كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

ينعي الكاتب البريطاني بول فالليلي زمناً، مضى وانقضى، كان فيه السياسي المُذلّ (لأسباب أخلاقية، أولاً)، يعتزل العمل السياسي، وينسحب من الحياة العامة، بل يتوارى عن الأنظار، ندماً وخجلاً. «في المرآة المشوهة لعالمنا المناهض للحقيقة»، يكتب فالليلي في مقالة نشرها موقع Church Times قبل أيام، «أصبح الفضفاض الطنان دبلوماسياً، والكاذب وخارق القانون صادقاً صدوقاً وبطلاً». والنموذج المقصود، تعييناً لا تلميحاً، هو الكولونيل الأمريكي المتقاعد أوليفر نورث، الذي انتُخب مؤخراً رئيساً لـ«رابطة البندقية الوطنية» الأمريكية، أقوى مجموعات الضغط في ميدان ترخيص حمل السلاح الفردي. هذا رغم أنه بطل الفضيحة الشهيرة «كونترا ـ غيت» حول تزويد إيران بأسلحة متطورة عبر إسرائيل (سبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر!)، ورغم إدانته بالكذب على رؤسائه، وتضليل الكونغرس، وتزوير وثائق رسمية…
وفالليلي، لمَنْ لا يعرفه، كان رئيس تحرير مشارك وكاتب عمود في صحيفة الـ»إندبندنت» البريطانية، وهو تقدمي عموماً رغم اختصاصه في الكاثوليكية والأديان، وصديق للثقافات غير الغربية والمجتمعات النامية؛ كما أنه صاحب سلسلة من الأعمال المتميّزة الجسورة في شؤون الدنيا والدين، بينها «السامريون الفاسدون: أخلاق العالم الأول ودَيْن العالم الثالث»، «أرض الميعاد: أقاصيص السلطة والفقر في العالم الثالث»، «السياسة الجديدة: التعاليم الاجتماعية الكاثوليكية للقرن الواحد والعشرين»، و«الحملة الصليبية الخامسة: جورج بوش ومَسْيَحة الحرب في العراق». وبين أكثر مواقفه شجاعة إدانته الدائمة لسياسات التنكيل والتمييز التي تمارسها دولة الاحتلال الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين عموماً، ولجهة حصار غزّة خصوصاً.
والأرجح أنّ الجانب الأخلاقي، الذي يقلق فالليلي في حكاية نورث، لا يقتصر على ارتباط «رابطة البندقية الوطنية» بتجارة السلاح، وما تتيحه من تسهيلات في ارتكاب أعمال قتل جماعية في الأسواق والمتاجر والمدارس والأماكن العامة، فحسب؛ بل كذلك لأنّ الرابطة تخضع لتحقيقات اللجنة القضائية في الكونغرس، حول ما يُعزى إليها من صلات خفية مع جهات روسية تُتهم بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة لصالح دونالد ترامب. أكثر من هذا، يذكّر فالليلي بأنّ كلّ أفعال ترامب الشائنة التي افتُضحت خلال الحملة، الجنسية منها بصفة خاصة، لم تُنقص من حظوظه في الفوز بالرئاسة، بل زادت منها!
هذا الميل المجتمعي، الجَمْعي كما يصحّ القول، يمثل «تحوّلاً دالاً في الحياة العامة». فالرجل الذي خرق القانون، نورث مثلاً، «يُهلل له اليوم كمحارب أسطوري من أجل الحرية الأمريكية، من جانب جماعة تزعم التزامها بالقانون والنظام، وبدستور الولايات المتحدة». ذلك دليل، أيضاً، على «الانقسامات العميقة التي تستقطب السياسة اليوم في الولايات المتحدة، وكذلك في بريطانيا، كما تُظهر النقاشات حول الخروج من الاتحاد الأوروبي». مدهش، في المقابل، ذلك الحرص على الاستعراض، كما حين يستبق ترامب إعلان الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، بسلسلة من التلميحات الكفيلة بتسخين الأجواء وشحن التوقعات.
ولكن… هل من جديد في هذا كله، حقاً؟ ليس على صعيد الولايات المتحدة وحدها، بل في الغالبية الساحقة من الديمقراطيات الغربية؟ كلا، بالطبع، فلا جديد تحت الشمس يُشار إليه ببنان الإدانة الطازجة؛ ما خلا أنّ فالليلي، المندهش والقلق إزاء هذه الحال، يميل أحياناً إلى تبرئة المجتمعات الغربية من ظواهر كهذه، عن طريق التماس العذر لها في تأثيرات عنصر عجيب طارئ عليها، هو الإسلام!
ولقد تساءل ذات يوم عن مسؤولية الإسلام في خنق الرأي، لكنه لم يقترح جواباً قاطعاً بقدر ما لجأ إلى مناقشة خلفيات عريضة عامة تُبعد روحية الجزم حول تأثيرات الإسلام بصدد حرّية التعبير على سبيل المثال، بوصفها واحدة من القِيَم الكبرى في الغرب. لكنه، من جانب آخر، أو في نهاية المطاف، خلص إلى النتيجة التالية: بصرف النظر عن وقائع الخصومة الراهنة (بين العقائد الروحية جميعها، ولكن بين المسيحية والإسلام خصوصاً)، فإنّ أوروبا راكمت اليوم ميراثاً يمكن للجميع اعتناقه.
ومن الخير للمرء، وهذا سبيل لمزيد من إنصاف نزاهة فالليلي، أن يتوقف عند الوقائع التي يسردها الرجل في سياق حرية التعبير: في إسبانيا أقلع القرويون عن عادة قديمة توارثوها عن أسلافهم، هي حرق دمية تمثّل النبيّ محمّد، احتفالاً بانتصار المسيحيين على المسلمين في الأندلس؛ وفي فرنسا تلقى أستاذ للفلسفة تهديدات بالموت، ويحيا بالتالي تحت حراسة أمنية مشددة، لانه كتب مقالاً ينتقد الإسلام (وهنا لا يرى فالليلي أنّ النقد ذاك كان مفرطاً أو مغالياً أو سيئ التقدير)؛ وأخيراً، في برلين ألغى المسؤولون عن دار الأوبرا عرض «إيدومينو»، عمل موتزارت الشهير، مخافة إثارة غضب المسلمين، حيث أنّ أحدث إنتاج لهذه الأوبرا يتضمن مشهداً لم يكن موجوداً في الأصل، يجري فيه قطع رؤوس آلهة وأنبياء…
ولا ريب في أنّ الواقعة الأخيرة تمثّل حالة صريحة في الرقابة، ويستوي بالنتيجة أن تكون ذاتية مباشرة أم خارجية ناجمة عن ضغوط غير مباشرة، ومثلها موقف القرويين الإسبان من احتفالات الانتصار. ولا ريب، كذلك، في أنّ تهديد الفرنسي روبير ريديكر بالقتل جرّاء مقالته الناقدة للإسلام شكّلت مصادرة عنيفة وغير متمدّنة، بل لعلّها غير إسلامية كذلك، لحقّه في التعبير عن رأيه (حتى إذا كانت أحكامه سطحية على نحو مذهل، ركيكة، تعسفية، استفزازية استعراضية، وانتهازية بصفة خاصة في اتهامه النبيّ بأنه قاتل اليهود…).
في المقابل فإنّ جوهر ما يغيب عن مقالة فالليلي، وعن قسط كبير مما يدور السجال حوله في ملفّ العلاقة بين الإسلام والعنف، لكي لا نتحدّث عن العلاقة بين الإسلام والإرهاب؛ هو الأبعاد السياسية والثقافية والتاريخية والاجتماعية لظواهر (لأنّ من السخف اعتبارها محض ظاهرة واحدة متماثلة متطابقة) معقدة شائكة متباينة، ليس من الحكمة أبداً ردّها إلى باعث عقائدي أو عقيدي واحد، أو حتى إلى سلسلة أسباب ذات صلة بما يُسمى صراع الحضارات وحروب الثقافات. في عبارة أخرى أشدّ اختزالاً للمشهد: ثمة السياسة أوّلاً، وقبل العقائد؛ وثمة ميزان القوّة الكوني الراهن، في تجلياته العقائدية والدينية والثقافية، ثانياً؛ وثمة، ثالثاً، ذلك التاريخ الطويل من حروب الإخضاع والهيمنة والغزو، على الجانبين.
وهكذا، وحين يجرّد الغرب الإسلام من مضامينه السياسية والاجتماعية والثقافية، فإنّ ما يتبقى منطقياً هو تلك المقاربة الوحيدة في السوق، والتي يحدث ايضاً أنها جذّابة تماماً ورائجة: صمويل هنتنغتون! والمثير هنا أن نجاة الغرب بأسره تعتمد على مدى نجاح الولايات المتحدة في تأكيد هويتها الغربية، من جانب أول؛ ونجاحها في جعل الغربيين يقتنعون بأن هويتهم الحضارية فريدة Unique وليست كونية Universal، من جانب ثانٍ؛ قبل الانتقال إلى الخطوة اللاحقة الطبيعية: التحالف الأمريكي ـ الغربي لمواجهة الحضارات الأخرى. لكنّ أطروحات هنتنغتون محقت عشرات النظريات التي تنهض، بهذه الصيغة أو تلك، على فكرة العوالم المتقابلة: الغرب أمام الشرق، الشمال أمام الجنوب، الأغنياء أمام الفقراء، العالم المصنّع أمام العالم ما قبل الصناعي، الدول المتقدمة أمام الدول النامية، المركز أمام الأطراف، وأخيراً «دار الحرب» أمام «دار السلام».
فكيف التوفيق، والحال هذه، بين «سلام أمريكي» قياسي مطلق، جبار ومتجبر على البشرية جمعاء؛ لكنه، في الآن ذاته، ينهض على ما يسميه فالليلي «الفضفاض الطنان» و«خارق القانون» ورجل الفضائح الذي يُنتخب رئيساً للقوة الكونية الأعظم؟ وما الذي يتبقى من مسؤولية للإسلام، أو لأية ديانة أخرى في الواقع، إزاء هذه التحولات الدالة التي تكرّس فلسفة تشوّه، لكنها ترتقي بالمشوَّه؟

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس