الموضوعات

التقرير السياسي للجنة المركزية المقدّم إلى المؤتمر السادس لحزب الشعب الديمقراطي السوري  النظام الداخلي لحزب الشعب الديمقراطي السوري

موضوعات المؤتمر السادس لحزب الشعب الديمقراطي السوري

 17   مايو 2005
 –  مقدّمة  –

    مرّت على البلاد والحزب خمسة وعشرون عاماً منذ المؤتمر العام السابق، وهذه فترة غير عاديّة، تتحمّل قيادة الحزب مسؤوليّتها المباشرة بالطبع، من دون أن ننسى تبعات ما مرّ علينا من ويلات ومحن، ومن غير أن يعني هذا تبريراً لعدم انعقاد هذا المؤتمر.

    لقد أخمد النظام طاقة المجتمع السياسية، ومنعه من ممارسة حقه في صنع مصيره لأكثر من ثلث قرن، فأضاع بذلك على البلاد فرصة اللحاق بالعصر، والتقدّم إلى أمام ضمن التيّار الذي ينتظم معظم شعوب الأرض. لقد قطع بالاستبداد طريق الديمقراطية، فحال بين الشعب وبين الاهتمام بنفسه.

    الحزب جزء من الشعب، قدّم التضحيات، وانقطع عن التقدّم والنموّ. وفي خلال تلك السنين الطويلة، أعوزته الكوادر، وأعوزه البرنامج المتجدّد وأدوات العمل السياسي القادرة على/والمستعدّة للاشتغال على أهدافه، وأعوزته أيضاً دراسة المتغيّرات التي عصفت في العالم وتطلّبت مراجعة جدّية للمناهج السائدة ولأدوات التفكير.

    إن دخولنا في القرن الحادي والعشرين يفرض علينا أن نعيد دراسة بعض عناصر التاريخ الحديث وتحليلها، وخاصة في القرن العشرين، وذلك على ضوء ما انتهت إليه الوقائع والتجارب العملية التي تم إنجازها، وعبر حركة أدوات المعرفة والتفكير في الوقت نفسه. ضرورة مثل هذه الدراسة والمراجعة تفرضها حاجاتنا السياسية الراهنة، والتزامنا الموضوعية في العمل للوصول إلى الحقيقة. عملية التجديد التي نسعى إليها لا تعني التخلي أو الانحراف عن القيم الإنسانية الكبرى التي وجهت مسيرة الحركة الاجتماعية الاشتراكية والديمقراطية في العقود الطويلة الماضية. غير أننا بمقدار ما نبذل من جهد وعمل بمقدار ما نتوصل إلى نتائج تنسجم مع هذا الالتزام، كل ذلك على أن يبقى تفكيرنا منفتحاً ناقداً، وقابلاً للنقد والتجديد الدائمين.

    نتقدّم فيما يلي إلى رفاقنا وحلفائنا وأصدقائنا، وإلى شعبنا أيضاً، بوثيقة تتضمّن عدداً من الموضوعات، نتوخى من خلالها تقديم رؤية جديدة وطامحة إلى التجدّد الدائم، تعتمد الفكر النقدي، ولا تدّعي الكمال أو الاكتمال. لا نريدها أن تكون نصوصاً لا يأتيها الباطل، ولا يحيد عن تفاصيلها من يلتزم في إطار الحزب، بل نريدها أن تكون مؤشّراً على النهج في التفكير والعمل، معرّضاً دوماً للتصويب والمراجعة والتجديد.

    هذه الوثيقة دعوة إلى خطّ جديد في الفكر والسياسة، يحملها حزب متجدد في بلاد تريد الانتقال من حال الاستبداد إلى كنف الديمقراطية. لا ينفصل هذا الحزب عن تاريخه الطويل وتضحياته الكبيرة، لكنّه لا يمتنع على التجدّد والحداثة ، حتى في جوهره وتكوينه. لذلك، يعيد أيضاً النظر في مفهوم الحزب ذاته، ليؤسّس لحياة داخلية غنيّة تكون أكثر قدرة على تلبية حاجات الشعب ومصالحه ومتطلّبات مستقبله.

 -1-

 سورية، من الاستبداد إلى الديمقراطية

سورية في القرن العشرين 1-1

ليس صحيحاً أنّ الحرية والديمقراطية غريبتان عنّا نحن السوريين، فلقد تعرفنا إليهما منذ القرن التاسع عشر، وبالمراس العملي منذ أوائل القرن العشرين. تتوازى هذه العلاقة وتتفاعل سلباً وإيجاباً مع تاريخ تأسيس سوريا، الوطن الحالي، بحدوده وسماته. فسورية الحديثة هذه كيانٌ لا ينطبق على التكوينات التي سبقته في العهد العثماني والتي انبثقت منها؛ وفيها تطوّرت إرادة الوحدة العربية مع إرادة الاستقلال عن الدولة العثمانية؛ ولا ينطبق كذلك على سورية الطبيعية كما هي تسميتها في البداية، وكما يعرفها أهلها. ربّما لذلك، تطوّرت علاقة السوريين مع الاستبداد والديمقراطية، باختلاط مع علاقتهم بوطنهم كما تبلور وتكوّّن، وبتعارض أحياناً مع تعلّقهم بوطن عربي أكبر، أو سوريّ أكثر اتّساعاّ في الأرض والتاريخ والجغرافيا.

ويبدو أن ثورة الاتّحاديين التحديثية على السلطنة العثمانية في عام 1908، كانت نقطة تحوّل كبرى في ذلك المسار، حيث تأسّست أهمّ التنظيمات القومية والثورية العربية مباشرة على إثر ذلك. ثمّ أصبح النشاط السياسي أكثر زخماً وتقدّماً وفاعليّة، وظهرت عشرات الصحف، في تعبير يكفي للدلالة على الميل إلى التحديث والتقدّم والممارسة الديمقراطية، والقدرة على ذلك.

بمبادرة من هذه النوى التنظيمية القويّة، تمّت الدعوة في عام 1919 إلى “المؤتمر السوري العام” على أساس انتخابات على النمط الذي كان في أواخر العهد العثماني في بعض المناطق، وترشيح بالتوافق في المناطق الأخرى. وقاد هذا المؤتمر محاولة الاستقلال في حدود سوريا الطبيعية، وتأسيس دولة حديثة تنسّق من أجل الوحدة العربية، كما كان الطموح إليها وحّد فهمها في تلك الأيام. وتثبت مباحث المؤتمر، توفّر إرادة التقدّم والديمقراطية، والكفاءة اللازمة لتحقيق ذلك، على الرغم من خسارة نخبة من القادة في إعدامات جمال باشا السفاح عام 1916. فقد عمل المؤتمر على تأسيس وتنظيم مشاركة المجتمع السياسية في تلك الحركة، وعلى مقاومة تنفيذ اتّفاقية سايكس بيكو ومقرّرات مؤتمر سان ريمو وقرارات تأسيس الانتداب التي أصدرتها عصبة الأمم، وأصدر قراراً باستقلال سورية كمملكة دستورية تقوم على الأساس “المدني النيابي”، ثمّ نظّمت اللجان الشعبية المنبثقة عنه مقاومة الاحتلال وخاضت معركة ميسلون خلف قيادة الشهيد يوسف العظمة. إن مبادرة تأسيس المؤتمر ومناقشاته وقراراته، هي اختبار الديمقراطية الأول، الذي نجح في وضع لبنة لوطنيةٍ جديدة، على الرغم من الاحتلال وتصنيع الحدود بعيداً عن رغبة أصحاب البلاد.

ما بين الاحتلال العسكري وتقويض المشروع المرتبط بفيصل، وحتى مصادقة عصبة الأمم على الانتداب في عام 1922، أصبح لكلمة سوريا معنى جديد، بعد اجتزاء شرقي الأردن وفلسطين والعديد من المناطق التي ألحقت بلبنان. ثمّ شرع الفرنسيون بتطبيق مشاريعهم الخاصة بالكيان الجديد لخدمة مشاريعهم الاستعمارية، لكن، في هذا السياق أيضاً، أقاموا الطرقات والجسور، وطوّروا تخطيط المدن وتنظيمها العمراني وعدّلوا في تركيبتها الموروثة من العهد العثماني، واشتغلوا على تحديد و تحرير الأراضي الزراعية وحققوا تقدّما في الإنتاج الزراعي كمّاً وكيفاً وبخاصة في منطقة الجزيرة، ونشأت الجامعة السورية وتقدّم التعليم في اتّساعه ومناهجه، وابتدأت صياغة وتطبيق القوانين الحديثة، بل شرع السوريون في ممارسة الديمقراطية بطرائقها المعاصرة، ونجحوا في انتخاب الوطنيين المطالبين بالاستقلال في كلّ مرة جرت فيها هذه الانتخابات تحت الاحتلال. وقد هدفت تلك “المنجزات” الفرنسية إلى تأسيس علاقة لا تنفصم عراها مع المستبدّ الأجنبي سواء بقيت فرنسا بصورة مادّية وعسكرية مباشرة، أم اضطرّت إلى تنفيذ تعهّداتها وإقرارها بضرورة الاستقلال وشرعيّته. هذا الاستقلال الذي حدث بعد حوالي ربع قرن، بضغط من الثورات السورية وكفاح الشعب السوري وتضحياته العظيمة، وأيضاً بتأثير المنافسة البريطانية، وهيمنة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على السياسة الدولية بعد الحرب، وفي إطار الأمم المتحدة، وليدة تلك الحرب ونتيجتها.

وقد حدث الاستقلال والبنية الوطنية لا تزال هشّة ضعيفة غير قادرة على تطوير بنيتها القانونية والديمقراطية، فانحدر الوطنيون الذين أرادوا استثمار نجاحهم في الحصول على الاستقلال الذي رأوا فيه نهاية المطاف، وابتدأت المصالح الأضيق بالظهور والتعبير عن نفسها، وأخذ يظهر الفساد مع الليبرالية الناشئة، ذات البنية الاجتماعية المطبوعة بالتأخر، بقوة تمثيل الملاكّين الإقطاعيين فيها، مع النخب الدينية الموروثة السمات من العهد العثماني، وضعف البرجوازية الوطنية التي كانت في طور النموّ ولا تزال بعد هشّة البنية اقتصادياً واجتماعيّاً وسياسياً. ثم جاءت الهزيمة الفاضحة للجيوش العربية في فلسطين عام 1948، لتزيد الأوضاع سوءاً وتفجّراً، ولتسهّل استهداف البلاد من قبل المصالح الدولية المتنافسة، ووقوعها تحت ضغط استقطاب قوي ما بين المحورين العربيين القويين: السعودي المصري من جهة، والعراقي الهاشمي من جهة أخرى، فوقعت تحت سلسلة من الانقلابات العسكرية ما بين عام 1949 و1954.

ولكن، كانت المشاركة السياسية قد تطوّرت منذ أيام الاحتلال وبعده، فتبلورت تنظيمات مختلفة عن تلك المعروفة سابقاً، لا تستمدّ أفكارها وقياداتها من النخب الاقتصادية والاجتماعية التقليديّة، وابتدأ طور جديد من الحياة الاجتماعية- السياسية، يمارس الشعب فيها تأثيره سواء بالمعنى الماديّ المباشر أو من خلال مفهومه الحديث. وكان  لذلك دور في الانقلاب الأخير عام 1954، الذي حدث بمواكبة التظاهرات والإضرابات المتزايدة، وآل إلى بدء مرحلة مختلفة في ممارستها الديمقراطية، أكثر تقدّماً من المراحل السابقة.

وتصاعد دور الشعب أثناء تلك الفترة بتأثير من التحدّيات والتهديدات الخارجية، بشكل مترافق مع تطوّر الروح القوميّة العربية، وبخاصة مع الانعطاف الكبير الذي شهدته مصر بعد 23 تموز 1952، وإنهاء الملكية ثمّ الوجود البريطاني، وبروز حركة التحرّر القومي في البلاد العربية والعالم الثالث كلّه.

تحقّقت الوحدة مع مصر بتأثير ذلك المدّ الكبير، وكان شكل تحقيقها وتركيب دولتها متوافقاً مع ذلك المدّ القومي، وانعكاساً لدور الشعب وفاعليّته. إلاّ أن ذلك كان يعني  من جهة أخرى-  غياب الحريّة أو الليبرالية، جزء الديمقراطية المكوّن الأول، وتعرّضه للتهميش والازدراء تحت ثقل وضخامة جزئها الثاني النامي: مفهوم الشعب. في تلك الحالة، كان من الطبيعي أن يتحوّل التركيز على الشعب إلى “الشعبوية”، وتنمو وسائل القمع وهيمنة الأجهزة الأمنية، ويتأسّس للاستبداد، الذي سوف يهيمن على مرحلة طويلة لاحقة، تقطع طريق تقدّم سورية أو تعيقه إلى حدّ كبير. كان لذلك الاستبداد صفات إضافية زادت سلبية أثره، ظهرت من خلال نقل الآليات المصرية إلى سورية بعسف وتسرّع وارتجال.

دفعت تلك الحالة قوى متناقضة إلى معارضة دولة الوحدة رغبةً في تحسين شروطها وتدعيمها، لكنها لم تدعم الانفصال. وأتاحت لقوى أخرى أيضاً أن تدعم الانفصال، هذه القوى التي منها ما كان متورّطاً بمخطّطات أجنبية معادية، ومنها ما كان يريد استعادة دور مفقود وضائع في كيان أكبر مما اعتاد عليه. فتضافرتالمؤامرات الخارجية مع القوى الداخلية المعادية وأجهزت على دولة الوحدة، وضاعت بذلك على السوريين والعرب الآخرين فرصة كبرى لن يكون تكرارها سهلاً في الظروف التالية. وأتاحت للانقلابات القادمة أن تكتسي عباءة قومية لم تنعكس ظلالها على الأرض مثلها مثل العباءة الاشتراكية، إلاّ بمقدار ما أراد الاستبداد أن يُخفي حقيقته ويزيّفها.

على ذلك النمط، حدث الانقلاب العسكري الأول في عام 1963 الذي نفذته مجموعة من الضباط الوحدويين، البعثيين والناصريين والمستقلّين. لكن التنافس والصراع بين هذه الفئات آلَ في النهاية إلى سيطرة الضباط البعثيين. ثمّ حدث الانقلابان العسكريان التاليان في العامين 1966 و 1970، اللذان كانا في إطار “حزب البعث” نفسه.وضمن تلك الأجواء حدثت هزيمة 1967، واتّخذها أصحابها سبباً لتطوير تحكّمهم بالسلطة وتأبيد حالة الطوارئ والأحكام العرفية. وانتقلت سورية في السبعين من استبداد الحزب بالاشتراك مع النخبة العسكرية إلى مرحلة من الاستبداد الفردي والمشخصن الذي يرسم حدود مشاركة الحزب والنخبة ويطبعها بطابعه، واستمرّت لبقية القرن.

منذ بداية تلك الظروف، لم تستطع البرجوازية السورية والقوى الليبرالية المرتبطة بها أن تقاوم، وفضّلت الهروب أو الانكفاء جانباً. وأتاحت بذلك لقوى ومفاعيل التأخّر أن تتقدّم من جديد، وتحتلّ موقعاً مؤثّراً في المراحل اللاحقة. تلك القوى التي كانت قد سادت في المرحلة ما قبل الوطنية، من عائلية وعشائرية وطائفية، عادت لتحتلّ مواقعها التي انسحبت منها سابقاً، بتشجيع واستثمار متنوّع الأشكال من قبل الاستبداد وسلطاته الواسعة غير المحدودة. عودة تلك القوى بزخم متعاظم، كانت في الوقت نفسه نتاجاً مباشراً للاستبداد، وردّ فعل عليه أيضاً.

في حين كانت قوى الشعب الأخرى، اليسارية والقومية، لا تزال تحت سكرة المدّ القومي والاشتراكي اللاحق للوحدة ثمّ الهزيمة، فأمّنت للاستبداد قاعدة إيديولوجية تقوم على “الشرعية الثورية” لا على الشرعية الدستورية، وعلى حرق المراحل الاقتصادية الاجتماعية وتأخير التقدّم الطبيعي، وكلا الأمرين تبرير للاستبداد واستدعاء له واستدامة. لقد أهملت القوى اليسارية والقومية دور الديمقراطية في بناء الدولة الحديثة والمجتمع، وتأخّرت بذلك عن تلك القوى الليبرالية البرجوازية التي كانت سائدة من قبل، وتعمل على تأسيس وتطوير تلك الدولة وذلك المجتمع. إن أنفاس المزاودة واستعجال حرق المراحل، أعطت للاستبداد روحاً قادرة على إحيائه وإطالة عمره.

وكان التطوير الأهمّ للاستبداد، من خلال تأسيس وقوننة قيادة حزب وحيد في الدستور هو البعث- للدولة والمجتمع، وتعميم القمع وهيمنة الأجهزة الأمنية، وتحديث الفساد والإفساد وزرعهما عميقاُ، وعزل الشعب عن السياسة وممارستها عبر القمع المنهجي الذي أخذت أشكاله تتطور باستمرار.

في تلك الحال، نشأت ظروف العنف والعنف المضاد في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، حين تعرّضت البلاد لاستقطاب طائفي خطير، وأضاعت السلطة فرصة الطريق الثالث الذي طرحه “التجمع الوطني الديمقراطي” وقوى اجتماعية عريضة في المجتمع السوري، والذي يقول إن الحل السياسي هو المخرج والديمقراطية هي الطريق الآمنة إلى مستقبل متقدّم. برفضها ذلك، أضاعت السلطة بأطماعها الأنانية على البلاد فرصة كبيرة، كلّفتها حتى الآن أكثر من عقدين من الزمن. وليس خافياً أن السلطة توسّلت، في حينه، العنف المضادّ الذي قدّم لها مبرّراً إضافيّاً لسدّ المنافذ في وجه الخيار الثالث ولتبديد المخرج الديموقراطي.

مرّ أكثر من عشرين عاماً من الكساد والركود والفساد المتزايد والتسلّط العاري، وأصبحت الأزمة خلالها شاملة عاملة، وغدت السلطة عاجزة عن الاستمرار في حكم البلاد بالطريقة نفسها. تغيّرت أيضاً تلك الظروف الدولية التي عاش عليها النظام في أيّام الحرب الباردة، حين كان يناور مع الاتّحاد السوفييتي في علاقاته مع الأميركان، ويناور مع الأميركان في علاقاته مع السوفييت وبمركزه في سياسة الحفاظ على استقرار المنطقة من طريق الاستبداد. فانفتح طريق التغيير واسعاً، وخياراً وحيداً.

1-2- في عمق الأزمة الشاملة. 

1-2-1- الأزمة الاقتصادية:

كما في السياسة، كذلك في الاقتصاد، هيمنت عقلية “حرق المراحل” في تاريخ سورية الحديث، وكان لذلك نتائج سلبيّة معوّقة دائماً.

في الزراعة، كانت فئة الملاكين الكبار قد ازدادت، كما هو معروف، أيام الاحتلال الفرنسي، رغم السياسات التي اتّبعها لإصلاح الإنتاج الزراعي. وفي أواسط القرن الماضي، كان للملاكين العقاريين أكثر من نصف مقاعد المجلس النيابي في دوراته الانتخابية التي جرت في تلك الفترة. بقيت الزراعة بحاجة إلى إصلاح حقيقي وعصري دائماً، ولم تحصل إلاّ على خطوات منقوصة، منذ “تنظيمات” العثمانيين، وحتى هذه الأيام.

كانت هنالك محاولات لم تكتمل في الخمسينات، ثمّ خطوة كبيرة في سنوات الوحدة مع مصر أواخر الخمسينات. وبدلاً من أن يؤدي الإصلاح الزراعي إلى زيادة الإنتاج وتطويره، أفضى التطبيق السيّئ إلى تراجع الإنتاج وفتور حماس المستفيدين جرّاء الصعوبات التي عانوها، وتأثير الجفاف آنذاك على زيادة هذه الصعوبات. بعد انقلاب آذار 1963، جرى تعديل قانون الإصلاح الزراعي وتخفيض سقف الملكية. ازداد بعدها تدخّل الدولة، وابتدأت أعراض الركود بالظهور خلال أواخر الستينات، فلم يزد معدّل النموّ السنوي عن 1% بالأسعار الثابتة، بتأثير تأخّر توزيع الأراضي وبطء خطوات نمو التعاونيات الزراعية ومشكلاتها السياسية، وانخفاض التسليف الزراعي، وضعف استيراد الآليات الزراعية والأسمدة والمبيدات، وضآلة حجم الاستثمار، بالإضافة إلى التأثيرات المناخية.

من جهة أخرى، اتّجهت الفوائض التي تراكمت لدى التجار والمزارعين والحرفيين أثناء الحرب العالمية الثانية، إلى الاستثمار في الصناعة بعد جلاء القوات الفرنسية والبريطانية عام 1946. وبالنظر لتشابك مصالح الصناعيين مع كبار ملاكي الأراضي، بسبب مساهمة هؤلاء في رؤوس أموال الشركات الصناعية الناشئة، كان للصناعيين مواقف سياسية ملتبسة، لم تكن صائبة غالباً، كما كان الحال في موقفهم المناهض للإصلاح الزراعي مثلاً. ولا شكّ هنا، أن ضآلة حجم البرجوازية الصناعية، إن صحّ التعبير، وضيق قاعدتها الصناعية مع تخلّف بنيتها الفكرية من جهة أخرى، قد أضعف دورها الذي كان يمكن أن يكون قائداً ورائداً، يسهم مع القوى السياسية الشعبية الناشئة في القرارات والتوجّهات من موقع القوة والتأثير، ويقلّص التأثيرات العسكرية–السياسية على الأقل، التي تعاظمت وأصبحت لها اليد العليا فيما بعد، لا أن يترك الساحة مكشوفة ومنقادة لها من دون توازن.

في فترة السبعينات، حقق الاقتصاد السوري معدلات نمو بلغت حوالي 10%، ويعود ذلك إلى التدفقات النقدية الكبيرة التي انصبت بعد حرب تشرين، ثمّ بعد اتفاقيةكمب ديفيد، وكان معدّلها حوالي 1.5 مليار دولار حتى أوائل الثمانينات. إضافة إلى ذلك كانت هنالك مساعدة الكتلة السوفييتية (من خلال رأس المال التقاني خصوصاً) ودعمها الملموس دائماً. رافق ذلك التوسّع، سياسة إحلال الواردات دون تشجيع التصدير، وتثبيت الأسعار، وتعظيم العمالة ضمن هجرة واسعة من الريف إلى المدينة، وتوسيع التعليم ضمن سياسة المجانية والاستيعاب، والدعم الاستهلاكي والإنتاجي. في تلك الفترة أيضاً، توسّعت سياسة الفساد وإقطاع المواقع وتعميم سياسة توزيع المنافع، فابتدأت طبقة جديدة من أثرياء العمولة والمنصب والتسلّط. في الوقت ذاته، لم يعتنِ الاستثمار الذي قامت به الدولة آنذاك بإنتاج سلع أو خدمات قابلة للتبادل، وبالتالي سلع قادرة على توليد إيرادات لاحقة تعوّض النقص الذي سوف يحدث عند انخفاض الوفرة المؤقتة بالموارد. لذلك عانت البلاد بسرعة من أزمة اقتصادية حادة، انعكست انخفاضاً حاداً على سعر الليرة والقدرة الشرائية،  وارتفاعاً كبيراً بمعدّل التضخم. وقد كانت السياسة الاقتصادية السورية في السبعينات مثالاً على انعدام المسؤولية وتعاملها مع الدخل العابر اعتماداً على مبدأ “الغنيمة”، و”عش ليومك”. في تلك الأيام التي يراها البعض زمن ازدهار ووفرة، تأسسّت الأزمة اللاحقة التي ضغطت وما زالت تضغط بقوة على أوضاعنا، وتشكّل أعباءاً هائلة لا يقدر عليها من هو مصمّم على الانفراد والعناد.

بدأت المساعدات الخارجية بعد ذلك بالانحسار إلى حوالي 300 مليون دولار سنوياً، وانخفضت أسعار النفط العالمية بشكل حاد، وتدنّى مستوى احتياطي القطع، وبرزت اختلالات كبيرة في الإطار الكلي للاقتصاد. على إثر ذلك، وقع الاقتصاد السوري في أزمة خانقة بدءاً من منتصف الثمانينات، مع التضخم المفرط والاختناقات في العرض السلعي. ولم تنفرج هذه الأزمة إلاّ من خلال اكتشافات النفط وتدفّق أمواله، وبمثل هذا الانفراج الذي لا يمسّ المضمون ويعالجه علاجاً شكلياً وخارجياً، عادت الأزمة لتنشب أظفارها من جديد، بعد انتعاش مؤقّت هنا وهناك، ما بين أسعار النفط أو الاستفادة التجارية على هامش حصار العراق.

كان الفرق قد تزايد ما بين التدفّقات النقدية والمادية في عقد الثمانينات، حيث تضاعفت الكتلة النقدية خمس مرات ونصف، في حين لم يزد نموّ الناتج المحلّي الإجمالي إلاّ بمقدار 0.24. نجم عن ذلك أيضاً تزايد الأسعار بمعدّل يقارب العشرين بالمائة سنوياً، ممّا أدّى إلى فقدان جزء كبير (90% حسب بعض التقديرات) من القوة الشرائية للعملة السورية في الفترة ذاتها.

كذلك اتّسعت الهوة بين الاستيراد والتصدير، وارتفع العجز في الميزان التجاري، وأضعفت سياسة تثبيت سعر الصرف من القدرة التنافسية للسلع السورية.وبالمقارنة ما بين نسبة تزايد الأسعار، ومعدل النمو للدخل الوطني السنوي في ذلك العقد الذي بلغ بالأسعار الجارية مقدار 15.7%، يكون الدخل الوطني بالأسعار الثابتة لعام 1980 قد تراجع بمقدار 3.88%. كذلك انخفض الناتج الوطني من عام 1980 إلى عام 1990 بالأسعار الثابتة بمقدار 5.29%!

ردّ النظام، وبطريقة فوقيّة متخلّفة غير مسؤولة، بسلوك سياسة انكماشية وخفض الإنفاق العام، والهوس بتثبيت سعر العملة، فانخفض معدّل النمو في عام 1996 عن سابقيه بشكل ملموس ثم كان سلبياً بمقدار 0.5% في 1997. حول السياسة الاقتصادية في تلك الفترة قال بعض الخبراء إن البنك الدولي لا يحلم ببلد ينفّذ العناوين الأولى لوصفته بهذه الشدّة و”الشراسة” الاجتماعية.

من جهة أخرى، أصبح معدّل البطالة يزيد عن 20% من قوة العمل، يشكل الشباب 72% من هذه النسبة، حسبما تُجمع التقديرات المختصّة. في حين تزيد أيضاًتقديرات المختصّين لنسبة السوريين الذين يعيشون تحت حدّ الفقر عن 60%.

إنه ركود وتأزّم في الاقتصاد (في القطاع العام والخاص، في الصناعة والزراعة، في الخدمات والسياسة الماليّة)، ومأزق في الظروف المعيشية، في الوقت نفسه: أي أنه البرد القاتل والدخان الخانق معاً.  ومثل هذه الحالة تستدعي تغييراً سياسياً كبيراً، على أيّ معيارٍ قسنا أوضاعنا.

تتجلّى أزمة الاقتصاد السوري ومشكلته في:

– الاعتماد على الظواهر العابرة أو المرتجلة، من نوع المساعدات أو أسعار النفط أو الحالات السياسية الناشئة المؤقتة.

– معدلات النمو السكاني العالية التي ترمي بـ 200000 شخص إلى سوق العمل سنوياً، وتعاظم البطالة والفقر بشكل ينذر بالكوارث الاجتماعية.

– تخلف قطاع الزراعة الذي يعاني من تراجع وتفاوت في إنتاج المحاصيل الزراعية، ومن صغر الحيازات والاستثمارات، ونقص الرساميل، وشح المياه.

– تدهور أوضاع القطاع العام، ما بين أنظمة متخلّفة ونظام أوامري مشتق من نظام الاستبداد والتسلّط، وتأخّر تكنولوجي، وعمالة زائدة وأجور منخفضة، وإنتاج سيء في كميته ونوعيته، وبنية قانونية معوّقِة، وتعدّد الجهات الوصائية لقد بلغت الخسائر المتراكمة لهذا القطاع 71 مليار ليرة سورية حتى عام 2001.

– إحجام القطاع الخاص عن الإسهام في هذه الأوضاع بالاستثمار والحماسة اللازمين، في غياب الأمان القانوني وهيمنة الأجهزة ورجال السلطة وارتفاع مستوى العمولات والخدمات إلى حدِّ فرض الشراكة أحياناً. وقد أشارت دراسة لدى المؤسسة العربية لضمان الاستثمار عام 2001، إلى تدنّي حريّة الفرد الاقتصاديّة، حيث أتى تصنيف سورية في المرتبة 141 بين 161 دولة شملتها الدراسة.

– السياسة المالية والمصرفية المتخلّفة، التي لم تتطوّر في مصارف الدولة حتى الآن، رغم البدء بإقلاع المصارف الخاصة، وتأخّر السياسة الضريبية والعجز عن تطويرها رغم القوانين الجديدة.

– البيروقراطية، وأزمة التعليم والمعرفة والتكنولوجيا.

– هجرة العقول وامتناع الدارسين عن العودة في الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة.

– الفساد، وهو من أمّهات المشاكل كلّها، مع الإفساد وغياب قيم العمل وأخلاقه.

ومع تحديّات العولمة والدخول في الشراكة الأوروبية ومناطق التجارة المختلفة وخصوصاً ما يتعلّق بمنظمة التجارة العالمية، يتحمّل نظام الاستبداد مسؤولية تاريخية عن تأخّر الإصلاح، بمناورته في الاستجابة للفكرة التي غدت بديهية، وهي أن لا إصلاح اقتصادياً من دون الإصلاح السياسي، وتكريس سيادة القانون واستقلال القضاء بشكل خاص.

يعتمد الإصلاح الاقتصادي على الإصلاح السياسي بشكلٍ مباشر، وعلى أساس الانطلاق من التوافق والعلم الخالص، خارج أية أفكار مسبقة يحاول أحد فرضها. فمصلحة الاقتصاد الوطني هي المقياس والمعيار. مثال على ذلك – وليس حصراً -، في الموقف من “القطاع العام” ومسألة الخصخصة: لابدّ من التوصّل إلى حل، لا يبيع الثروة الوطنية رخيصةً إلى الذئاب والحيتان الجديدة، ولا يفرّط بها في ظلّ أوضاع سياسية قائمة على التسلّط وانعدام التوازن، ولا يقف في الوقت نفسه موقفاً سلبياً مسبقاً قائماً على أوهام يسارية من الخصخصة في أيّّ قطاع. فالمهم هو صحة الاقتصاد الوطني، مع الحفاظ على مصالح العاملين وتحسين أوضاعهم وعدم التفريط بها من دون حساب. فالاقتصاد السوري بحاجة إلى إعادة هيكلة عميقة بعيدة عن الاستنسابية والموقف الإيديولوجي المسبق، تستند إلى الطرق والأساليب العلمية والتقنيات الحديثة، وتأخذ بالاعتبار مصلحة الاقتصاد الوطني وتعافيه، وقدرة منتجاته وخدماته على المنافسة في الكم والنوع والأسعار.

يمكن من خلال العلوم الاقتصادية، بدعم مباشر من قوى الديمقراطية والوطنية وقوتّها، التوافق على ما فيه مصلحة البلاد.. ولكن شرط ذلك الرئيس، هو وجود مجتمع مدني ينفعل ويتفاعل، يراقب ويدعم أو يقاوم، ويسهم مباشرة في تحويل خطى الإصلاح إلى خطى وطنية تحظى بتأييد الشعب، لتتمكّن البلاد من تحمّل آلامها المتوقّعة على المدى القصير، من أجل اقتصاد سليم وحديث على المدى البعيد.

1-2-2- الحالة الاقتصادية–الاجتماعية

عاش المجتمع السوري مسار تطوره الطبيعي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وفي فترة ما بعد الاستقلال. وشهدت الطبقة الوسطى في سوريا فترتها الذهبية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وكان موقعها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في أساس الحراك السياسي الناهض في تلك الفترة عندما كانت تحتل مكانة فاعلة في أوساط الرأي العام وتلعب دوراً مؤثراً عبر السياسة والأحزاب السياسية.

وكانت مكونات هذه الطبقة، كما هو معروف، تتألف من المعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعات والمحامين والأطباء والمهندسين، وموظفي الفئة الأولى، وأصحاب الورش الصغيرة، والملاكين المتوسطين ومن هم في هذه المستويات الإنتاجية والخدمية. وهكذا تبوأت هذه الطبقة في تلك المرحلة مكانة اجتماعية رفيعة، ونجحت في تأسيس أحزاب قومية واشتراكية أسهمت بفعالية في رسم الاتجاهات السياسية، وفي قيادة النشاطات الجماهيرية والعامة.

لكن الاتجاهات السياسية والاقتصادية التي سادت في معظم بلدان العالم الثالث، وسوريا واحدة منها، منذ منتصف ستينات القرن الماضي، بضغط الأيديولوجياالسوفيتية المؤثرة في هذه البلدان، عملت على فرض نمط أو نموذج من التطور أخذ يعرف منذ ذلك التاريخ باسم “التطور اللارأسمالي”.

هذا النموذج لم يكن، في حقيقة الأمر، سوى تجل لنظام “رأسمالية الدولة” الذي ثبت فشله ليس في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، وهو الهدف المعلن له، وإنما ثبت أنه تسبب أيضاً في دفع أوضاع البلاد إلى مسار من التدهور طال مناحي الحياة كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأوصلنا إلى الأزمة العامة والشاملة التي ينيخ مجتمعنا تحت وطأتها.

في ظل هذا النموذج جرى قطع مسار التطور المجتمعي الطبيعي عبر هيمنة السلطة على الدولة واستخدام آلياتها في بسط سيطرتها على الاقتصاد من جهة، وعبر احتكار السياسة الذي آل في النهاية إلى تكون نظام شمولي استبدادي من جهة أخرى، مازال مجتمعنا يخضع له على رغم فشل وانهيار نموذجه الرئيس منذ أوائل تسعينات القرن الماضي.

ولقد كان للتطورات الدولية والإقليمية، كما هو معروف، دور مؤثر في تكريس هذا النظام الذي عاش فترته الذهبية في سبعينات القرن الماضي، وبخاصة بعد أن تدفقت عليه الدولارات النفطية في أعقاب حرب تشرين في عام 1973. وشهد الاقتصاد السوري في تلك الفترة طفرة من النمو، وتوسع قطاع الدولة عبر تحقيق مشاريع في ميادين الاقتصاد كافة، الصناعية والتجارية والخدمية، ترافقت مع استفحال كل أشكال الفساد التي تجلت في السمسرة والعمولات والرشاوى والمحسوبية وسياسات النهب المفتوح، وفي تدهور قيم الشغل والإنتاج. وأخذت تتشكل مجموعة من أصحاب الثروات الكبيرة التي عملت على تعميم الفساد وتكريس القيم القائمة على الوصولية والنفعية الشخصية المباشرة وتفكيك العلاقات الاجتماعية. وباختصار،  سادت الوضعية الذرائعية بأكثر أشكالها انحطاطاً ودناءة.

في جانب آخر، تم التقاء غريب بين ذرائعية انتصرت تحت رعاية القمع والفساد، وبين منظومات دينية موروثة من العصور الوسطى رعتها السلطات السائدة.وتشكلت ظاهرة ملفتة في المجتمع السوري، أخذت تتجلى في توزع الفرد بين هذه البنية الموروثة وبين سعيه المحموم وراء مصالحه الخاصة والأنانية. وآلت النتيجة إلى إن المسار الذي أخذه التطور الاجتماعي دمر الطبقة الوسطى، ودفع بمعظم شرائحها باتجاه الطبقات الفقيرة. وأخذ الأغنياء يزدادون غنى، والفقراء يزدادون فقراً.وشيئاً فشيئاً تكشّف أن المجتمع السوري يتألف من طبقتين اثنتين: طبقة الأغنياء، وطبقة الفقراء. ازداد أفراد الطبقة الأولى في أرقام غناهم حتى بلغوا مستويات فلكية مدهشة، وازداد أفراد الطبقة الثانية في فقرهم وعددهم حتى بلغت نسبة الذين لا يصلون إلى حدّ الفقر المتعارف عليه دولياً إلى حوالي ستين بالمائة من الشعب السوري.

تشكلّت الطبقة السائدة من نهب الدولة والمجتمع بشكل رئيس، بطريقة منهجية استمرّت عقوداً من الزمن، وقامت على استثمار الغلبة والسلطة، فجمعت الثروات الهائلة من العمولات الخيالية على كلّ شيء يدخل البلاد أو يخرج منها عن طريق تقاسم القطّاعات الاقتصاديّة وفق كوتا متفّق عليها، ومن استثمار الفوضى المالية والمصرفية ما بين طبيعة الفوائد وحجم التضخم وارتجال الإدارة وفسادها، ومن احتكار الاستيراد والتصدير بخاصة في المواد الغذائية الأساسية، ومن التهريب المتوافق مع سياسات الاستيراد والتصنيع والاتّجار بكلّ شيء، ومن البلطجة والخوّات المباشرة أحياناً ومن الاتّجار بالممنوعات أحياناً أخرى. مع هذه المكوّنات، كان طريق الرأسمالية التقليدية أو الطبيعية مغلقاً ولا يسمح إلاّ بالتحالف مع الشريحة الجديدة أو التقوقع طلباً للسلامة أو انتظاراً لشروط أفضل.

من بين أكثر الطبقات التي تعرّضت للإفقار الطبقة العاملة، التي تحوّلت بتأثير سيادة النهج الأوامري في الإدارة، وهيمنة الأجهزة الأمنية ونخب الحزب الحاكم التي نجحت بتدجين الحركة النقابية وتحويل أهدافها من رعاية مصالح العمال المادية والمعنوية، والنضال من أجلها، إلى دعم سياسات السلطة وتوجّهاتها تحت شعار النقابية السياسية، وخضوع القطاع العام للنهب وسياسة العمولة، إلى الكسل واللامبالاة والتواكل، الأمر الذي أفقد المجتمع أهم قيمه الرافعة، وهي قيم العمل وأخلاقه وعاداته.هذا، بالإضافة إلى وضع العمال في القطاع الخاص الذين يرزحون تحت شروط قاسية تجبرهم على الخضوع لابتزاز أرباب العمل نتيجة تدنّي مستوى الأجور وندرة فرص العمل.

في حين كانت تحوّلات الريف والفلاحين مختلفة، بتأثير تركيبة النظام ونهجه. فقد تحولّت كثرة من الريف إلى المدينة، من دون سياسة نموّ اقتصادي مدنيٍّ مرافقة، وإصلاح زراعي حقيقي، كما حدث لبلدان أخرى، وأدّى ذلك إلى ترييف المدينة بجميع المعاني. ومع الاستفادة التي تحقّقت لأبناء الريف من النزوح إلى المدينة ووظائفها المريحة للوهلة الأولى، شهد الإنتاج الزراعي نشاطاً ونموّاً ملحوظين لفترة قصيرة في منتصف السبعينات، وأمّن ذلك للنظام سنداً في الريف يعتمد على هدوئه وحياده. إلاّ أن تلك الحالة لم تكن لتستمرّ، في الظروف القمعية والتسلّطية والمطامع المستعجلة للطبقة الجديدة وأخلاقياتها وأنانيّتها الفادحة، والظروف الإدارية العاجزة عن تأسيس سياسات تسويق وتسعير ومساعدة مناسبة للإنتاج الزراعي الوطني، فتدهور وضع المزارعين، وانضموا إلى جمهور الفئات المتأذّية من النظام ونهجه، بعد أن تراجعت دخولهم ودخلوا في أزمة متصاعدة عاماً بعد عام استمرّت إلى ما بعد منتصف الثمانينات.

 أفرز هذا الوضع بطالة ما لبثت أن استفحلت بشكليها السافر والمقنع وصلت أرقامها المتّفق عليها إلى أكثر من عشرين بالمائة، وزادت عن ذلك في صفوف الجيل الجديد، مما وضعه أمام حالة من الاغتراب، والشعور باللاجدوى، والعجز والإحباط. كل ذلك أبعد الشعب السوري، في غالبيته الساحقة، عن الاهتمام بالشأن العام كما ذكرنا، وعن الانخراط في نشاطات الحياة السياسية. وهو الأمر الذي  أوصل المجتمع إلى هذا المستوى.

1-2-3- الحالة الاجتماعية السياسية

هنالك شروط مادية وثقافية شكّلت مقدّمات لظهور الاستبداد الذي استشرى وتعمّم في بلدنا بعد عام 1970. بعض تلك الشروط كان خارجياً، وبخاصة انتشار نمط “الأنظمة الشمولية” في دول المنظومة الاشتراكية وبلدان العالم الثالث. وبعضها يعود للمسألة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، وبالتالي، استلام الجيش السلطة في بلدان عربية عديدة بالعمل من أجل التحرير والوحدة العربية أيضاً. وبعض تلك الشروط مركوز في تاريخنا العربي، السياسي والثقافي، حيث يبدو كأن تاريخ البشر تاريخ للاستبداد، وللكفاح للخروج من الاستبداد.

كما تجدر الإشارة هنا إلى أن سيطرة العلاقات الطائفية والعشائرية والعرقية أحياناً – أي ما قبل علاقات المواطنين في دولة- شكّل مناخاً مساعداً لتطوير آليّات القمع في جميع مجالات الحياة السورية، الأمر الذي سهّل على النظام تهميش المجتمع بعد أن اشتغل على أن ينزع منه، بالتالي، الكرامة والشجاعة. ولقد دعّم هذا النهج قبول أحزاب ما يُسمّى بـ “الجبهة الوطنية التقدّمية” أن تتحوّل إلى هوامش هزيلة لـ: “حزب السلطة”. وفي هذا السياق يصبح مفهوماً كيف أن عنف السلطة في مواجهة المجتمع، وقمع المعارضة بكلّ أشكالها، آل إلى عنف مضاد دفع الشعب السوري ثمنه غالياً،  وقد ساعد هذا العنف على عزوف السوريين عن السياسة وتنامي الشعور المرير باللاجدوى. هذا الفراغ المريع، المعزّز بغياب دولة القانون، عمّق بدوره، وبتخطيط منهجي من السلطات السائدة، ارتداد المواطنين إلى انتماءاتهم الضيقة من طائفية وعشائرية وعائلية، كتعبير سلبي (غير منتج) عن مناهضة الاستبداد الذي ساد من جهة، وعن حاجة المواطن للحماية التي لا توفرها الدولة ومؤسساتها التي أصبحت مملوكة على قاعدة أن من يحكم يملك. لكن المتغيرات التي أخذت تتسارع منذ أواخر عقد الثمانينات، في المنطقة والعالم، وانتقال سوريا إلى وضع جديد في العام 2000، أوجد واقعاً جديداً لم يعد معه النظام الديكتاتوري السائد قادراً على أن يستمر في الحكم عبر الآليات ذاتها التي اعتمدها طوال أكثر من ثلاثة عقود متواصلة. هذا الواقع قوّى إمكانيات التغيير في سوريا، وفتح الباب على مصراعيه أمام احتمالات عدة. ومن جديد أخذت الاتجاهات الوطنية الديمقراطية المعارضة ترفع شعار سوريا دولة وطنية لكل أبنائها رداً على كل تجليات الاستبداد ومظاهر الدولة الفئوية المنغلقة على ديكتاتوريتها وعزلتها.

لقد أدّت سياسات النظام المنهجية أو الناتجة عن الإهمال واللامبالاة بمصائر الإنسان والمجتمع، إلى نتائج بالغة الأذى بحاضر البلاد، سوف تنعكس صعوبات زائدة على مستقبله. فالخسائر التي يعاني منها شعبنا في المستوى الأخلاقي كبيرة وهامّة، منها ما يتعلّق بفقدان قيم العمل والنزاهة والصدق، أمام الفساد والمحسوبية والنفاق. في المستوى المعرفي والتعليمي، هيمنت أنماط التلقين والتكرار والشكلانية والجهل، بتسطيح المناهج وقتل روح الرسالة عند المعلّمين. مثل هذه السياسة والأجواء، هي من ضمن الدوافع التي أدّت إلى الهجرة الواسعة النطاق للعقول وللشباب عموماً، وإلى تحوّل الهجرة إلى أن تكون الأمل الأكبر لشباب سورية المقيم بغالبيّته. ارتفعت معدّلات الجريمة والتشرّد والجهل وتشغيل الأطفال والتمييز ضدّ المرأة، على الرغم من جميع ادّعاءات النظام بتحقيق نتائج باهرة و”إنجازات” في هذه الميادين. كذلك الوضع في القضاء، و المحاماة والهندسة والطب. الأسوأ من ذلك، أن يتحوّل الطلاب إلى حياة القطيع المردّد للشعارات التي تمجّد السلطة الاستبدادية وعبادة الفرد، الممارس للكذب والتطبيل والتزمير، ويتحوّل العمال إلى أعضاء نقابات من غير حياة إلاّ على أساس التسلّق والتملّق.. ويتحوّل الجميع إلى رعيّة، بدلاّ من أن يكونوا مواطنين ذوي فاعليّة ونشاط، أو ذوي أمل كأساس للطموح والتقدّم، كأفراد أو ضمن إطار مجتمع حيٍّ متكامل.

وإذا كان تشخيص المشكلات وتحديدها والاعتراف بها، هو الخطوة الأولى على طريق حلها ونفيها، فإننا لا نعتقد أن أحداً يجادل في أن المسألة الطائفية هي من أولى المسائل التي يعاني منها الوضع الاجتماعي السوري، وأنها من إفرازات نظام الاستبداد الذي ساد في البلاد، وإحدى تجلياته وآليات اشتغاله الرئيسة، حين لم يتوانَ عن استثمار الطائفية وتوظيفها مغامراً بذلك بجميع المنجزات الوطنية والمواطنية السابقة. ومع إدراكنا العميق لوطنية السوريين على اختلاف وتنوع مشاربهم وانتماءاتهم الدينية والطائفية والمذهبية، فإننا لا نعتقد أيضاً أن أحداً يجادل في خطورة استمرار هذه المسألة وتحولها إلى شرخ في الوحدة الوطنية للمجتمع السوري، خاصة بعد التطورات العاصفة التي بدأت مع الغزو الأمريكي البريطاني للعراق الشقيق، والمشاريع الأمريكية الصهيونية المكشوفة التي تطال المنطقة بأسرها. هل يمكن سوريا أن تحاصر هذه الظاهرة وتحد من مفاعيلها كخطوة أولى على طريق الخلاص منها؟ هناك أكثر من سبيل في هذا الاتجاه. لكن، وقبل أن نعرض أية تصورات ملموسة، تجدر الإشارة إلى بعض التطورات الايجابية التي تشهدها الساحة السياسية السورية. وقد يكون من أهم هذه التطورات في اللحظة السياسية الراهنة تنامي الخط المعتدل للتيار الإسلامي، واقتناع هذا التيار، أن الحل يجب أن يكون وطنياً، يستند إلى الحوار المباشر بين اتجاهات الرأي كافة بدون نبذ أو استبعاد، ويفضي، كخيار نهائي، إلى نظام سياسي ديمقراطي يقوم على التعددية والتداول السلمي للسلطة. ومن هذه التطورات أيضاً اتساع دائرة الأفراد والجماعات والأحزاب التي ترى في الديمقراطية مخرجاً للبلاد من أزمتها العامة والشاملة، وخياراً تاريخياً للتقدم واللحاق بركاب العصر. إضافة إلى ذلك رفض الشعب السوري، وهو الذي اكتوى بالسياسات التي أنتجت العنف والعنف المضاد، أي لجوء للعنف على المستوى السياسي الداخلي، وهذه علامة صحة تعبر عن وعي وطني مضمر رغم كل الانهيارات التي يواجهها الشعور الوطني في سوريا، وبقية الأقطار العربية. هنا يجدر التأكيد على أن فهم أي ظاهرة أو مشكلة، يتحدد على ضوء المتغيرات التي تتم في مجالات السياسة والمجتمع والاقتصاد. لذلك فإن من الأولويّات التي يستدعيها الواقع السوري، ويضعها في رأس جدول الأعمال، العمل على إعادة السياسة إلى المجتمع، وعلى أن يستعيد المواطن ثقته بالسياسة بوصفها فعلاً يتيح له الإسهام ببناء مستقبله الذي يضمن له أمنه وحريته وكرامته.

لعزوف الناس عن العمل السياسي أسباب موضوعية، منها ما يتعلّق بالخوف الذي دام لعشرات السنين، وارتبط بعمليات القمع اللاإنسانية التي تعرّض لها أبناء شعبنا، حين سادت الأجهزة الأمنية ومارست سلطات مفتوحة غير مقيّدة بقانون أو شراكة في وطن وذلك في ظل ظروف دولية لم تكن تشكّل ضغطاً على السلطة يردعها عن مثل تلك الارتكابات. ومنها ما يتعلّق بالنمط الشمولي في نهج النظام، الذي جعل الناس جميعاً ينضوون في “مؤسّسات” مختلفة تراقبهم وتضمن هدوءهم وتوظّفهم في سياسة تطبيل وتزمير وتدجين. فلا نقابات حرة للعمال والمعلمين والمحامين والمهندسين والأطباء وغيرهم، بل نقابات معينة تسهم في القمع وتحديد حرية الفئات المختلفة هذه. ولا حرية عمل حزبي إلاّ ضمن إطار شكليّ ضمن “الجبهة” و”الحزب القائد”، الذي تضخّم إلى حدٍّ أصبح فيه الانتماء إليه من دون معنى سياسيٍّ أللهم إلاّ اتّقاء شرِّ السلطة ونيل حظوتها ومنافعها.

من ناحية ثالثة، لم تستطع قوى المعارضة أن تتجاوز حالتها السلبية، واضطرارها التزام الحيطة والحذر طوال عقدين من الزمن، والتزمت الأحزاب السياسية بالحفاظ على وجودها، وغالباً في الحدود الدنيا لهذا الوجود، في ظلّ هذه الأجواء التي زعزعت ثقة الناس بالمعارضة بعد أن فقدت ثقتها بالسياسة وبجدوى العمل السياسي. وتلك مأساة في حياة الشعوب حين تصل إلى مثل هذه الحالة.

ثمّ كان ابتداء الخروج من الأزمة مع المتغيّرات الدولية التي حرمت النظام من سنده في الغرب والشرق، ومع تسرّب الأوراق الإقليمية من يده، وتأزّم الوضع الداخلي إلى حدّ العجز عن الاستمرار بالطرق القديمة بأيّ شكل مع تفسّخ طرائق النظام وتحلّلها. ساعد على ذلك أيضاً ثورة الإعلام والاتصالات وتعرّض الأنظمة جميعها لفضيحة دائمة لم تعتد عليها، ولا تستطيع تلافيها، الأمر الذي أدّى إلى فقد السلطة الكثير من هيبتها ودورها.

والابتداء بالخروج من ذلك الوضع لا يكون خروجا فعلياً بعد، وبخاصة مع عزلة الشباب عن العمل السياسي، أو عزلة القوى السياسية ما بين الشباب. لذلك يبدو البحث عن وسائل الانتقال إلى حالة جديدة صعباً ويحتاج إلى جرأة خاصة في المعالجة والطرح، بل إلى انتقاد الذات والابتعاد جانباً عند الضرورة لإفساح المجال لقوى جديدة تتصدّى للأمر وتثبت قدرة على النجاح.

تعاني القوى الديمقراطية من هذه الحالة، ولا تواجهها حتى تاريخه بموقف جذري يبحث عن الخلل في الخط السياسي ويعالج التردّد في النشاط العملي. هذا مطلوب من هذه القوى، مثلما هو مطلوب منها أن تعمل على تأمين الوحدة فيما بينها وبين أوسع طيف قادرٍ على الاتّفاق على الحدّ الأدنى المتعلّق بإنهاء الاستبداد والانتقال إلى الديمقراطية.

ولكن الأكثر أهمّية، بل الجوهري، هو معرفة الطريق إلى الديمقراطية، الذي لا يفتحه إلاّ أصحاب المصلحة فيه، وهو الشعب وقد انتظمت قواه في منظّمات تعيده إلى الفعل السياسي، وإلى ضمان مستقبله بنفسه. ومن أجل ذلك، تنبغي عودة الحياة الحزبية، وإحياء المجتمع المدني، وتحرير النقابات من جديد. ولن يتمّ ذلك إلاّ بالتضحيات والشجاعة والصراحة، والنظر في كلّ ما يعيد الروح إلى المجتمع، فيحيا و يشتغل وينتظم ضمن العصر.

1-3- الطابع السياسي للنظام:

أرسى استيلاء العسكريّين على السلطة عام 1963، الذي تمّ على مرحلتين: في آذار ثمّ في تمّوز، نظامَ الدولة الحزبية في سورية، وهو نظام يعتبر فيه الحزب استبداده بالدولة مشروعاً بحقّ الثورة والنيابة الثورية عن الشعب. انطلقت تلك المبرّرات الإيديولوجية من واقع غلبة نخبة عسكرية تحكّمت بالسلطة إثر انقلاب، باتّجاه تزييف حقيقة الدولة (من حيث هي تعبير ملموس عن العقد الاجتماعي والمصلحة الجمعية، لا مجرّد أداة قمع بيد الطبقة السائدة)، وتحويلها تدريجياّ إلى دولة فئوية، من طريق التعامل معها كغنيمة انساقت إلى السلطة الغالبة. كانت الشعبوية والخطاب الوطني والقومي الجامع حجاباً أساسياً لهذا الواقع، الذي غدت تلك الدولة فيه دولة استيلاء عمليّاً، دولة تتأسس على القوة العارية ولا تستمر من دونها.

في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد تراجع وزن حزب البعث والإيديولوجية البعثية في بناء السلطة وبرزت شخصنة النظام عبر عملية إضفاءٍ للقداسة على الرئيس، انطلقت من حجم صلاحياته الدستورية الهائلة، ثمّ تكفلت بها أجهزة الإعلام من جهة، والمنظمات الشعبية التي وصلت خيوطها إلى كلّ بيت من جهة أخرى، وتدريباتالتدجين واختباراته من خلال التوسع في مسيرات الولاء والمهرجانات والاحتفالات واللافتات والصور والتماثيل والمدائح، من جهة ثالثة.

استورد النظام نموذج دولته الشمولي من الدول “الاشتراكية”، من دون السند الإيديولوجي القوي الذي كان يميّز تلك البلدان. فكان إدراج الأطفال في “منظمة الطلائع” والشباب في “شبيبة الثورة” وقسر الطلاب على عضوية اتحاد الطلبة، والناس على الانتساب إلى الحزب الحاكم (الذي تضخّم وأصبح وعاءً لكلّ من يريد المنفعة أو اتّقاء غضب النظام، وفقد –من ثمَّ- سمات الحزب بالتدريج)، وسلب النقابات المهنية استقلالها وإخضاعها للحزب الحاكم والأجهزة الأمنية منذ شكّلت حريّتها خطراً على استقرار النظام أواخر السبعينات.  وكان ما يربط النظام بالدول “الاشتراكية شكلياً فقط، لم يتعدّ الاستفادة من الآليّات ذاتها لضمان استمراره، ولم يقتبس الضمانات الاجتماعية المرافقة أو حدود الفساد أو معالم التحديث أو غير ذلك.

تعمّق النظام في الاستبداد من حيث الانفراد بالسلطات والقرارات فوق القانون وخارجه، وفي التسلّط من خلال الفرد الذي يقود نخبة متغلّبة تتوزّع السلطات والغنائم وتمارس السلطة بالأوامر، وفي الديكتاتورية من خلال استمرار حالة الطوارئ لعدة عقود من دون مراجعة من الشعب وممثّليه، وفي الفاشيّة عبر القمع المنظّم تحت غطاء من القومية والوحدة الوطنية والالتفاف خلف القائد الأبديّ..

ولم تتعارض سمات النظام العديدة هذه مع فئويته، سواء كان المقصود فئويته كنظام حزبي أو فئويته بمعنى استخدامه الطائفة العلوية كعصبية سلطة. فلقد عمد، كما أشرنا سابقاً، إلى التعامل مع المجتمع كمكوّنات عشائرية أو طائفية، أو عرقية، وإلى شرذمة أحزابه وقواه السياسية كي يضمن السيطرة المطلقة على مقدّرات ومصائر المواطنين، الأمر الذي آل إلى إيقاظ وتعميق الانتماءات العصبية الضيّقة. وفي هذا السياق الشامل، عمل على أن يوظّف الطائفة العلوية ويستخدمها كعصبية سلطة، ونجح في ذلك نجاحاً ملحوظاً، الأمر الذي يفسّر أيضاً كيف أن الكثيرين قد استنتجوا بأن السلطة بيد الطائفة.

لقد أتيح لرجال السلطة، كما هو معروف، تسخير آليّات عمل الدولة لمآربهم ولمصالحهم الشخصية الضيقة، وبالتالي، مراكمة ثروات طائلة عبر نهب الدولة والمجتمع معاً. كما أتيح للمقرّبين منهم، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم تحقيق مكاسب ماديّة بلا حدّ عن طريق التهريب والرشوة والواسطة والاستئثار والاحتكار. ودفع الشعب السوري بأسره ثمناً باهظاً لهذه السياسات. ولم يكن أبناء الطائفة العلوية أقلّ من غيرهم تأثّراً بهذا المجال، فلقد قدّموا، سياسيّاً واقتصاديّاً، كبقية فئات المجتمع، ضريبة غالية في سبيل الدفاع عن حقّ الانتماء إلى مجتمع يقوم على المواطنة، بعيدً عن الانتماءات الضيّقة بجميع أشكالها وتجلّياتها.

ورغم طغيان المشاعر الطائفية هنا وهناك، إلا أن التجربة أثبتت أن الانتماء للوطن هو القاسم المشترك الأعظم بين السوريين بكلّ طوائفهم، الصغيرة والكبيرة على السواء.

إن فهم المسالة الطائفية، على خطورتها، بقدر ما يقتضي عدم التقليل من شأنها والاعتراف بها ومواجهة حقائقها، فإنه يقتضي أيضاً عدم تضخيمها، والعمل على معالجتها في ضوء مصلحة المجتمع بكامله.

باختصار، لم يكن لذلك النظام أيّ شرعية ما خلا شرعية الاستيلاء، أو “الشرعية الثورية” كما كان يُعبّر عنها، وهذا نقيض لأبسط القوانين المعاصرة وقواعد الحياة السياسية الحديثة، بل نقيض لمفهوم التقدّم، وفعلٌ رجعيّ.

1-4- التغيير آتٍ:

أبرزت مواجهات أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات نزعات كان يمكن أن لا تظهر على النظام: قدرته على القتل الجماعي والواسع النطاق؛ بروز تنظيماتميليشياوية وشبه ميليشياوية، فاشية، تجمع بين الامتياز والتعصب والعنف؛ ثم تحقيق قفزتين متوازيتين: قفزة إضافية في شخصنة النظام وقفزة إضافية في الفساد. وكان عقد الثمانينات المشؤوم العقد الفاشي بامتياز من تاريخ البلد. لكن في خلفية كل ذلك ظلت الأولوية المطلقة احتكار السلطة واستمرارها بأي ثمن. وستقود هذه “السياسة المبدئية الثابتة” في بداية التسعينات إلى الالتحاق بالأمريكيين في التحالف الدولي ضد العراق والاستفادة من ذلك ومن مؤتمر مدريد و”عملية السلام” التي أطلقها لتأجيل مواجهة الواقع والامتناع عن القيام بأي إصلاح.

وبينما تراجعت سخونة قمعية النظام أو عدوانيته الداخلية ببطء في عقد التسعينات فقد استمر في حرب فاترة ضد جميع أشكال الاستقلال الاجتماعي والاعتراض السياسي.

جاءت وفاة الرئيس الأسد بعد قيادة للنظام استمرّت لثلاثين عاماً متتالية، ثمّ الوراثة في الرئاسة، التي أضعفت من شرعية النظام عند قياسها على الشرائع الدولية الحديثة، وأخيراً أحداث الحادي عشر من أيلول التي أعادت بعدها الولايات المتحدة النظر في سياستها في الشرق الأوسط، لترى مصلحتها في تغيير الأنظمة القائمة التي استمرت في دعمها طوال ما يزيد على نصف قرن، أو في إجراء تبدلات فيها، بما يساعدها على تجفيف البيئة التي ترى فيها منبعاً للتطرف. مثل هذا التغيير الذي يجري تحت ادعاء نشر الديمقراطية يلبي احتياجات السياسة الأمريكية في عصر العولمة، ويهدف إلى إدخال إسرائيل في بنية المنطقة، وإعطائها دوراً أكبر في صياغتها والتأثير فيها. لذلك فهو يسعى إلى إيجاد قوى تتلاءم مع الوضع الإقليمي المنشود، وتقود بلادها على إيقاع الوضع الدولي الجديد، بالاستجابة للقوى المسيطرة فيه. بذلك فقد النظام متّكأً خارجياً كبيراً، حاول استدامته من طريق التأكيد على ما يجمعه بالسياسة الأمريكية، حتى الجديد فيها، وهو نهج الحلّ الأمني لكلّ ما يطرأ، في الداخل أو الخارج.

بالاحتلال الأمريكي للعراق الذي قلب توازنات طالما سادت المنطقة، وغيّر الوضع الجيوسياسي فيها، أصبح التغيير في سورية أكثر إلحاحاً وراهنيةً.

ذلك لم يكن فقط تحت ضغط العوامل الخارجية، بل أيضاً بتأثير عزلة النظام، وعجز الحاكمين عن الاستمرار بالحكم بالطرائق القديمة، التي كشفتها وعرّتها ثورة الإعلام وانفتاحه من غير حدود.

لقد حدث إجماع على ضرورة التغيير، لم ينطلق من المعارضة وحدها، بقواها المختلفة وشارعها العريض الصامت الذي يشكّل كموناً هائلاً جاهزاً للحركة والفعل عندما يجد من يفكّك أسراره وعقده التي طال الزمان عليها.. بل أيضاً من قواعد جبهة النظام. فما خلا القوى المتنفذّة المعاندة للمنطق والتاريخ، يمكن القول إن هنالك ما يقارب الإجماع على ضرورة التغيير.

وما بين ضغط الوقائع الجديدة في العالم والمنطقة، وضغط الضرورة الداخلية، يصبح التغيير محتوماً. لكن سمته الديمقراطية تبقى مرهونةً بدرجة قوة أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير، وقدرتهم فيما بعد على رسم مصائرهم، وتقليص فاعليّة الآخرين في مستقبلهم.

1-5- آليّات الانتقال:

تقوم الديمقراطية على مبادئ لا يمكن تحقّقها من دونها، أولّّها سيادة الشعب من حيث هو مصدر السلطات ومنبعها، ثمّ سيادة القانون، والمساواة كنقيض التمييز بأشكاله كافة، والحريات الأساسيّة في الرأي والاعتقاد والتعبير والتنظيم، والتعدّدية السياسية، وتداول السلطة نقيض احتكارها، ثمّ فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. تلك هي الديمقراطية، التي نريد من أجلها وضع برنامج ديموقراطي، وتنفيذ ذلك البرنامج. وعمليّاً، يكون تفكيك النظام الشموليّ، وتأسيس وضع ينتهي فيه الاستبداد وينقطع طريق العودة عليه، هو الهدف الذي يتركّز عليه التغيير.

على ذلك الطريق، تكون المرحلة التمهيديّة بتصفية المظالم وإنهاء الآليّات التي قام عليها الاستبداد، بالخلاص من حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، وعودة المنفيين قسراّ أو طوعاّ إلى البلاد، والكشف عن مصير المفقودين، وإطلاق حريّة التعبير للجميع، وسواها من الإجراءات والتدابير الأخرى. بذلك، تنفتح إمكانية تشغيل الآليّات المناسبة والفاعلة للتغيير المنشود..

وليس هذا ضمانة عميقة للتغيير وديمقراطيته، إلاّ بمقدار تطوير وحدة قوى المعارضة بطيفها الجامع، وتوافقها على برنامج الحدّ الأدنى للتغيير، وإسهامها في تأسيس الكتلة التاريخية اللازمة له. هذه الوحدة، كوجه من وجوه ضمان التغيير، سوف يدعمها بروز وتبلور قوى جديدة، قد تتجاوز القوى القديمة، ما لم تتدارك هذه أوضاعها وتجدّد نفسها.

1-6- طريق ثالث وقوةّ ثالثة:

باحتلال العراق، أصبح التغيير راهناً وموضوعياً في سورية، ولكن ليست هنالك قوى قادرة على تحقيق اختراق تغييري. هذا يفتح الباب إما لدخول البلاد في مسار انحلالي نشهد مؤشرات متكاثرة عليه في السنوات المنصرمة من العهد الجديد، أو لتولي الخارج الأمريكي والإسرائيلي إحداث التغيير لمصلحتهما، وهو احتمال تزداد نسبته بعد احتلال العراق وتعمّق أزمة النظام في لبنان، وعجزه عن حلّ المسألة الوطنية واحتلال الجولان، واستسلامه للانحلال. لتجنب هذين المسارين دعت المعارضة الديمقراطية خلال السنوات الأخيرة إلى إطلاق عملية إصلاحية وطنية تقطع مع نظام الاستبداد، وترسي أسس نظام ديمقراطي تعددي. في عام 2001 تبلورت فكرة المصالحة الوطنية التي رفضها النظام واعتقل دعاتها، وفي عام 2003 وبعد احتلال العراق، دعت المعارضة الديمقراطية إلى مؤتمر وطني لتدارس أوضاع البلاد وتدارك المخاطر المحيطة بها، لكن النظام ثابر على صممه وغروره دون أن يقدم أيّ مخرج. ولعل السر في ذلك يكمن في ضعفه العام المادي والمعنوي، وبالخصوص حيال المصالح الخاصة التي نمت في أحضانه.

هنالك طريق للتغيير قد يفتحه الأمريكيون، وطريق آخر يمكن للنظام – عندما يعجز عن المقاومة، ويقرر الالتفاف على المطلوب منه – أن يسلكه. كلا الطريقين يؤدّيان إلى حالة تتكيّف فيها الطبقة السائدة مع الوضع الجديد، وتعيد إنتاج نفسها حسب مصالحها الثابتة. كلا الطريقين أيضاً سوف يقدّمان “تنازلات” على صعيد الحريّات العامة، وسوف يستولدان أدوات القمع القديمة في إهاب جديد، لمحاولة قطع الطريق على التطوّر الديموقراطيّ الحقيقي، بمكوّناته الأساسية المعروفة، والتي ترتبط فيها مصلحة الشعب وحريته.

ليس هناك مخرج مشرف لسورية غير الانتقال السلمي والمتدرج، لكن الجادّ من دون مراوغة وتلاعب، نحو نظام تعددي دستوري. فلا تدرّجَ – مثلاً – في الإفراج عن المعتقلين وعودة المنفيين والكشف عن مصير المفقودين وتصفية المظالم… وقمع الفساد وإنهاء احتكار السياسة والسلطة. التدرج في بناء النظام الديمقراطي الجديد وليس في تفكيك النظام الدكتاتوري القديم. التدرج أيضا في الأسلوب وليس في المبدأ.

في الوقت نفسه، لا يُشكّل انقلاب الأمريكيين على النظام طريقاً صحيحةً للتغيير، ولا انقلاب النظام على نفسه أيضاً. الطريق الصحيحة في مكان ثالث، يُمسك بها الشعب بمقاديره، ويفرض مصلحته في إقامة نظامه الوطنيّ الديموقراطي. وحتى يكون للشعب إسهامه الملموس هذا، لا بدَّ أن تكون له قوّته الملموسة، وهذه لا تتجسّد إلاّ من طريق قواه الفاعلة. قد تحمل المعارضة الديمقراطية التي عايشت الاستبداد طويلاً شرف الوقوف في وجه هذا الاستبداد وتلقّي ظلمه وقمعه، لكنّها، ربّما، لا تكفي للانتقال بالبلاد من حالٍ إلى حال، وأفضل ما يُمكنها أن تكونه هو اندراجها في بناء خيار ثالث يستند إلى قوة قادرة على موازنة الخيارين، الخارجي والداخلي، من الأمريكان أو النظام. على الأقل، سوف يكون التغيير ديمقراطيّاً بمقدار فعل هذه القوة وحجمها. إن تلاحم هذه القوى، وبلورة ذلك الطريق، هي المهمّة المباشرة الملحّة أمام جميع المهتمّين بالشأن العام وبموضوع التغيير.

 إن نواة الكتلة التغييرية تتكون بالضرورة من القوى التي قاومت الاستبداد، لكنها لا تقتصر عليها. والمسألة التي تواجه القوى المعارضة التي قاومت النظام الاستبدادي مسألة مركبة: الاشتغال على نفسها وتأهيل نفسها للعمل السياسي على المستوى الوطني من جهة، ثم وضع الخطط والبرامج الاجتماعية التي تعمل على تحريك حواملها الاجتماعية التي تستند إليها في عملية التغيير. لكن تحقيق الاختراق الديمقراطي يتطلب توسيع قاعدة العمل العام وتجاوز التيارات السياسية- الإيديولوجية المنظمة نحو قطاعات غير مسيّسة من الرأي العام خاصة الشباب والنساء والصامتين… أي تنشيط أكبر ما يمكن من المعارضة الكامنة في المجتمع واجتذابها إلى الحقل العام. وفرص هذا التجاوز تكبر بقدر ما تعمل المعارضة بروحية عملية وطنية ومنفتحة، متجاوزة الفوارق الإيديولوجية، وغير منعزلة عن العالم.

1-7- الهواجس والضمانات.. العقد والتعاقد:

لأن هنالك أجيالاً لم تعرف الديمقراطية ولا مشتقّاتها في سورية، تّطرح فيها هواجس مختلفة حول التغيير نفسه، وحول النظام الديموقراطي وما يُمكن أن يُدخله على حياة الناس كلّهم، أو فئاتٍ معيّنة منهم.

الهاجس الأكبر الذي يشغل الأغلبية الساحقة من الذين عانوا من الاستبداد وما زالوا يعانون من آثاره، هو السؤال حول إمكان عودة هذا الاستبداد، بذاته أو بنوعٍ مختلف منه، بعد الإقلاع بعمليّة بناء النظام الديموقراطي، أو بعد نجاح أيّة قوّة سياسية بالانتخاب، ثمّ تشبّثها بالحكم وإلغائها لأيّ تداول بعد ذلك. في البلدان الغربية سابقاً، كان هذا الخوف هاجساً دائماً تجاه الشيوعيين، الذي كان مبعثه طموحاتهم إلى ديكتاتورية البروليتاريا والثورة، وتجريحهم الدائم بالديمقراطية “البرجوازية”. لدينا هنا خوف من نوعٍ آخر، من الإسلاميين على سبيل المثال.

هنالك هواجس الأقلية، القوميّة والدينيّة والمذهبية. التي تخشى الديمقراطية للوهلة الأولى بتأثير التأخّر أو ترويج المستبدّين، من حيث هي تأكيد على حكم الأغلبية. وهي تخشى هنا الأغلبية من حيث التركيب القومي أو الديني أو الطائفي، ولا تتعرّض لها بمضمونها السياسي، الذي تجتمع فيه أغلبية المواطنين على دفع حزب أو كتلة ذات برنامج محدّد إلى الحكم. وحتى يكتسب الناس صفة المواطنين الأفراد، ويكتسبون المواطنية، هنالك شروط أساسية لا بدَّ من أن تسود: الحرية والمساواة أمام القانون والمشاركة السياسية والعدالة والثقافة المدنية. ولكن دون ذلك مرحلة انتقال، نحن واثقون بأن شعبنا قادر على تجاوزها خلال فترة قياسية.

الحقوق الثقافية للأكراد السوريين، وحلّ مسألة المحرومين من الجنسية، وتلك المتعلّقة بحقوق المواطنة الكاملة، لهم ولجميع الأقلّيات القومية أو الدينية أو المذهبية، ترتبط بشكل جدلي لا ينفصم بمسألة الديمقراطية. والاستبداد حين يظلم أكثرية أو أٌقلّية، ويستخدم أقلية أو أغلبية لتحقيق غايته واستدامة حكمه، لا يمكن أن يكون ضمانة لأحد، بل على العكس تماماً، وهذا ما بينته تجارب الشعوب جميعها.

في العصر الحالي، والتجارب المعاصرة، ما يكفي للبحث ولاعتماد ضمانات كافية، تقطع الطريق على عودة الاستبداد القديم أو تأسيس استبداد جديد. منها ما يتعلّق بالشرائع الدولية وتزايد التوافق على الشرعية، تطويرها ورفض التراجع بها. ومنها ما يمكن توثيقه بالبنى والمؤسسات الإقليمية على النسق ذاته في المستقبل.

ولكن، وعلى الرغم من ذلك، سوف يكون العقد الاجتماعي – الوطني الضمانة الحقيقية، وهذا تفاهم واقتناع قبل أن يكون وثيقة يوقّعها الجميع، وسوف تكون ترجمتها في الدستور الوطني الديموقراطي الحديث، الذي هو الجامع المانع للحياة السياسية، ولتنظيم العلاقة ما بين الفرد والمجتمع، وما بين المجتمع والدولة.

يضمن الدستور ذاته أن تكون الدولة مركز اجتماع وتوافق، تمثّل المصلحة الوطنية والاجتماعية الجمعية، لا أن تكون مجرّد أداة للقمع والتسلّط في أيدي طبقة سائدة أو طغمة متسلّطة أو فردٍ مستبد. الدولة بقوانينها وتنظيماتها ونظمها التعليمية وأجهزتها المختلفة، بما في ذلك الجيش وقوى الأمن، كلّها في خدمة الدستور، محايدة في مهمة الحفاظ عليه أو مخالفته والالتفاف عليه.

فوق كلّ ذلك، وقبله، لن يضمن الدستور وحقّ التداول وحقوق الجميع إلاّ الشعب نفسه، الشعب القويّ المنظّم الحريص على الديمقراطية ذاتها أكثر من حرصه على أية مجموعة سياسية أو فئوية، بل سوف ينفضّ عن القوة التي انتخبها نفسها وينقلب عليها إن انقلبت على الدستور. في أنظمة الاستبداد، لا يريد الحاكم أن يرى حراك الشارع، ويعمل على إخماده وعزله عن السياسة  وحق التعبير والتنظيم، فلا تقوى إلاّ أجهزة القمع والتسلّط. في النظام الديموقراطي، يعود للشارع حراكه وقوّته، ويصبح هو حارس الدستور والحريّات والحقوق. وبعد ما تطوّر العالم، بإعلامه ورقابته وشرائعه، لم يعد هنالك من هو قادر على إسكات شعب حرٍّ يرى في الأفق خطراً على حريّته.


2-

التجربة العربية في تاريخنا الحديث والمعاصر: محاولات وأحوال

2 1 – صعود تجربة النهضة العربية الأولى وانحدارها:

ابتدأت محاولة النهضة العربية الأولى، أو مشروع النهوض العربي الأول، إذا صحّت التسمية، مع مطلع القرن التاسع عشر، وفي ذلك لم نتأخّر كثيراً عن الموجة الثانية من ركب التقدّم العالمي، الذي ضمّ ألمانيا ثمّ اليابان على سبيل المثال. ولكنّ هنالك فرقاً كبيراً في الواقع الذي انطلقت منه المحاولة، وفي نهجها أيضاً، ثمّ في مآلها..

كانت هذه المحاولة أبرز ما كانت في مشروع محمد علي وابنه إبراهيم باشا كما هو معروف. الحالة العربية شهدت ظواهر مختلفة في ذلك القرن، منها وقوع أجزاء هامة من المغرب العربي تحت الاحتلال الأوروبي المباشر، وتجربة الإصلاح الديني في الجزيرة العربية، واستمرار المشرق تحت الحكم العثماني بشكلٍ أكثر قرباً مع وجودالامتيازات الأجنبية ورعايتها لبعض الأقليّات.

فشلت تجربة محمد علي بخاصّة مع تراجع حملة ابنه إبراهيم عن سورية، بسبب واضح يعود إلى خلل مرجعيّتها الفكرية وتردّدها في حسم خياراتها، وبالتالي فقدانها الحامل الاجتماعي، وهو السبب الذي أضيف إليه أيضاَ تألّب الدول الغربية وضغطها المباشر. ومارس الاستعمار في المغرب دوراً نفعيّاً شرساً لم يقدّم فيه من عوامل التقدّم والحداثة إلى تلك المجتمعات إلاّ بمقدار ما أثار ردّ فعل كفاحيٍّ يتشبّث بخصوصيّته دفاعاّ طبيعياً عن النفس. ولم تكن تجربة الإصلاح الديني في الجزيرة لتملك أيّة إمكانية لافتتاح طريق الحداثة في الواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي خرجت منه وفيه، على الرغم من أنّها تملك بعضاّ من ملامح الإصلاح الغربي من مثل العودة إلى الأصول وتبسيط الدين وتخفيف الشكليّات التي تفتح على تسلّط رجال الدين أو ارتباطهم بالسلطة. ووقع شرق المتوسّط في معادلة التحديث العثماني ذاتها وبمأزقها، حتى دفعته بعيداً عنها في أوائل القرن العشرين، بعد سيادة الانقلابيين الاتّحاديين وسياسة التتريك التي لجأوا إليها.

أقرب موقع يُمكن للرأسماليّة العالمية استثماره وإنهاضه كان في منطقتنا، التي تحمّلت أيضاً أعباء الإرث العثماني في علاقته بالغرب حين أصبح في موقع المتحكّم في التركة. لذلك، لم تكن لتسمح بصعود وريث من أهله، وقاومت محاولة محمد علي باشا بشراسة غير محدودة.

 وما كان له أن يُقاوم وينجح في مقاومته، ومحاولته غضّة مبتدئة تفتقد إلى مرجعية صالحة، وقوّته محدودة في قدرتها على التحدّي والدفاع عن المصالح، بل معدومة في البحر، وهو طريق القوّة التجارية، بعد العسكريّة وبأهمّيتها.

في الشام، ظهرت النزعة القومية مع الإصلاحية، بخاصة مع حملة إبراهيم باشا وبتأثيرها، ولكن تلك الفترة كانت قصيرة، سرعان ما عادت البلاد بعدها إلى الدخول في المعادلة العثمانية، تتأثّر بتنظيماتها، وتتركّز فيها تجارب السلطة عندما أرادت تنظيم ملكية الأرض واستثمارها. ولكن الذي كان، هو أن الإصلاح الزراعي قد انقلب إلى إقطاعٍ جديد في النصف الثاني من ذلك القرن، على عكس النوايا التي كانت وراءه. وهذا لم يكن غريباً على تلك البنية الملتبسة بالأساس.

تلك النزعة القومية – التي تأسّست على إحياء الثقافة والتاريخ العربيين – ثمّ النزوع إلى المطالبة باللامركزية في إطار الدولة، أضعفها تأثير الأقليّات الإسلامية غير العربية وردود الفعل التي ترتّبت عن التدخّل الأوروبي في المنطقة العربية، الأمر الذي آلَ إلى تقوية فكرة الجامعة الإسلاميّة، التي بنى عليها عبد الحميد الثاني أحلامه المتجدّدة. تلك الحالة أدّت إلى تقسيم برامج النخب، وإلى إضعاف دعواتهم التحديثية بين الناس. ولقد استمرّ تأثيرها طويلاً، بالتوازي مع ما بدأه محمد عبده في مصر، ثمّ تابعه رشيد رضا ما بين القطرين، ربّما حتى ظهورها من جديد على مرحلتين وشكلين: في أواسط القرن العشرين ثم في أواخره، وفي ظروف تحمل بعض ملامح تلك الأيام.

بنى جمال باشا السفاح على تلك النزعة، حين قام باضطهاد النخبة السورية وأعدم خيرتها، فأضعف بذلك حظوظ الشام في النهوض، وأثّر سلباً على مستقبلها القريب.

وقبل جمال باشا بزمن، كان انقلاب السلطان عبد الحميد على الإصلاح، حين أعلن ما يُشبه الأحكام العرفية، وعلّق العمل بالدستور، واستمرّ مستبدّاً بالأمر حوالي ثلاثين عاماً.

عمل عبد الحميد على التحديث في تلك الفترة ذاتها، وحاول تطوير المواصلات مثلاً، ولكنّه كان غارقاً في مشاكل الدولة مع الخارج ومحاولة تدارك التراجع في مساحة ما كان إمبراطورية وابتدأ بالتقلّص، من دون أن يستطيع تطوير البنية بذاتها، لتكون قادرة على الحياة.

أدّى غرق الدولة في الديون إلى تسليم مفاتيح قرارها ومصيرها إلى الدول الأوروبية بمصارفها ورأسماليّيها، وإلى انعدام أيّ فرصة للتراكم الرأسمالي بجميع أشكاله، ما خلا الثروة السلطانيّة الراكدة.

محاولة التحديث تلك، اختلطت بالعمل على حلّ التناقض مع قوى البداوة التي تقطع خطوط المواصلات والاتّصال، من طريق تمليكها الأرض في بعض المناطق، والمداراة ومدّ السكك الحديدية في غيرها. في حين كانت التجربة المصرية في تطوير الريّ وتحويل البدو إلى الزراعة أكثر نجاحاً وتقدّماً، ربّما لاختلاف في البيئة.

محاولة الإصلاح الديني في نجد، وصلت إلى تحالفٍ مع قوى قبليّة، وعملت تحت قيادتها على تأسيس دولة قويّة. ولكن ذلك لم يكن لينجح طالما استمرّ ذلك التحالف من دون أساس اقتصادي اجتماعيّ يستند إليه مسار التقدّم اللاحق، وطالما تابع ذلك مساره بحيث يبقى كلّ طرف محافظاً على عصبيّته ليحمي بها حصّته من تلك الدولة.

في بلاد المغرب العربي، استمرّ الفعل الكولونيالي في تأثيره المزدوج، ليستعمر ويستثمر من جهة، وليبقي الغالبية تحت السيف والنير من جهة أخرى، فيؤجّج نار الحريّة والعصبية والهوية والخصوصية، في دفاع عن النفس لا مهرب منه. في ذلك أيضاً تصبح طرق التقدّم والحداثة مفتوحة على العداء والخصومة والجفاء.

في مصر، استطاعت الديون الأجنبية أيضاً أن تقطع طريق التقدّم، وتستقدم الجيوش الأجنبية وراءها، أو بحجّتها. لينفصم من ثمَّ الطريق، ما بين الدفاع عن النفس أمام الغريب بأحماله كلّها، الثقافية والاستعمارية، وما بين الأخذ منه مسالكه نحو التقدّم. فذهبت دعوة الأفغاني المطالبة بالحرية والمشاركة السياسية أدراج الرياح بأنواعها، ومال من مال إلى التربية والتعليم والعمل على تجديد الفكر الديني بانتظار تقدّم الوعي الاجتماعي، وغيره إلى الجامعة الإسلامية من طريق السلطان عبد الحميد ثم الخديويّ عباس، وآخرون إلى الانكباب على علوم الغرب وحريّاته وآليّات تقدّمه، كما هي ومن دون جهد على توطينها وتأسيسها في الواقع المحلّي الخاصّ.

في جميع تلك المسارات، هنالك ما هو مشترك وجامع. لم تستطع محاولات التحديث أن تنتقل إلى مستوى الحداثة، وتوقّفت من دون القدرة على التحوّل إلى ما هو جوهري كذلك. فلم ينشأ أو يُسهّل الطريق أمام “اقتصاد السوق”، وأمام مفاهيم رأس المال والربح والعمل والقيمة، ولم يفتح الباب للتواصل الاجتماعي، والاجتماع الحديث، واللحمة الاجتماعية البديلة. لم يتمّ تأسيس مفهوم الفرد، والمواطن، والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومفهوم الاختصاص وحكم القانون. لم يتمّ ذلك، ولم يبدأ الطريق إلى ذلك في حدوده الأولى، كما كان ينبغي.

على كلّ حال، استطاعت ثورة عام 1919 في مصر أن تستحصل شيئاً من محاولة النهضة لشعبها. واستطاع المؤتمر السوري العام، الذي خلصت إليه الثورة العربية في عام 1916، أن يستخلص للشام بعضاً من آثار المحاولة، حيث كانت تجربة الحكومة الفيصلية في دمشق، بإعلانها الاستقلال التام واستكمال شرعيتها عبر تأسيس دستوري ومن خلال النخب الوطنية التي أفرزتها، والمصير المأساوي الذي انتهت إليه، إحدى العلامات على هذه الطريق.. مع القناعة، في الحالتين، بأن الطريق قد ضاق، وأن الدولة الأمة سوف تأخذ أشكالاً جديدة في الصراع مع المستعمرين، ومع الذات التي تزداد تشظّياً، وتحتاج إلى اندفاعة كبرى لاستلام الدرب من جديد على أرض الواقع.

2-2- صعود تجربة النهضة العربية الثانية وانحدارها:

 يعترض البعض على اعتبار ما حدث، فيما بعد أواسط القرن العشرين، مشروع نهضة ثانية، أو حتى محاولة ثانية للنهوض، في حين يعتبر غيرهم أن عصراً ذهبياً قد أطلّ آنذاك، وأن استعادة ذلك العصر هي الحلم والواجب.

كان الميدان مفتوحاً للهيمنة الكولونيالية الأوروبية في النصف الأول من القرن، واستمرّت خلاله أزمة التحديث المستعصية. لم تألُ البنى الكولونيالية جهداً من أجل إقحام التحديث قسراً على البنى المحلّية القديمة، ونجحت في ذلك إلى حدٍّ ما، فيما يخصّ البنى الحياديّة للدولة، في الريّ والمواصلات والتعليم وتنظيم الدولة وتحديث القوانين المدنية وتشجيع الليبرالية السياسية من طريق القوى الطبقية السائدة؛ في حين فشلت في مواجهة الوطنية الناشئة، التي أسهمت هي بذاتها في بلورة سماتها الجديدة في البداية. قمع هذه الوطنية، وحدّة الصراعات على الأرض العربية، جعل من المستحيل نجاح تلك المحاولة القاصرة للتحديث، ووجّه القوى بقوّة وإلحاحٍ نحو الاستقلال، كطريق وحيد ممكن نحو التقدّم. كان ذلك تناقضاً مصيرياّ ما زلنا ندفع ثمنه.

حدثت الاستقلالات الأولى في المشرق، ثم في المغرب.. وما بينهما كانت المرحلة القومية التي نهضت على كاهل مصر الناصرية. وما بين الأوضاع في ظلّ الاستعمار، أو في أولّ الاستقلال في شرق المتوسّط، سادت الليبرالية المائعة، وعجزت عن تحمّل استحقاق الاستقلال، الذي اعتبرته عودة لملكيّتها الوطنية الخاصة. وظهر الشعب كغائب أكبر عن جميع هذه المراحل، وكعامل مكوّن رئيس ينقص تلك الليبرالية، ويفشل محاولتها في التحديث، سواء في حجم المشاركة السياسية، أو في التنمية، أو في مواجهة الطغيان الخارجي، الذي شكّلت إسرائيل التحدّي الأكبر فيه آنذاك.

قامت حركة يوليو على أساس سدّ تلك الثغرات وحلّ المشاكل الناجمة عنها، وانقادت سريعاً في الاتّجاه الشعبي، بعيداً عن الحريّات الفردية والسياسية، في حمّى النهوض القومي العربي، ومواجهة متطلّبات وتبعات تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، ثمّ الاندفاع نحو الوحدة العربية بنموذجها الذي تكرّس واقعاً حياً في الوحدة السورية المصرية، وكلّ ذلك في قلب بروز وتقدّم حركة التحرّر القومي العالمية، بل في طليعتها بعض الأحيان.

التجربة العربية الثانية جديّة وهامة، وينبغي الوقوف عند دروسها الكبرى. وعلى الرغم من ارتباط تلك المحاولة باسم عبد الناصر، إلاّ أنها امتدّت في الواقع لتشمل جميع البلدان العربية، وآثارها الماديّة الملموسة كانت ولا تزال ماثلة ومؤثّرة وفاعلة. من ثورة التحرير الجزائرية ونظام الاستقلال اللاحق، إلى “الثورة الخضراء” في ليبيا قبيل وفاة عبد الناصر، إلى الوحدة السورية المصرية ثمّ الانقلابات في سورية، والحكم الشمولي حتى الآن، إلى حركة 14 تموز في العراق والتطور الذي تبعها حتى سقوط صدام حسين بالتدخّل العسكري الأمريكي.

هي محاولة للتحديث، فيها من سمات تلك المحاولات المعاصرة المرتبطة بحق تقرير المصير وحركات التحرر القومي، حيث اعتمدت التنمية على استعارة مقدار ما من البرنامج الاشتراكي، وتنحية الملكية الإقطاعية ثم الرأسمالية بشكلها الوليد الجديد، والتصنيع الذي ينشدّ إلى ميدان الصناعات الثقيلة، والإدارة الثورية من طريق أشكال متعدّدة للحزب الواحد والزعيم القائد. انتهت تلك المحاولات إلى استبداد وفساد وتزايد في الهوّة التي تفصلها عن البلدان المتقدّمة في غالبية التجارب، إن لم يكن في جميعها. دفع الوضع الدولي والإقليمي نحو هذا الاتّجاه والى هذا المصير، بمساهمة خاصة ومباشرة ومتفاوتة من السوفييت والأمريكيين، ولفعل مركز وهادف من إسرائيل.

وهي محاولة لبلورة الدولة- الأمة على المستوى العربي. اندفعت قوميّاً، ورفعت مستوى الترابط القومي، سواء عند الشعوب أو حتى عند الأنظمة. وعزّزت الشعور بالكرامة في ذلك الزمن. إلاّ أن الواقع الموضوعي المضمون بقوة من المصالح و التوازنات الخارجية، في بعد المغرب و انفكاك سورية من الوحدة سريعاً بعد أن أقدمت عليها سريعاً، والتدخّل العسكري المصري في اليمن لدعم التوجّه الجمهوري، وهزيمة حزيران إلخ، كلّ هذا وجّه ضربة كبرى للتوجّه القومي الذي كان عاصفاً من قبل، وأعاد الشعوب العربية إلى أحلامها الأصغر، في دولها القطرية، التي لم تتبلور ولم تتطوّر باتّجاه التقدّم والحداثة وهي منشغلة في حلمها القومي الأكبر. النخب القومية الحاكمة كانت جاهزة في تلك الأثناء، لتوليد سلطات قادرة على تغيير الاتّجاه، حتى من دون تغيير الإيديولوجيا.

هي أيضاً محاولة لتطوير المشاركة السياسية، والديمقراطية بذاتها، من خلال تقديم دور مفهوم الشعب وإرادته الجمعية إلى أمام، بعد طغيان الليبرالية وتفسّخها قبل أوان نضوجها. ذلك التقدّم بالشعب ومفهوم الشعب إلى أمام، تحوّل إلى شعبوية تنهل من مفهوم “الزعيم”، وأقصى الحريات ومفاهيم المواطنة والمجتمع المدني، وعزل المجتمع بالتدريج عن السياسة.

ولأن محاولة النهوض تلك، افتقدت مضمونها وخسرت حاملها الاجتماعي، كان لابدّ أن تفشل، جزئياً هنا وكلياً هناك. ولكنّها تجربة جديرة بمجدها، وغير جديرة بالبقاء درساً متكرّراً. إن تصفية حساب تلك التجربة وتلك المرحلة، بما لها وعليها، من أهمّ واجبات من يتصدّى لمشروع جديد، ينبغي أن ينطلق من الواقع والوقائع، ويعود إلى الأرض وإلى خارطة المصالح، وإلى الديمقراطية، مفتاح التقدم المعاصر.

2-3- الحالة الراهنة: الاستبداد

2-3-1- توصلت موضوعات الحزب التي صدرت عن المؤتمر الخامس في أواخر عام 1978، إلى أن الميول السائدة على صعيد الوضع العربي العام تدفع به إلى مسار انحداري تدهوري. اليوم، وبعد انقضاء ربع قرن، نستطيع أن نتلمس مدى التدهور والانحدار الذي وصل إليه هذا المسار. والحالة الراهنة التي تسود الآن، يمكن توصيفها بحالة الفراغ الاستراتيجي التي تدفع نحو الضياع وتترك لكل قطر، ولكل جماعة وفئة، أن تفكر في مصيرها وتتصرف به وفق ماتمليه عليها الظروف. ذلك أن المجتمعات العربية لا تفتقر اليوم إلى الإيمان بضرورة التغيير، بل إلى أي تصور مشترك لطبيعة هذا التغيير ولوسائل تحقيقه أيضاً.

إن قراءة موضوعية لتطورات الواقع منذ سنوات السبعينات، سوف تكشف من غير مواربة، أن حالة الاستبداد المهيمن على الوضع العربي، وميول التفكك التي أخذت تسود هذا الوضع، هي التي شكلت المدخل الفعلي للحرب الأهلية اللبنانية بتشابكاتها المحلية والخارجية؛ ولنشوب حرب الخليج الأولى بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، التي لم تكن هناك مصلحة فيها لأي من الطرفين المتحاربين؛ وهي التي شكلت أيضاً، بعد تعمقها، الأرضية الموضوعية لنشوء أزمة الكويت وتفاعلها، ومن ثم، لاندلاع حرب الخليج الثانية التي هيأت الأرضية والمناخ اللازمين لغزو العراق واحتلاله مع بدايات القرن الجديد.

لقد كشفت الأشهر السابقة لهذا الغزو ليس مدى التفكك السياسي والاجتماعي والاقتصادي للوضع العربي والانحدار الذي وصل إليه مساره فقط، وإنما المدى الذي بلغه الدور التحكمي للولايات المتحدة الأمريكية (ولإسرائيل أيضاً) في الوضع العربي العام وفي العلاقات العربية- العربية.

لقد بدأت مرحلة جديدة في هذه المنطقة. وإذا كان من الصعب تحديد جميع التبدلات المرتقبة، فمن المرجح أنها ستطال كثيراً من البنى والركائز التي أسهمت في إرساء الجغرافيا السياسية على صعيد المنطقة طوال القرن العشرين.

ويبدو واضحاً أن كل المحاولات الدؤوبة للخروج من هذا الوضع، والعمل من أجل مستقبل منشود تتطلع إليه مجتمعاتنا، ويلبي مطامحها في الحرية والتحرروالانعتاق من حالة القهر والاستلاب، مازالت تصطدم بعقبة منهجية لم تتمكن من تخطيها حتى الآن. هذه العقبة تتمثل في غياب الجواب المهم عن السؤال الكبير: لماذا تدهورت أوضاعنا؟ إن الجواب عن هذا السؤال يشكل الشرط الأول والأساس الذي لا يمكن بدونه وضع تصورات مفيدة وبناء صحيح لهذا المستقبل الذي نتطلع إليه.

2-3-2- في أساس التدهور الحاصل ما يكشفه التمعن، على المستوى السياسي، في مختلف الحالات العربية، من اندغام السلطة السياسية العليا في الزعامة السياسية الطائفية والقبلية، بحيث لا يخلو نظام قطري من مشكلة أقلية (طائفية أو قومية). وهي عقبة أمام الانتقال إلى المجتمع الحديث المتميز بالاندماج والانسجام. وهو المجتمع الذي سيبقى رهن نمو الوعي الوطني والديمقراطي، الذي، بدوره، يفتح الطريق لتصفية الطائفية ولحل مسألة الأقليات القومية حلاً ديمقراطياً بعيداً عن إلغاء أو شطب القوميات والجماعات اللغوية والاثنية والثقافية المتنوعة.

إن هذا الاندغام للسلطة السياسية مع البنى الاجتماعية ما قبل القومية، بقي متلازماً مع ظاهرة الاستبداد كشرط لازم لتأمين استمرارية الفئات الحاكمة. وهو ما آل، بعد ذلك، إلى توحيد “الأسر الحاكمة” وتحويلها إلى عصبيات مالكة للدولة حتى تحولت مؤسساتها السياسية المركزية إلى امتداد وظيفي لهذه “الأسر”، بحيث أصبح الولاء للدولة يترجم في النهاية على أنه ولاء لشخص الحاكم.

ولعل أكثر ما يشد الانتباه في التطور الجاري في المجال السياسي- الاجتماعي، أن اتجاه هذا التطور يبتعد عن تلبية حاجات الوضع القائم، ويعمق مسار تدهوره وانحداره، ويتناقض مع حقائق العالم المعاصر التي أخذت تتكشف عن أهم معطيات الحياة السياسية المعاصرة: تعاظم حركة النضال الاجتماعي من أجل إرساء الديمقراطية وتكريس حقوق الإنسان. فالبلدان العربية تكاد تنفرد – من دون سائر بقاع الأرض بكونها أكثر المناطق ابتعاداً عن الاندراج في صيرورة هذا الانعطاف؛ وأكثرها انغلاقاً على حالة الاستبداد، وبالتالي، على رتابة التطور البعيد عن آلية التدفق العالمي لمعطيات التغيير؛ وبكونها ما زالت تغذ في مسيرة التداعي التي وسمت مسار تطورها من زمن بعيد.

فبعد مسلسل متصل من الأزمات التي تفجرت في سنوات الثمانينات، وبعد الآمال العريضة في أن تشهد الحياة السياسية منحى من الانفتاح على الخيار الديمقراطي ومن الانتساب إلى روح العصر، تتالت بعد ذلك كله وقائع الانقضاض على مطلب التنمية السياسية الديمقراطية، وظلت المجتمعات العربية ساحة مستباحة لديمومة الاستبداد لتتعاظم معها محنة الديمقراطية وحقوق الإنسان.

2-3-3- وفي أساس التدهور الحاصل أيضاً ما نراه في المشهد السياسي العربي من ازدياد انتشار التيار الديني المتطرف على حساب التيار الديني المتنور. وهو الأمر الذي نجم عن/وترافق مع سلسلة الهزائم القومية و سيرورة الانهيار التي آلت إلى انحطاط شامل أصاب قوى الأمة وشل طاقاتها.

لقد اشتغل الفكر السياسي العربي، وانشغل المثقفون العرب، طوال العقود الثلاثة الأخيرة بمسائل ومقولات من نوع “الأصالة والمعاصرة” أو “التراث والحداثة”.وهي، كما نعتقد، مسائل وأسئلة “وهمية” أبعدتنا عن صوغ الأسئلة بصورة صحيحة وصائبة تستجيب للمهمات التي يطرحها علينا الواقع.

فإذا كان ثمة تناقض راهن بين حدي تلك المقولات “الوهمية”، فان حل هذا التناقض واستعادة الوضع الصحيح، إنما يتحدد بمراجعة جدية لعلاقتنا، نحن العرب، بتاريخنا وتراثنا وبتصويبنا لهذه العلاقة، وبالتطلع، من ثم، إلى حاضرنا ومستقبلنا ومشروع تقدمنا.

ولأن العلاقة الصحيحة بين “الإسلام والعروبة” أو “التراث والحداثة” و “الأصالة والمعاصرة”، لا يمكن تلمسها وفهمها بعيداً عن سياق الصيرورة الاجتماعية والحراك الاجتماعي، فان تجديد الفكر الديني في سياق عملية تجديد الفكر العربي، والمجتمعات العربية عموماً، واجب العرب مثلما العقلانية والديمقراطية واجبة عليهم. وهذا شرط لازم لمجابهة التحدي الذي يواجهنا به الخارج ولمجابهة الاستبداد في الداخل.. ومن أجل التقدم أيضاً.

إن ضعف الحركة السياسية العربية وعدم امتلاكها وعياً وبرنامجاً يستجيبان لحاجات التقدم، لا يفسر وحده هيمنة الأيديولوجيا التقليدية وازدياد المساحة التي تحتلها الحركات الدينية المتطرفة. فالتطرف والغلو، الديني وغير الديني، اليميني واليساري، أحد إفرازات الهزيمة المذلة أمام العدو الخارجي والتاريخي من جهة وأمام هجمة الاستبداد من جهة أخرى. وهو تعبير عن أزمة بنيانية شاملة تطال مستويات البنية الاجتماعية كافة، وتعبير عن مجتمع تسلطت على مقدراته سلطات قمعية فقدت كل ارتباط بمصالح الشعب، وكل شرعية سوى “شرعية القوة والعسف”.

 والحركة السياسية العربية لن تتجاوز حالة الضعف التي هي عليها، ولن تكون قادرة على مواجهة الاستبداد والتعامل مع وقائع المتغيرات الجارية في العالم بعيداً عن تجديد أوضاعها وإعادة بناء قواها على قوام جديد يؤهلها للتعامل مع هذه الأوضاع وتلك المتغيرات. هذا يعني أن عليها، كي تكون كذلك، أن ترتفع إلى مستوى إجراء مراجعة شاملة لأوضاعها ولأدواتها المعرفية، ولأدوات عملها وطرائقه.. ولطبيعة صلتها بالناس.

2-3-4- المنظومة المعرفية السائدة، وما تولد عنها من سياسات اجتماعية واقتصادية وثقافية وتربوية، يعود إليها قسط رئيس من المسؤولية عن مسار التدهور الحاصل وعن نمو التأخر. وإلقاء المسؤولية  على الفعل الخارجي والعوامل الخارجية فحسب، أمر مضلل وسلبي. فهو يحول دون الوصول إلى معرفة موضوعية بمعطيات مجتمعاتنا الداخلية، خاصة تلك التي تشكل عقبة كأداء في مواجهة التغيير وسلوك مسار التقدم وتسمح، في آن معاً، للقوى الخارجية بالتلاعب بمصيرها.

في ضوء هذا، لن تعود المسألة، إذا، مسألة تبعية للخارج وهيمنة إمبريالية على أوضاعنا فحسب، بل سوف تعود لتصبح مسألة تجديد بنى مجتمعاتنا وتحديثهابعقلنة الفكر والسياسة، والنزول من علياء الشعار إلى أرض الواقع، وإعادة بناء تجربتنا العربية بإخراجها من دائرة الأحلام التاريخية والرومانسية ووضعها في السياق الواقعي الذي يتمحور على المصالح، وإطلاق سيرورة المجتمع المدني، وإرساء دولة الحق والقانون، وصون حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن. وهو السبيل الذي لا بديل لنا سواه لتجاوز البنى والعلاقات ما قبل الوطنية، والانتقال من حالة الاستبداد إلى الديمقراطية.. وللعمل على تحقيق الاندماج الاجتماعي– الوطني  والقومي.

إن كل يوم يمر يؤكد محدودية فرص التغيير والتحول في النظام القائم ومن داخله. وهو الأمر الذي يدفع إلى عدم الاستسلام لوهم مناشدة القوى السائدة تغيير مناهجها أو سياستها الراهنة.

المهمة الحيوية والأكثر إلحاحاً في هذا السياق، تتحدد في البحث عن مداخل واقعية وموضوعية تتيح  تأسيس حركة سياسية معارضة وديمقراطية، تستمد وجودها وقدرتها على النمو والفعل من التحامها بنسيج مجتمعاتها على تنوعها وخصوصياتها. مثل هذه المداخل، سوف تكون بذاتها مدخلاً لإحياء العمل القومي المشترك وتقدّمه، ولكن على أسس واقعية وممكنة، تنطلق من المصالح المشتركة، ولا تبني على الرمال.

2-4- المسألة الفلسطينية، الصراع العربي- الإسرائيلي: سبب رئيس للحالة العربية.

2-4-1- في هذا الزمن الذي وصلنا فيه، نحن العرب، إلى أشد حالات تفككنا وانحطاطنا، تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على أن تفرض علينا مشاريع “تسوية” مع عدونا الإسرائيلي تسميها “سلاماً”. لا نعتقد أن أحداً يجادل في أن هذه المشاريع أقرب إلى الاستسلام منها إلى السلام.

وأياً كان المآل الذي سوف تنتهي إليه المشاريع المطروحة، ومن أجل الحفاظ على الحقائق التاريخية للصراع، يتعين علينا أن نبقي في ذاكرتنا وفي ثقافتنا على حقيقة موضوعية مفادها أن “دولة إسرائيل” وليدة لـ (الحركة الصهيونية) التي انطلقت في نهايات القرن التاسع عشر. وأن هذه الحركة كما دل عليها تاريخها طوال قرن من الزمان، هي حركة عدوان على العرب، طالت الشعب العربي الفلسطيني في وجوده فوق أرضه، وتعمل دون هوادة على حرمانه من التعبير عن حقيقته الوطنية، وتسعى إلى محو شخصيته وثقافته أيضاً. وتطال الشعوب العربية بأسرها في حاضرها وفي تطلعها إلى بناء مستقبلها.

 كانت (الحركة الصهيونية) تمثل في البداية تياراً أقلوياً بين يهود العالم. وهو التيار الذي اختار التحالف العضوي مع القوى الاستعمارية الطامحة إلى الهيمنة على المنطقة العربية، وعمل على وضع نفسه في خدمة هذه القوى. و”دولة إسرائيل”، وليدة هذه الحركة في منتصف القرن الماضي، هي، بالتالي، الذراع الضاربة للغرب الإمبريالي. إنها حاجة إمبريالية واستثمار إمبريالي. لم يكن بمقدورها أن تكون موجودة، ثم أن تتطور وتواجه العرب وتنتصر عليهم طوال السنوات الخمسين المنصرمة، لو لم يكن الأمر كذلك. تغيرت الدول الداعمة لها – من بريطانيا إلى أمريكا بعد فترة فرنسية قصيرة – لكن الأهداف لم تتغير: حراسة التجزئة والتأخر العربيين، ومن ثم إدامة التبعية، والتصدي للمشاريع الوطنية الجدية وللتوجهات الوحدوية وبالطبع تحرير الغرب من المسألة اليهودية وتبعاتها، وتحريره من عقدة الذنب تجاه اليهود تاريخياً.

2-4-2- العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، بعد تأميم قناة السويس، كان الحرب الأولى التي شهدتها المنطقة بعد نكبة فلسطين وقيام “دولة إسرائيل” في عام 1948. لقد كانت إسرائيل أحد الأطراف التي شاركت في هذا العدوان (إلى جانب بريطانيا وفرنسا). صحيح أن هذا العدوان قد اندحر دون أن يحقق أهدافه، لكنه شكل المحطة التي انتقلت فيها إسرائيل من الرعاية الأوروبية، البريطانية على وجه الخصوص، إلى الرعاية الأمريكية. وفي ظل هذه الرعاية، شهد الصراع العربي– الإسرائيلي في النصف الثاني من القرن الماضي حربين كبيرتين، لم تفصل بينهما أكثر من ست سنوات (1967، 1973). وفضلاً عما آلت إليه هاتان الحربان من توسع إسرائيل باتجاه الشرق واحتلالها كامل الأراضي الفلسطينية، وفرض احتلالها على مساحات واسعة من الأراضي العربية في كل من مصر وسوريا، فقد كان لهما أيضاً انعكاس سلبي على الوضع العربي في جوانبه كافة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، عمل على تعميق مسار تدهوره وانحداره.

 لكن الأخطر من كل هذا أن إسرائيل تمكنت بعد هاتين الحربين من تحقيق أول اختراق كبير في صراعها مع العرب عندما تحقق لها تحييد مصر، الدولة العربية الأكبر، وإخراجها من دائرة الصراع اثر الاتفاقات التي وقعتها معها في كمب ديفيد عام 1978 بعد زيارة السادات الشهيرة إلى إسرائيل عام 1977، ومن ثم، معاهدة السلام المصرية   الإسرائيلية في آذار 1979.

 قد شكلت المعاهدة المذكورة اتفاقاً تعاقدياً منفرداً أتاح لمصر استعادة كامل أراضيها التي احتلت في عام 1967 بعد أن اعترفت رسمياً بـ “الدولة العبرية” ووافقت على تطبيع علاقاتها معها.

 لكن المستوى الذي وصل إليه التدهور على الصعيد العربي العام، وعلى الصعيد القطري الخاص، أوجد نمطاً من “التسوية” الواقعية، جعل إسرائيل ترفض حتى هذا اليوم توقيع اتفاق تعاقدي مماثل مع أي طرف عربي آخر في هذا الصراع.

2-4-3- لكن هل يعني هذا أننا، نحن العرب، عاجزون عن التعامل مع هذه الوقائع؟ وأن ليس بمقدورنا سوى الانصياع لها والخضوع لنتائجها؟

 وهل يعني هذا أن لا تكون لدينا رؤيتنا للسلام، وأن لا تكون لدينا برامجنا لتسوية سياسية تنطلق من رؤيتنا لتاريخية هذا الصراع بعد هذا الذي وصلنا إليه بعد قرن من الزمان؟ هنالك محاولات الآن للإجابة عن هذا السؤال، منها تلك التي تطرح أن الحلّ الاستراتيجي السلمي قد يؤمّنه قيام دولة واحدة ثنائية القومية، على أساس ديموقراطي وعلماني. ولكن الوقائع على الأرض، تجعل من هذا الحلّ أمراً بعيد المنال، في الزمن الراهن على الأقل. ومن تلك المحاولات أيضا البحثً في أن حلّ إشكالية مسار التقدّم والديمقراطية في المستوى القومي، هو طريق السلام العادل للقضية الفلسطينية.

 لكن، في منطق الأمور، هناك تسوية سياسية وهناك أخرى. هناك تسوية سياسية تكون فشلاً جزئياً لإسرائيل بدفعها إلى الانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة بعد عام 1967، إثباتاً لعجزها عن التوسع حتى بعد انتصارات هائلة. وهناك تسوية سياسية معاكسة، توسع إسرائيل إقليمياً وترفعها سياسياً وتفتح لها أبواب التوسع الاقتصادي وتذل العرب وتدفع بهم إلى التمزق والسقوط.

 في منطق الأمور أيضاً، ينبغي أن ندفع عنا الخيار الثاني. لكن كيف نقبض على الخيار الأول في هذه المرحلة العصيبة من تاريخنا ونحن على ما نحن عليه؟

 إن من أولى مستلزمات هذا الخيار توفير شرطه العربي اللازم، لكن المضيع.

لقد نجحت انتفاضة شعبنا الفلسطيني الأولى، التي تميزت بكفاحيتها العالية وأدائها المتميز، بإلحاق ضرر بالغ بإسرائيل وبكشف الغطاء عن حقيقتها العنصرية البغيضة وممارساتها البربرية البشعة أمام الرأي العام العالمي، وبتعريضها لعزلة قلما شهدها تاريخ صراعنا معها. ونجحت أيضاً في إظهار الوجه الحقيقي للإنسان الفلسطيني ونضاله البطولي الذي شوهته الدعاية الإسرائيلية خلال سنوات طوال.

لكن غياب الشرط العربي أسهم في إغلاق الأبواب التي فتحتها تلك الانتفاضة، ومكن إسرائيل من الاستفراد بالشعب الفلسطيني والتنكيل به بصورة غير مسبوقة. ومننافل القول أن غياب هذا الشرط لعب دوراً كبيراً في عسكرة الانتفاضة الثانية.

صحيح، في هذا السياق، تأكيد موقف نعتبره مبدئياً وبديهياً، وهو أن الكفاح عموماً، بما فيه الكفاح المسلّح والاستشهاد في سبيل تحرير الوطن المحتل، ليس أمراً مشروعاً وحسب، بل هو ضرورة وحاجة وطنية وإنسانية معاً. وهو موقف يتطلّب إثراء ثقافة الاستعداد للتضحية وإبراز مضامينها الإنسانية النبيلة. لكن من الصحيح أيضاً أن الجهاد، والاستشهاد نفسه، وسيلة لتحقيق أهداف سامية (حضارية، وطنية، وإنسانية). وهو وسيلة من وسائل أخرى، (ثقافية، سياسية، واجتماعية) تخدم مشروعاً سياسياً محدداً وواضحاً، الأمر الذي يعني إخضاعه لمراجعة نقدية دائمة على ضوء الوقائع وموازين القوى القائمة والمتحولة، والأهم من ذلك على ضوء نتائجه المحتملة، وعلى ضوء فاعليته وجدواه أيضاً. هذا يحتم علينا أن لا يتحول الاستشهاد إلى هدف لذاته، كي لا يصير تمجيداًُ للموت من أجل الموت.

إن خطر الانزلاق من ثقافة الجهاد والاستعداد للتضحية حتى الاستشهاد المرتبطة بالمشروع الوطني، إلى “ثقافة الموت” المرتبطة بهيمنة مشاعر اليأس والإحباط والعجز والانعزال – التي عززتها سياسات الأنظمة العربية وإيديولوجياتها بقوة كذلك-، يهدّد المشروع الفلسطيني برمته، ويوفّر للبنية العسكرية الإسرائيلية خيارات لم تكن متاحة لها من قبل. ويساعد إسرائيل، كما تؤكد الوقائع من جديد، بخاصة بعد الحادي عشر من أيلول 2001، ورغم كلّ بربريتها، على تصوير نفسها في موقع الضحية لدى أوساط واسعة للرأي العام العالمي، وعلى تصوير الكفاح الوطني الفلسطيني، على أنه شكل من أشكال الإرهاب.

صحيح أن خيار التوحيد القومي ليس راهناً وليس منظوراً أيضاً لكن المصلحة الوطنية والقومية لجميع الأطراف العربية تقتضي العمل على توفير المداخل اللازمة لبناء موقف عربي موحد يضمن لنا القدرة على التدخل في صوغ الوقائع القائمة، ورسم سياسات عربية موحدة تجاه القضايا الكبرى. وفي أساس هذه المداخل، العمل في سبيل وقف مسار التدهور الذي يتتابع ويتعمق منذ هزيمة حزيران وتصفية العلاقات العربية من الخلافات التي حولتها سياسات الطبقات الحاكمة ومصالحها الضيقة إلىتناقضات عدائية يمكن أن يهدد استمرارها جميع أطرافها. ولكنّ تاريخ علاقة الأنظمة العربية بالصراع العربي الإسرائيلي، لا يبعث على التفاؤل بهذا المجال. تلك الأنظمة، ومنذ البداية، أسهمت في تدعيم أسس إسرائيل، منذ ساعدت على دفع اليهود العرب للهجرة إليها، ثمّ عاشت مستقرّة سعيدة تحت تهديد الشعوب بالخطر الجاثم على الحدود، وبحالة الطوارئ المعلنة عقوداً من السنين من أجل التحرير، من دون تحرير ولا تنمية ولا تقدّم في بناء الدولة الوطنية الحديثة، المستندة إلى حكم القانون والمواطنة وحقوق الإنسان والديمقراطية.

 إن وقف مسار التدهور، على أية حال، هو شرط لازم أيضاً لمنع ظهور ثقافة الموت والحيلولة دون انتشارها في صراعنا مع العدو الإسرائيلي، ولضمان الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتوفير الدعم اللازم لكفاح شعبنا الفلسطيني ولحقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، في هذه المحطة التاريخية من نضاله، على كامل الأراضي المحتلة في عام 1967 بما فيها القدس، وانسحاب إسرائيل من كل الأراضي العربية المحتلة.

 لكنه شرط سوف يظل مضيعاً في ظل استمرار الأوضاع السائدة التي ورطنا بها استبداد حكامنا منذ زمن بعيد. هذا يعني أننا لم نصل إلى ما نحن عليه الآن فجأة. نحن ندفع الآن ثمن مسار تدهورنا والعدو يقطف ثمار انتصاراته.ندفع بالجملة مستحقات الهزائم التي أنزلناها بأنفسنا، ويقبض عدونا ثمن التوظيف الذي وضعه في قهرنا. لذلك، من الطبيعي أن يندفع بعضنا من اليأس إلى الموت والخلاص السهل، ومن غير الطبيعي ألاّ تبادر قوى شعوبنا الحية إلى تعميم ثقافة الحياة والسلام، وقبول تحدّي العنصرية والإجرام والتطرّف الإسرائيليين والردّ عليه بمقاومة إيجابية فاعلة.

 وفي حين تنزع إسرائيل نحو البحث عن سيل الخلاص من العيوب المصاحبة للتجربة الصهيونية، فإنها تعمل أيضاً على البحث عن السبل الكفيلة بإدامة توريطنا في أوضاعنا الراهنة.

بدون إصلاح هذه الأوضاع، والعمل على تغييرها، لن يكون أمامنا سوى متابعة مسار انحدارنا الذي يوصلنا إلى الخراب.

لقد حان وقت الحساب الإجمالي الذي يختتم قرناً من المواجهة ويبدأ بعهد جديد.    

2-5- الولايات المتحدة تنتقل إلى الغزو والاحتلال: حرب العراق

لقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية على امتداد النصف الثاني من القرن الماضي، وبخاصة منذ هزيمة العرب في حزيران عام 1967، على الحيلولة دون الوصول بالصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية إلى أية تسوية شاملة ممكنة، خاصة في ظل المناخ الدولي الذي خيمت عليه أجواء الحرب الباردة التي اتسمت بها العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية.

ولقد احتلت هذه المسألة حيزاً مهماً في إستراتجية الأمريكان الدولية، وفي سياساتهم تجاه الوطن العربي التي كانت ترى في هذا الأمر سبيلاً عملياً إلى إحداث تبدلاتفي الواقع العربي تدفع به إلى مزيد من التفكك والتدهور والانحدار.

وكان في أساس تلك الاستراتيجية وفي صلب هذه السياسات دفع إسرائيل إلى عدم الاستجابة لأي من قرارات الأمم المتحدة في الموضوعين العربي والفلسطيني، مع تقديم الدعم المطلق لها، السياسي والاقتصادي والعسكري، بهدف ضمان تفوقها وتأمين الأدوات التي تكفل استمرار تمسكها بالأراضي العربية المحتلة ودمجها فيها تدريجياً.

 غير أن مسار الصراع، بما في ذلك القضية الفلسطينية، دخل منعطفاً جديداً مع مؤتمر مدريد الذي انطلقت أعماله في تشرين الأول 1991، حين قررت الولايات المتحدة الأمريكية بعد انتصارها في حرب الخليج الثانية، أو ما سمي بـ “حرب تحرير الكويت”، العمل على تصفية ما تسميه السياسة الدولية “قضية الشرق الأوسط”، عبر صيغة تتيح تكريس “دولة إسرائيل” تتويجاً لنصف قرن من الاستعمار الاستيطاني، وإضفاء الشرعية على وجودها الطاغي إلى جانب دولة فلسطينية محتملة، ضعيفة لا تهدّد بخطر.

 ومنذ انطلاق أعمال هذا المؤتمر، أخذت إسرائيل تشارك فيه من موقع متشدد يتمحور على ثوابت الأيديولوجيا الصهيونية، مما دلل على أن النفق الذي دخلته، والذي أُدخلت فيه الأطراف العربية، لن يصل بها إلى “السلام المنشود” الذي تتطلع إليه، خاصة مع موازين القوى المتبدلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والانتصار المدوي للولايات المتحدة في الحرب الباردة.

 في مطلع عام 1991، أدارت الولايات المتحدة الأمريكية حرباً ضد العراق أعطتها البعدين العربي والدولي. وجاءت هذه الحرب في سياق الإمساك المباشر بمنطقة الخليج.

 وفي آذار عام 2003، غزت الولايات المتحدة الأمريكية العراق، ووضعته تحت احتلالها المباشر، بمساعدة من بريطانيا هذه المرة، وفي مواجهة رفض دولي واسع. أرادت الولايات المتحدة في حربها هذه تحقيق عدة أهداف بضربة كبرى واحدة:

– السيطرة على جزء مهم إضافي من حركة النفط العالمي، والتحكّم من ثمّ بمسار اقتصادات المنافسين المحتملين المحتاجين إلى هذا النفط، الآن وفي المستقبل، في اليابان والصين وأوروبا.

– تأمين وتكريس التفوّق الإسرائيلي الاستراتيجي، بإضعاف طرفٍ عربي كان لا يزال على درجة من القوة في هذا المجال. حدث هذا وإسرائيل تنتحي جانباً من الحرب ولا تتدخّل إطلاقاً بالمعنى المباشر فيها.

– تحقيق قفزة وانتصار في الحرب الأمريكية على “الإرهاب”، بحسبان العراق حليفاً وملجأً له، وبخاصة ضمن الأجواء اللاحقة لأحداث الحادي عشر من أيلول 2001، الفاجعة. وثبت في النهاية بطلان هذا الإدّعاء، إضافة إلى بطلان الإدّعاء الآخر والذريعة بوجود أسلحة الدمار الشامل والخطر الذي تشكّله على العالم، اللذين انبنى عليهماالعمل على تحصيل تشريع الغزو من طريق الأمم المتحدة.

– إعادة تشكيل المنطقة من الناحية الجيوسياسية، وإنهاء النمط والتقليد السائدين منذ تنفيذ اتفاقات سايكس بيكو. ارتبط هذا الهدف بدخول النفوذ الأمريكي مظفّراً تحت عنوان الشرق الأوسط الواسع والشراكة من أجل تعميم الديمقراطية في المنطقة.

جاء هذا الخطّ بعد عقود من اعتماد الاستبداد طريقاً لضمان الاستقرار والاستمرار للمصالح الغربية في المنطقة، على حساب طموحات أهلها إلى الحرية والديمقراطية والتقدّم. وجاء بعد القضاء على نظام هو من بين الأبرز باستبداده وفظاعته في المنطقة. وقد كان استبداد هذا النظام – والأنظمة المثيلة معه- سبباً رئيساً في سرعة تداعي العراق السريع وتحقيق السيطرة الأمريكية المادّية في قلب المنطقة، وبكثافة وطريقة غير مسبوقة.

جاء هذا الغزو للامساك بمنطقة المشرق العربي بدءاً من مصر والسودان غرباً إلى العراق شرقاً. وسوف تكون إسرائيل، على ما يبدو، المرتكز الاستراتيجي في هذا القوس الواسع الذي يراد له أن يتحول إلى تجمع أمني– اقتصادي يمسك بأبواب أوروبا وأفريقيا وآسيا، ويلعب دوراً مهماً في الصراعات الدولية المقبلة.

هذا الواقع الجديد، يفسر أيضاً الجهود الأمريكية المتواصلة منذ بداية التسعينات لإيجاد “تسوية” ما غير محددة القاع للصراع العربي– الإسرائيلي وللقضية الفلسطينية. ويفسر أيضاً لماذا غدت هذه “التسوية” مصلحة استراتيجية أمريكية، بعد أن كانت تعرقلها وتحول دونها طوال العقود الثلاثة السابقة.

لكن الغزو هذا نفسه، أنهى نظاماً عربياً بشعاً ومستقرّاً لعقود، كاد فيها أن يصل بشعبه إلى حافة اليأس وذروة الإحباط، وفتح الباب على الاحتمالات والطروحات كلها، من أخطار التفتّت والانقسامات والحروب الأهلية، إلى السير في اتّجاه الديمقراطية والتعدّدية والدولة الدستورية الحديثة. وفي هذين الاتجاهين معاً، يحمل النُذر أوالبشائر للمنطقة كلّها. وهنا تكبر مسؤولية القوى والنخب العربية عن فعل الشعوب وتأثيرها في مصيرها.

إن طريق العراق، وغيره، يجمع ما بين النضال من أجل إنهاء الاحتلال كما الاستبداد، ويهدف إلى تحقيق الاستقلال الوطني كما التغيير الديمقراطي، وفي الوقت ذاته.وضمن هذا المنظور المزدوج، يمكن تحديد الموقف من مظاهر المقاومة حيث وكيف تظهر، والتي هي فعل وحق مشروع لأيّ شعب تُحتلّ بلاده.


-3

العالم يتغيّر.. والتاريخ يستمرّ

3 – 1- العالم حتى الحرب الكونية الثانية:

3-1-1- كانت أوروبا أرض التحوّل الاجتماعي الاقتصادي الذي أدّى إلى التحديث، وشروط هذا التحوّل كانت الشروط الأوروبية. من نموّ الرأسمالية التجارية والإصلاح الديني وعصر النهضة والتنوير انبثق نوعٌ جديد من أسواق التبادل، يعتمد على آليّات العرض والطلب، وينقل الاقتصاد من فضاء الاستهلاك إلى فضاء الإنتاج. ابتدأ بذلك نموٌّ عاصفٌ لا يتوقف.

تم التحديث الشامل في أوروبا على أساس مبادىء ثلاثة أساسية هي: موقع الفرد في المجتمع، والتخصص في العمل في جميع الميادين التطبيقية والنظرية، والاعتماد على القوانين والمعرفة العقلية المجردة التي تنتجها التجارب الملموسة.

في المبدأ الأول، يغدو الفرد هو الخليّة الأولى في تشكيل المجتمع ونسيجه. هذا الفرد محترمٌ كإنسان وكمواطن، كذاتٍ وموضوع، في حقوق الإنسان والمواطنية. في المقابل القديم ـ في أوروباـ كانت الجماعة العائليّة أو العشائرية أو الطائفية أو الفلاّحية (الإقطاعية) وغيرها. في مثل هذه الجماعات كان يذوب الفرد ويتبدّد كيانه في الجماعة.

في المبدأ الثاني، تدخل تأسيسات معاصرة مختلفة. وتظهر المهام المتخصّصة والمُحدّدة ضمن النظام الاجتماعي وتقسيمات العمل الناشئة والمتطورة. يُصبح للعلم والكفاءة والنشاط دور أكبر بكثير، ضمن عملية التخصّص التي تستمرّ في التجدّد والتعقيد مع الزمن.

في المبدأ الثالث، يخرج المجتمع من النظُم المعرفية القائمة على التقاليد والعادات والأعراف التي كانت تُنظّم حياة الأفراد والجماعات في المجتمعات القديمة، وتتراكمتأسيسات قانونية ونظم وأحكام موضوعية ومُجرّدة عن المصلحة الفئوية والضيقة المباشرة، تلك التي كانت عابرةً لدى الحكّام القدامى. هذا يعني وجود قانون متطور وسيادة لهذا القانون لا يزاحمها سيادة لأحدٍ غيره، مع استقلالية وسلطة حقّة للقضاء.

3-1-2 مع تطور الإنتاج الصناعي في أوروبا والولايات المتحدة، ظهر التناقض ما بين حرية المنافسة والحماية الجمركية، وأدى تنامي تمركز الإنتاج إلى ظهور الاحتكارات، وأخذت المصارف تلعب دوراً أكبر من قبل، وتعاظمت منزلة الرأسمال المالي. تطورّت الرأسمالية واحتاجت إلى الانتشار بمصالحها على سطح الأرض، ودخلت في طور الإمبريالية.

كان المحافظون – وما زالوا!- يرون في الإمبريالية مهمة ألقاها الله على عاتقهم في أن يقودوا العالم، ويدخلوا به في ملكوت الحضارة والقيم الحديثة. في طريقهم إلى ذلك، يمكن ضمان الهدوء في المناطق المتأخرة، وتأمين الطرق التجارية والأسواق والاستثمار. كانت العنصرية طعام هذا التوجّه وزاده.

في حين رآها الليبراليون نتيجة لفيض الإنتاج ومحدودية الاستهلاك في المجتمعات المتقدمة، ورأوا لذلك حلاً آخر من طريق تحسين معيشة العاملين والإنفاق علىالرفاه الاجتماعي.

واتفّقوا في أساس التحليل مع قوى اليسار والحركات الوطنية، التي رأى بعضها أن الإمبريالية سوف تتطور باتّجاه إعادة تقسيم العالم، ومن ثمّ نحو الحرب الكونية الأولى.

لذلك، اتّفق لينين مع هوبسون في تحليله لجوهر الإمبريالية، وتوافق مع ويلسون  –فيما بعد، وعن بُعد – على حق الشعوب في تقرير مصيرها. وإذ رأى في الإمبريالية آخر مراحل الرأسمالية، أو عشيّة الثورة العمّالية العالمية، كان يحافظ من جهة أخرى على مصالح وطموحات روسيا القومية، الشبيهة في شكلها للمصالح والطموحات الأمريكية على الرغم من اختلافهما في الحجم والمضمون آنذاك، كما سوف تبيّن تطوّرات الأوضاع الدولية فيما بعد.

الخطأ الذي ارتكبه الكثيرون آنذاك، تمثل في الانجرار إلى ممارسة التناقض مع الإمبريالية بصفتها شراً مطلقاً، وبعيداً عن كونها مرحلة موضوعية في مسار تطور البشرية، بدلاً من مواجهتها والتعامل معها من منظور المصالح القومية والإنسانية الملموسة وعلى أساس هذه المصالح.

3-1-3- اندلعت الحرب العالمية الأولى، وانساقت الأمم الأوروبية إلى الحرب، وتأخّرت الولايات المتحدة حتى دخلتها، بعد حسم الصراع الداخلي حين أصبح موقف الانعزال أضعف من ضرورة المشاركة في اقتسام الكعكة العالمية. في حين كان التناقض في روسيا ما بين سلطة ضعيفة الأسس آنذاك، وغير قادرة على مقاومة إغراءات المشاركة في الحرب، وبين رأي البلاشفة – المؤسس على مصلحة الطبقة العاملة – الذين لا يريدون دخول هذه المجزرة الكبرى.

وبين الرأيين هذين، أمكن حشد القوى اللازمة لقيام ثورة شباط الديمقراطية في روسيا، إلاّ أن الخلل استمرّ وتعاظم مع تفاقم الوضع الاجتماعي-الاقتصادي، وعودة الجنود المهزومين من الحرب، وازدياد قوة البلاشفة، فقامت ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917، التي غدت إحدى أهم العلامات الفارقة في القرن العشرين.

كانت ثورة أكتوبر أيضاً، مظهراً لتراجع القناعة بامكان قيام الثورة في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدماً، وغلبةً للرأي البراغماتي الجديد، الذي برّر الأمر بأنه الهجوم الأول على الرأسمالية العالمية – في ظروف الإمبريالية الجديدة – في أضعف حلقاتها.

زادت الحرب قوة الولايات المتحدة، وأضعفت بريطانيا وفرنسا نسبياً، وأنهكت ألمانيا إلى مستوى أطلق النازية والعنصرية الجرمانية من عقالها، وأنهت تركيا العثمانية. ثمّ وصلت الليبرالية التقليدية، بقيمها ومنافستها المفتوحة حتى النهاية إلى “الانهيار الكبير” في الاقتصاد الأمريكي، ومن ثمّ في الاقتصاد العالمي. هنا دخلت الرأسمالية الأمريكية خصوصاً- في طور تدخّل الدولة لضبط فوضى الاقتصاد، وضمان استقراره. في ألمانيا وإيطاليا وصل الأمر إلى حدود أبعد، وفي الاتّحاد السوفييتي إلى أقصاه.

ومن ناحية أخرى، خرجت الولايات المتحدة من الحرب بفكرة عصبة الأمم بهدف الحفاظ على النظام الدولي ومنع الحروب، ولكنها عجزت عن المتابعة في الأمر. حيث قدّم الرئيس الأمريكي ويلسون الاقتراح ودعمه، ثمّ فشل في حشد الدعم اللازم له داخلياً.

كانت النازية والفاشية من أهم ظواهر فترة ما بين الحربين، ومن خلالهما نشأت الشمولية في ألمانيا وإيطاليا، وأصبحت الدولة فيهما مارداً يتحكّم في كلّ شيء، ويتداخل مع كلّ شيء.

3-1-4- في حين دخلت روسيا، بعد خروجها من الحرب الأولى ومن الحرب الأهلية أيضاً ونجاتها من الهجوم الخارجي عليها، في صيغة جديدة عبر تأسيس الاتّحاد السوفييتي، الذي بدأ في مشروع ضخم للتحديث، يعتمد الشمولية وتوحيد الحزب والدولة وتنظيم الشعب جماعياً، ودعم مصالح الفئات الدنيا في المجتمع. اعتمد هذا المشروع على مركزية نشر التصنيع في خطة الدولة، وتأسيس بنية تحتية جبارة، ولكنه لم يستند من أجل ذلك إلى فلسفة التحديث الأوروبية الأساسية، في مسائل الحرية وحكم القانون والمواطنة، بل على الاشتراكية كإيديولوجيا، في شكلها الذي بلوره الحزب الشيوعي الذي انفرد ستالين بقيادته، وانفرد هو بقيادة الدولة والمجتمع.

رأسمالية الدولة التي قامت في الاتّحاد السوفييتي، وأفرزت قوى اجتماعية جديدة وآليات تنظيم وعمل مختلفة، أسهمت في تعزيز قدرة البلاد على الصمود أمام تهديد الحرب الكونية القادمة.وغدت النموذج الذي ساد، في أعقاب هذه الحرب، في بلدان أوروبا الشرقية، ومن ثم، في العديد من بلدان العالم الثالث ابان مرحلة الستينات.

3-2- العالم من الحرب الثانية إلى نهاية الحرب الباردة:

3-2-1- انتهت الحرب الكونية الثانية بهزيمة ألمانيا واليابان وإيطاليا، وبالولايات المتّحدة قوةً أولى في العالم، والاتّحاد السوفييتي قوة ثانية، والدخول في المرحلة التي سميّت بالحرب الباردة بين المعسكرين.

نشأ المعسكر الأول وأقلع من خلال مشروع مارشال، والثاني من خلال “الكوميكون”. وأنشأ الأول خيمة أركانه في الحلف الأطلسي، والثاني في حلف وارسو. كان لدى الأول ثروته الهائلة لتموّل إعادة البناء في أوروبا واليابان، ولدى الثاني ثروته العادية التي تحرّكت داخلياً ما بين الأطراف والمركز.

من أجل تعزيز استقرار النظام العالمي، كان إنشاء الأمم المتحّدة أسهل من إنشاء عصبة الأمم في السابق، على الرغم من أن المنظمة الجديدة شاملة جامعة، وترتكز إلى نظام قانوني أكثر عمقاً. لم تعارض الولايات المتحدة إنشاء المنظمة هذه المرة، وكان الطرف المؤيد لها أقوى من الرافض بكثير، في ظروف النصر والهيمنة. على الرغم من ذلك، لم يختف الميل إلى الانعزال لدى المحافظين في الولايات المتحدة أبداً، وبقي عنصراً فاعلاً ومؤثراً في السياسة الأمريكية.

3-2-2- في العقدين أو الثلاثة ما بعد الحرب، تمّت تصفية الاستعمار تقريباً.وحدث ذلك بواسطة الأمم المتحدة أو الكفاح المسلّح أو التنازلات والخطوات المتّفق عليها. حرب السويس كانت مثالاً على التوافق المبدئي والتنافر في التفاصيل ما بين السوفييت والأمريكيين على أساس حق الشعوب في تقرير مصيرها وإنهاءالكولونيالية القديمة، ومن ثم، أفول نظام التمييز العنصري.

إثر الاستقلالات، دخل العالم الثالث فيما سُمّي غالباً بالتنمية الوطنية، التي اعتمدت على الموارد الذاتية (النفط أو التأميمعكس الخصخصة) وعلى القروض والمساعدات، وعلى حكم الحزب الواحد أو الحركة التي قادت عملية الاستقلال أو انتهت إليها السلطة بعد حين. وفي ظروف قصورها الذاتي، شهد العالم الانتفاضات الكبرى المعروفة في عام 1968، وبداية تراجع الليبرالية الكينزية بدءاّ من أوائل السبعينات مع إطلاق الدولار من قيوده، ودخول الاتّحاد السوفييتي في مرحلة الركود وعجزه عن دعم الآخرين.. في هذه الظروف انتهت مشاريع التنمية الوطنية إلى الفشل الذريع. وانتهت معها فعليّاً حركة عدم الانحياز، التي نشأت في ظروف الحرب الباردة، وبخاصة بعد أن خسرت قادتها المؤسّسين، واكتفت بالدور المكمّل للديكور السياسي العالمي.

3-2-3- قامت انتفاضات 1968 في أماكن كثيرة من العالم، ردّاً على فشل اليسار التقليدي وحركات التحرر الوطني ومشاريع التنمية الوطنية في تحقيق وعودها، وعلى الهيمنة الأمريكية المتعاظمة تحت غطاء “التواطؤ” السوفييتي. وأجبرت هذه الانتفاضات التي أصبح لها منظروها العالم على إعادة حساباته من جديد.

لم يدخل الاتحاد السوفييتي في مرحلة الركود وحده، بل غدت هذه المرحلة ظاهرة عالمية أيضاً. وحدها الولايات المتّحدة دافعت عن نفسها بخطوات هجومية، حين أطلقت الدولار من علاقته مع الذهب، ثمّ استفادت – وحدها أيضاً- من الارتفاع الكبير في أسعار النفط أواسط السبعينات، على عكس ما يُقال حتى الآن. فمن خلاله تدفّقت الأموال إلى البنوك الأمريكية واستثماراتها، وتسارعت صادراتها لتلبية الحاجات الاستهلاكية للأغنياء الجدد في دول أوبيك وغيرها. في حين كان النفط الأمريكي والاقتصاد الأمريكي قادرين على التكيّف مع ارتفاع الأسعار من دون كوارث، كما حدث مع آخرين.

في مرحلة السبعينات تلك، لجأت الولايات المتحدة إلى تحسين صورتها التي أخذت تصيب الآخرين بالرعب، فتعهّدت بالمزيد من التشاور مع الآخرين، وبتخفيف التوتر الدولي. هذا السلوك، ساعد على تخدير القيادة السوفييتية وطمأنها مؤقتاً. إلا أن أزمة الديون بعد 1980 حاصرت أوروبا الشرقية والعالم الثالث ودفعت أوروبا الغربية إلى البدء بتصدير صناعاتها إلى أنصاف الأطراف أو الأطراف المرشحة لتطوير مواقعها. هذه التطوّرات، مع تعاظم تحدّيات سباق التسلّح المتطلّبة لموارد اقتصادية هائلة، فاقمت الحال بطريقة دراماتيكية، ووضعت الاتّحاد السوفييتي، للمرة الأولى منذ نهاية الحرب، أمام خيارات صعبة. حاولت “البيروستويكا” السوفييتية معالجة المسألة بخطوات تراجعية دولياً، أدت إلى التخفّف من “أحمال” أوروبا الشرقية، وإلى البدء بالإصلاح الداخلي. إلاّ أن الكرة المتدحرجة لم ترحم، واضطّرت القيادة السوفييتية إلى التخفّف من جمهورياتها الطرفية كلّها، لتعود “روسيا” وحدها، وإلى التحوّل من الإصلاح إلى التغيير الجذري، بطريقة عاصفة ومرهقة، بل تكاد أن تكون مهلكة.

في خضمّ ذلك، كانت هنالك علامات هامة. منها انهيار جدار برلين، وتغيير السياسة الأمريكية في بلدان “التنمية الوطنية”، وبداية تحوّل الصراع إلى بلدان العالم الثالث.

شكّل انهيار الجدار انتصاراً للولايات المتّحدة الأمريكية، وانتصاراً بأعباءٍ على ألمانيا وأوروبا، المنافس الرئيس المطروح للمستقبل.

وابتدأ الأمريكيون، منذ مطلع الثمانينات، بالتخلّي عن حلفائهم التقليديين الديكتاتوريين هنا وهناك، مثل سوموزا وبينوشيت وماركوس، بعد أن كانوا قد تخلوا عن شاه إيران قبل ذلك بقليل، وذلك لقطع الطريق على تحولات جذرية في هذه البلدان، وإفساح المجال لتبدلات أكثر انسجاماً وتلبية للنمط الأمريكي، الموغل أكثر فأكثر في الليبرالية الجديدة. حاول الأمريكيون إكساب تحولاتهم رداءاً من الإيديولوجيا الديمقراطية وحقوق الإنسان، كان يتمزّق في المنطقة العربية، طالما استمرّوا بدعم الأنظمة المستبدّة كشكل لضمان استقرار تدفّق النفط، والتزموا بأمن إسرائيل المعتمدة والمفوّضة.

ابتدأ تحوّل بؤرة الصراع بمفاجأة الثورة الإسلامية في إيران واندفاع السياسات المتطرفة في الولايات المتحدة وحرب الخليج الأولى، ثمّ بغزو العراق للكويت وحرب الخليج الثانية. وانفتح الوضع الدولي على آفاق جديدة، مازالت مجهولة في الكثير من آلامها وأحلامها، خاصة بعد الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق مع بدايان القرن الجديد.

3-3- نهاية الحرب الباردة، والعولمة:

3-3-1- دخل العالم في طوره ذي القطب الوحيد بعد انتهاء الحرب الباردة. وحدث ذلك من دون تغيّر يُذكر في سياق ما بعد الحرب الكونية الثانية. إلاّ أن الاستقطاب السياسي، كشكل للنظام العالمي، تبلور وازدادت ظواهره وضوحاً ومظاهره تجليّاً. ظهرت الولايات المتحدة في مركز الصورة، ورأى العالم الوجه الأكثر قبحاً وبشاعة في سياساتها.

في الثمانينات من القرن الماضي، ابتدأ العالم في اكتساب شكلٍ ذي قطب واحد. وأخذت هذه الصفة مضموناً سياسياً، بمعنى الهيمنة على السياسة الدولية، والميل إلى الانفراد فيها، بمعزل عن الآليّات التي تأسّست بعد الحرب، ممثّلة بالأمم المتحدة والقانون الدولي خصوصاً.

لم يحصل انعطاف في منظومة اقتصاد العالم، بل في منظومته السياسية. بالأحرى، ظهر ميل أمريكي للتغيير في توازن هذه المنظومة، اعتماداً على حقّ المنتصر في الحرب الباردة، وعلى حجم اقتصادٍ يشكّل ما نسبته الثلث من الاقتصاد العالمي، وعلى قدرةٍ عسكرية جبارة ووحيدة بمعنى من المعاني (43% من الإنفاق العسكري العالمي)، وعلى مركز قيادي في تطوّر التكنولوجيا عموماً، والاتّصالات والإنترنت والكومبيوتر خصوصاً، ثمّ على هيمنةٍ نسبية على حركة سوق النفط الحيوية للمنافسين الحاليين والمستقبليين.

3-3-2- قد يكون مفهوم الليبرالية الجديدة أحد مداخل فهم ما حدث آنذاك. هذا المفهوم يغطّي شكلاً من أشكال العودة إلى الليبرالية الأولى، التي أقلعت في القرن التاسع عشر، وضعفت بفعل سياسة تدخّل الدولة في الثلاثينات. جاء الطور الجديد لينقض الميل إلى الليبرالية السياسية مع الاقتصادية في الموجة الأولى، ودور الدولة الاجتماعي والاقتصادي بمعنى الكلمة الشامل، أو الوطني. فالليبرالية الجديدة تطلق السوق من أيّ قيد، وتعيد ترتيب العلاقة مع الدولة، وتنزل بالوظيفة الاجتماعية إلى الحدّ الأدنى. إنّها لا تبقي أمام المستثمر حاجزاً، فتحوّله إلى جزءٍ من آلةٍ رأسمالية تزداد وحشيّتها. إنّها تطلق الحريّة إلى حدود العنف.

من هنا، لوحظ في مرحلة الثمانينات اتّجاهان، قد يبدوان متناقضين – وليسا كذلك في جوهرهما-: بروز التدخّلات العسكرية الأمريكية هنا وهناك، وفسح البابلتحويلات باتّجاه الديمقراطية – وتحرير الاقتصاد في الأساس- في عدّة أماكن، بخاصةٍ في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. ظلّت المنطقة العربية استثناءً استبداديّاً تفرضه حالة الطوارئ المتعلّقة بالنفط وإسرائيل.

في الاقتصاد العالمي، ازداد حجم ونذر الأقطاب الأخرى. حيث تعزّزت الوحدة الأوروبية من جهة، وظهر النموّ الاقتصادي الصيني نذيراً بعملاقٍ هائلٍ بعد عدّة سنوات من جهةٍ أخرى. وابتدأ الميل المتنامي إلى التكتّل وتشكيل المجموعات الاقتصادية الإقليمية القادرة على التنافس، أو على الدفاع عن مصالحها على الأقل. ترافق هذا الوضع مع تزايد الفتوحات التكنولوجية، وانفتاح العالم عبر فضاء الإنترنت والاتّصالات والإعلام الفضائي، وظهور التجارة الإلكترونية، والاقتصاد المتعلّق بالنظمالحاسوبية.

كلّ هذا، مع تزايد نسبة قطاع الخدمات في الاقتصاد، أعطى ملامح جديدة للتركيب الاقتصادي الاجتماعي، وزاد في أتمتة الإنتاج، وحوّل أجزاءً أكبر من العمل إلى حقل المعرفة.

وكان التحدّي الأكبر للسياق السياسي الذي تقوده الولايات المتحدة آنذاك، هو الاحتلال العراقي للكويت في عام 1990. وقد اعتبر الكثيرون مغامرة صدّام حسين تلك، محاولة للعب في الوقت الضائع، إثر انتهاء الحرب الباردة وفقدان توازن النظام العالمي في مرحلة تحمل سمات انتقالية. إلاّ أن قواعد اللعب لم تكن مختلّة إلى هذا الحدّ، واستطاعت إدارة جورج بوش الأب أن تحشد تحالفاً دولّياً وإقليمياً وتوافقاً سياسياً استطاع إنهاء الاحتلال، وتقديم مثالٍ قويٍّ على قدرة الولايات المتحدة العسكرية، وضرورة احترام هذه القدرة وإعطائها أفضلية في السباق الجاري، والذي سوف يحتدم فيما بعد، بين الأقطاب الاقتصادية العالمية. جاءت الأحداث السابقة – قبل وبعد انهيار جدار برلين- في زمن تحوّل الحدود السياسية للدولة – الأمة من الثبات إلى المرونة، بفعل ما أطلق عليه عوامل العولمة.

3-3-3- العولمة من أهمّ الظواهر التي برزت في أواخر القرن العشرين، وتعبّر عن طورٍ جديد دخلته الرأسمالية العالمية مع القفزة التكنولوجية الهائلة التي شهدتها قوى الإنتاج في العالم المتقدّم بالاعتماد على المكتشفات العلمية وثورة المعلومات والاتّصالات.

ومفهوم العولمة ربّما كان الأكثر تداولاً في تسعينات القرن السابق، وهو ما زال ملتبساً في بعض جوانبه إلى الآن. إلاّ أننا نستطيع قبول تعاريفه الأكثر موضوعية و”حياداً”، ومنها أن العولمة هي عمليّة معقّدة عديدة الأبعاد، تزيل الحدود الدولية وخصوصية المكان الجغرافي، من جهة، وتزيد الترابط المتبادل والتماسك العالمي كوحدة واحدة، من جهة أخرى. أو بطريقة أخرى: إنها  تناقص أهميّة الانتماء القومي تدريجيّاً. الأمر الذي يوجّه الأنظار إلى نمطين منها، أحدهما يتعلّق بالاستهلاك، حيث يستهلك المرء في بلدٍ ما، مُنتجاً ما، بغضّ النظر عن مكان إنتاجه ولغته وثقافته وتقاربه ودرجة العلاقات التجارية معه. والثاني يتعلّق بالتحكّم بالملكية والإنتاج، الذي يغدو مستقلاًّ عن الدولة التي يقوم المشروع على أرضها. من ناحية أخرى للنظر، ربّما كان “المضمون الرئيسي للعولمة كما نعرفها اليوم هو أنّ المجتمعات البشرية التي كانت تعيش كل واحدة في تاريخيتها الخاصة، وحسب تراثها الخاص ووتيرة تطورها ونموها المستقلة نسبيّا، على الرغم من ارتباطها بالتاريخ العالمي، قد أصبحت تعيش في تاريخية واحدة وليس في تاريخ واحد. فهي تشارك في نمط إنتاج واحد يتحقق على مستوى الكرة الأرضية، وهي تتلقّى التأثيرات المادية والمعنوية ذاتها”. وبمثل هذا المضمون، تكون العولمة فعلاً تاريخياً، إضافة إلى كونها فعلاً في الجغرافيا البشرية الحديثة.

ولكن المفهوم ذاته قد يدلّ على عدّة أشياءٍ، كلٍّ على حدة. فقد يجري التعامل معه من خلال بيئة الكوكب التي أصبح تخريبها أو الحفاظ عليها وترميمها شأناً إنسانيّاً يزداد إلحاحاً من عامٍ إلى عام. أو من خلال كونه تعبيراً عن إعادة تقسيم العالم بطريقة جديدة وواحدات جديدة، تتآكل معها الخصوصية الثقافية لمصلحة ثقافة الغرب، من طريق نشر اقتصاد السوق وفق مفاهيمه مع الديمقراطية المرتبطة به. أو، ربّما، “رسملة” الجنوب على نسق الشمال وحسب مصالحه. أو من خلال تطوّر الاتّصالات وانتشار المعلومات، حيث تنفتح الحدود أمام التجارة والعلم والمعرفة والانتقال والصحة والعمل والتضامن والعدالة ومراصد الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن كذلك أمام حركة الجريمة والمخدّرات والتمييز، وأمام ازدياد العجز تجاه الفقر والمرض والاستغلال. فهل هي بركة على الإنسان أم لعنة؟! هل هي تهديد له أم فرصة سانحة؟!

3-3-4- ولعلّ المسألة الأكثر أهميّةً في الموقف من العولمة، هو السؤال: هل يمكن مقاومتها بشكل ينفيها ويوقف تقدّمها، أم لابدّ من التعامل معها كحقيقةٍ واقعية وموضوعية تتقدّم بثبات وتدرج غير قابلة للإيقاف أو عكس الاتّجاه، وبالتالي العمل على تحسين شروطها وتعزيز جوانبها الإيجابية؟

إن حركة مناهضة العولمة، التي تزداد انتشاراً في العالم، وتزداد وحدتها، هي الأكثر حرصاً على الجوانب الإنسانية في العولمة، واستفادةً منها. وقوى الليبرالية الجديدة، التي يزداد ترابطها  –المباشر أو غير المباشر- مع قوى المحافظة والرجعية المنفلتة من أيّ عقال، والإمبريالية الجديدة، هي الأكثر مقاومةً لهذه الجوانب.

القوى الأخيرة هذه، تتحمّل جزءاً أساسيّاً من مسؤوليّة التوتّر العالمي في أواخر القرن، وحتى الآن، بمحطّاته وكوارثه الأساسية: الحادي عشر من أيلول، وحربا أفغانستان والعراق.

ففي الفترة الفاصلة ما بين القرنين، سوف تبقى أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، علامة فارقة في سيرورة الوضع الدولي. ذلك أن حدوثها على الأرض الأمريكية، بل في قلبها، واستهدافها الرمزي والعمليّ لهدفين هامّين في الاقتصاد والقوّة العسكرية، مع إبرازها لإمكانيّات النيل من القوّة الأمريكيّة من دون وجود تهديد على طريقة وحجم الاتّحاد السوفييتي بعد انهياره، وتسخينها لصراع الأقطاب على العالم، وللحروب على أرض جنوب العالم.. كلّ هذا يجعلها علامة فارقةً في السياسة الدوليّة.

هذه الأحداث لم تصب العالم أغلبه- بالأسى والدهشة ومشاعر الاستنكار وحدها، بل لاقت هوى في الإدارة الأمريكيّة، لم تكن تخفيه قبل وقوعها، في ميل اليمين الأمريكي والمحافظين الجدد إلى التمدّد خارج الحدود، واستثمار القوّة لتحقيق النقاط في السباق العالمي على الصدارة، وعلى تعزيز الهيمنة والحفاظ عليها. وليس ممكناًمثل هذا، إلاّ على أرض العالم الثالث. هنا تبدو الصورة الأمريكية الليبرالية الجديدة للعولمة، هيمنةً وإمبريالية بشكلٍ معاصر.

وعلى الجهة الأخرى القليلة الثروة والحرية والتقدّم، هنالك مشاعر قائمة على أرض صلبة من الإحساس بالظلم و التهميش، وبالدور الأمريكي المتميّز في هذه الحالة. وهنالك تاريخ حديث مشبع بالتناقض مع الاستبداد والإمبريالية، ومحجوبة عنه السياسة والمعرفة، ومفتوح على العنف المضادّ والثورة على العجز المستدام. هنالك أرضتنبت التطرّف والاستعداد للموت بكلّ سهولة ويسر. هذا الوليد، أنجبته الرغبة الأمريكية ذاتها، حين كان خطره موجّهاً نحو الاتّحاد السوفييتي، فحمل الإيديولوجياالأمريكية اليمينية ذاتها حين شبّ على الطوق، وفسّر العالم مثلها على أنه فسطاطان للخير والشرّ، ولا توسّط بينهما. وفي مثل هذا العقل، على الطرفين، ينعدم الأمل في عالم أفضل وأرحب للبشريّة جمعاء.

3-3-5- حرب الخليج الثانية، كانت المناورة السابقة الأولى لهذا التوجّه، وتوقّفت عند الحدود آنذاك لأنّها لم تكن مكتملة العوامل تماماً، في العالم وفي الولايات المتحدة. بعد الحادي عشر من أيلول ابتدأ فعل من نوع آخر، خيضت أولى تجاربه في أفغانستان، حيث المواقع الخلفية المباشرة للعدوّ المعلن المباشر. وكانت حرباً للأسد على القطّ البري، استخدمت فيها الولايات المتّحدة – واستعرضت – كامل القوة والتكنولوجيا، وهيّأت العالم لحربٍ أكبر، أو لحروب أخرى قادمة، ما لم ينتظم في سياق ملائم واحد.

حرب الخليج الثانية تلك، كانت بحاجة إلى استكمالٍ، فجاء أوانها بعد استبداد المحافظين الجدد من وراء جورج بوش الابن، وبعد الحادي عشر من أيلول. فقد أصبحت الحرب على الإرهاب معلنةً ومفتوحة ومشروعة إلى هذا الحدّ أو ذاك، من دون تحديد نهائي للإرهاب ذاته، الذي تمارس الولايات المتّحدة في العالم وفي المنطقة العربية أحد أسوأ أشكاله، من طريقها أو طريق إسرائيل. ومع هيمنة فكرة الحرب هذه، وعلى العراق تحديدأ، ظهرت فكرة مشتقّة منها، تتعلّق بأسلحة الدمار الشامل التي يمكن أن تتسرّب إلى أيدي أفراد ومجموعات تستطيع بوساطتها تهديد العالم الغربي، أو العالم كلّه. وهذا كلّه، حتى لو كان صحيحاً جزئيّاً، ما هو إلاّ الذريعة والحجّة لتمرير السياسة الأمريكية، بوجهها اليميني الأشدّ تطرّفاً وعنفاً.

فإضافةً إلى الميل لتأكيد المطالبة بحصّة القوة من الاقتصاد-العالم، أرادت الولايات المتحدة تطوير تحكّمها بنفطه ومواقعه الاستراتيجية، ومن دون وكيل بعد الآن. أرادت أيضاً تعميم الليبرالية الجديدة وتوسيع نطاقها، وأسمت ذلك برنامجاً لتحويل الشرق الأوسط إلى واحةٍ للديمقراطية. وفي ذلك استثمار أقصى لحاجة المنطقة العربية إلى الحداثة والديمقراطية، وتعطش شعوبها إلى القطع مع الاستبداد الذي أوصلها إلى حافة اليأس وفقدان الأمل، والذي طالما رأت فيه الولايات المتحدة وإسرائيل أفضل ضمان للاستقرار والمصالح المستقرّة. هنا تنقلب الأمور كما انقلبت مع “طالبان”، و تدشّن مرحلة عالمية جديدة.

وبالأساس، لم يكن أغلب علماء الاجتماع السياسي والاقتصاد الدولي يتوقّعون بقاء العالم ذا قطبٍ وحيد على الصورة التي أخذ يبدو عليها بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي. وهم حتى الآن لا يتوقّعون ذلك. فالولايات المتّحدة نفسها لا يمكن أن تنسجم مع هذا السياق إلى النهاية، بخاصّة مع ازدياد بشاعة التطرّف اليميني وحماقته، وخلقه للمشاكل الثنائية التأثير سلباً وإيجاباً. والتوجّه الليبرالي، مع الضرورات الاقتصادية الداخلية، يُمكن أن يفرز تحوّلات مختلفة، حتى ولو لم تنعطف بالاتّجاه إلى سياسةٍ أخرى انعطافاً كاملاً. كما أن تطوّر الاقتصاد-العالم، وتقدّم الاتّحاد الأوروبي والصين إلى أمام مع غيرها من مراكز جديدة، سوف يفرض نوعاً من إعادة الحسابات، وإعادة الاستقرار للعالم. فالاستقطاب الأحادي ليس سياقاً طبيعياً، بل التعدّد والتنظيم والقوننة.. ذلك ما لم يسبق الخراب والفوضى مثل هذا التطوّر.


 

-4-

أدوات تفكير جديدة ومفتوحة

4-1- حول الفكر:

كما يتقدّم العالم، ويستمرّ التاريخ، وتظهر في كلّ عصر وزمن تحوّلات اجتماعية اقتصادية، واجتماعية سياسية جديدة، وفتوحات مدهشة في ميدان سيطرة الإنسان على الطبيعة من خلال العلم والمعرفة، كذلك يتحوّل الفكر وأدوات المعرفة، في سيرورة مستمرّة يحاول الفكر فيها لا أن يعي التطوّر الواقع وحسب، بل أن يسبقه ويستشرف آفاقه. في هذا المسار الإنساني الذي يزداد انفتاحاّ وتعقيدأ وتسارعاً، لابدّ من تطوير أدوات الفكر القديمة التي أثبتت شبابها، والتخلّي عن تلك التي شاخت وتشيخ ويتجاوزها الزمن، وتسبقها الوقائع المعاصرة. وهذا يتطلّب، أكثر من أيّ وقت مضى، تحرير الفكر من القيود، وتجنّب فخّ الإيديولوجيا من حيث هي تركيبوتلفيق هادف ومغلق، من دون التناقض مع كون الإنسان حاملاً بالطبع لإيديولوجيا، حين النظر إليه في حقل السياسة. مثل هذا، لا يمكن تحقّقه إلاّ بالتأسيس على منطلق جامع مانع، هو فتح باب الاجتهاد والتفكير مشرعاً على الأفق الرحب الخصب في هواء الحريّة.

الماركسية إحدى أكثر أدوات الفكر تأثيراً وفعلاً خلال قرن ونصف من عمر البشرية، وهي مرجعية التفكير والقياس في حزبنا طوال عمره الماضي.. الذي سادت فيه النسخة السوفييتية، والسياسة السوفييتية. إن التعامل مع الماركسية كعقيدة وطقس، من الأسباب التي أقعدت الحزب عن التطوّر وأوقعته في انقسامات وانشقاقات متتالية. ولم يكن هذا ليحدث لو كانت العلاقة مع السياسة بذاتها صحيحة، والعلاقة مع الاتّحاد السوفييتي حرّة ومتكافئة ومستقلّة.

وليس خافياً أن الماركسية تعيش منذ أوائل القرن الماضي أزمة آلت إلى انقسام ما بين الاشتراكيين الديموقراطيين في الغرب والشيوعيين أولاّ، وما بين المجتهدين في الماركسية وتلك النسخة الستالينية منها. ثمّ منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية عاشت أيضاً أزمة عميقة، استمرت مكوناتها تتفاقم سنة بعد أخرى. ولقد تجلت هذه الأزمة في واقع “نظم الاشتراكية” التي قامت وانهارت وفي واقع “الحركة الشيوعية العالمية”.

وعند البحث في أسباب هذه الأزمة تصح الإشارة منذ البداية إلى جملة هامة من المسائل:

* القصور والعجز البالغان اللذان وسما فكر وممارسة معظم الأحزاب الشيوعية والعمالية، وجعلاها عاجزة عن الإسهام في تطوير أدوات الفكر القديمة التي شاخت، وأدوات التحليل، بما يتناغم مع التطورات التي حفل بها القرن العشرون في مختلف مجالات الحياة والعلوم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية، والتي دللت على أن جوانب مهمة من هذه “النظرية”، والعديد من المقولات والمفاهيم التي تعتمدها، لم تعد تنسجم مع معطيات وظروف وخصائص العصر الحديث.. ولم تعد صالحة للتعامل مع هذا الواقع الجديد.

* الجمود الفكري الذي وسم قيادات هذه الأحزاب، أو معظمها في أقل تقدير، والانغلاق النظري الذي فرضته على العاملين في مجال الثقافة والفكر، ونظرة الاستعلاء إزاء النظريات الأخرى وإزاء نتاج الثقافة والفكر، الكلاسيكي منه والحديث، والادعاء بامتلاك الحقيقة، كل الحقيقة. كل هذا أسهم في خلق أجواء غير صحية أوصدت الأبواب في وجه كل المحاولات الجادة في التصحيح والتجديد.. وحالت دون التطور المطلوب.

* بروز تناقضات، لم تكن معروفة أو صارخة من قبل، أخفت الجوانب الاجتهادية لدى ماركس، المفتوحة ما بين ماركس في كتاباته المبكّرة أو المتأخّرة، وما بين اعتبار فكره مكتملاّ كاملاً. ثمّ ما بين البنية الفلسفية الإنسانية للماركسية – كما أسماها المعجبون به- وبين البنية السياسية– الاجتماعية للينينية كما أسماها ستالين نفسه- في الحياة العملية. هذه التناقضات التي تنامت بعد تسلم العديد من الأحزاب الشيوعية السلطة وممارستها الحكم في بلدانها. وإذا كانت مثل هذه التناقضات موجودة أساساً في الصياغات اللينينية لأساليب الحكم والموقف من الدولة، فإنها أصبحت أكثر حدة وافتراقاً عن روح الماركسية في الصياغات التي انحدرت إليها اللينينية لدىالستالينية في نهجها في الحكم والهيمنة، وفي ممارسات الغالبية العظمى من قادة الأحزاب الشيوعية وهم في السلطة أو على رأس أحزابهم. ويمكن للباحث والمتتبع أن يضع يده منذ البداية على مسائل كثيرة جداً، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر: الديمقراطية والحق والقانون والدولة والعدالة والحرية وحقوق الإنسان ..

* روسنة الماركسية من قبل “العلماء والمفكرين والسياسيين” الروس، واحتكار”ملكيتها” و “تفسيرها” والتحدث المطلق باسمها، وتصديرها بعد ذلك إلى بقية بلدان العالم وفرضها، من ثم، على الأحزاب الشيوعية والعمالية.. واتهام المختلفين معها والمنتقدين لها بالتحريفية والارتداد والرجعية وما إلى ذلك من الأوصاف والنعوت التي حملها هذا القاموس البغيض.

* فرض مفهوم للأممية قضى باعتبار حماية (بلد الاشتراكية الأول) والامتثال لسياساته وتوجيهاته، جوهر أو مهمة التضامن الأممي الأساسية، وعمل على تأسيس (مركز) ولّد جملة من السلبيات التي عكست فهماً وممارسة مشوهين لمبدأ وعلاقات التضامن الأممي، ألحقا أضراراً فادحة في العملية الثورية العالمية بأسرها. كما عمل هذا المفهوم على خلق تناقض حاد بين (الأممية) و (القومية) دون أن يراعي أو يأخذ بعين الاعتبار المضمون التاريخي والشروط التاريخية والواقع الملموس للمسألة القومية في هذا البلد أو ذاك؛ والتعميم الذي جرى لهذا التناقض المغلوط، والأخذ به من قبل أطراف الحركة الشيوعية العالمية وفي عدادها معظم أطراف الحركة الشيوعية العربية، آل إلى غربة الشيوعيين عن مجتمعاتهم حين لم تعد الاشتراكية تعني لهم سوى كونها استيراداً لنموذج نظري سياسي- اقتصادي واجتماعي، بدلاً من أن تكون سبيلاً إلى وعي يعيد تشكيل نفسه باستمرار، ومنهجاً في التفكير لإبداع حلول لتناقضات مجتمعاتهم ينتجونها في ضوء دراسة الواقع.

وبسبب غياب الرغبة والاستعداد للاعتراف بوجود هذه الأزمة والقدرة على معالجتها، وبسبب تفاقم فعل العوامل المدمرة فيها، تفجرت في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي بصورة دراماتيكية لم تنفع معها محاولات الإصلاح السوفياتية التي تمثلت بـ “البيريسترويكا” و “العلانية” و “التفكير السياسي الجديد” أو بدعواتالحزب الشيوعي السوفياتي التي وجهت إلى الأحزاب الشيوعية والعمالية من أجل التجديد والتحديث، إذ كانت هذه الدعوات وتلك المحاولات متأخرة عن وقتها المناسب أكثر من أربعة عقود من الزمن. وكان لفعلها نتائج تدميرية على الأحزاب الحاكمة والنظم المنبثقة عنها، وعلى الأحزاب الأخرى والأنظمة التي كانت، أو لا تزال، تهتدي بذلك “النموذج” على حد سواء.

لذلك، أصبح من الضروري مراجعة مفاهيم التقدّم والاشتراكية والشيوعية، باستخدام الأدوات الفكرية المناسبة من جهة، وتمثّل الواقع الجديد بما أفرزه من ظواهر قدلاتكون متوقّعة، أو من تطوّرات جديدة في العلم والمعرفة بجميع فروعها.

في الوقت ذاته، لا بدّ من البحث في جذور الفشل الكبير الذي أصاب التجربة الاشتراكية في القرن العشرين، ليس برمي المسؤولية على “التطبيق” أو “الممارسة”، رغم أهميّتهما الفائقة، بل بالعودة إلى الأساس النظريّ نفسه، ومعرفة نواقصه وثغراته، أو أخطائه وعثراته. إن التعامل مع هذا الأساس، كما هو بالأصل، على أنه جهد إنساني خلاق مبدع ومجتهد لا يدّعي الكمال بذاته، وأنه مشروطٌ إلى هذا الحدّ أو ذاك، بظرفه التاريخي.. قد يُخرجنا من شبكة “الاعتناق” إلى فضاء المعرفة، ومن ثمّ إلى ملكوت الحريّة.

في السابق، أدّى الجهل بماركس الشاب، صاحب الفكر الإنساني، المهموم بالفرد وعوالمه، وصاحب مفهوم الاستلاب أو الاغتراب، ثمّ الجهل بأفق “رأس المال” المفتوح، ومحدودية جهد الفرد مهما علا شأنه.. ثمّ التعامل مع الطبقة كمجموع لأفراد محدّدين، ومع الصراع الطبقي كحرب مقدّسة، و”الثورة” كمعطى نهائي لم يكن ماركس قد حسمه بالطريقة التي فعل بها لاحقوه، والديالكتيك المادي كقوانين مبسّطة ومختزلة حتى الهلهلة وصلت إلى ماديّة ميكانيكية ومبتذلة وشيئية، والتاريخ البشريّ كمراحل مغلقة على التنوّع وخطيّة.. أدّى هذا وغيره إلى إغلاق الفكر والتعامل الطقوسي معه، ممّا جمّده وأوقع به في عكس ما كان يهدف أصحابه ومؤسّسوه. كما أدّى إلى الانزلاق نحو البيروقراطية والشمولية والاستبداد من مدخل مفهوم “ديكتاتورية البروليتاريا”، ومن ثم “الديمقراطية الشعبية” وما إلى ذلك من مفاهيم. وهنا الطامة الكبرى.

الماركسية من أدوات الفكر التي أبدعها الإنسان، وهي إرث أيضاً للإنسان والعالم، وإحدى مرجعياتنا التي تكتسب قوّتها من انفتاحها الدائم على النقد والفكر النقدي. لذلك كانت، وستبقى، جزءاً رئيساً من مكوّنات نبع المعرفة والحياة، مع غيره من منجزات التراث الإنساني والقوميّ، سواء كان ذلك موجوداً بالأصل ولم تجر مراجعته والاستفادة منه، أو ظهر فيما بعد في مجرى المعرفة الذي يزداد اتّساعاً و هديراً يوماً إثر يوم.

4-2- التجربة:

الأحزاب الشيوعية والعمالية في البلدان العربية التي تأسس العديد منها وفق قرارات وتوصيات الكومنترن في سنوات العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي، استلهمت في تبنيها للماركسية الرؤية والتفسير اللينينيين أو الروسيين لها وبتعبير أدق القراءة الستالينية للينين وماركس. ويعود هذا إلى أن تلك الأحزاب قد تأسست في فترة صعود وترسخ مواقع ستالين في الحزب والدولة السوفياتية وفي الحركة الشيوعية العالمية: الأممية الثالثة.. تلك الفترة التي اقترنت بتحويل بعض من كتابات الأولين إلى نصوص مقدسة، وبالتالي، إلى حشر الواقع حشراً في قوالب نظرية جاهزة. وبهذا المعنى أصبحت القراءة السوفياتية للماركسية، هي المعيار الوحيد ليس لمعاينتها وتفسيرها فحسب، بل وكذلك لمعاينة مدى تطابق الواقع مع ذلك التفسير وليس العكس! كما اتصفت هذه الفترة بتعميق النهج الستاليني في الهيمنة الفكرية والسياسية، وذلك بتصفية كل المخالفين في الرأي، سياسياً وجسدياً،داخل الحزب وفي أجهزة الدولة، بحجة العداء للحزب والدولة أو بحجة التحريفية والتصفوية وبحجج كثيرة أخرى. وأوصل كل هذا، مع مرور الزمن، إلى نشوء جو فكري وسياسي ونفسي ضاغط، شمل كل فصائل الحركة الشيوعية العالمية وأطرافاً واسعة من حركة اليسار في العالم، وعطل قدرة الباحثين على النقد والعطاء والاغناء، وعلى التطوير والتجديد والتحديث النظري. لقد أقيم حاجز نفسي وسياسي لدى الباحثين والمتعاملين مع “الماركسيةاللينينية” بالتحديد، منع هؤلاء من القراءة في التراث الكبير للإنسانية.. ومن الجرأة على تجديد أدوات التفكير التي شاخت وتحديثها. لقد تمّ حجب ومنع الإطّلاع أيضاً على التطوّر الكبير الذي حدث عند الماركسيين الأوروبيين، وخصوصاً في مدرسة فرانكفورت وجماعة الفكر النقدي.

وانتهجت الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية أساليب وأدوات عمل مماثلة لتحقيق المهمات التي كانت تصبو إليها؛ كما اعتمدت في صراعاتها السياسة أساليب التشهير وكيل النعوت والاتهام بالتحريفية والتصفوية وخيانة المبادىء في محاربة الخصوم السياسيين وأصحاب الرأي المخالف والعاملين على الاجتهاد داخل الحزب.ووصلت الأمور بأحدها (الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة) إلى حد استخدام القوة والعنف وزج الجيش والشرطة وأجهزة الأمن وأعضاء الحزب، في صراع للهيمنة على الحزب والسلطة.. وبهدف تصفية التيار الآخر وتأمين “وحدة الرأي والإرادة والعمل” في الحزب الواحد والدولة الواحدة!ومعروفة هي النتائج التي أسفر عنها هذا الصراع.

والأحزاب الشيوعية في الوطن العربي دأبت، في رسمها للأهداف القريبة والبعيدة، على الاعتماد على/والاستناد إلى خطابات ومقالات واستنتاجات “القادة السياسيين والعلماء والمفكرين” السوفييت باعتبارهم قادة وطليعة الحركة الشيوعية العالمية. وكان مجال الاجتهاد ضيقاً جداً ومعدوماً إلى حد كبير. ولم تكن اجتهادات هؤلاء “القادة والعلماء والمفكرين” تنطلق بالضرورة من الدراسة النظرية والعملية لواقع تلك البلدان التي كان التحليل يعنيها، بل من مصلحة الاتحاد السوفياتي التكتيكية كدولة كبرى. ونشير هنا بشكل ملموس إلى الإشكالات الكبرى التي أثارتها استنتاجات حول قضايا أساسية من نوع: الموقف من القومية، ومن مسألة الوحدة وقضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، ومن مفهوم الثورة القومية الديمقراطية والثورة الاشتراكية، ومرحلة الانتقال، والموقف من طريق التطور اللاحق وطريق “التطور اللارأسمالي” أو طريق “الديمقراطية الشعبية”.. الخ

وعندما كانت بعض الأحزاب الشيوعية والعمالية، أو بعض الشخصيات المفكرة في هذا الحزب أو ذاك، تتجرأ على طرح أفكار واجتهادات تدعو إلى التجديد، أو تتخذ مواقف متمايزة عن مواقف الحزب الشيوعي السوفياتي، من الناحيتين النظرية والسياسية، فإنها تكون عرضة لمقاومة عنيفة وحملة منظمة ومكثفة، ولاتهامات ظالمة، لمحاربة تلك الأحزاب والشخصيات ولتشويه مواقفها. وكان يجري، لهذا الغرض، تجميد كل الأحزاب الشيوعية والعمالية التي لا تقف على خط واحد مع الحزب الشيوعيالسوفياتي، بغض النظر عن مدى صواب أو خطأ تلك الآراء و الاجتهادات، وبعيداً عن الحق في الاجتهاد وامتلاك الرأي المستقل. ومعروف ما جرى للحزب الشيوعي السوري خلال الأزمة التي تعرض لها في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، وبعد الانشقاق الكبير والأهم في تاريخ هذا الحزب. ويمكن إيراد عشرات الأمثلة على ذلك.

4-3- الديمقراطية والتقدّم:

 سؤال يتكرّر منذ قرنين: لماذا تقدّم الغرب وتأخّرنا؟! وإذا تكرّر السؤال إلى هذا الحدّ يغدو صاحبه سائلاً، متسوّلا. الجواب دائماً كان من النوع المنفصم على ذاته، فإمّا أن العودة إلى الجذور وأصل الهويّة والعقيدة القديمة هي المدخل إلى التقدّم.. أو أن الأمر هو باطّراح كلّ شيء وتلبّس لبوس الغرب بشكله ومضمونه. بقية الآراء- أغلبها- كان توفيقاً وتلفيقاً بين الحدّين.

انصبّ النقاش على التصنيع والتربية وأسباب المعرفة والدولة القوية والأخلاق الحميدة وحبّ الوطن، وجافى الديمقراطية. في حين لم يكن بناء الدولة الأمة ممكناً إلاّ برافعة قويّة جبّارة لا يتآكلها الحتّ وعوامل التعرية، وأصبح متعارفاً عليه حاليّاً أنّ هذه الرافعة هي الديمقراطية.

الديمقراطية واحدة في مضمونها أو جوهرها، وإن اختلفت أشكال تطبيقها، وهي ليست تلك التي أضيفت إليها صفاتٍ أخرى، مثل “الديمقراطية الثورية” و”الديمقراطية الشعبية” أو أي اختراع آخر من نوع “الجماهيرية”. ربّما كانت تلك الإضافات في منطلقها نابعة من الرغبة والحلم باستنباط أشكالٍ أكثر ديمقراطية من الديمقراطية إذا صحّ مثل هذا التعبير، باسم الطبقة أو الشعب أو الجماهير، ولكنها غدت فيما بعد وسيلةً لممارسة الاستبداد، أو التسلّط.

الديمقراطية واحدة، وهي تلك التي جسدتها الثورات البرجوازية في القرنين الثامن والتاسع عشر، في سياق قادت فيه جميع الطبقات ذات المصلحة. والقوى الأكثر ديمقراطية “برجوازية” في الصراعات اللاحقة للثورة، كانت من اليساريين المعبّرين عن الفئات الشعبية والطليعية، أولئك الذين تمسّكوا بالمساواة في الشعار، ولكنهم لم يطرحوا الحرية جانباً، بل احتفظوا بها في المقدمة.

الديمقراطية بدورها لا ترفض الليبرالية، ولكنها تربطها بالحقوق الجمعية للشعب، عكس الاتجاه الذي يحاول به الليبراليون أن يتملّصوا من الواجبات العامة. هذه الديمقراطية هي أسمى منجزات العصر الحديث، التي أقلعت بها البرجوازية والرأسمالية والغرب، حتى ولو لم يحب الإقرار بذلك أولئك المتحفظون والمحافظون والمترددون في كلّ مكان ما عدا الغرب نفسه. هذه الديمقراطية التي خذلها الاشتراكيون والقوميّون و الماضويّون (والليبراليّون أنفسهم أحياناً) سابقاً، وتخلّوا عنها في حركتهم العالمية، يتوجب دفع ضرائبها المختلفة الآن، التي منها اللهاث والتعرّق للحاق بالسياق العالمي.

الديمقراطية كفيلة بنفسها، بعيوبها، والتربية الديمقراطية غير ممكنة إلاّ من خلال ممارسة ديمقراطية. أسئلة الهويّة والتراث والأصالة جميعها يمكن أن تُبدع في سياق الديمقراطية. وحاجات بناء الدولة-الأمة مع التكيّف مع زمن العولمة، والدفاع عن النفس أمام استغلال الغرب مع تمثّل معارفه والتضامن الإنسانيّ معه، جميعها تصبح ممكنةً بالديمقراطية، وهي مستعصية من دونها.

للتأخّر جدل ومفاعيل مستمرّة، وهو مسؤوليّة ذاتيّة لا تنفيها مسؤولية غيرنا. التقاعس عن حسم الخيارات، ورمي الحمل على الغير، غطاء للعجز عن الفعل المعرفي والسياسي، واستسهال للشفويّ عن الاجتهاد الدؤوب. حتى مقاومة الإمبريالية وظلم الغرب غير ممكنة أو مجدية من دون معرفة الذات ومسؤوليّتها.

الهوّة تزداد اتّساعاً، والزمن يزداد سرعةً وعنفاً. ولابدّ من المرور عبر مدخل العقلانية لتجاوزها.

العقلانية تفترض أن مصدر المعرفة الأساسي في العقل. وهذا ليس غريباً عن تاريخنا الفكري. ومن الضروري إعادة اكتشافه، بالنقد والمعارضة والتمثّل، معاً. في فكر عصر الأنوار، العقلانية عارضت التجريبية، وحديثاً عارضت الوضعانية. العقلانية والتجريبية خطّان متكاملان “يخدمان العقل ونقد العقل”، وتكاملهما طريق إلى المفاهيم.وعلى الوجه ذاته، العقلانية تتعارض مع التخطيطية، وتفترق عن “الخصوصية” و”الهوية” كما غالباً يتمّ طرحهما.

وللعقلانية معارضات عدّة في الشعور والفكر والمنطق والخيال، وهذا لا يعني نفي واستبعاد هذه، بل يدفع إلى جلاء الأمور، وخدمة الحقيقة.

ظهرت العقلانية الدينية في أوروبا عالية الصوت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لأن استكمال الإصلاح الديني وتصفية عوالقه كان ضرورةً مهمة للحداثة والتحديث، وربّما لم يكن النجاح الذي تحقّق لو لم يكن قد ابتدأ من بين بعض رجال الدين أنفسهم.

الأكثر أهميّة هو ما يمكن أن يرتبط بالعقلانية من مبادئ هامة ولازمة: هي أولاً كون الاختلاف والتباين والتفارق والتناقض أموراً مرافقة للوجود والحياة وحقيقة الأشياء، ولا ينفي هذا تشابهها، ووظيفة الفكر فكّ هذا التشابه وبيان ذلك التباين. وهي ثانياً أن لا تغيّر من دون الاختلاف والتباين. وثالثاً أن لا تقدّم ولا ارتقاء ولا تاريخ من دون تفاوت وتناقض.

وفي الأخيرة، تنبغي الإشارة إلى “المساواتية” الفظة في شيوعية الدولة أو اشتراكية الدولة، وإلى علاقتها بمفهوم القطيع والقبيلة البدائية والاستبداد الشرقي.وربّما كان في جذور ذلك الموقف، ما حدث من تجاوز ونفي عنيفٍ لمفهوم الملكية، الذي هو جزء مكوّن رئيس من مفهوم الحق.

أخيراً، مسألة المنطق أساسية هنا، والمنطق الجدلي آخر وأظهر أشكاله حتى الآن. الثنائيات الساكنة (المادية في مواجهة المثالية مثلاً) استطاعت تجميد الفعالية الفلسفية طويلاً، لا في حركة التقدّم العالمي وحسب، بل أيضاً في منطقتنا، في النخبة السياسية والثقافية. الجدل وحده كان قادراً وما زال- على جعل هذه الثنائيات حيةً أو مصدراً للحياة: جدل الواقع والممكن، المجرّد والمحسوس، المطلق والنسبي، التراث والحداثة، القومي والإنساني. في حين أدّى المنطق الميكانيكي إلى ثورّية مبتذلة، وإلى تقدّم ملتبس، وإلى نسبيّ تحوّل مطلقاً، وإلى تاريخ مختزل في خط بسيط متصاعد.

حدث مثل هذا أيضاً مع مفهوم العلمانية. حيث وقعت هذه في التباس عند أهلها مع الاستبداد، وعند الآخرين في التباس مع الإلحاد. فقد سادت طويلاً أنظمة تقمعالإيديولوجيا الدينية الشعبية باسم التقدّم- العلمانية، حتى اختلطت العلمانية لدى الناس بالاستبداد. فظهر نوع من “التكفير” العلمانيّ يّخرج المؤمن من الجماعة، وظهر في المقابل من يساوي ما بين العلمانية والإلحاد، ويكفّر من يقول بها. مع مفهوم العلمانيّة أيضاً، كما مع مفاهيم الثورة والطبقة والأمة وغيرها، ظهر نوع من الصنميةوالتكريس سهّل للاستبداد وصعّب مسار التقدّم.

“السلطة الزمنية” مفهوم سارٍ ومعروف في تاريخنا العربي الإسلامي، وآليّات تنظيم الدولة الحديثة لا يوجد ما يُناقضها.

وفي حين لا يصعب على من يملك مثل تراثنا تفهم العلمانية، فإنه لم يعد صعباً بعد التجارب السابقة، بمرارتها ومكتسباتها، أن تُرجع العلمانية إلى حقلها، وترتبط بالديمقراطية والعقلانية برباط لازم، يكفي لحفظ الحقوق في حرية التفكير والاعتقاد والممارسة، واحترام “الهويّة” و”التراث” والثقافة، بل الاشتقاق منها ضمن روح التجديد. في التاريخ والفكر الإسلاميّين زادٌ كبير وغنيّ، كان أساساً لحضارة كبرى في السابق، ويمكن أن يكون كذلك الآن، ما إن يتمّ الالتزام بالانفتاح والمعاصرة وفتح باب الاجتهاد والمراجعة النقدية ولزوم المصلحة العامة، التي هي من أهمّ مفاتيح أبواب التقدّم.

لقد تجاوز الزمن فكرة الانطلاق إلى التقدّم من العلمانيّة مجرّدةً من الديمقراطية، وتوصّلنا إلى إدراك كون الديمقراطية شرطاً سابقاً ومولّداً لمفاهيم التقدّم الأخرى وتطبيقها الأسلم. حقوق الإنسان وحكم القانون هما ما يُمكن أن يؤسّس لتطوير الديمقراطية، ولإخراج المفاهيم الأخرى من السجال العقيم المؤذي، إلى الحوار وتغليب المصلحة الوطنية والإنسانية.

حقوق الإنسان تتأسس على حقوق الفرد وتتسّع إلى حقوق الجماعة. الجيل الأوّل من حقوق الإنسان، بمساره ما بين الثورتين الأمريكية والفرنسية حتى صدور الإعلان العالمي في 10-12-1948، هو الأصل الذي لا ينبغي العبث به. ولن يتناقض هذا مع التطوير باتّجاه الجيل الثاني الذي يشرّع الحقوق ذات المضمون الاجتماعي، التي تجعل العالم أكثر إنسانية، وانسجاماً مع المثل والقيم التقدّمية بالفعل.

على هذا المنوال، يكون حكم القانون أيضاً أرضاً للتقدّم، وثابتاً من ثوابت البناء الديموقراطي. الدستور بضمانته لحقّ الأغلبية والأقليّة وتأسيسه للدولة وعلاقتها مع الفرد والمجتمع، والقوانين الحديثة المستفيدة من تطوّر عدالة العالم، واستقلال القضاء، جميعها لوازم لم يعد ممكناً تجاوزها باسم أيّ مرجعية أو شرعية.

هذا شرط ضروري لقيام الدولة الوطنية الحديثة، ولتطوّر المجتمع المدني، في الوقت نفسه. فالدولة الوطنية الحديثة لا تشتقّ وطنيّتها من الأرض والسيادة والكرامة فحسب، بل أيضاً، على الدرجة ذاتها ونحو الأمام، من المواطنة وسيادة القانون وضمان الحريّة والمساواة. الدولة الوطنية الحديثة، يتقدّم مضمونها الجامع للناس بما هي تعبير عن العقد الاجتماعي الذي التزموا به، والمانع لتجاوزه، سواء من الأفراد والجماعات، أو من السلطة المنتخبة العابرة في مسار التداول الديموقراطي على الحكم.

في حين يعبّر المجتمع المدني الدائم التطوّر عن علاقة المجتمع وفعله في سيرورة التقدّم، باتّجاه المزيد من الأنسنة وتحقيق العدالة الاجتماعية، تتقدّم منزلة المجتمع المدنيّ في العالم الحديث، ليأخذ عن الدولة من أعبائها، فتركّز على الجوهري وتزول عوامل تغوّلها مع التقدم. نحن لدينا مهمّة بناء الدولة الوطنية الحديثة وهي دولة قويّة بالضرورة- والمجتمع المدنيّ معاً، وهذه ضريبة التأخر عن الزمن الحضاري العالمي، التي لابدّ أن نواجهها. فالتأخّر يتضمّن هيمنة الأشكال السابقة القديمة من العشائرية والطائفية والتعصّب والاستبداد، والتقدّم ينفي ذلك من طريق الديمقراطية وحكم القانون والدولة الوطنية الحديثة والمجتمع المدني.

إعادة المجتمع والأفراد إلى سياق تطوّر وتطوير المشاركة السياسية، مصدر للفعالية لا ينضب على هذا الطريق الطويل. الاهتمام بالشأن العام والممارسة السياسية تعبير عن إرادة التقدّم، مسؤولية الدولة ضمان حريته وتشجيعها، ومسؤولية النخب السياسية الثقافية توليدها وتنظيمها وتجديدها دائماً.

4-4- الديمقراطية والاشتراكية:

كانت الاشتراكية دائماً حلماً للبشرية، وستبقى كذلك. ولن يكون فشل التجارب الاشتراكية، في الفكر والممارسة، في السياسة والتطبيق الاجتماعي، سبباً لدفن هذا الحلم، حتى ولو عانى من نكسات وتراجعات كبيرة في أماكن عدّة. الاشتراكية شكل لتنظيم المجتمع، لا يهمش أحداً ولا يظلمه، ويضمن المساواة من غير تفريط بالفرد وحريّته. هي شكل يجعل الإنتاج الإنساني من طريق العمل والمعرفة في خدمة المجتمع. إنّها الديمقراطية حين تتطوّر ويتعاظم المضمون الاجتماعي لها. لذلك طالما ارتبطت بمفهوم الديمقراطية-الاشتراكية، أو الديمقراطية-الاجتماعية، في ترجمة أخرى للمفهوم ذاته.

وأصبح من الضروري الآن مراجعة تجربة الاشتراكية في القرن العشرين، وإعادتها من حيث بدأت بشكل صحيح. هذه هي دورة التقدّم التي تكلّم عنها الاشتراكيّون العظام، لا خطّه الميكانيكي الحتمي المشوّه، أو الفاشل على الأقل.

وإذا كانت حرارة الكفاح ومرارة السياسة قد اقتضت سابقاً، الهجوم على مفهوم الاشتراكية الديمقراطية في الربع الأول من القرن السابق وبعد ذلك، فإن ما حدث من تجارب يقتضي الهدوء والعودة للينابيع أحياناً، مع وعي النهر الكبير الذي تشكّل من تلك الينابيع حتى الآن، ودرس حركته وتطوّراته ومفاهيمه الجديدة. لقد ارتبطت الاشتراكية بالديمقراطية منذ بداية الحركة الكفاحية للطبقة العاملة، ثمّ انقسمت إلى اليسار واليمين، أو إلى الشمال والجنوب. وهي مفهوم كوني بالأصل، ينبغي العمل على استعادته واستيعابه في الظروف الجديدة، من دون تعصّب ولا قبْليّة، بل انطلاقاً من القيم الاشتراكية ذاتها، حديثةً ومجدّدةً وقابلةً للمراجعة دائماً.

الديمقراطية حقل ينبغي ألاّ يخرج منه الاشتراكيّون بعد الآن.


-5-

حول مفهوم الحزب

 

5-1- أدى احتكار السلطة لعقود طويلة من الزمن إلى احتكار السياسة، ثم إلى إلغائها من المجتمع. أدى هذا الاحتكار أيضاً إلى تعميم القمع الذي أرهب الناس ودفع بهم إلى حدود الصمت السلبي. وطرحت السلطة “أقوال” رموزها ورجالاتها بديلاً عن السياسة. وأبعدت المسألة الوطنية عن حقلها الداخلي الرئيس وحصرتها في علاقتها بالتحديات الخارجية التي تستهدفها. وجعلت منها، ومن الهموم القومية التي ادّعتها، ذريعة لنزع السياسة من المجتمع، وإفراغها، بالتالي، من وظيفتها ومن مضمونها الأهم الذي يعني أول ما يعني تداول السلطة وإخضاعها لرقابة الشعب وتغييرها عبر إرادته. باختصار، عملت السلطة ضمن نهج ثابت على استثمار تحديات الخارج وتوظيفها في سبيل تأبيد استبدادها بالداخل.

عبر هذا المسار تغير مفهوم الحزب في وطننا، وأصبح يعني تماماً “الحزب الحاكم”. والملايين من الأجيال الجديدة التي ولدت، ونشأت تحت إشراف “الحزب”، وهيمنة ثقافته الأحادية تعرفت على أن الحزب بنية تنظيمية شمولية شبه إجبارية تسيطر على السلطة والثقافة والوظيفة والمستقبل. لهذا، انتسب “للحزب” عشرات الآلاف من الشباب، إما خوفاً من السلطة ودرءاً لأذى أجهزتها التي غطت كل مفاصل الحياة، أو بحثاً عن مكاسبها في مجالات الوظيفة والعمل والمنح، أو طمعاًبامتيازاتها التي ليس لها حدود. هذا كله أحاط مفهوم الحزب بالشك والريبة والمشاعر السلبية، وانحدر بـ “الحزبية” إلى اعتبارها شكلاً من أشكال الممالأة والزيف والانتهازية.

من الثابت عبر التاريخ الحديث أن مقومات نشوء الأحزاب تنهار عندما ينهض حجاب يحول بين الناس والسياسة. يؤدي ذلك، بالضرورة، إلى تقليص حجم الأحزاب القائمة، والى محاصرتها في مجالات ضيقة بحيث لا تكاد تحافظ على وجودها الفعلي إلا في أضيق الحدود.

لقد آن الأوان لإعادة بلورة “مفهوم الحزب” من جديد، على أساس الخبرة المتراكمة والعمل السياسي، انطلاقاً من فلسفة سياسية واضحة في خطوطها الكبرى العامة والخاصة. آن الأوان أيضاً كي يتجسد الحزب المتجدد في الواقع العملي.

أخذ الحزب يعني، منذ ظهوره الحديث، مجموعة منظمة من الناس تسعى، في اتحاد طوعي، إلى تغيير السلطة السياسية، أو تدعيمها، في حين كان المفهوم يعني لدينا، نحن العرب، أنصار شخص، أو تيار قبلي تكوّن منذ مئات السنين. وفي تاريخنا احتكر قادة القبائل والطوائف العمل السياسي إما بالوراثة، أو عبر ظروف طارئة، أو شخصيات نافذة تمتلك مصادر القوة العسكرية في المقام الأول.

لقد استمر معنى الحزب على هذا النحو، بصورة أو بأخرى، حتى القرن التاسع عشر حين ظهرت الأحزاب السياسية في أوروبا وأمريكا بالمعنى الحديث. لكن المفهوم القديم، استمر في تأثيراته ووجوده إلى ما بعد قيام الأنظمة البرلمانية، وأخذ يضعف ويختفي مع تعميق دور المؤسسات وتكريس وجودها على أساس القانون والسيادة.

5-2- لقد أصبح الارتباط بين التقدم والديمقراطية أكثر إقناعا وقبولاً من ذي قبل بما لا يقاس. ولذلك بات لزاماً التأكيد على مفهوم الحزب الديمقراطي بشكل صريح وواضح، كبديل لـ “الحزب الثوري”، أو “الطليعي”، أو “القائد”. ولكن صفة الديمقراطية تقتضي أولاً أن نربطها بشروط شكل الحزب، ومبادئه، وبرامجه، وطرائقه في العمل.

فالحزب الديمقراطي، بدايةً، حزب يسلم بضرورة الديمقراطية كخيار نهائي أولاً، ويسلم بأن الديمقراطية هدف نسعى إليه ونناضل من أجله في ظل الاستبداد والتسلط لكي نحرر المجتمع من شمولية حكم الحزب الواحد، وبعد الانتقال إلى الديمقراطية يصبح من مهمات الحزب الديمقراطي العمل الدائم لتعزيز ممارسة الديمقراطية، وتطوير هذه الممارسة إلى ما فيه خير المجتمع. ولذلك، يؤمن الحزب الديمقراطي بأساليب النضال الديمقراطية ويتمسك بها، وينبذ العنف والتآمر والعمل السري. لقد كان بطش السلطة الوحشي مبرراً موضوعياً لممارسة العمل السري في حزبنا، وفي جميع الأحزاب المعارضة. لكن تلك الظروف لم تعد طاغية، ولا موجبة لهذا الشكل، آخذين بالاعتبار أن سلطة الأحكام العرفية، لا بد، آيلة إلى زوال. إن العمل السري حالة طارئة تقوم في مواجهة حالة طوارىء يفرضها ويستديمها نظام استبدادي ما على البلاد. وعلينا أن نقر بأن اللجوء إلى العمل السري، مهما كانت الأسباب وجيهة، سيؤدي إلى ضعف علاقة الحزب بالناس وإلى تراجع وانحسار العلاقات الديمقراطية داخل الحزب، وقد يهدد تلك العلاقات بالانهيار. لكل هذا فان أسلوب العمل السري يهدد في النهاية وجود الحزب نفسه، الأمر الذي يفرض، من الناحية المبدئية، الخروج من هذا الوضع على نحو نهائي وشامل.

والحزب الديمقراطي يبقى ديمقراطياً في موقفه من الأحزاب والقوى الأخرى القائمة في المجتمع، وفي علاقاته معها، لأن الرأي الآخر يعمق فهمنا لذواتنا ومشاكلنا ومستقبلنا. وسواء أكان الرأي الآخر مناقضاً لنا أو متوافقاً معنا، فانه لمن الضروري التعامل معه عبر الحوار والجدل الفكري والسياسي بكل الأساليب الديمقراطية المتاحة، وفي جميع ميادين النشاط الاجتماعي، كل ذلك دون أن نغفل عن أن خلافنا مع السلطة السائدة ليس مجرد خلاف في الرأي، وإلا سقطنا في الانتهازية السياسية المترددة.

والحزب الديمقراطي ديمقراطي تنظيمياً، في أسس تنظيمه وفي بنيته وحركته الداخلية. وقبل الدخول في تفاصيل ذلك لابد من تسليط أضواء النقد على الأسس التي كان الحزب يقوم عليها، مفهوماً وممارسة.

5-3- مفهوم الحزب الديمقراطي يتناقض – تأسيساً – مع مفهوم المركزية الديمقراطية، أو مفهوم الديمقراطية المركزية، هذا المفهوم الذي ساد في تاريخ حزبنا وفي تاريخ الأحزاب اليسارية والقومية الأخرى أيضاً. ذلك أن حزب المركزية الديمقراطية ينسف مفهوم الحزب نفسه حين يقوم على مبدأ “التنظيم الحديدي”، و”الانضباط الصارم” مما يؤدي آلياً إلى “عسكرة” الحزب، وتكريس علاقات أساسها الأوامر والطاعة والامتثال. ويتجلى مفهوم هذا الحزب بصورة واضحة في أسس وقواعد تنص على خضوع العضو لهيئته وعلى خضوع الهيئات الدنيا للهيئات العليان الأمر الذي يخضع عضو الحزب إلى سلطات متراكبة لا يستطيع اختراقها، فيتحول مع مرور الزمن إلى منفذ عقائدي لا يفكر ولا يبدع، وفي النهاية يصبح بطبيعة ممارساته ضد الفكر والإبداع، ناهيك عما في “مفهوم الإخضاع” من ديكتاتورية، وإنقاص من كرامة أعضاء الحزب. إن حزب المركزية الديمقراطية يختزل المبادىء والعقائد في كراسات تختزل العالم كله إلى ثوابت نمطية بسيطة ومطلقة، وفي هذا الشكل من الحزب يكون المؤتمر أعلى هيئة قيادية (شكلياً)، حيث ينتخب أعضاؤه بتزكية من القيادة القائمة، وكذلك تنتخب اللجنة المركزية من بين المؤتمرين، ثم المكتب السياسي ليقود ما بين اجتماعين للمركزية، وهكذا يصبح المكتب السياسي بالممارسة الفعلية سلطة مطلقة ومغلقة تدور في فلك الأمين العام وتحرص على رضاه وتنفيذ أوامره وتوجيهاته!. في حزب كهذا يُقيّم العضو على أساس انضباطه في تنفيذ أوامر القادة بلا تردد ولا مناقشة، ويتقلص وجوده وفعالياته الذاتية ليصبح نسخة عن الشكل العسكري المعروف.

لقد كانت شروط العضوية في حزب المركزية الديمقراطية تقوم على ثلاثة أركان:

– الانتساب إلى إحدى هيئات الحزب.

– المثابرة على تسديد الاشتراك المالي.

– الالتزام بفكر الحزب وبرنامجه وخطه السياسي.

ولقد كان الركن الثالث – في الغالب– فزاعة أمام كل عضو في الحزب، ترهبه وتشله عن التفكير بالخط السياسي، وتقيد حدود التساؤل، وتلغي النقد بكل أشكاله المنتجة والضرورية. إن منع وجود تيارات داخل الحزب –مثلاً– كان غطاءاً لمنع حرية التفكير وذريعة لقمع الأقلية والرأي الآخر، مما يؤدي آلياً إلى تسطيح الفكر وتعطيل حرية المبادرات الذاتية وإمكانيات الإبداع الخلاق.

5-4- إن حزب المركزية الديمقراطية غير الديمقراطي يجب تجاوزه والخروج من أشكاله كافة بتصميم ومثابرة. كانت الحجة التي تقدم كأساس لتبرير “ضرورات المركزية” هي فعالية الحزب السياسية والنضالية، حتى لو كان الثمن شخصيات الأعضاء وقدراتهم على التفكير والمبادرة والانتشار بين الناس. فأي مكسب هذا الذي تحققه المركزية آنئذ؟! إن الفعالية التي يجري الحديث عنها هي الفعالية “الثورية” التي لا تأبه بالانتشار أو بإحراز ثقة الناس. وهي فعالية عسكرية، بالمعنى السيئ للكلمة، تتلاءم مع شكل العمل العصبوي غير الديمقراطي مهما اختلفت التسميات. وفي الوقت نفسه لا يرى أنصار “المركزية الديمقراطية” في حزب ديمقراطي فصيلاًكفاحياً قادراً على إنجاح مهامه الثورية التي تتطلب –حسب ذلك الفهم– انضباطاً وتطابقاً شاملاً في الفهم والممارسة، مما يؤدي إلى أفضل الاستجابات للقرارات والتوجيهات المركزية.

والسؤال الأساس هو كيف يمكن أن نتجاوز تنظيمياًُ مسألة “تزمت” العضو في الحزب؟ وكيف يمكن أن نحدد شكل التنظيم الذي يحافظ على الأعضاء غير الموافقين على قرار أو توجيه معين من القيادة أو أغلبية الحزب؟ إن التفارق بين “العقائدية” والديمقراطية لا يكفي وحده للخروج بحلول عملية ناجعة. مبدئياً هذه المسألة قابلة للحل في حزب يتحول إلى حزب ديمقراطي ولكن، مبدئياً أيضاً، لن يكون الحل عن طريق الإلزام والقسر، بل عن طريق الإقناع والحوار أيضاً.

5-5- لقد آل مفهوم “الحزب الطليعي” إلى مفهوم “الحزب القائد” تاريخياً، مما آل أيضاً إلى الهيمنة ليس على مجموع أعضاء الحزب فقط، وإنما على المجتمع بفعالياته كافة. لذلك، ومع الخروج من أشكال التنظيم الإخضاعية، لا بد من التأكيد، في مرحلة التحول الديمقراطي، على أن هوية الحزب تتجسّد، في الوقت نفسه، في قدرته على تمثيل طبقة بعينها، أو طبقات من الشعب. وهذا هو الجانب الاجتماعي من الهوية الذي لا يتناقض مع التمسك بمصلحة المجتمع الجمعية استناداً إلى صيغة التعاقد الاجتماعي التي يتم التوصل إليها، دون أن يكون هناك تعارض بين مصالح الطبقات الفقيرة ومصلحة المجتمع ككل. وهذا هو الجانب الديموقراطي من الهوية.

إن الحزب الديمقراطي اتحاد طوعي بين أشخاص أحرار لتحقيق أهداف بعينها على أساس منهج واحد، وبرنامج محدد، وبالتالي، فالحزب ليس غاية بذاته، بل وسيلة لغايات وأهداف. لهذا، يحق لكل مواطن يحدوه الأمل لتحقيق هذه الغايات الانتساب إليه في أي وقت على هذه الأسس، ويحق له، في الوقت نفسه، أن يخرج منه متى شاء دون خوف من تشهير أو إدانة أو ملاحقة أو ما شابه ذلك.

في الحزب الديمقراطي يجري انتخاب حرٌّ لقيادة تمثل الأكثرية. لكن هذا لا يعني أبداً انتفاء حق الأقلية في التعبير عن نفسها على أكمل وجه، بل يجب العمل على توفير الآليات المناسبة التي تتيح لها نشر آرائها والدفاع عنها وعن حقها المشروع في العمل الديمقراطي لكي تتحول إلى أكثرية إذا استطاعت عبر الانتخاب الحر. وبذلك يصبح من حق الأقلية التجمع وامتلاك المنابر. إن تعدد الآراء بهذا المعنى يعزز الديمقراطية، ويؤكد مدى أهمية تجديد القيادة، وتقليص إمكانية استمرارها لدورات متكررة لا تنتهي؟!

والحزب الديمقراطي يهدف إلى الانتشار الواسع. وهو، لذلك، يقيم العضوية على شروط مرنة تهتم بالمضمون أولاً، دون الأخذ بمبدأ النخبة الخاصة، والوجهاءالمتنفذين، وفي الوقت نفسه لا يقصي النخب ولا يُحوّل الارتباط بالحزب إلى علاقة شكلية سطحية، ويحافظ على تقديره وتوظيفه الناجح لأولئك الأفراد أصحاب القدرات والمواهب الخاصة الذين يرفدون نشاط الحزب بدفقات ذات حيوية وتأثير بالغين. كل ذلك يعزز تمويل الحزب لنفسه بنفسه رغم اعتماده على الطبقات الشعبية، ويضمن له الاختبار الدائم لخطه السياسي، ولبرامجه العامة والخاصة، في مجال الممارسة في أوساط الناس.

وأخيراً، يؤكد الحزب الديمقراطي أن العلنية مبدأ ثابت في عمله، في جميع الظروف، وهو لا يلجأ إلى السرية إلا في حالات ضيقة محددة تحت ضغط احتمالات القمع البالغ، مع توفير واعتماد آليات تحول دون أن تتحول السرية إلى مدخل للهيمنة على عمل الحزب، وعلى صوغ خطه وبرامج عمله وممارساته في أوساط الناس.

وما ينبغي تأكيده باستمرار أن لا يكون حكمنا على تاريخ العمل الحزبي منطلقاً من موقع الإدانة أو الثأر أو التشفي، بل من موقع النظرة النقدية الموضوعية التيتتيح لنا استخلاص الدروس، دون أن يغيب عن وعينا أن الحزب بنية قابلة للنقد والتغيير والمراجعة بصورة دائمة من خلال الممارسة الديمقراطية، والنشاط الفكري المنفتح على ثقافة العصر، والمؤتمرات الدورية المنتظمة على مختلف المستويات.