كتب جدعون ليفي مقالاً في صحيفة هآرتس في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 قال فيه إن أبرز أصدقاء إسرائيل في الغرب صاروا من “العنصريّين واليمينيين المتطرّفين”، وإنهم في ذلك يقدّمون صورة عمّا صارته إسرائيل نفسها. ويمكن لتجسيد ما قاله ليفي تقديم أمثلة كثيرة ازداد عددها وانتشارها منذ نشره مقاله قبل عامين.

فمن البرازيل إلى هنغاريا، ومن إيطاليا إلى هولندا، ومن الولايات المتحدة الأمريكية إلى النمسا، تبدو القواسم المشتركة الأبرز بين داعمي إسرائيل اليوم، حكوماتٍ رسمية أو شخصيات وأحزاباً صاعدة من أقصى اليمين، نزعاتهم الفاشية ومغالاتهم القومية وكراهيتهم للكثير من قِيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان. ولا يحول عداء قسم كبير منهم للسامية دون دعمهم لإسرائيل وسياساتها، طالما أن ضحاياها هم من “العرب والمسلمين” الشبيهين بأكثر المهاجرين واللاجئين والموسومين بالإرهاب عندهم (في الدول الأوروبية والولايات المتّحدة)، أو طالما أن أنصار الضحايا الفلسطينيين هم خصومهم اليساريّون (في البرازيل).

ولعلّ في نقل السفارات من تل أبيب إلى القدس، الذي استهلّته إدارة دونالد ترامب وأعلن الرئيس البرازيلي الجديد جايير بولسورانو عزمه على القيام به (في حضور نتنياهو) ما يعبّر أصدق تعبير عن احتقارهم للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتّحدة، وعن استغلالهم رمزية القدس الدينية لدعم الذرائع الإسرائيلية والذهاب أبعد من كلَ من سبقوهم على مدى أكثر من نصف قرن في تأييد سياسات تل أبيب.

على أن أمراً آخر يلفت في المواقف المشتركة المعلنة لهؤلاء أو لبعض قواعدهم الشعبية تجاه قضايا الشرق الأوسط الراهنة: تأييدهم للتدخل العسكري الروسي في سوريا الذي أنقذ نظام بشار الأسد، وإعجاب كثرة منهم بالرئيس السوري وبِحربه ضد مجتمعه وتشكيل وفود لزيارة دمشق تضامناً معه.

فما الذي يفسّر هذا التقاطع، وكيف يعبّر عن نفسه؟ وكيف يتعايش مع مواقف أُخرى في البلدان المعنية نفسها، حيث تبرز أيضاً شعارات وأنشطة لجماعاتٍ من أقصى اليسار تؤيّد النظام الأسدي انطلاقاً من “عدائها للإمبريالية الأمريكية” واعتبارها إياها مسؤولة عمّا يجري من أهوال في سوريا والعراق وسواهما؟

تبدو الإجابة مرتبطة بمجموعة عناصر تتداخل فيها اعتبارات تلغي الكثير من التناقضات أو تقلّصها.

ففي مقلب العنصريّين وجماعات أقصى اليمين، ثمة افتتان مضمر بالعنف وبممارسته ضد مسلمين (أو سود أو غجر أو مكسيكيين). لا يتحدّث هؤلاء به في العلن دائماً، لكن بعض أنصارهم يعبّرون عنه دورياً على وسائل التواصل الاجتماعي، إن في الأوساط المؤيّدة للأحزاب الفاشية في إيطاليا واليونان (الذين زار الكثيرون منهم سوريا في السنوات الماضية والتقوا أسماء الأسد وبثينة شعبان وجالوا على مسؤولين سوريّين)، أو بين دعاة “التفوّق الأبيض” في الولايات المتحدة (حيث عثر المحقّقون على صورة بشار الأسد في كومبيوتر جميس فيلدز منفّذ اعتداء شارولتسفيل في فرجينيا ضد المتظاهرين المعادين للعنصرية). وبالنسبة لمعظم هؤلاء، يبدو الأسد “الرجل الأبيض” الذي يواجه ملوّنين ملتحين ونساء محجّبات، ويتعامل معهم بالطريقة “المناسبة” (ارتدى العشرات في إحدى مظاهرات الكلوكلوكس كلان صيف العام 2017 قمصاناً تحتفي بالبراميل الأسدية المتفجّرة تحت شعار “خدمة توزيع براميل بشار”). وثمة أيضاً احتقار لمفاهيم حقوق الانسان وفلسفة الديمقراطية والمعاهدات الدولية (التي ينتهكها الأسد) بوصفها عندهم مناقضة للسيادة القومية ومقوّضة لسلطة المؤسسات الوطنية الواجب بها فرض النظام والانضباط على المجتمع والمحافظة على انسجامه الثقافي والعرقي (في حالات أقصى اليمين الأوروبي) أو على تفوّق نخبه البيضاء (في الحالتين الأميركية والبرازيلية). وثمة كذلك اعتبار لروسيا نموذجاً للدولة القوية المرغوبة، حيث “البياض المسيحي” الصافي في القيادة وحيث التسلطية والشوفينية تواجه الديمقراطية الغربية (الضعيفة) والعولمة (الظالمة) وما أرسته من علاقات دولية بعد انتهاء الحرب الباردة؛ فإذا كانت موسكو داعمة للأسد، وجُب دعمه أيضاً. وثمة أخيراً مسألة “حماية المسيحيين” من الخطر الإسلامي واعتبار “البعث السوري” ورئيسه ضمانة لذلك، وهذا بالتحديد ما تردّده جماعات عدّة ضمن شبكات اليمين وأقصى اليمين المسيحي، كاثوليكية أو بروتسنتاتية أو أرثوذوكسية، منذ العام 2011. وهي تنفّذ حملات تضامن مع النظام السوري وزيارات إلى دمشق ومعلولا وصيدنايا وحلب لدعم “مسيحيي الشرق المهدّدين” على ما تقول. ولافت جداً في هذا الصدد نشاط الأم آنييس دو لا كروا المقيمة في دمشق والمروّجة لنظام الأسد، المتنقّلة دوماً بين بيروت والعواصم الغربية، المعتمَدة مرجعاً في أوساط يمينية كاثوليكية معادية للسامية في فرنسا كما في أوساط يسارية معادية للإمبريالية، والقادرة في الوقت نفسه على نسج أفضل العلاقات مع منظمة “التضامن الفرنسي الإسرائيلي” المتطرفة في دعم مواقف تل أبيب، التي قدّمت لها منبرها الباريسي في العام 2013 للتأكيد على “الخطر الإرهابي إياه الذي يتهدّد سوريا وإسرائيل”.

علاوة على كل ذلك، تحتل نظريّات “المؤامرة” موقعاً أساسياً في سرديّات أكثرية القواعد الشعبية المؤيّدة لليمين المتطرّف، وتتلاقى مع عدائهم للمؤسّسات الدولية وللنخب التي حكمت على مدى عقود، كما تتداخل مع رفضهم للقيم الكونية وللاتفاقات التي تهدّد أحزابهم على الدوام بالانسحاب منها وبالتخلي عن السياسات والالتزامات المعمول بها بموجبها.

وهذا بالتحديد ما يُقرّب قواعد اليمين المتطرّف اليوم إلى بعض قواعد أقصى اليسار في العديد من الدول الغربية، إن في ما يخصّ المواقف من القضايا الاقتصادية أو في ما يتعلّق بالسياسات الإقليمية والدولية. فمن رفض “الاستبليشمانت” والأحزاب التقليدية اليمينية والاشتراكية التي حكمت طويلاً، إلى رفض المؤسسات التي أرساها الاتحاد الأوروبي (لأسباب مختلفة، قومية- شوفينية عند البعض، اقتصادية-أخلاقية عند البعض الأخر)، إلى كراهية العولمة وكل ما يرتبط بها، إلى تأييد موسكو في سياساتها الدولية وتدخّلها العسكري في سوريا، إلى معاداة الإسلام والإسلاميين (من منطلقات عنصرية صرفة أو علمانوية) تتقاطع الكثير من المواقف وتتداخل، من دون أن تُزيل بالطبع الفروقات الجوهرية بين توجهات اجتماعية وثقافية تميّز معسكرين تاريخيّين (ومن دون أن يعني كل ذلك أن لا ناشطين ومنظّرين في أقصى اليسار خارج التناقضات هذه بأسرها).

بهذا المعنى، يجتمع اليوم في بحر من المفارقات يمينيون مؤيّدون لإسرائيل ونظام الأسد، يقيمون تماهياً ما بينهما بوصفهما يقاتلان “كَبيض” سكّاناً أصليّين (“أنديجين” بحسب المصطلح الفرنسي)، ويقصفون أعداءهما المتماثلين مع أعداء وصلوا إلى الغرب نفسه. ويجتمع معهم في دعم الأسد يساريّون معادون للإمبريالية ومُعجبون بفلاديمير بوتين، الداعم بدوره الأسد وإسرائيل وإيران والسعودية والسلطة الوطنية الفلسطينية على حدّ سواء، والمقدّم بالتالي لكلّ من يتموضع سياسياً تجاه الشرق الأوسط، يميناً ويساراً، زوّادته المناسبة من المبرّرات والذرائع للتموضع خلفه.

هكذا، يمكن أن نُضيف الكثير إلى ما قاله جدعون ليفي في مقاله عن أصدقاء إسرائيل، وأن نضيف الأسد إلى العنوان ومعه قائمة من أسماء أفراد وجماعات يتقدّمون ببطء على حساب عالم قديم يتراجع راهناً وتتآكل قيمه ومؤسّساته، بغثّها وسمينها، ولَو أنها ما زالت تملك المقوّمات الكافية لتستعيد يوماً زمام الأمور. وهذا في ذاته بحث آخر.

  • كاتب وأكاديمي لبناني