كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

في مطلع العام 2011، تحت وطأة شروط اقتصادية أثقلت كاهل الفئات الشعبية ذات الدخل المتوسط والمحدود، شخصت أبصار كثيرة في الأردن نحو تحوّلات «الربيع العربي» في تونس ومصر، فخرجت تظاهرات احتجاج عفوية في البدء، مختلطة الشعارات، سرعان ما تركزت حول مشاقّ العيش اليومي وغائلة الأسعار والبطالة. وفي إحدى التظاهرات توفرت تلك الصورة المعيارية، المحمّلة بالرمز والدلالة والطارئ الجديد معاً: طفل مرفوع على كتفَيْ والده، يحمل لافتة تقول: «حذار حذار من جوعي ومن غضبي».
كانت اللافتة تقتبس من قصيدة محمود درويش الشهيرة «بطاقة هوية»، والتي تقول خاتمتها: «سجّلْ برأس الصفحة الأولى/ أنا لا أكره الناسَ/ ولا أسطو على أحد/ ولكني إذا ما جعت/ آكل لحم مغتصبي/ حذار حذار من جوعي/ ومن غضبي»؛ مع فارق جوهري: أنّ درويش كان يخاطب الاحتلال الإسرائيلي، ولافتة الطفل تخاطب وزارة سمير الرفاعي! صحيح أنّ الحكومة انقلبت إلى كبش فداء، بعد أيام معدودات، إلا أنّ نبرة التشدد التي عكستها اللافتة استؤنفت بوتيرة أعلى، حين تسرّب إلى احتجاجات الشارع الشعبي شعار يقتدي بروحية تونس ومصر فيدعو إلى إسقاط النظام الملكي ذاته، أو ـ في مستوى مخفف، يفضي مع ذلك إلى مآل أقصى أيضاً ـ إقامة ملكية دستورية على الطريقة الغربية، تتيح للملك أن يسود دون أن يحكم.
السياقات تلك انطوت في العمق، كما يتوجب القول، أو تبدلت على نحو لم يعد يُدرج مطالب التغيير الدستوري الجذري؛ خاصة بعد أن استلهم العاهل الأردني تجربة المغرب، فتعهد في إطلالة متلفزة بإجراء سلسلة إصلاحات دستورية، بدا بعضها نقلة نوعية كبرى عن دستور 1952، وإجراءات الملك حسين السياسة الحاسمة في سنة 1989. كذلك شكّل الملك عبد الله الثاني لجنة حوار وطني من 52 شخصية، قدمت اقتراحات كبرى مثل إنشاء محكمة دستورية وهيئة مستقلة للانتخابات؛ ولجنة أخرى ملكية كُلّفت بمراجعة الدستور، اقترحت تعديل 42 مادة دستورية. لكنّ النار بقيت متقدة تحت الرماد، خاصة وأنّ العام 2011 شهد قرابة أربعة آلاف حركة احتجاج، بين تظاهرة واعتصام، لم يخلُ بعضها من أعمال عنف وتخريب.
وبذلك فإنّ إيقاع الاحتجاجات استقرّ تحت مسمّى «الحراك الشعبي»، واندرج في الجوهر تحت مطالب اجتماعية ـ اقتصادية تخصّ الغلاء والبطالة وسياسة الضرائب، واتخذ صفة الديمومة؛ فلا يكاد ينقطع سنة حتى يُستعاد سنة أخرى، بصرف النظر عن تركيب الحكومة وشخصية رئيس الوزراء، فاستوى في ذلك سمير الرفاعي ومعروف البخيت وعون الخصاونة وفايز الطراونة وعبد الله النسور وهاني الملقي… تراجع البُعد السياسي نسبياً، ولم يعد مطروحاً على جدول محرضات الحراك ذلك السجال حول الخيار بين «ملكية دستورية» وإصلاح دستوري»؛ حتى إذا بقيت السياسة، في معناها الأوسع والأعمق، محرّكاً ابتدائياً قابلاً لإشعال أولى شرارات الخروج إلى الشارع (الدليل على هذا أنّ حراك مدينة السلط، مؤخراً، انطلق من اعتصام تضامني مع القدس).
حذار من جوع المواطن الأردنيّ، إذن، خاصة في ضوء قرائن دامغة تفرزها الانعطافة الكبرى التي انتهجتها حكومة الملقي بصدد الأسعار والضرائب ورفع الدعم؛ إذْ ليس بالأمر العابر أن يرتفع التضخم بنسبة 3٪، والخبز بنسب يصل بعضها إلى 100٪، في غمرة انفجار معظم الأسعار: النقل العام 10٪، التبغ 21.3، السكن 2.9، الوقود والإنارة 4.7، الصحة 6.4٪؛ وأن تُخضع الحكومة قرابة 164 سلعة لضريبة المبيعات بنسبة 10٪، وسلعا أخرى كانت معفاة لضريبة بنسبة 5.4٪.
صحيح أنّ صندوق النقد الدولي يرفع سيفه المسلط المعتاد، تحت ذريعة الإصلاح الهيكلي، وخيارات الحكومة الأردنية أضيق من خرم إبرة، كما يتوجب الإقرار؛ إلا أنّ اشتراطات الصندوق لم تكن في أيّ يوم وصفة استقرار، بل كانت نقيض ذلك تماماً، وهذا ما يتوجب أن تدركه السلطة الأردنية وتتبصّر في عواقبه جيداً، قبل أن تتحرّك أية دبابة لقمع تظاهرة أو اعتصام.