة».
ولكن هذا الأمر يجعل السكان المدنيين خارج الحماية، إذ بمجرد انسحاب هذا المقاتل الذي تعهد بحماية المنطقة، يصبح المدنيون خارج الحماية. فعلى افتراض أن مقاتلي المعارضة انسحبوا من مضايا والزبداني فسيدخلها الجيش السوري وسيقوم بحملة اعتقالات واسعة، يمكن أن تؤدي في ما بعد إلى ما أدت إليه مجزرة سجن صيدنايا، وتصفية المعتقلين، على اعتبار أنهم عائلات تمتّ بصلة للمعارضة، ويمكن أن تحدث أيضاً انتهاكات في بلدتي كفريا والفوعة. المشكلة أنه لا يوجد طرف ثالث كي يُعطي ضمانته، فالأمم المتحدة غائبة عن ضمان سلامة السكان المدنيين منعاً لحدوث مجازر طائفية، ولذلك كان هناك تهجير قسري».
في المعطيات المتوافرة لدى المتابعين لمجريات «اتفاقية المدن الأربع» أن التبادل السكاني عملية مؤقتة لإنقاذ المدنيين في مناطق النزاع. ولكن المخاوف تكمن في أن يكون «المؤقت» هو «الدائم» في ظل ما يُحكى عن تحوّل وتغيير في خريطة المنطقة لمصلحة قيام دويلات. ما يتوقف عنده الحلبي في مراجعته الخريطة السياسية والديموغرافية أن «حزب الله» والطرف الإيراني بشكل عام كان يريدان، من خلال خطف 26 صياداً قطرياً في جنوب العراق عبر حزب الله ـ العراق، ابتزاز الطرف القطري، وأدخلاه في هذه العملية مقابل إطلاق سراح المخطوفين القطريين، الذين بينهم أحد الأمراء. وهذا جعل «حزب الله» يتحرّر، بشكل أو بآخر، من المطلب الأمريكي والدولي المطالب بانسحابه من سوريا، واستطاع من خلال هذه العملية أن يُحضر أطرافاً مقاتلة من السوريين تابعة لحزب الله ـ سوريا، ويوطّنهم في منطقة القصير التي تمّ تهجير سكانها باتجاه لبنان.

«حزب الله» سوريا والدور الموعود

وهل العدد كافٍ؟ طبعاً العدد كافٍ، خاصة وأن هذه المنطقة أصبحت مترابطة ديموغرافياً وجغرافياً بالبلدات الشيعية اللبنانية، وبالتالي مرتبطة أيضاً ببلدات حمص التي تمّ تهجير سكانها باتجاه طرابلس وعكار اللبنانيتين. «حزب الله» يهدف إلى الرد على المجتمع الدولي الذي طالبه بالانسحاب من سوريا بأن هؤلاء لا ينتمون إلى «حزب الله» ـ لبنان، بل هم يتبعون «حزب الله» ـ سوريا، وهو فصيل سوري. ما سيفعله أنه سيدمج المقاتلين السوريين مع المقاتلين اللبنانيين، ويجعلهم على تماس مع البلدات الشيعية اللبنانية البقاعية، هذه هي استراتيجيته.
ووفق مصادر المعارضة السورية، فإن هذه العملية أدت إلى تسليم بقعة جغرافية كبيرة لإيران متاخمة للأراضي اللبنانية، وجعلت «سرايا أهل الشام» بشكل خاص، و»جيش الفتح» المتواجدين في القلمون بين فكي كماشة، أي من الناحيتين السورية واللبنانية، وهذا ما قد يؤدي إلى تهجير من رنكوس أو القلمون الغربي، خاصة بعد الجلاء التام للمعارضة عن وادي بردى.
ومع تنفيذ «اتفاقية المدن الأربع»، كان موقف للامين العام للامم المتحدة أنطونيو غوتيريس اعتبر فيه أن التهجير القسري للسكان قد يرقى ليكون جريمة حرب. لكن هذا الموقف، إذا ما اقترن بتحرك فاعل من مجلس الأمن لن يشكل رادعاً للاطراف المعنية، وفي مقدمها روسيا والنظام وإيران وأذرعها العسكرية التي تملك السلاح الجوي الفتاك والمدمر، ذلك أن كثيراً مما تهجروا من المناطق المحاصرة، كانوا يحرصون على التأكيد أنه كان بمقدورهم الصمود لولا سلاح الطيران التدميري للروس، الذين كلما فاوضوا أشّروا إلى ما حلّ بحلب الشرقية من دمار كلي، بالرغم من أن الحلبي يحرص على التأكيد أن خروج المقاتلين والأهالي من حلب الشرقية الذي تم باتفاق روسي- تركي لم يكن إجلاء على أساس طائفي بل على أساس سياسي، ذلك أن تركيا أصرّت على أن الذي يدخل حلب الشرقية هي شرطة عسكرية شيشانية، حتى لا يتولى الإيراني موضوع أمن حلب الشرقية. فالموضوع الطائفي حساس جداً بالنسبة لتركيا، نظراً إلى أن التركيبة السكانية التركية مشابهة للتركيبة السكانية في سوريا، وتتخوف تالياً من أن تؤدي أي عملية تقسيم أو تحوّل ديموغرافي في سوريا إلى زعزعة استقرار تركيا بشكل مباشر أو غير مباشر.
تأكيد الحلبي بأن عمليات التبادل السكاني والتهجير على أسس طائفية هي خط أحمر بالنسبة للاتراك ينطلق من الدور الذي لعبه في مسألة الـ «ترانفسير» لنقل الجرحى، في كانون الأول/ديسمبر عام 2015 في الزبداني وكفريا والفوعة. يومها كانت عملية الترانسفير فقط لنقل الجرحى، الذي عبروا من خلال لبنان وتركيا. كان هناك رفض تام لموضوع الترانسفير السكاني، كان اتفاقاً إنسانياً. وهو ما حدث عند معالجة اتفاق العسكريين اللبنانيين الأسرى لدى جبهة «النصرة»، وكذلك كانت هناك صفقات لإطلاق المعتقلين ولإدخال مساعدات ولإيجاد ممرات إنسانية، ليس أكثر. «اتفاقية المدن الاربع» من حيث كونها تبادلا سكانياً ربما لم تكن لتحصل لولا الابتزاز السياسي لإيران و»حزب الله» والدور الروسي، لكن التهجير القسري كان سيحصل من خلال التدمير الممنهج لكل شرايين الحياة وأبرزها المستشفيات والحصار التجويعي فضلاً عن الضربات الجوية القاتلة. ولم تكن المسألة إلا مسألة وقت ما دام المجتمع الدولي يقف موقف المتفرج والمتواطئ.

طعم الحرية ولو بعيداً

ولكن مهما تعددت الصيغ، يبقى التهجير المتبع من النظام السوري وحليفه الإيراني ممثلا في ميليشيا «حزب الله» هو تهجير قسري، وعملية مقايضة: «الأرض مقابل السلام»، هذا كان واقع بلدات كثيرة في حمص من قبل، وهذه كانت حال داريا التي كان يديرها مجلس محلي ولم يكن هناك مقاتلون، إذ تم وضع أهلها أمام خيارين أحلاهما مرّ، فإما القصف والجوع والحصار وإما الخروج من المنطقة، فكان مصير أهلها التهجير القسري إلى إدلب.
وحي الوعر ليس بأفضل حال. تنفذ أيضاً بحقه «جريمة حرب» من خلال توالي دفعات خروج الأهالي منه. حين اتصلت هبة بصديقها في حي الوعر للاطمئنان عليه، أخبرها أن العائلة برمتها ستغادر إلى جرابلس. بادرتني بالقول: «تصوّري أن هذه من العائلات الميسورة التي تعيش حياة كريمة. ستترك الأم المنرل وتذهب للعيش في خيمة، لأنها لن ترضى أن يخرج أبناؤها وتبقى هي. فضلت العيش في مخيّم بكرامتها على أن تبقى في بيتها، ولا تدري ماذا ينتظرها. هذا ما حصل لكثيرين منا. فمَن بقي وقام بتسوية مع النظام يعيش اليوم حالة قمع جديدة. نحن في السابق كنا نعيش تحت القمع، أو بالأحرى كنا نتعايش مع القمع، ولكن بعد الثورة، بعدما انتفضنا ورفعنا صوتنا، وبعدما عشنا أياماً من الحرية، ما عاد بمقدورنا أن نعود إلى السجن الكبير مجدداً. لم يعد أحد إلى المدن التي خرجت من يد الثوار وسيطر عليها النظام من جديد. فالمسألة ليست فقط ترتبط بالخوف على حياتنا، بل أيضاً تتعلق بعدم قدرتنا على تحمّل ظلم النظام وقهره وقمعه المعنوي لنا قبل الجسدي. الحرية التي تذوّقها السوريون بعد عقود من الخنوع هي اليوم الثروة التي نملك».
وماذا عن فقدان الأرض؟ تجيب هبة: «في النهاية لن يستطعيوا أن يغيّروا الديموغرافيا. مهما طالت الحرب، فلا بد من أن تنتهي بتسوية سياسية، وسوف نعود. الأكيد أن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء. لن نرجع لنحيا كما كنا في السابق، نخاف أن نتحدث بصوت عال أو نتلفّت يمنياً أو يساراً. هذا الزمن انتهى، حتى ولو طال وجودنا خارج قرانا».