كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

هنري جيرو مفكر وناقد ثقافي أمريكي ـ كندي، يشتغل في حقول التربية والتعليم العالي والدراسات الثقافية والسياسة في مستوياتها المحلية والكونية الأعمق، وله أكثر من 50 مؤلفاً في هذه الشؤون؛ لعلّ أبرزها، في تفضيلي الشخصي، أعمال مثل «أمريكا في حرب مع ذاتها»، «إدمان أمريكا على الإرهاب»، «ضدّ إرهاب الليبرالية الجديدة: السياسة ما بعد عصر الجشع»، «ضدّ التسلطية الجديدة: السياسة ما بعد أبو غريب»، «إرهاب الليبرالية الجديدة: التسلطية ومحاق الديمقراطية»، «الجيل المهجور: الديمقراطية ما بعد ثقافة الخوف»، و«الفأر الذي زأر: دزني ونهاية البراءة».
كتابه الأخير صدر قبل أيام، بعنوان «الخطر المحدق بالعموم: ترامب وتهديد النزعة التسلطية الأمريكية»؛ وينهض على افتراض مركزي مفاده أنّ الولايات المتحدة تقف على حافة سلسلة من الهجمات تستهدف الديمقراطية، والخيارات التي يواجهها العموم في أمريكا تشير إلى انقسام بين الملتزمين بالديمقراطية، والمنصرفين عنها. وبعد استبعاد الجدل حول ما إذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فاشياً، أو كانت منافسته السابقة هيلاري كلنتون أداة في يد «وول ستريت»، واعتباره سجالاً يحرف الانتباه عن الخطر الحقيقي المحدق؛ يطرح جيرو أسئلة ابتدائية من هذا الطراز: ما الإجراءات التي كان من الممكن اتخاذها للحيلولة دون انزلاق الولايات المتحدة إلى شكل محدد من التسلطية؟ وما الذي كان في الوسع القيام به على سبيل تخيّل أنساق من الشجاعة المدنية والأمل الكفاحي، تقتضيها الحاجة لتمكين وعد بالديمقراطية كمبدأ في الحكم؟
ويقرّ جيرو بأنّ انتخاب ترامب أسفر عن تعميم مشاعر اليأس والخوف والقلق لدى الشرائح الأضعف في الأوساط الشعبية، خاصة بعد تسجيل الآلاف من جرائم الكراهية التي نجمت عن مناخات التعصب بعد وصول هذا النموذج إلى البيت الأبيض، وامتلاكه سلطات تنفيذية هائلة. هذا مع التذكير بأنه كان، أصلاً، يرث مجموعة من القوانين التسلطية والرقابية التي أعقبت هزّات 9/11؛ وكانت هذه ذاتها تستأنف، على نحو أو آخر، تراث المكارثية، والسياسات الأمنية التعسفية التي تراكمت طيلة عقود واتخذت صفة القوانين المستقرة، وكانت في صلب جاذبية ترامب لدى قطاعات أمريكية شعبوية، قومية المزاج أو عنصرية التوجه أو انعزالية منغلقة في الحدّ الأدنى. ذلك كله عبّد أكثر من درب نحو الحروب الثقافية المختلفة في عمق المجتمع الأمريكي، بعضها كان بالغ الشراسة في الواقع، وشهدتها شوارع الولايات المتحدة، وكانت «فلسفة» ترامب في معالجتها بمثابة وسيلة لتأجيجها.
فصول كتاب جيرو تتناول طائفة واسعة من أعراض اعتلال أمريكا، والأخطار المحدقة بمفهوم «العموم» استطراداً؛ بينها إعادة التفكير في معنى السياسة، في ضوء تيارات التفوّق الأبيض والتطهير العرقي، وتجليات النزعة التسلطية في غمار ما يسميه جيرو «الأمية المصنّعة»؛ وأزمة الأجيال الشابة، إزاء نوعَين من الاستقطاب: الإحباط من السياسة، والفزع من الإرهاب الداخلي؛ ثمّ التعليم الليبرالي الجديد، وكيف يتوجب الدفاع عن الركائز الديمقراطية في قلب المدارس والجامعات، وتنمية حسّ بالشجاعة والمقاومة والمخيّلة الراديكالية، ضدّ العزلة والانعزال والترهيب. وفي خلاصاته لا يتردد جيرو: أمريكا تعيش في زمن يشهد تدميراً عنفياً منتظماً تمارسه رأسمالية الليبرالية الجديدة، في حرب لا هوادة فيها، ولا رادع… هكذا، ليس أقلّ!
وفي دفاع مشبوب عن دور المثقف، واستنهاض وظيفته المركزية التي تستوجب الانشقاق عن مألوف الطغيان والاستبداد والتسلط؛ يعود جيرو إلى إدوارد سعيد وندائه إلى كلّ مشتغل بالثقافة، كي يأخذ على محمل الجدّ «الحاجة إلى كشف وتوضيح حلبة الصراع، وتحدّي وهزيمة الصمت المفروض والهدوء المطبَّع اللذين تفرضهما القوى المتخفية، كلما وأينما توجّب ذلك». كذلك يستعيد تيودور أدورنو، الذي حذّر من أنّ خطر الفاشية الحقيقي «يكمن في رواسب الذهنية الفاشية داخل النظام السياسي الديمقراطي»، ليستذكر أنّ «فلسفة» ترامب تقوم على بغض المسلمين والمكسيكيين والنساء والصحافيين والمنشقين، وسواهم ممّن يعتبر ترامب أنهم دخلاء على «جوهر» أمريكا الحقة!
والحال أنّ واحدة من كبريات نقائض الليبرالية الجديدة أنها تقيم علاقة تعسفية بين مفهومَيْ الرأسمالية والديمقراطية: إذا نُظر إلى الرأسمالية كعقيدة لاقتصاد تنافسي ينتج قوى السوق، فإن الديمقراطية الليبرالية هي بالضرورة عقيدة السياسة التنافسية التي تخلق التعددية السياسية. الميزان الحسابي النهائي هو التالي، ببساطة: إنتاج رأسمالية أكثر، وديمقراطية أقلّ. وهكذا فإنّ الحملات من أجل اقتصاد السوق لا تجد مفرّاً من إعلان الربح وفائض القيمة، فتكون المعادلة هكذا: لكي نعطيكم الديمقراطية ينبغي أن تقبلوا الرأسمالية كما نشترطها ونفلسفها؛ وهذا يسري أيضاً على ولع الليبرالية الجديدة بالشعارات الصاخبة حول حقوق الإنسان، والحريات العامة، وسيادة القانون…
ورغم أنّ جيرو، بدليل عشرات الأعمال التي كرّسها لفضح الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض، يقرّ بأنّ ترامب لا يأتي من فراغ؛ إلا أنّ كتابه، الهامّ والمعمق، يترك الانطباع بأنّ نزعة التسلط تأخذ عند الرئيس الأمريكي الراهن بُعداً دراماتيكياً مختلفاً عن أسلافه. والمرء لا يحتاج إلى العودة بعيداً في تاريخ الرئاسات الأمريكية، إذْ تكفي استعادة بسيطة لسياسات الرئيس السابق باراك أوباما حتى تتضح نقاط التشابه المذهلة، في سياسات داخلية وخارجية شتى؛ حتى إذا لم تكن النزعة التسلطية سمة فارقة في ولايتَي أوباما، ولم تأخذ الحروب الثقافية مستويات شرسة من حيث الشدّة والنطاق.
وفي كلّ حال، حين ورث أوباما تركة سلفه جورج بوش الابن، كانت الأرقام تقول إن أمريكا تنفق على السلاح والجيوش والقضايا الأخرى الدائرة حول فكرة «الأمن القومي» ما يزيد على مجموع ما ينفقه العالم بأسره؛ وكان أكثر من نصف مليون عسكري أمريكي ينتشرون في قرابة 400 قاعدة عسكرية خارجية كبيرة، ومئات القواعد الثانوية الأصغر، في 35 بلداً أجنبياً. ومنذ الحرب العالمية الثانية وحتى عشية اندلاع حرب الخليج الثانية، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 200 مليار دولار لتدريب وإعداد وتسليح جيوش أجنبية في أكثر من 80 بلداً، أسفرت عن أكثر من 75 انقلاباً عسكرياً، وعشرات الحروب الأهلية التي تسببت في مئات الآلاف من الضحايا.
وفي غمرة ذلك كله كانت تجري عمليات «تصنيع» العدو وتأثيمه إلى المدى الأقصى الذي يبرّر التدخل العسكري، والغزو، والانقلاب، وإشعال الحروب الأهلية. كانت هذه هي الحال مع بناما، مصر، البيرو، البرتغال، نيكاراغوا، التشيلي، جامايكا، اليونان، الدومينيكان، كوبا، فييتنام، كوريا الشمالية، لبنان، العراق وليبيا…
واجب، كذلك، أن يتذكر المرء ما سبق أن قالته جميع المنظمات الحقوقية الدولية عن سجلّ حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، وطبيعة الانتهاكات الصارخة التي تُمارس هناك على نحو مؤسساتي رسمي؛ قبل عقود طويلة من انتخاب ترامب. وعلى سبيل المثال، فإنّ التقرير السنوي لمفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة لا يوفّر الولايات المتحدة عاماً بعد عام، بل ويفرد لها خلاصات مفزعة، مثل هذه: «المواطن الأمريكي ليس متساوياً أبداً أمام القضاء، والأحكام الصادرة بحقّ الأمريكيين السود والآسيويين أقسى بثلاثة، وأحياناً بأربعة، أضعاف مقارنة بالأحكام الصادرة بحقّ البيض في قضايا مماثلة».
ترامب ابن هذه الثقافة، في أوّل المطاف ونهايته، إذن؛ حتى إذا كان أهل هذه الثقافة قد ذهبوا أبعد من أي حقبة سابقة في استخراج قبائحها. وكثير من العموم، الذين يخشى عليهم جيرو وأمثاله من باب حسن النيّة، انساقوا كالقطيع خلف ترامب، دون ضلال؛ إلا ذاك النابع من… أعماق الذات.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس