منصف الوهايبي

مثلما لا أحد تقريبا توقّع فوز ترامب برئاسة أمريكا، فلا أحد بميسوره أن يتكهّن بما ستؤول إليه أمريكا والعالم؛ إذا تواصلت هذه السياسة المتعجرفة المتعالية، سياسة الغطرسة التي بدأت تزعج حلفاء أمريكا قبل خصومها، بل تزعج الأمريكيّين أنفسهم. ولكنّ أمريكا تظلّ مع ذلك أمريكا، فهي كما يقول دونكان هيث وجودي بورهام في كتابهما المشترك «الرومانسيّة»؛ الحلم مثلما هي الكابوس الذي يعجّ بشتّى التناقضات، وفيها نرى حركات السلام، والمدافعين عن حقوق الإنسان، وبجوارهم العصابات المسلّحة والأمريكان الذين يُقتلون بسلاح أمريكان، وفيها نرى الديمقراطيّة إلى جانب الإمبراطوريّة ببريقها الأصفر ولَّونها الفاقع الذي لا يسرّ النَّاظِرِينَ منّا اليوم. ومن معاني الأصفر كما جاء في كتب التفسير وفي شعر العرب، الأسود شديد السواد. وفي أمريكا نرى البريّة السمحاء والغابات الخضراء، إزاء زحمة المدن أو جحيمها كما هو الشأن في كثير أو قليل من بلدان المعمورة. على أنّ أمريكا هي الملاذ حتى بالنسبة إلى هؤلاء العرب أو المسلمين الذين تقطّعت بهم السبل، وهم في مطاراتها، أو على أهبة الرحيل إليها. وهي أيضا بلد الغنى الفاحش مثل غنى رئيسها، مثلما هي بلد الفقر المدقع.
واقع أمريكا اليوم ـ وربّما بالأمس أيضا ـ أشبه بقصّة بورخيس «كتاب الرّمل»، فلأمريكا بداية كما للكتب ولكن ليس لها نهاية كما لكتاب بورخيس؛ إذ يتصفّحه بطل القصّة ويصفه وصفا واقعيّا، حتى يتهيّأ لنا أنّنا نقرأ قصّة واقعيّة، على أنّها واقعيّة شديدة الغرابة، فلا يكاد البطل يُنهي قراءة صفحة ذات رقم محدّد، ويطوي الكتاب حتّى يجد نفسه عاجزا عن العثور على تلك الصفحة ثانية، فهو يقرأ ولكن دون أيّ إمكان لاستعادة ما قرأ؛ وهكذا دواليك والنتيجة هي هي. هو كتاب بلا نهاية أو نوع ممّا كان يسمّيه القدامى «علم الرّمل»، أو بحث عن المجهولات أو فيها، بخطوط تُخطّ على الرّمل وتمحى ثم تُعادُ. وقد تكون أمريكا اليوم صورة من هذا الكتاب.
استثنى الرئيس ترامب من البلدان الإسلاميّة السبعة ـ وللرقم 7 دلالاته التي لا تخفى: الوجه الإنساني بثقوبه السبعة ـ الأقلّيات الدينيّة، ليؤكّد بذلك أنّ المسلمين هم المستهدفون دون غيرهم. والحقّ أنّه بهذا الصنيع يدقّ إسفينا في جسم سياسيّ مترهّل، ولكنّه يحمّل العرب المسلمين ـ دون قصد ـ مسؤوليّة الحفاظ على الأقليّات العربيّة المسيحيّة خاصّة في الشرق الأوسط في ظلّ التغيّرات الجيو ـ سياسيّة والأمنيّة، وإعادة الاعتبار للمواطنة، ومنع أيّ تمييز، وهؤلاء مواطنون وليسوا من «أهل الذمّة». ويجب أن نعترف أنّ هناك تعصّبا دينيّا يتهدّد العرب المسيحيّين في الشرق الأوسط، سواء على مستوى الهويّة والانتماء الوطني، أو على مستوى حريّة العقيدة في مصر والعراق خاصّة، أو على المستوى السياسي حيث تخشى الأقليّة، إزاء انتشار التشدّد وإقصاء الآخر؛ أن تصبح تحت رحمة الأغلبيّة السياسيّة-الدينيّة وليس تحت طائلة القانون.
إنّ حماية الأقليات، وتبديد مخاوفها المشروعة، واجب العرب ودولهم قبل غيرهم.
إنّ سياسة الولايات المتّحدة في المنطقة معقّدة، ولأمريكا مصالح لعلّ من أبرزها أمن الطاقة، والخوف من انتشار الأسلحة النوويّة وأسلحة الدمار الشامل، وهي التي تزوّد إسرائيل بكلّ أنواع الأسلحة.
ولا جدال في أنّ القضيّة الفلسطينيّة وحقّ الفلسطينيّين بدولةٍ مستقلّةٍ عاصمتها القدس، ممّا له الصدارة في تطلّعات العرب والمسلمين عامّة؛ ولكن هناك اليوم القضيّة أو المسألة السوريّة، ومن حقّ الشعب السوري أن ينعم بنظام ديمقراطي أساسه التداول السلمي على الحكم، بمعزل عن أيّ توظيف طائفي.
ومع أنّ أمريكا إله بقناع «إنسان» يسيطر سيطرة تامّة على كون صنعته الفيزياء والكيمياء والرياضيات، إله لا يستهان به فهو خطّة الكون ونظامه الذي يسوطُ الأجزاء ويسوسها حتى تنضوي إلى الكلّ وتنصاع؛ فهناك دائما أمريكا الأخرى، أمريكا جوليا دي بورجوس: «كان جدّي عبدا، ذلك هو حزني؛ ولو كان سيّدا لكان ذلك عاري»، ولا نخال الرئيس ترامب قرأ هذا ولا هو سيقرأ.
أمريكا ويتمان شاعر الشعب الذي عرف كيف يلج مناحي الحياة الأمريكيّة، وهو الشاهد على حربها الأهليّة، ونعوم تشومسكي وجاكسون بولوك، وجبران خليل جبران و«نبيّه»، وألن غينسبرغ في قصيدته الفذّة «عواء»، وكان الراحل الكبير محمود درويش قد طلب من سركون بولص نقلها إلى العربيّة؛ على أنّي أجدها ـ وهي صورة من أمريكا الحيّة المتجدّدة ـ تستدعي ترجمة أخرى تراعي لطائف العربيّة، وهو ما أحاوله في عمل شرعت فيه: «أنا الذي رأيت ذوي العقول الأعظم من أبناء جيلي، وقد أتلفهم الجنون؛ رأيتهم فجرا/ جوعى مخبولين عراة؛ في سُودِ الأزقّة، يجرّون أقدامهم ، سعيًا وراء حقنة قويّة جارفة/ هم المطّلعون على الأسرار، كما الملائكة، بهم يبرّح شوق إلى الاتّحاد القديم بالسماء، في فجريّة حركات الكواكب والنجوم/ إخوان فاقة، بثياب رثيثة، وعيون غائرة، منتشون، وقفوا يدخّنون، في الدامس الباهر، دامس الحجرات رخصةِ الثمن/ ومن فوق المدن، أرخوا لأفكارهم العنان؛ وقد استغرقوا في الجاز. هم الذين تركوا عقولهم حقيقةً صريحةً، للسماوات، تحت السكّة المعلّقة[فوق الأنهار والأودية].
هم الذين رأوا ملائكة الإسلام المُنوّرة تترنّح فوق سقوف الأكواخ القذرة/ هم الذين تنقّلوا من جامعة إلى أخرى ، بعيونٍ مُودِّعة فاترة باردةٍ؛ يهذون بأركانساس ومآسي على طريقة بليك بين أساتذة الحروب/ هم الذين أُطرِدوا من الأكاديميات، لجنونهم ولنشرهم فاحش الأناشيد على الملأ/ هم مَنْ تجمّعوا في حجرات بملابسهم الداخليّة، دون أن يحلقوا ذقونهم، وقد استهلكوا أموالهم في سلال النفايات/ ومن أصغوا إلى الرعب منبعثا من خلَلِ الجدار/ هم مَنْ ضُبِطوا بلحى كالعانات، عائدينَ مِن لاريدو؛ وبأحزمتهم أكياسٌ من الماريخوانا، في طريقهم إلى نيويورك/ هم مَنْ اقتاتوا بأفواهٍ ملتهبةٍ، في رخيصِ فنادق ملطّخةٍ لا تُحتمَل، أو شربوا التربنتين[صُمغ البطم] في حانة «براديس آلي»[رواق الفردوس] وذاقوا الموت، وقد تطهّرت جذوعهم، دون سائر أجسامهم، ليلةً فليلةً، بأحلام ومخدّرات، وكوابيس تزحف إليهم وتجثم، وكحول، ومضاجعات لا نهاية لها/ يقطعون شوارع لا مثيلَ لها، لبستها عليهم غيومٌ تُرعد، وبروقٌ في أوهامهمْ، تثبُ باتّجاه أطراف كندا…».
أعود في خاتمة هذه الفسحة إلى العنوان الذي وسمت به المقال، فقد كانت كلمة «بروليتاريا» وهي من جذر لاتينيّ، تختصّ بمعنى الإرث أو الوراثة، وكانت وقفا على فئة أو طبقة معدومة، لم ترث شيئا يذكر. وكان العرب ترجموها أوّل مرّة في مؤتمر شعوب الشرق في باكو عام 1920 وكتب بعضهم على لافتة العبارة المأثورة: «يا صعاليك العالم اتّحدوا». والصعاليك هم مطلقا الفقراء من ذوي الفتوّة والمروءة، بما لهم وما عليهم. وليس لهؤلاء سوى أن ينفذوا من غواشي البيئة والعصر، وأن يتّحدوا في مواجهة هذه العنصريّة الوافدة علينا؛ ولكن ضمن فضاء الكونيّة الذي لا يحوّل الاختلاف إلى خلاف وإنّما يجعله شرط إمكان الحوار.
والكونيّة تظلّ مهما يكن الحيف المسلّط علينا، أفق وجود أو شرط وجود، فيما العولمة ليست أكثر من استيطان مقنّع في أرض الآخر.
قد لا يكون ترامب أكثر من قناع «نبيّ» يتّجه بأمريكا إلى الماضي. وقد نتعرّف إليه أكثر، في رواية هرمان ميلفيل الملحميّة «موبي ديك» التي تتمثّل نوعا من غموض الأخلاق في الشخصيّة الأمريكيّة، أو في سفينة الحيتان «بيكود» حيث طاقم طاغية هو الكابتن «اهاب» ينشد الحوت الأبيض رمز الطبيعة النقيّة السامية. وربّما لا يزال من الأمريكان من يعتقد تحت وطأة الكلفينيّة المتشدّدة ذات المرتكز البروتستاني؛ في أنّ الله أراد لمستعمراتهم أو لأمريكا من حيث هي «الجنّة الأرضيّة» أن تكون الهادي المرشد لبقيّة العالم المسيحي، وأنّهم «جنس مميّز» أو «مختلف» أو هو «عمليّ عنيف».
ولكن هناك أمريكا سارا تيزديل: «سأجمع نفسي داخل نفسي/ من جديد/ سأجمع نفسي الشتيتة لأجعل منها نفسا واحدة/ وسوف أدمجهما معا/ لتكون كرة بلّوريّة صقيلة/ من خلَلِها أرى القمر/ وأرى الشمس المتوهّجة».
أمريكا روبرت فروست: «لابدّ أنّ حصاني الصغير يرى الأمر غريبا/ أن نتوقّف في مكان ليس به بيت ريفيّ/ بين الغابات والبحيرة المجمّدة/ في أحلك أمسيات العام/ هو ذا يهزّ/ أجراس اللجام/ ليسأل عمّا إذا كان هناك خطأ».
كاتب تونسي

“القدس العربي”