التقرير السياسي للجنة المركزية المقدّم إلى المؤتمر السادس لحزب الشعب الديمقراطي السوري

النظام الداخلي لحزب الشعب الديمقراطي السوري
موضوعات المؤتمر السادس لحزب الشعب الديمقراطي السوري

التقرير السياسي للجنة المركزية المقدّم إلى المؤتمر السادس لحزب الشعب الديمقراطي السوري

[toggle active=”yes” title=”فهرس”]

  رقم الصفحة
مقدمة 5
الأوضاع السورية بين مؤتمرين 8
   
الفصل الأول: الأوضاع العامة   بين عامي 1979 – 1982 9
             “1- الظروف العربية والإقليمية والدولية 9
          أ- المعاهدة المصرية الإسرائيلية 9
                               ب- لبنان والمقاومة الفلسطينية 9
                                ج- الثورة الإيرانية 10
                                د- معاهدة الصداقة السورية السوفيتية 10
                               هـ- الوضع الدولي 10
           “2- الأوضاع الداخلية وتطوراتها 10
                               أ‌- الاستقطاب السياسي على المسرح السوري 11
                             ب- المجابهة مع السلطة وحسم الصراع  لصالحها 11
                                            1ً– مضاعفات مجزرة المدفعية 11
                                            2ً– الحراك السياسي للنظام والمعارضة الديمقراطية 12
                                             ً3- مجازر حماة شباط عام 1982 13
   
الفصل الثاني: الأوضاع العامة  بين عامي 1982 – 1991 15
   
الفصل الثالث: الأوضاع العامة بين عامي 1992 – 2000 20
             “1- الإفراجات الأمنية  20
             “2- تعزيز الانفتاح الاقتصادي 21
             “3- حصار العراق وانعكاساته على سورية 21
             “4- مسيرة التسوية في المنطقة – أوسلو وما تلاها 22
             “5- الأزمة الاقتصادية 23
   
الفصل الرابع: الأوضاع العامة بين عامي 2001 – 2005  رئيس جديد لنظام شائخ 24
   
الفصل الخامس: الوضع العربي والإقليمي 27
            “1- إخفاق الحركة القومية العربية 27
            “2- عجز العالم العربي  عن التوافق على استراتيجية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي 27
            “3- إخفاق الدول العربية في مشاريع التنمية والسيطرة على الموارد النفطية 28
            “4- إخفاق النظام العربي في تقييم مرحلة ما بعد الحرب الباردة وسقوط الاتحادالسوفييتي 28
            “5- إخفاق العالم العربي في مواجهة العولمة 29
            “6- تفسخ النظم الاستبدادية وفشل التحول نحو الديمقراطية وتفاقم الهجوم الاستعماري 29
   
الفصل السادس: الوضع الدولي 31
             ً1- حقبة القطب الواحد والطموح الإمبراطوري للولايات المتحدة  31
            2ً– آفاق التعددية القطبية ومقاومة الطموح الإمبراطوري الأميركي 32
            3ً– العولمة وتحدياتها 32
            4ً– تمزق حدود الدولة القومية 33
            5ً– الطاقة وتأثيرها على الوضع الدولي 34
   
الفصل السابع: حال المعارضة السورية 35
            ً1- المعارضة الإسلامية 35
            ً2- المعارضة الديمقراطية 36
            ً3- الحزب 38

 [/toggle]

 [toggle active=”yes” title=” المقدمة “]

 

يتناول هذا التقرير التطورات السياسية مابين المؤتمر الخامس ومؤتمرنا الحالي السادس 2005. إنها فترة طويلة جداً، عجز الحزب أو عجزت قيادته عن عقد مؤتمراته، الأمر الذي يدفعنا، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي سادت، إلى الاعتراف بافتقار قيادات الحزب وهيئاته الأخرى إلى الشرعية الحزبية أمام الرفاق والأصدقاء، وإلى الشرعية السياسية أمام الناس. فالمؤتمرات هي التي تسمح بتجديد سياساته وقياداته وتلافي أخطائه وعثراته.

ولصعوبة الإحاطة بتفاصيل هذه الفترة الطويلة ودقائقها، كان لا بد من الوقوف عند محطاتها الرئيسية. ولارتباط هذه الفترة بالمراحل التي أعقبت انقلاب الثامن من آذار سنة 1963، التي شكلت حجر الأساس للنظام الاستبدادي الفردي الذي أسسه حافظ الأسد، كان لابد من استعراض سريع، يساعدنا على رؤية أفضل.

1ً– جاء انقلاب الثامن من آذار كمحصلة للأزمة السياسية الحادة التي رافقت عهد الانفصال. فرغم الظروف الدولية الملائمة له ودعم الامبريالية والأنظمة العربية المحافظة، تمكنت القوى القومية المعارضة، المستندة إلى التحرك الشعبي الواسع الرافض للانفصال والداعي إلى إعادة الوحدة، من إسقاطه.

2ً– تميزت المرحلة الجديدة بإزاحة البرجوازية السورية الكبيرة عن السلطة، وغياب أحزابها وشخصياتها عن المسرح السياسي السوري، وكذلك غياب الطابع المدني للسلطة، ليحل مكانه حكم ذو طابع عسكري تمثله فئات وشرائح بينية غلب عليها أبناء الريف والمدن الصغيرة في الأطراف.

قاد الانقلاب عدد من الكتل العسكرية، بعضها ليس له انتماءات حزبية، لكنه كان يتطلع إلى دور في السلطة، وبعضها (الناصريون) سعى إلى إعادة الوحدة الفورية مع مصر؛ في الوقت الذي كان فيه الفريق الثالث (البعث) يخطط للإنفراد بالسلطة، دون الذهاب إلى الوحدة أو الذهاب إلى وحدة مشروطة، معتمداً في ذلك على تنظيمه العسكري الذي تشكل خلال أيام الوحدة، بإشراف “اللجنة العسكرية” التي لعبت دوراً خفياً ومهماً. لكن هذا الدور، سرعان ما تلاشى بُعيد انقلاب 23 شباط 1966.

3ً– بعد الإطاحة بالناصريين، إثر أحداث تموز الدامية سنة 1963، وملاحقة المعارضين، انحصر العمل السياسي بحزب البعث العربي الاشتراكي الذي أدخل إلى الحياة السياسية السورية مفهوم الحزب القائد. فلم يبق أمام المعارضين من خيارات إلا اعتزال السياسة، أو ممارسة العمل السري الذي كانت ضريبته باهظة، خاصة بعد إعلان حالة الطوارئ وتشكيل “الحرس القومي” وتقوية الأجهزة القمعية والقيام بإقصاءات واسعة من الجيش وإدارات الدولة؛ اتخذت بعداً طائفياً ومناطقياً أيضاً.

وهكذا تبدلت شروط الدخول إلى الحقل السياسي وتبدلت معها شروط اللعبة وطبيعة اللاعبين.

4ً– لكن الصراع السياسي على السلطة سرعان ما راح يحتدم داخل الجيش ومن ثم داخل الحزب. ولقد حمل هذا الصراع في طياته تناقضات متنوعة عكست، بشكل أو آخر، اختلافاً في الرؤى السياسية والاجتماعية، وحتى الأيديولوجية بين فئات وتيارات النظام الجديد. أدى استمرار الصراع وتنامي حدته إلى إقصاءات وتصفيات، كان أبرزها خروج البعث اليساري (حمود الشوفي شباط 1964) والقيادة القومية (23 شباط سنة 1966)، وتيار صلاح جديد (13 تشرين الثاني سنة 1970).

5ً– بعد أن وطدت السلطة سيطرتها على البلاد، وجهت ضربتها الثانية إلى البرجوازية وكبار الملاكين العقاريين (حزيران 1963)، فأصدرت مرسوم الإصلاح الزراعي وقامت بتأميمات واسعة للصناعة والبنوك (1964-1965). ومن ثم قامت باحتكار التجارة الخارجية، وصناعة وتجارة النفط.

أمسكت الدولة بمفاتيح الاقتصاد السوري الأساسية، وتحولت إلى قوة اقتصادية حلت محل الرأسمالية التقليدية، وتشكل القطاع العام الذي عبر بشكل أو آخر، عن رأسمالية الدولة. وراحت تتشكل بين الدولة والمجتمع علاقة مماثلة للعلاقة القائمة بين رب العمل والعمال.

ً6- أعطت السلطة الأولوية للفلاحين واهتماماتهم. فقلصت من جديد مساحة أراضي الملاكين المسموح بحيازتها، ووزعت قسماً من الأراضي المستولى عليها على الفلاحين الفقراء والمعدمين، وحررتهم من ثلاثة أرباع قيمتها. والقسم الآخر أجرته للفلاحين الميسورين والمتنفذين. وأنشأت اتحاد الفلاحين الذي ضم أكثر من “1500” رابطة وجمعية في القرى والأرياف.

ومع أن الإصلاح الزراعي قد ضرب بقايا الإقطاع، إلا أنه لم يسهم في حل أزمة الريف. لقد اهتمت السلطة بالتوزيع والشعارات الأيديولوجية، ولم تهتم بإنتاجية الأرض كعامل أساس في تنمية الريف وتقدمه. فشمل الإصلاح الاستثمارات الرأسمالية عوضاً عن تشجيعها. ولم تطرح أية آلية للاستثمار الزراعي الكبير وأبقت الملكيات الموزعة صغيرة ومفتتة، وقاصرة عن توسيع المساحات المزروعة وعن الإنتاجية والربح. ثم زاد الوضع سوءاًً حين احتكرت الدولة تسويق المنتجات الزراعية الرئيسية وتحديد أسعارها. فانحدر الدخل الزراعي مابين 66-73. كما لعب دوره الهام في هذا الانحدار الاضطراب السياسي وتهاوي سعر العملة وانخفاض تمويل المشاريع الزراعية. فتضاعفت هجرة الريف إلى المدينة وازدادت حاجة البلاد إلى استيراد المواد الغذائية.

وهكذا بقي النظر إلى الإصلاح الزراعي في عهد البعث على أنه إجراء اشتراكي، في الوقت الذي كان تاريخياً من أهم وسائل التراكم الرأسمالي. هذه النظرة الخاطئة كانت من أسباب فشله في سوريا.

لقد قلصت السياسة الاقتصادية الجديدة القاعدة الاقتصادية-الاجتماعية للبرجوازية السورية وأفقدتها مركز قوتها. ووسعت بالمقابل القاعدة الاجتماعية للسلطة الجديدة. وبذلك عدلت هذه السلطة موازين القوى لمصلحتها رغم استمرار الصراع داخل الجيش والبعث، بل رغم استمرار مقاومة الفئات المتوسطة المدينية للنظام التي عبرت عنها أحداث حماة عام 1964 بوضوح.

ولكن في الممارسة العملية، أظهرت إدارة الدولة للاقتصاد والقطاع العام والإصلاح الزراعي، الكثير من الجوانب السلبية، من أهمها:

أ- حلت الدولة محل الرأسمالي، وأخذت مراكز القوى تتصرف بهذا القطاع  وكأنه إقطاع، تتمتع بامتيازاته، مستغلة إياه لمصالحها بمختلف الوسائل والأساليب المشروعة وغير المشروعة، وأبعدت العمال عن أي دور حقيقي في إدارة شؤونه.

ب- لم تُدِرْ الدولة هذه القطاعات على أسس اقتصادية سليمة، وهذا ما أدى إلى الهدر والتشغيل السيئ للآلات والتنظيم الرديء للعمل، وإلى إبقاء أجور العمال منخفضة، فتدهور الإنتاج، وارتفعت تكاليفه، وتردت شروط العمل، وتضخمت العمالة.

جـ – لم يخدم هذا النظام الاقتصادي مصلحة العامل، ولا مصلحة المستهلك، بل لم يخدم على المدى الطويل مصلحة رأسمالية الدولة. لقد فشل في تسيير عملية الإنتاج، وتأمين التراكم الضروري للتنمية الشاملة، وحرم العمال من حقهم في النضال المطلبي.

ً7- راحت سلطة 23 شباط تنحو منحى أيديولوجياً يسارياً. فوطدت علاقاتها العسكرية والسياسية والاقتصادية مع الاتحاد السوفييتي، وفي الوقت ذاته، كانت مصر تسير في المنحى نفسه. وكثر الكلام في كلا البلدين على التطور غير الرأسمالي والتقدم الاجتماعي والاشتراكية، وبتشجيع من المنظرين السوفييت وبعض الشيوعيين العرب. وكنا نحن من عدادهم. وفي الفترة ذاتها انبثقت بدايات المقاومة الفلسطينية وشُرع في إطلاق الشعارات حول تحرير فلسطين، وبدئ في تنفيذ مشروع تحويل نهر الأردن. وكان الجيش المصري منهمكاً في اليمن، والعلاقة مع السعودية ودول الخليج في أسوأ حالاتها.

في ظل هذه الظروف بدأت التحرشات العسكرية الإسرائيلية بسوريا التي أدت في النهاية لأن يطلب عبد الناصر سحب القوات الدولية من مضائق تيران تضامناً معها. ثم تندلع حرب الخامس من حزيران سنة 1967، التي انتهت بهزيمة تاريخية.

ً8- تلقت حركة التحرر القومي العربية، بعدوان حزيران أكبر ضربة خلال مسيرتها الطويلة. ورغم مرور قرابة أربعة عقود على هذه الهزيمة فمازلنا نعيش آثارها المدمرة. لقد شكلت مرحلة تاريخية طويلة من الانكفاء والانحدار والتمزق، لم تستطع حتى الآن تجاوزها.

لم يكن هذا الحدث مجرد هزيمة لجيشين عربيين فحسب، بل كان امتحاناً لنظامين وطنيين تنطحا لإجراء تغييرات ذات طابع جذري، وكان امتحاناً لسياساتهما العربية أيضاً.

من هنا لا يكفي الوقوف عند التآمر الذي خططت له الولايات المتحدة وإسرائيل بإعادة صياغة المنطقة على نحو يمكنهما من السيطرة عليها وتحقيق توسع جديد لمصلحة إسرائيل والوصول إلى منابع نهر الأردن. فلا بد من الوقوف أيضاً عند العوامل الذاتية الأساسية لهذا العدوان وهذه الهزيمة.

آ- من هذه العوامل الخطاب البعثي المتطرف (طبقياً وقومياً) وسياسة المزاودة على مصر الناصرية. والقلق الشديد الذي كان يساور السعودية ودول الخليج بسبب دخول الجيش المصري إلى اليمن، وخاصة بعد التحالف بين عبد الناصر وعبد السلام عارف (تشرين الثاني 1963).

ب- كان هناك نوع من الاستخفاف بالخطر الإسرائيلي على البلاد، فلم يدرك الحكام بالقدر الكافي الطبيعة العدوانية لإسرائيل، ومدى مخاطر التوسع الذي كانت تسعى لتحقيقه، وعمق العلاقة العضوية مع الولايات المتحدة، والدور الذي يمكن أن تلعبه في تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية.

ج- لقد أظهر العدوان هشاشة البناء الفوقي الذي أسسته الدولة الاستبدادية، وبين قدراته المتواضعة في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وخصوصاً القدرات العسكرية.

لقد دللت تجارب بلدان العالم الثالث، أن مهام الثورة القومية الديمقراطية، لا يمكن أن تتحقق إلا بالإسهام الفعال للقوى والفئات الاجتماعية، التي لها مصلحة في التغيير السياسي والاجتماعي. وهذا الأمر لا يتحقق من خلال الوصاية المفروضة عليها ولا بالقرارات والأوامر الآتية من فوق. فغياب الحريات الديمقراطية، وسيادة الأحكام العرفية، والحظر على الأحزاب السياسية، وغيرها من الممارسات التي سلكها النظامان المصري والسوري، جعلتهما خاسرين عندما واجها الاستحقاق الذي فرض عليهما في حزيران 1967، فعجزا عن المواجهة وهزما في هذه المعركة.

ً9- في عام 1968، انتقل الخلاف داخل سلطة 23 شباط إلى العلن. وقد احتدم هذا الخلاف في العامين التاليين (أزمة آذار 1969، ثم مؤتمر الحزب خريف 1970). لقد تميز هذان العامان الأخيران بازدواجية السلطة التي حسمتها في تشرين الثاني 1970 قمة المؤسسة العسكرية، التي استفادت من عزلة النظام وتخبطه،  لمصلحتها. خصوصاً، بعد عدوان حزيران، ومن المرونة التي أبداها حافظ الأسد إزاء معالجة نتائج هذا العدوان، بقبوله قرار مجلس الأمن، والبحث في تسوية سلمية ما، يساعد عليها الاتحاد السوفييتي. وهكذا، حظي الانقلاب المذكور بدعم دولي وعربي. أما في الداخل فقد دعمته أوساط واسعة من التجار والبرجوازية السورية والقوى السياسية المعارضة. كما أيده حزبنا بضغط من السوفييت.

آ- مع استلام حافظ الأسد السلطة، تحول النظام من حيث الشكل إلى نظام رئاسي وفق ما نص عليه الدستور، الذي فصل على قياسه. وفي الممارسة العملية تمت شخصنة النظام وفق مقولة (القائد الفذ والملهم)، إلى جانب مقولة (الحزب القائد). فكانت هذه البدعة الناظم الرئيسي لآلية عمل واشتغال رجال الدولة، والحزب، والجبهة الوطنية التقدمية، و”المنظمات الشعبية”. وهكذا تأسست قواعد جديدة تختلف عما سلكه رفاقه الذين انقلب عليهم، حيث كانت السلطة السياسية العليا شبه جماعية.

ب- في النصف الأول من السبعينات، تميز العهد الجديد بملامح مختلفة عما سبقه، حيث أريد لها أن تظهر كخروج من العزلة في الداخل والخارج. فقام بتأسيس الجبهة الوطنية التقدمية، والإدارة المحلية، ومجلس الشعب، والدستور الدائم، مع تركيز على إعادة بناء الجيش بالتنسيق مع مصر، وبمساعدة الاتحاد السوفييتي. ثم جاءت حرب تشرين 1973، وتدفقت الأموال النفطية، وبدأ بناء البنية التحتية، والعديد من المشاريع الاقتصادية، في فورة، انعكست فوائدها على التركيبة الاجتماعية والاقتصادية، وعلى مجمل التطور اللاحق للبلد. لكن ما لبث النظام الجديد أن شرع بالعمل على قوننة الاستبداد، فقام بتوسيع وتقوية الأجهزة الأمنية التي امتد أخطبوطها إلى كل مجالات الحياة في البلد، وبنى تنظيمات عسكرية خاصة ذات طابع طائفي. ومارس أيضاً سياسة التحكم الحزبي والطائفي داخل الجيش وإدارات الدولة والمؤسسات التعليمية وزركشها بالمؤسسات الشكلية للتمثيل الشعبي، ليتمكن من ضبط النشاط السياسي والاجتماعي والثقافي للمجتمع. فكان الترغيب والترهيب العلاج الأمضى لهذه السياسة وكفافُ العيش للمواطنين، والمغانمُ للموالين، والأجهزة القمعية والسجونُ والمنافي والمقابر للمعارضين.

ج- تميزت فترة السبعينات بنمو الدور الأمريكي في المنطقة، يقابله تقلص تدريجي لدور السوفييت بعد إخراج خبرائهم من مصر، فلم يلعب الأمريكان دورهم من خلال ما أفرزته هزيمة حزيران من نتائج وحسب، وإنما أضحى لهم داخل الأنظمة العربية وخصوصاً في مصر وسوريا ولبنان قوى اجتماعية، تستخدم كعنصر ضاغط ومروج لسياساتهم، أمسى هذا الدور مؤثراً في مجرى التحول الجديد للحياة السياسية والاجتماعية أيضاً. إن أهم ما يميز هذا الدور المؤثر للولايات المتحدة، هو مشاريع التسوية التي طرحت بعد حرب تشرين، وفك الاشتباك على الجبهتين المصرية والسورية، ودخول الجيش السوري إلى لبنان.

عربياً ظهر محور جديد من مصر والسعودية وسوريا، لعب دوراً هاماً في توجيه السياسات العربية. كان من نتائجه اندفاع السادات المنفرد نحو تسوية مع إسرائيل، بدءًا بزيارة القدس، مروراً باتفاقيات كمب ديفيد 1978، وانتهاءً بمعاهدة الصلح المصرية الإسرائيلية 1979.

ورغم أن حرب تشرين أكسبت النظام (مشروعية وطنية) أمام الرأي العام، إلا أن الاتجاهات اليمينية في السياسات القائمة، وبروز الوجه الاستبدادي والقمعي للنظام، جاء بالترافق مع ميول التسوية التي كانت في خطوطها العريضة، تسير لمصلحة إسرائيل، هذه الاتجاهات هي التي ميزت المسار العربي بمجمله، بما فيه المسار السوري.

لا تغيرُ من الأمر شيئاً تحفظات النظام على سياسات السادات التي كان من نتائجها انكفاء مصر وابتعادها عن العمل العربي المشترك. وهذا ما أكدته التطورات اللاحقة، عندما التحق الجميع بالسياسة المصرية وتوجهاتها. لكن النظام السوري، رغم المصاعب التي واجهها في النصف الثاني من السبعينات، حافظ على دوره الإقليمي عبر خط موازٍ للتسويات التي فرضت على مصر. وعبر تحالفه بعد ذلك مع إيران لتقوية مواقعه في صراعه مع النظام العراقي.

د- أخذت قوى سياسية وشخصيات ديمقراطية مستقلة بالابتعاد عن النظام. فانسحب الاتحاد الاشتراكي من الجبهة احتجاجاً على المادة الثامنة من الدستور، التي كرست حزب البعث (قائداً للدولة والمجتمع). فأخذت تتبلور معارضة ديمقراطية، عبرت عن وجودها بتأسيس التجمع الوطني الديمقراطي، الذي طرح فيما بعد برنامجه الداعي إلى التغيير الوطني الديمقراطي الجذري سلمياً. كما ظهرت احتجاجات من النقابات المهنية والشخصيات الوطنية الديمقراطية على اختلاف مواقعها على سياسات النظام الاستبدادية، داعية أيضاً إلى التغيير الديمقراطي.

وفي مقابل ذلك عارض الإخوان المسلمون السلطة احتجاجاً على الدستور وفيما بعد ظهرت تنظيمات مسلحة معارضة، كالطليعة المقاتلة، تبنت العنف طريقاً للتغيير. لكن سياسات السلطة القائمة على الاستئثار وعقلية الاستبداد والعنف، سدت الآفاق أمام المخارج السلمية العقلانية لأزمة البلاد المتفاقمة، والتي دخلت مرحلة العنف العاري خلال أعوام 1979 – 1982.

هـ- اتخذت في المجال الاقتصادي جملة من الخطوات، اتسمت بالانفتاح داخلياً على البرجوازية السورية (إلغاء المصادرات وتخفيف القيود على الاستيراد والقطع الأجنبي)، وعربياً على السعودية ودول الخليج. فسهلت على الرأسمال الخاص والرأسمال المغترب بعض جوانب نشاطه واستثماراته المالية والعقارية. وأسست للعلاقة بين برجوازية الدولة البيروقراطية، وبرجوازية السوق. لكنها أبقت هذا النشاط في دائرة هامشية وغير منتجة. ومع الفورة النفطية بعد حرب تشرين، شهدنا مرحلة من الازدهار الاقتصادي نتيجة لتدفق الأموال النفطية كمساعدات لسوريا. وبسبب التوسع في مجالات الاستثمار، وخاصة التعهدات في مشاريع بناء البنية التحتية، ارتفعت معدلات الربح، ورافق ذلك ارتفاع في الأسعار وتضخم نقدي كبير.

وبسبب إبقاء النشاط الاقتصادي يدور حول ميادين التجارة والاستيراد والتعهدات، نما النشاط الطفيلي الذي تغذى من أموال الموازنة الاستثمارية للدولة. وكان من نتائج هذه السياسة، نمو المضاربات والإثراء غير المشروع، خصوصاً في ميادين تجارة الأراضي والأبنية والسيارات واحتكار رخص الاستيراد والتهريب والسوق السوداء. وهكذا تعبد الطريق أمام الفساد.

لكن هذه الفورة الاقتصادية سرعان ما أخذت تخبو وتتعثر خصوصاً مع نمو التضخم النقدي وسياسة الاحتكار وإبقاء الأجور متدنية قياساً على ارتفاع الأسعار، ونمو المضاربات. فأخذت مظاهر الأزمة تشتد منذ 1977.

 [/toggle]


 

 

[toggle active=”yes” title=”الأوضاع السورية بين مؤتمرين“]

 

انعقد المؤتمر الخامس (كانون الأول 1978) في ظروف بالغة التعقيد والتوتر. فالأوضاع العربية ازدادت تمزقاً وبعثرة، بسبب انكفاء مصر عن محيطها العربي بعد توقيع اتفاقيات كمب ديفيد. واشتداد لهيب الحرب الأهلية اللبنانية التي تورط فيها النظام السوري. فأخذت تتغير مواقع المتحالفين في هذه الحرب. كما امتدت الأصابع الإسرائيلية تتلاعب فيها أيضاً. لقد بدا واضحاً من مجرياتها أن تصفية المقاومة الفلسطينية وإخراجها من لبنان كانا من الأهداف الرئيسية لها. لقد جرت هذه الأحداث في أجواء صراع جديد بين مراكز القوى العربية، وإسرائيل أيضاً، لملء الفراغ الذي أحدثه الغياب المصري عن الساحة العربية. وهكذا اختلطت أوراق اللعبة وبالتالي تبدلت التحالفات وانفرط عقد التنسيق بين مصر والسعودية وسوريا. كما فشلت فيما بعد محاولات التفاهم والتنسيق بين سوريا والعراق مع تصاعد نجم صدام حسين آنذاك.

في الداخل: أخذ الصراع بين السلطة والمعارضة منذ أواسط السبعينات يتسع ويتعمق وينتقل إلى الشارع، كلما تنامت الأزمة العامة في البلاد واحتدمت. كان واضحاً تردد السلطة واعراضها عن إيجاد حلول لها، وعن ملاقاة المعارضة الديمقراطية وتلبية مطالبها.

في المقابل صعدت التنظيمات الإسلامية كالطليعة المقاتلة، وبعض قيادات وقواعد من تنظيم الإخوان المسلمين أعمالها المسلحة، التي اتخذت طابعاً طائفياً واضحاً استهدف مواطنين أبرياء من أبناء الطائفة العلوية. وهكذا زُجَّت البلاد في أتون صراع دام تجلى في عنف السلطة والعنف المضاد، أربك أوساط النظام ودوائر عديدة من السلطة.

إزاء هذه الحالة، كان لا بد من البحث عن مخارج سلمية لأزمات البلاد وإخراجها من أتون الصراع الدموي المتوحش، بعيداً عن ممارسات السلطة وطروحات وسلوك التنظيمات المسلحة التي ألحقت الأضرار الكبرى بالتحرك الديمقراطي والجماهيري آنذاك.

لا نبالغ إذا قلنا إن ((موضوعات المؤتمر الخامس)) قدمت تحليلاً معمقاً للأوضاع السورية مازال يحتفظ بصحته حتى الآن. كما طرح البرنامج مخارج لأزمات البلاد وحدد المهام الواجب انجازها كي تستعيد عافيتها.

على المستوى الحزبي: أعاد المؤتمر النظر بالبرنامج السياسي الصادر عن المؤتمر الرابع عام 1973، فهو رغم احتوائه على جوانب هامة، كالموقف من الامبريالية والوحدة العربية وفلسطين والتسوية الاستسلامية، لم يصمد قسمه الداخلي أمام التجربة الحية. ويمكن القول إن هذا القسم “جاء متعارضاً مع ما جرى على الساحة السورية، بل جاء متخلفاً ومقطوع الصلة بالواقع”.

لقد شكلت الموضوعات من جانب آخر الإطار النظري للخط السياسي، فلم تكن وجهة نظر في السياسة، وإنما عبرت عن تصور استراتيجي بديل كلياً عما طرحه البرنامج السياسي السابق، وبهذا المعنى خطا المؤتمر خطوة متقدمة على طريق نضاله، واضعاً الأساس النظري للتوجه الديمقراطي بل أكثر من ذلك رابطاً نضاله من أجل التقدم الاجتماعي والاشتراكية بالديمقراطية.

كذلك استطاع هذا الطرح الجديد أن يزيل من أمامه العديد من العقبات التي ظهرت بعد خروج بعض الرفاق المعارضين لهذا الخط إثر المؤتمر. وبالاستناد إلى التفاف منظمات الحزب حول هذا الخط السياسي الذي جاء ملبياً لحاجات الواقع السياسي السوري، استطاع الحزب أن يصمد أمام آلة القمع الشرسة على مدى العقدين التاليين، ففشلت كل المحاولات لتمزيق صفوفه من جانب الحاقدين أو تصفيته من جانب السلطة الغاشمة.

على المستوى السياسي: كانت طروحات المؤتمر الخامس إسهاماً جاداً إلى جانب إسهام الأحزاب الوطنية والديمقراطية في حشد قوى المعارضة والناس حول رؤية سياسية واضحة وسليمة كان عنوانها المشترك ((التغيير الديمقراطي الجذري)) الذي عبرت عنه طروحات التجمع الوطني الديمقراطي في وثيقته البرنامجية التي صدرت عام 1979، والمطالب الديمقراطية المشروعة التي نادت بها النقابات المهنية والأوساط الاجتماعية والثقافية الأخرى.

 

 

 

[/toggle]

 


 [toggle active=”yes” title=”

الفصل الأول:  الأوضاع العامة  بين عامي 1979 – 1982


وصلت الأزمة العامة في البلاد إلى ذروتها في أعوام 1979- 1982. فاكتوى بسعيرها المجتمع بأسره، ولم ينج من شظاياها وآثارها المدمرة أحد. لقد بلغ عنف السلطة مستوىً عالياً من الوحشية لم تشهد سوريا مثيله في تاريخها الحديث.

وتجلت قمة هذه الوحشية في مجازر حماة التي استبيحت لبضعة عشر يوماً. فدمرت الأحياء ونهبت البيوت والمحلات وقتل وجرح عشرات الألوف من السكان. لقد كانت هذه المجازر ترقى بحق إلى مستوى الجرائم الموجهة ضد الإنسانية.

لا يبرر عنفَ السلطة الحديثُ عن العنف المضاد الذي سلكته تنظيمات مسلحة كالطليعة المقاتلة أو سواها، والتي كانت على صلة ما بهذه الدرجة أو تلك بجماعة الإخوان المسلمين. صحيح أن الأعمال الإرهابية التي مارستها تلك التنظيمات حملت طابعاً طائفياً وطالت جرائمها العديد من أبناء الطائفة العلوية، إلا أنه كان بالإمكان درء الفتنة وتطويقها بالأساليب السياسية وبما لدى الدولة من قوة ردع بموجب القوانين النافذة التي تطال الجناة.

كان على السلطة أن تستجيب لصوت العقل الداعي لحل أزمات البلاد بأسلوب ديمقراطي وسلمي، سبق للمعارضة الديمقراطية أن طرحته. لكن السلطة التي بنت نظامها الاستبدادي بمعزل عن أي دور للشعب وقواه الحية والفاعلة، فضلت العنف العاري لحسم الصراع. كما وسعت دوائره التي طالت الأحزاب المعارضة ومنها حزبنا وكذلك النقابات المهنية والشخصيات الوطنية والديمقراطية، وهكذا وجدت السلطة نفسها شيئاً فشيئاً تواجه أغلبية المجتمع.

وما لبثت البلاد أن عاشت في أجواء من الرعب والخوف فخيم ظلام دامس طوال عقد الثمانينيات فالإرهاب الدامي جعل المجتمع يبتعد عن الشأن العام. ولا نبالغ إذا قلنا أن عشرات الألوف من العائلات ما زالت تئن تحت وطأة تلك الأحداث. التي كان من نتائجها تمزق النسيج الوطني وتنامي النعرات الطائفية واتساع الهوة بين النظام والمجتمع وتعمقها.

إن الأحداث التي جرت خلال هذه الفترة، سواء على المستوى العربي أم الإقليمي أم الدولي، لعبت دوراً مؤثراً في الأوضاع الداخلية السورية، لعل من مظاهرها تلك التجاذبات بين الأنظمة وتبدل المواقع والمواقف والتحالفات.

 

1ً– الظروف العربية والإقليمية والدولية

أ- المعاهدة المصرية الإسرائيلية:

كانت المعاهدة المصرية الإسرائيلية الحدث الأهم على المستويين العربي والإقليمي. فهي أولى ثمرات التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي. وبصرف النظر عن ردود الأفعال المصاحبة لها سلباً أو إيجاباً، تبقى اتفاقاً بين منتصر ومهزوم. هذا المهزوم فضل استرداد أرضه، بسبب عجزه، منفرداً ومتخلياً عن مطلب “الحل الشامل والعادل” وعن ربط قضيته بالقضية الفلسطينية، كشرطين من شروط التسوية المطروحة عربياً آنذاك.

من الجانب الآخر، عُقدت المعاهدة برعاية الولايات المتحدة وضمانتها وبغياب الاتحاد السوفييتي، الذي عبر هذا الحدث عن بداية أفول نفوذه عربياً، بعد أن أضحى دوره في حل أزمة الشرق الأوسط ثانوياً.

لم تكن مقررات ونتائج مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في بغداد1978، في أجواء واضحة من الرفض، نقيضاً للنهج الذي آل إلى تلك المعاهدة. بل كانت محاولة لتشكيل خط موازٍ يرشح نفسه للتعامل مع القرارات الدولية، برعاية الولايات المتحدة وبدور محدود للاتحاد السوفييتي. كذلك كان الأمر في قمة تونس 1979.

أخذت الأنظمة العربية التي ماانفكت تعلن حربها الكلامية على اتفاقات كمب ديفيد والمعاهدة، تعمل على تهيئة الظروف لملاقاة الأهداف الخفية لتلك الاتفاقات، وتعيد النظر في سياساتها على ضوء ذلك الحدث الذي قصم ظهرها، ولعل أبرز ما نلاحظه هو ظاهرة التفكك العربي الذي آل إلى قيام محاور عربية عديدة. أبرز هذه المحاور هو المحور الخليجي المتمثل في “مجلس التعاون الخليجي”، ومحور الصمود والتصدي (سوريا وليبيا والجزائر واليمن وفلسطين)، والمحور “العراقي – الأردني” الذي غرق في حرب الخليج الأولى. ففي هذه الأجواء أعادت الولايات المتحدة خلط الأوراق لإضفاء مزيد من التردي على الوضع العربي.

لعل أكثر المتضررين من تلك المعاهدة كان النظام السوري الحليف الأساسي لمصر والشريك الأول في حرب تشرين /73/، مما جعل مواقعه محفوفة بالمخاطر، الأمر الذي دفعه أيضاً إلى ترتيب أوضاعه وإعادة النظر بسياساته عربياً وإقليمياً ودولياً، بما يخدم صموده أمام المتغيرات الجديدة التي أقلقته كثيراً.

ب- لبنان والمقاومة الفلسطينية:

كذلك أظهرت أحداث تلك الفترة بطلان الأوهام حول استخدام لبنان والمقاومة الفلسطينية كورقتين ضاغطتين لتحسين مواقع النظام السوري في التسوية والصراع الإقليمي، خصوصاً بعد تبدل التحالفات وانقلاب الجبهة اللبنانية عليه (الكتائب وشمعون). كما أظهرت أيضاً بطلان الدعاية السورية التي أصرت على اعتبار التدخل في لبنان قد استهدف الحفاظ على الأرض والشعب.

ولم يعد خافياً على أحد، أن السلطة السورية لعبت دورها المشبوه في إضعاف المقاومة الفلسطينية تمهيداً لإخراجها من لبنان، ولتعيش في منفى بعيد عن موطن نضالها. وهذا ما أكده تتالي الأحداث وتضافرها منذ غزو إسرائيل لجنوب لبنان عام 1978، ثم وصولها إلى بيروت عام 1982، وعجز الجيش السوري عن التصدي للأهداف الحقيقية للغزو، وأخيراً معركة طرابلس عام 1983 التي أخرجتها نهائياً.

إن أحداث لبنان العاصفة، (الحرب الأهلية اللبنانية وضرب منظمة التحرير وشقها ثم إخراجها من لبنان) دللت كم هي وثيقة العلاقة بين أزمة لبنان والوضع في الشرق الأوسط وعملية التسوية مع إسرائيل.

وعلى الصعيد الفلسطيني، تطورت رؤية الحزب ومواقفه من الصراع العربي الإسرائيلي وقضايا التسوية، تبعاً لتطورات الصراع وموازين القوى الفعلية على الأرض. فكان موقفه داعماً ومؤيداً للقرار الوطني المستقل، باعتبار منظمة التحرير الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، رافضاً كل أشكال الهيمنة والاحتواء التي حاول عبرها النظام العربي عموماً والسوري على وجه الخصوص، مصادرة الإرادة والقرار الفلسطينيين. وقد تميز بموقفه المؤيد لإعلان الدولة الفلسطينية في العام 1988، والذي جاء تتويجاً لنضال الشعب الفلسطيني وانتفاضته الباسلة. 

ج- الثورة الإيرانية:

جاءت الثورة الإيرانية بقيادة الخميني عام 1979 لتعيد خلط الأوراق في المنطقة وتقلق بالتالي العراق والسعودية ودول الخليج الأخرى وتخل بالتوازن الإقليمي في الشرق الأوسط. فالتقارب بين العراق وسوريا لم يدم سوى بضعة أشهر. ولا شك أن الأحداث الإيرانية سرعت في انهياره. فوجدت سوريا في إيران الخمينية سنداً لها، لكن الدول الخليجية ازدادت قلقاً، خصوصاً وأن إيران قد طرحت نفسها ليس كدولة خليجية أساسية فحسب، وإنما كلاعب رئيس على المستويين العربي والإسلامي.

بتحريض من الدول الخليجية والدوائر الاستعمارية، وتحت دعاوي قومية في مواجهة أطماع “الفرس” وحماية “بوابة العرب الشرقية”، شن العراق في أيلول من عام 1980 حربه الظالمة ضد إيران التي أخذت أوساط مؤثرة فيها ترفع شعار “تصدير الثورة”. فعادت أوراق اللعبة تختلط من جديد. ومهما قيل عن دوافع هذه الحرب، فإن المسألة الطائفية كانت في خلفيتها، عدا عن سعي الأوساط الاستعمارية لمنع إيران من لعب دور مؤثر في موازين القوى على صعيد المنطقة. كذلك ينبغي القول إن هذه الحرب قد أضعفت العراق وأبعدته عن أن يلعب دوره، بصفته أحد المراكز الأساسية في الصراع الطويل بين العرب وإسرائيل.

د- معاهدة الصداقة السورية السوفيتية:

في تشرين الأول عام 1980 وقعت سوريا معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفييتي. كان الغرض الأساس لهذه المعاهدة الحصول على دعم سوفييتي صريح لمواجهة تطور الأحداث التي تعصف بالنظام داخلياً وعربياً. وليتمكن النظام من إعادة التوازن الذي اختل وسار في غير صالحه، خصوصاً بعد التطورات التي أعقبت التسوية السياسية بين مصر وإسرائيل، ومواجهة المصاعب الناجمة عن دعم الأردن والعراق التنظيمات المسلحة بالمأوى والسلاح والتدريب. وكذلك مواجهة محاولات ملء الفراغ الذي سعت إليه بعض الأنظمة كالسعودية والعراق، وكذلك إسرائيل التي ركزت نشاطها على الساحة اللبنانية مقدمة الدعم المتنوع للقوى الانعزالية ولدويلة سعد حداد وجيشه الذي مولته ودربته لإيجاد عازل بينها وبين المقاومة اللبنانية التي تصدت لأعمالها العدوانية واحتلالها للجنوب اللبناني.

هـ- الوضع الدولي:

 اتسم الوضع الدولي في السبعينات بشيء من الانفراج. لكن التوتر سرعان ما عاد قبيل استلام ريغان الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية 1981. ثم أخذ في التصاعد، خلال فترة الثمانينات تحت شعار”إحياء وتجديد تفوق الولايات المتحدة وقيمها التقليدية”. فدفعت الإدارة الأمريكية سباق التسلح إلى درجاته القصوى، حين وضعت مشروعها “مبادرة الدفاع الاستراتيجي” الذي سمته “حرب النجوم”. ولتعلن أيضاَ أنها لن تتورع عن استخدام السلاح النووي. كما حاولت خلق أجواء نفسية لدى أوربا والحلف الأطلسي للقبول بحرب محدودة، كوسيلة لمواجهة رجحان ميزان القوى العسكرية التقليدية لدى دول حلف وارسو.

ولعل الاندفاع بهذه السياسة الطائشة يعود إلى ما كانت تعانيه الولايات المتحدة بعد هزيمتها في الهند الصينية، وإلى أزمتها الاقتصادية التي تجلت في البطالة المتفاقمة والتضخم وأزمة الدولار، وأزمة الرهائن في طهران بعد سقوط شاه إيران. وهكذا عادت الإدارة الأمريكية إلى سياسة حافة الحرب وعسكرة الاقتصاد وإنتاج الأسلحة الاستراتيجية (قنابل النيوترون والقاذفة ب2)، وزيادة الاعتمادات المالية العسكرية بأرقام خيالية.

بالإمكان القول أن النظام السوري استطاع أن يحافظ على دور إقليمي ما رغم مصاعبه التي واجهها هنا وهناك، والاستفادة من التناقضات الدولية والإقليمية المستجدة (إيران الخمينية، احتدام الصراع بين إدارة ريغان والاتحاد السوفيتي، الوضع اللبناني).

 

2َ– الأوضاع الداخلية وتطوراتها

لعل مساوئ البنيان الاستبدادي الشمولي للسلطة والدولة، الذي أشرنا إلى بعض ملامحه في الصفحات السابقة، لم تظهر بجلاء إلا في النصف الثاني من السبعينات. ومع أن أحزاباَ وشخصيات ابتعدت عن النظام، بما في ذلك القسم الأهم من كوادر حزبه الذي شكل فيما بعد البعث الديمقراطي. لكن التذمر السياسي والاجتماعي أخذ يتسع مع بوادر الأزمة التي بدأت تلوح، خصوصاً بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976. لكنها سرعان ما أخذت تنفجر حتى وصلت أوجها خلال هذه المرحلة.

أ‌- الاستقطاب السياسي على المسرح السوري:

شهد المسرح السوري ثلاثة استقطابات أساسية مختلفة في مناهجها وسياساتها وسلوكها. مثل الاستقطاب الأول: السلطة وحزبها وجبهتها “الوطنية التقدمية”. أما الاستقطاب الثاني فقد مثله التيار الإسلامي المتصالح مع النظام في البداية. لكنه ابتعد بعد صدور الدستور. كانت جماعة (الإخوان المسلمون) القوة السياسية الأساسية المعبرة عن هذا التيار. لكن التنظيمات المسلحة التي تكونت بموازاتها أو على حوافها بتشجيع من بعض قيادييها، سلكت طريق العنف المسلح كتعبير رئيسي لمعارضتها النظام، خصوصاَ بعد أن حصلت على الدعم المتنوع من بعض الأنظمة العربية كالأردن والعراق والسعودية. كما شجعتها بعض الأوساط في الطبقة الوسطى. أما الاستقطاب الثالث، فعبر عنه التيار الوطني الديمقراطي الذي أخذ في التشكل التدريجي من قواه الأساسية: البعث الديمقراطي المزاح من السلطة بعد انقلاب تشرين الثاني 1970، والاتحاد الاشتراكي الخارج من التحالف بعد احتدام الخلاف حول الدستور. أما الطرف الثالث فكان حزبنا ، الحزب الشيوعي السوري بعد الانقسام النهائي الذي تكرس في عام 1973. كما ضم هذا التيار حزبين معارضين هما الاشتراكيون العرب وحزب العمال الثوري الذي عارض النظام منذ عام 1964.

كانت هناك لقاءات خاصة مع تنظيم البعث القومي المعارض الذي سبق أن خرج من السلطة عام 1966. أشرف عليها ممثلا الحزب الشيوعي والاتحاد الاشتراكي عبر المركز الذي أسسه حزبنا عام 1976 في باريس. كما كانت تجرى في الداخل حوارات مع الأحزاب المشار إليها بغرض الوصول إلى جبهة معارضة، خصوصاَ وأن الأجواء السياسية والتحرك الشعبي المتنامي وحاجة البلاد إلى التغيير الديمقراطي كانت تتطلب الوصول إلى قواسم مشتركة وتوحيد الطروحات السياسية وصياغة برنامج للنضال من أجل إجراء تغييرات جوهرية في حياة البلاد.

لكن البعث القومي المرتبط عضوياَ بالقيادة السياسية في العراق، كانت طروحاته صدى للموقف السياسي العراقي من السلطة السورية. بمعنى آخر لم يستطع هذا التنظيم أن يأخذ الخصوصية السياسية للوضع السوري بعين الاعتبار. لذلك أصر على شعار إسقاط النظام السوري واستخدام العنف تحقيقاَ لهذا الهدف. فخلال الحوار الذي دام بضع سنوات لم نستطع إقناعهم أن الشعار الأسلم، حسب الظروف التي تمر بها سوريا، هو التغيير الديمقراطي الجذري والسلمي. ومع ضغط الأحداث المتسارعة، حزمت الأحزاب الخمسة أمرها وأسست التجمع الوطني الديمقراطي وصاغت الميثاق الذي وقعه ممثلوها وأعلنوه  أواخر عام 1979، بعد أن وافقت هيئاتها القيادية عليه. وقد أعلمنا البعث القومي بالأمر، عبر مركز باريس وطلبنا من ممثلينا هناك قطع الحوار إذا رفضوا التوقيع على ذلك الميثاق. ومن المعروف أن البعث القومي أقام فيما بعد تحالفاَ بينه وبين الإخوان المسلمين وفريق المرحوم أكرم الحوراني أوائل الثمانينات باسم (التحالف الوطني لتحرير سوريا).

صحيح أن التجمع الوطني الديمقراطي شكل العمود الفقري للتيار الوطني الديمقراطي في سوريا آنذاك، إلا أن دوائر هذا التيار كانت أوسع من ذلك بكثير. فقد لعبت النقابات المهنية دوراَ بارزاَ في الحراك السياسي، مضافاَ إليها أوساط واسعة من المثقفين وطلبة الجامعات التي نزلت إلى ساحة المعركة مدعومة من الفئات الشعبية وأوساط هامة من الطبقة الوسطى. فنالت نصيبها من المضايقة والملاحقة والسجن والاغتيال، كما حلت السلطة بسبب ذلك هيئاتها النقابية وغيرت أنظمتها بما يمكنها من السيطرة عليها سيطرة تامة. وما زالت هذه النقابات تعاني من تسلط حزب السلطة والأجهزة القمعية على مقدراتها حتى الآن.

ب- المجابهة مع السلطة وحسم الصراع  لمصلحتها:

لعل أهم ما يلاحظه المرء منذ بداية الاحتجاج الشعبي أن المعارضتين الديمقراطية والمسلحة سارتا بخطين متوازيين. فلم تلتقيا طوال فترة الصراع مع السلطة على قواسم مشتركة. فكان كل طرف يغذي منفرداً حركة الاحتجاج ويوسع دوائرها، على طريقته، ويوجه ضرباته إلى النظام، بهذه القوة أو تلك، ويساهم في إضعافه وإدخال البلبلة والإرباك إلى صفوفه.

لكن المعارضة المسلحة، من خلال أعمال القتل العشوائي، كانت مرفوضة شعبياً، إلا أنها حققت بعض النتائج في إدخال الرعب والهلع لدى أوساط النظام والعديد من مؤسساته القمعية التي عجزت عن المواجهة، وهذا ما جعلها تزداد غروراَ. وبدا لها أنها قادرة على إسقاط النظام وحدها، مهملة دور الشعب الضروري والحاسم في معركة حادة كهذه. وهذا ما دفعها إلى التصعيد منتقلة إلى مرحلة أعلى من العنف، كالقتل الجماعي الذي بدأته بمجزرة مدرسة المدفعية بحلب التي راح ضحيتها عشرات من طلاب الضباط في حزيران 1979.

لكن الناس الذين أبدوا تعاطفهم واستعدادهم للحراك مع الوسط الديمقراطي، لم يكونوا على استعداد بقبول التغيير القائم على العنف. فأبدوا قلقهم من تلك الأعمال التي تثير الفوضى والضغائن لدى أوساط واسعة من المجتمع وتهدد الوحدة الوطنية. نتيجة لذلك لجأت أوساط اجتماعية واسعة إلى الانكماش والارتداد عن المساهمة حتى في النشاطات السلمية المعارضة. من هنا كان التغيير الديمقراطي السلمي يتلاءم مع ما وصلت إليه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ويتناسب مع قدرات الناس واستعدادهم لمواجهة قضاياهم.

1ً– مضاعفات مجزرة المدفعية:

دخلت البلاد، بعد مجزرة مدرسة المدفعية حزيران 1979، طوراً جديداً اتسم بالتصعيد والقتل بالجملة. وقد شجب الحزب تلك المجزرة، بأنها مدانة قومياً وإنسانياً، في رسالة داخلية علق عليها في جريدته “نضال الشعب” أيضاً. وقد حللت تلك الرسالة الأسباب العميقة لأحداث العنف، رافضة تذرع السلطة بالأعداء (امبريالية، صهيونية، رجعية)، مؤكدة أن شعبنا قادر على مواجهة المؤامرات وإحباطها شرط توفر الظروف الداخلية التي توحد الشعب والوطن.وتوقفت عند “نهج السلطة القائم على ركيزتين هما الاستبداد والطائفية” فهي تمارس “الدكتاتورية والإرهاب والنهب ودوس القانون وإلغاء الحرية ومنع المواطنين من ممارسة السياسة وإلغاء حقهم في تقرير مصير وطنهم ومجتمعهم من جهة، ومن جهة أخرى توجه طائفي مستتر في البداية ثم واضح ومكشوف. والمواطنون يواجهون فساد رجال السلطة دون محاسبة… المواطنون يعيشون في بلاد محكومة… بقانون الطوارئ… أي بإرادة رجال السلطة والأجهزة. البلاد تتحدث إذاعتها عن الوحدة العربية ويكشف واقعها وسياسة نظامها عن الابتعاد عنها والولوغ في الإقليمية والطائفية والعشائرية… وتتحدث إذاعتها عن الاشتراكية ويكشف واقعها كيف أن الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً. في البلاد لا تزال آثار الهزيمة بادية عليها والنظام يدفع قضيتها الوطنية من مأزق إلى مأزق… المواطنون يواجهون التمييز من خلال مؤسسات الدولة… التي تحولت باسم الحزبية والعقائدية إلى مؤسسات اختلت فيها المعادلة الوطنية، من خلال مراكز القرار السياسي والاقتصادي والعسكري… النهج الطائفي للسلطة أحد أشد الأخطار… ولا بد حين معالجة هذا النهج من التمييز بينه وبين الطائفة العلوية. فهذه الأخيرة لا تحكم البلاد، والطائفة السنية لم تكن تحكم البلاد في الماضي. الذي يحكم البلاد هو طبقات وفئات اجتماعية وأسر. أما الطوائف ففيها الفقراء والكادحون والشرفاء وهم الأكثرية، وفيها الأغنياء والمستفيدون من مواقعهم في السلطة، ومن مواقعهم في الإنتاج وهم الأقلية… نهج السلطة هو الذي يؤول إلى تسعير الروح الطائفية وإلى التوتر الطائفي، بل يمكن أن يؤدي… إلى وضع طائفة بمواجهة طائفة أخرى…”.

لعل أهم الملاحظات على الوضع بعد المجزرة، وكردود فعل عليها، ارتفاع مستوى إرهاب السلطة وزج الجيش في الصراع، وإرسال قطعات منه إلى حلب وحماة وادلب وجسر الشغور. وإعدامات سجن القلعة التي ذكرت الناس بإعدام العديد من عناصر المنظمة الشيوعية العربية في أواسط السبعينات، إثر تحركهم ضد السلطة بأسلوب عنفي، ومحاصرتها المدن والأحياء وتفتيشها بيتاً بيتاً، وأجراؤها تسريحات في الجيش ومؤسسات الدولة بدعوى “استئصال العناصر المندسة”، وإقدامها على تطهير جهاز التعليم من غير الموالين للبعث والسلطة.

كذلك تأججت المشاعر الطائفية نتيجة تلك المجزرة، وأسهم المسئولون في التحريض من أعلى المستويات مدعين أن الطائفة العلوية هي المستهدفة. وبهذا المعنى يمكن أن نفسر أحداث اللاذقية التي جرت أواخر آب وأوائل أيلول 1979، إثر مقتل الشيخ يوسف صارم وما تلا هذه الجريمة من ردود أفعال طالت العديد من الطائفة السنية، وسقوط العديد من القتلى والجرحى. كذلك ازدادت أعمال العنف والقمع إلى درجة كبيرة في دمشق وحماة وحلب وريف ادلب.

بصرف النظر عن مستوى التصعيد العالي، وجدت السلطة نفسها في وضع حرج، إذ ظهر بوضوح ضعفها في التحكم بالأمور أمنياً وسياسياً وتردت هيبتها داخلياً وعربياً ودولياً.

لعل أبرز انتقام أقدمت عليه السلطة، كان بعد محاولة اغتيال الرئيس عام 1980، في المجزرة التي خطط لها السفاح رفعت الأسد بواسطة سرايا الدفاع، وراح ضحيتها حوالي ألف سجين في سجن تدمر كانت أغلبيتهم من الإخوان المسلمين. وقد صاحب هذه المجزرة موجة من الاستنكار لدى المجتمع السوري. أصدر الحزب حينها بياناً يدين تلك الجريمة البشعة.

2ً– الحراك السياسي للنظام والمعارضة الديمقراطية

خلال عام 1979 وأوائل عام 1980، شهدت البلاد حركة سياسية نشطة، أسهم فيها أغلب القوى السياسية، بما فيها قوى السلطة في البعث وجبهة النظام. كما انجذبت إليها دوائر اجتماعية وشعبية واسعة. وحظيت هذه الحركة باهتمام خارجي.

ومع انهماك السلطة في استخدام أجهزتها القمعية، للسيطرة على الأمن، سعت أيضاً لاحتواء التحرك الشعبي. وكانت تتهرب من مطالب الجماهير ومن الكشف عن جرائم القتل ومثيري الفتن. باختصار أضحت كل قوة، بما فيها قوى النظام، تعيد النظر في حساباتها وتسعى للتأثير على الأحداث بما يخدم مصالحها وسياساتها.

فالسلطة نشطت في أكثر من اتجاه وعلى عدة مستويات. من جهة قامت باتصالات مع ممثلي الأحزاب وشخصيات سياسية واجتماعية مؤثرة. سعت من خلالها إلى تحييد البعض ولجم البعض الآخر. وقدمت تبريرات لعنفها المتصاعد واتهام الطرف الآخر في إثارة الفتنة. كما أطلقت الشائعات عن عقد مؤتمر لحزب السلطة وإجراء تغيير وزاري ومناقلات في الأجهزة. وكانت تعتبر أن ما يجري إن هو إلا مؤامرات آتية من معسكر كامب دايفيد، واعتبار سوريا البلد الوحيد الصامد ونقطة الضوء والأمل في الوضع العربي المتردي. وكانت تحرص على رفع المسئولية عن قمة السلطة، تجاه إجرام أجهزة القمع.

لكن بعض أوساطها كان يقر بوجود مصاعب وتجاوزات ناشئة عن الممارسة، وعن أخطاء محض شخصية. والبعض الآخر يقر بفساد أفراد غرقوا في جني الثروة والمكاسب على حساب الدولة وأنه لا بد من وضع حد لهذه الأعمال الطغيانية.

بعد مجزرة حلب وأحداث اللاذقية، عقد اجتماع مشترك للقيادة القطرية وجبهة النظام، صدر عنه بيان فيه اعتراف بالتقصير في مجالات عديدة. وأكد على ضرورة احترام المؤسسات الديمقراطية وإطلاقها. وطرح سبعة وثلاثين بنداً شكلت وعداً بالإصلاح لأجهزة الدولة والاقتصاد ومجلس الشعب والإدارة المحلية. لكنها في مقدمة بيانها لم تنس كيل المديح للحركة التصحيحية. كما أكدت ارتباط الأحداث الداخلية بالمخطط الامبريالي الصهيوني الساداتي.

أما على جبهة التيار الديمقراطي فكان التحرك واسعاً جداً. فقد صدرت بيانات مختلفة عن منظمات شعبية نذكر منها رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان في سوريا، ورابطة الحقوقيين، ومنظمات نقابية، وأصدرت رابطة العمل الشيوعي بياناً احتجاجياً أيضاً. هذه البيانات طالبت بالحريات العامة والإفراج عن المعتقلين من حزبنا ومن جماعة 23 شباط. وبعضها طالب برفع حالة الطوارئ، وأكدت على الإصلاحات الديمقراطية.

بعد إذاعة بيان جبهة السلطة، صدر قرار بتشكيل “لجنة تطوير الجبهة”. هذه اللجنة عقدت اجتماعاً في جامعة دمشق ضم الأدباء وممثلي الإعلام وأساتذة الجامعة وبعض ممثلي الهيئات النقابية. كان الحضور يمثل اتجاهات سياسية متنوعة بما في ذلك شخصيات مدافعة عن السلطة. كانت حصيلة النقاش الذي أداره محمود الأيوبي رئيس تلك اللجنة، ليس في مصلحته. وكان المدافعون عن النظام في الموقع الضعيف. لقد عرّاه الحضور فدانوا سياساته وأجمعوا على ضرورة إطلاق الحريات العامة.

ورداً على ما جرى أوقفت السلطة الحوار الذي كان مقرراً إجراؤه في باقي المدن. واتخذت تدابير بحق المنتقدين كالإيقاف عن الكتابة في الصحف والتهديد والتسريح.كما شنت حملة إعلامية مسعورة ضدهم. وكان كتّاب السلطة يقولون إما نحن وإما الإخوان المسلمون.

كما عقدت مؤتمرات لنقابات المهندسين والصيادلة والأطباء. وخرجت تلك المؤتمرات بقرارات تطالب باحترام الدستور وسيادة القانون ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بصرف النظر عن معتقده الفكري، واحتجت على الاعتقالات التي طالت الكثير من النقابيين والنشطاء من هذا الوسط. وأرسلت برقيات احتجاج إلى رئيس الجمهورية.

وفي تشرين الثاني 1979، أضرب خمسة آلاف عامل في الرميلان يطالبون بتعويض السكن وتعويض طبيعة العمل وبتوزيع عادل للمكافآت. كذلك أضرب (450) عاملاً في شركة الرصافة. طالبوا أيضاً بالتعويض العائلي والضمان الصحي.

كما أصدر المثقفون بياناً تحت عنوان “الوطن في خطر” تضمن أيضاً مطالب ديمقراطية. وهكذا دفعت الأحداث الوسط المثقف لأن يقول كلمته وليبرز كقوة طبيعية إلى جانب القوى الديمقراطية المعارضة.

في تلك الأجواء أصدر التجمع الوطني الديمقراطي ميثاقه أواخر عام 1979، ومطلبه الأساسي الداعي إلى التغيير الديمقراطي الجذري والسلمي. وبعد أن حلل الأوضاع في البلاد وأظهر طابع السلطة الاستبدادي والطائفي طرح سبعة عشر مطلباً لإنقاذ سورية من أزمتها.

وفي آذار 1980، وعلى أثر اتساع الإضرابات التي شملت العديد من المدن، أصدر التجمع أيضاً بيانه الشهير. وقد أخذ منحى الصراع، بعد أن فشلت محاولات الإضراب في بعض المدن بسبب تدخل السلطة، كدمشق وحمص، وتردد الأوساط التجارية في حلب، يميل شيئاً فشيئاً لمصلحة السلطة. ففي خطوة جديدة شنت حملات اعتقال واسعة ضد قادة النقابات المهنية والشخصيات الوطنية والديمقراطية، وضد حزبنا، منذ آذار على نحو ضيق، لكنها سرعان ما اتسعت في تشرين أول 1980. ثم تتالت الحملات على مدى الثمانينات، وقليلاً خلال فترة التسعينات. وطالت تلك الحملات أيضاً قياديين من أحزاب التجمع. وفيما بعد وسعت حملتها ضد حزب العمل الشيوعي. وقد ترافقت هذه الحملات بأعمال تعذيب وحشية سقط من جرائها العديد من الشهداء. لكن قمة إرهاب السلطة تجلى في أحداث مدينة حماة التي رغب السفاحون، كما كانوا يرددون أنهم “ربّوا المجتمع السوري بهذه المدينة” لقد تعرضت لأبشع المجازر التي ترقى إلى مستوى المجازر ضد الإنسانية.

ً3- مجازر حماة شباط عام 1982

إن ما يميز أحداث أوائل الثمانينات، منذ نيسان عام 1980 وحتى شباط عام 1982، “بروز ظاهرة قمع الناس بالجملة دون تمييز بين مواطن وآخر، تحت دعاوى البحث عن الإخوان المسلمين… فجندت السلطة حملات عسكرية ضخمة لسحق التحرك الشعبي إثر الإضرابات التي عمت معظم المدن السورية في شباط – آذار 1980. كان عماد هذه الحملات سرايا الدفاع وسرايا الصراع والوحدات الخاصة والعديد من الميليشيات التي تشكلت من أعضاء من حزب البعث وبعض قواعد أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية. وأسهمت أيضاً بعض فرق الجيش في أعمال القمع.

اندلعت أحداث حماة في 2 شباط عام 1982 عندما داهمت مجموعة من سرايا الدفاع أحد المقرات الرئيسية للإخوان المسلمين في حي الحاضر. فسرعان ما وجدت هذه المجموعة نفسها مطوقة. فاستغاثت بنجدات. ثم دارت على إثرها معركة طاحنة، تمكن المقاتلون بعدها من الانتقال إلى المدينة واستولوا على مستودعات الجيش الشعبي، ودعوا الناس إلى حمل السلاح وذكروهم بمذابح “بستان السعادة” و”باب البلد” التي جرت في السنة السابقة عام 1981.

في اليوم الثاني حاولت قطعات الجيش التي كانت تحاصر المدينة الدخول إليها، ولكنها لم تفلح إلا في اليوم الثالث 4/2/1982، وبعد استخدام مختلف صنوف الأسلحة (دبابات – صواريخ – مدفعية ميدان – هاون – آر ب ج – قنابل عنقودية). كما استقدمت السلطة وحدات من حلب ودمشق ولبنان ولواءين من الفرقة الثالثة، أحدهما قصف مخيم تل الزعتر عند دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976.

ما بين اليوم الثالث والسابع قامت مجموعات من سرايا الدفاع والوحدات الخاصة بإعدامات جماعية هائلة جنوب وشمالي الملعب، علماً أن هذا الحي لم يشهد أية مقاومة.

ومنذ اليوم الخامس ولأيام ثلاثة تلته تمكنت قوات الجيش من احتلال الحاضر بعد تدمير الأحياء على رؤوس ساكنيها. فدمرت الكيلانية الأثرية بالكامل، إضافة إلى مناطق مجاورة لها. وقد استخدم في هذه المعارك الطيران والغازات السامة القابلة للانفجار في الأنفاق والأقبية التي لجأ إليها المقاتلون (أنفاق القلعة والكيلانية)، كما فجر العديد من المساجد والكنائس، واستبيحت المدينة (سلب – نهب – قتل – اغتصاب – تمثيل – إعدامات جماعية)، ولم تنج المناطق المسيحية من التدمير والاستباحة. كما لم ينج حتى البعثيون وعملاء السلطة من القتل، إذ عوملوا كباقي المواطنين. وكذلك جرت إعدامات لأعداد كبيرة من الضباط وضباط الصف والجنود الذين رفضوا تنفيذ الأوامر أو تلكأوا في تنفيذها.

كان التدمير كبيراً جداً، إذ وصل في بعض المناطق كالكيلانية إلى 100% والحاضر إلى 70% وباقي المناطق بنسب أقل. و النزوح إلى خارج المدينة كان صعباً بسبب تطويقها، ورغم ذلك تمكن ألوف المواطنين من الهرب باتجاه حمص والسلمية. ويقدر العارفون أن عدد القتلى تجاوز العشرين ألفاً”.

إن الوصف الجزئي لأحداث حماة يظهر هول الوحشية التي انصبت على مدينة بطلة مشهود لها بالنضال ضد المستعمر، مدينة أنجبت قادة كباراً على المستوى السوري كان لهم دور كبير في تاريخنا الحديث، مدينة تعتز بكرامتها وبتقاليدها، مثلها مثل باقي المدن، لمواطنيها حق الحياة والوجود. إن استفراد السلطة الغاشمة بها واستباحتها بأسلوب سادي وفاشي لا يلجمه أي رادع وطني أو قومي أو إنساني، يدلل كيف أن النظام الاستبدادي الطائفي قد قطع حبل السرة مع المجتمع، وترك جرحاً من الصعب أن يندمل على مر الأيام والدهور. إن أحداث حماة عار على جبين هذا النظام، الذي لم يستطع، ولن تستطيع آلته الإعلامية وكل من تستر على جرائمه داخلياً وعربياً ودولياً من تبريرها و لا حتى السكوت عنها. إنها إحدى جرائم العصر المرتكبة ضد الإنسانية.

إن الاستنتاجات التي يمكن أن تستخلص من هذه الأحداث كثيرة، يصعب في هذه الوقفة السريعة تحديدها. لكن أهم ما يمكن قوله أن النظام، وإن حقق انتصاراً أمنياً حاسماً، لم يستطع حتى بعد مرور حوالي ربع قرن أن يحقق انتصاراً سياسياً لا على المجتمع ولا على المعارضة. فالمعركة معه مازالت مستمرة وإن خبت جذوتها ولو إلى حين. إن النضال من أجل سورية متحررة من الاستبداد والطائفية، يبقى الهدف الأساسي الذي يجمع كل الطيف الاجتماعي. وسوف يتوحد الشعب وقواه الحية لدحرهما، وإعلاء صرح الوطنية والديمقراطية. ولسوف يستعيد المجتمع وحدته التي مزقتها سياسات النظام المعادية لأمانيه وتطلعاته في الحرية والكرامة والديمقراطية.

 

 

[/toggle]

 


[toggle active=”yes” title=”

الفصل الثاني: الأوضاع العامة بين عام 1982 – 1991“]

 

أولاً- إن التردي الذي أخذ يسم الوضع العربي في ذلك الوقت من مطلع ثمانينات القرن الماضي، كان بمثابة المقدمات الموضوعية التي سهلت الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، والنتائج التي ترتبت عليه.

فلقد قامت إسرائيل باجتياحها بعد خمس سنوات من زيارة السادات إلى القدس، وبعد أن توصلت، بمساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية، حليفها الاستراتيجي، إلى إبرام “معاهدة السلام” المصرية الإسرائيلية التي أدت، عمليا، إلى إخراج مصر، رافعة العمل القومي، من الصراع العربي الإسرائيلي.

ومن وقائع هذا الاجتياح، يمكن الاستنتاج أن مسار العنف الدامي والعاري الذي اعتمدته السلطة في ذلك التاريخ، كخيار وحيد في مواجهة تطورات الوضع الداخلي السوري، وتوجته في المأساة الرهيبة التي شهدتها مدينة حماة في أواخر شباط 1982، وما آل إليه ذلك من شلل وعطالة أصابا المجتمع السوري في مناحي حياته كافة..الخ، هذا المسار جعل الأبواب مشرعة في وجه الاجتياح الذي اختارت إسرائيل أن يكون في أوائل حزيران من عام 1982.

ومن المعلوم أن إسرائيل قامت عشية الاجتياح بتسخير دبلوماسيتها عبر العالم ووسائل إعلامها، لتأكيد أنها لا تهدف من وراء إدخال جيشها إلى لبنان سوى إلى “إبعاد المقاومة الفلسطينية” عن جنوبه من أجل تأمين “سلامة الجليل”. وهو بالتالي، لن يتجاوز مسافة الأربعين كيلو مترا من الحدود اللبنانية -الإسرائيلية. وكذلك فعلت الولايات المتحدة الأمريكية.

والمأساة أن الحكام العرب عامة، وفي سوريا على وجه الخصوص،التي يهيمن جيشها على لبنان ويعيش شعبها في وضع داخلي منهك، انطلت عليهم الحيلة، أو بالأحرى، وصل تخاذلهم إلى الحد الذي دفعهم إلى ترك “المقاومة الفلسطينية” تواجه مصيرها بنفسها.

لكن “إسرائيل”، ولأول مرة في تاريخها، تمكنت عبر مواصلة اجتياحها من محاصرة بيروت، وتدميرها وإخراج “المقاومة الفلسطينية” بعد صمود بطولي استمر أكثر من سبعين يوما دون أن ترف له جفون العرب أو العالم. وارتكبت، بعد ذلك، بالاشتراك مع “القوات اللبنانية” الفاشية، أبشع مجازر في التاريخ (صبرا وشاتيلا)، ذهب ضحيتها الآلاف من أوساط الشعبين الفلسطيني واللبناني العزل تحت أنظار الجميع، وكشفت عورة “الرفض” العربي وهتكت كل مقولات “الصمود والتصدي” و “التوازن الاستراتيجي”.

تمكن الاجتياح الإسرائيلي للبنان من تحقيق مراميه في دفع “المسألة اللبنانية” إلى أبعاد أكثر خطورة، بالعمل على تعميق الانقسامات الطائفية والنعرات المذهبية التي عمقت التقاتل، ووصلت إلى مستوى الحي والشارع والزاروب. و”إسرائيل” التي سحبت بعد ذلك جيشها من العمق اللبناني إلى الشريط الحدودي، تركت  مواصلة الأمر للسوريين.

سعى “النظام” في سوريا إلى تعويض ما خسره من أوراق، نتيجة الاجتياح الإسرائيلي، بالعمل على تطويع الوضع الفلسطيني، بما يعني له ذلك من معادلات الصراع، وفي المعادلة الأمريكية تحديدا، من خلال تفجير منظمة “فتح” كبرى الفصائل الفلسطينية، والتهديد بتفجير غيرها، ومطاردة المقاتلين في البقاع ومحاصرة المخيمات، وصولا إلى معارك طرابلس وتعطيل القرار الوطني الفلسطيني بتعطيل “منظمة التحرير” وشل مؤسساتها ووضعها  في تصرفه.

ترافق ذلك مع تنفيذ الغارة الإسرائيلية المعروفة على مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس،  والمحصلة في النهاية كانت دفع الوضع العربي إلى مزيد من الإخضاع والتطويع.

لقد عمل النظام، من خلال تشديد قبضته على المجالين اللبناني والفلسطيني، على تثبيت وتوسيع دوره الإقليمي مستندا إلى تضليله الإعلامي عبر مقولة (التوازن الاستراتيجي)، متجاهلا أن (التوازن) يتطلب بنية غير البنية القائمة، ونهجا مختلفا جذريا عن النهج المتبع.

ثانياً- لم تأت مأساة مدينة حماة (شباط 1982) خارج السياق العام. فقد أريد لهذه المدينة أن تكون عبرة  للمدن السورية الأخرى وللشعب السوري بشكل عام، لكي يدرك الثمن الذي سيدفعه إذا ما تجرأ واندفع أكثر في المطالبة بتغيير الأوضاع القائمة المفروضة عليه.

لقد كانت مأساة حماة المروعة نهاية الفصل الدامي في سحق محاولة الشعب السوري في التطلع نحو التغيير والحرية والديمقراطية. فبات الحيز المتاح للنضال الديمقراطي أضيق مع عملية نزع السياسة من المجتمع. وكان نمو قدرات الدولة التسلطية، والآليات التي انتهجها النظام في مرحلة التأسيس، على حساب إضعاف المجتمع وتهميشه وتقليص حقله السياسي.

غير أن النتائج التي قاد إليها “نصر النظام الأمني” لم تكن قليلة الشأن. فقد تركت آثارها الكبيرة على حاضر ومستقبل البلاد. ولم ينج النظام نفسه من تبعاتها، إذ انكشفت بناه على حقيقتها، وبات بعدها أسير خياره الفاشي، وبالتالي، وقع في إسار مراكز ا لقوى العسكرية والأمنية التي راحت تتنافس في ممارسة سلطاتها غير المحدودة، وتتوازع مراكز النفوذ والسيطرة.

وجاء مرض الرئيس ودخوله في غيبوبة في نهاية عام 1983 ليفجر الصراع بين الطامعين في التركة، الذي بلغ حد تهديد بنية النظام بالتصدع. وجاء التدخل المباشر من قبل رأس النظام، بعد تجاوز الأزمة الصحية، ليحسم الأمور وينزع فتيل الانفجار. ويعيد ضبط هذه المراكز وإحكام السيطرة عليها من جديد دون أن تفقد هذه المراكز امتيازاتها ونفوذها.

وكما هو معروف، قام النظام على ابتزاز الوضع الداخلي بالوضع الخارجي، وتعطيل الحياة السياسية في المجتمع وتغذية الانقسامات العمودية فيه، والسماح فقط للنشاط الديماغوجي المسخر لخدمته من خلال تزييف الحقائق والتعمية على الأضرار والأذى اللذين يلحقهما نهجه بالبلاد.

إلا أن سياساته هذه أخذت تبدو مع الزمن عاجزة عن تلبية هذا البرنامج بنفس الوسائل والأساليب التي كانت تستخدمها.فوحدة القرار السياسي والعسكري والأمني التي شكلت ركيزة النظام الأساسية أصابها الخلل منذ تفجر أزمة البديل بين مراكز القوى، وأصبحت ضمانات هذه الوحدة هشة ومثلومة.

غير أن اللافت للانتباه أن وسائل الإعلام التابعة للعديد من الأوساط الدولية، وبصورة خاصة الأمريكية منها، كانت تشير، وهي تتعرض للأوضاع العربية وأوضاع المنطقة، إلى “لاستقرار” الذي تنعم به سورية.وتذهب في تحليلاتها إلى أن مثل هذا “الاستقرار” قد أتاح للنظام القائم ممارسة دور إقليمي مميز!! كما أنها لم تكن تخفي أن طبيعة هذا الدور الذي جاء ملبيا لسياسات وتوجهات دولية معينة، هي التي منحت النظام هذا “الاستقرار” وهذا الاستمرار.  ولقد تجاهلت تلك الأوساط، بعد أن احتدم الصراع بين أعمدة النظام ومراكز القوى فيه حول البديل، جوهر هذا الصراع. وعملت على إخفاء نتائجه الوخيمة على مجمل المسائل الاجتماعية والوطنية  والقومية. وشرعت، تحت مقولة استمرار ” الاستقرار ” في العمل على احتوائه بما يلبي حاجات تلك المرحلة التي أخذت ترتسم ملامحها في الأفق الدولي في ذلك الوقت.

وكان يبدو واضحا أن أحد أهم المحاور الأساسية في تحرك النظام تجلى في إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية في الاتجاه الذي يعيد إنتاج صورة ذلك “الاستقرار” بالمعنى الذي يلبي السياسات الدولية وشروطها في إنتاج جملة السياسات المنسجمة معها. وهنا يبدو كم كان ضروريا الحفاظ على أشكال وأدوات هذا “الاستقرار” التي تجلت في تعبئة ونشر الأجهزة الأمنية، وفي إعادة صياغتها لتمكينها من الاستمرار في إحكام القبضة على المجتمع وضبط حركته وإطلاق يدها في مزيد من التحكم بمصائر البشر وبمستقبلهم.

ثالثاً- اتسم الوضع الداخلي السوري خلال سنوات الثمانينات، بالتأزم الشديد على مختلف المستويات. فمع انسحاق الحركة الشعبية وشل الحياة السياسية، وبروز أزمة مراكز القوى، ومع تكلس النظام عند الآليات والقواعد التي أرساها خلال مرحلة السبعينات ظهرت أزمة اقتصادية حادة في أواسط الثمانينات، وأخذ الاستثمار في السياسة الخارجية يفقد قدرته على تمويل الإنفاق الداخلي، في الوقت الذي بدا فيه أن الموارد الداخلية لا تفي بحاجات هذا الإنفاق، إثر تقلص المعونات والمساعدات من دول الخليج، وتضخم إنفاق الدولة، وتعاظم سياسة الفساد والإفساد التي استشرت في أوصالها، وتدني نسبة الإفادة من الطاقات الإنتاجية القديمة والجديدة، وتجلي النتائج السلبية للسياسات التنموية المنفذة خلال عقد السبعينات التي كانت قائمة على مبدأ التمويل من خلال القروض والتضخم المترافقة مع النهب وقبض العمولات وتهريب الأموال.

لقد انعكست الأزمة الاقتصادية بشكل مباشر على الأوضاع المعاشية للمواطنين، وحولت حياتهم إلى كابوس حقيقي. وانحدرت العملة الوطنية إلى عشر قيمتها خلال سنوات معدودة. وتدهورت بشكل مريع القدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود. ولم تستطع زيادات الأجور التي حصلت في نفس الفترة وما تلاها من ردم ولو جزء يسير من الفجوة المتباعدة بين الأجور وتكاليف المعيشة.

أخذت وتيرة التدهور في الوضع الاقتصادي تتسارع بين شهر وآخر، وباتت شاملة لكل جوانب الحياة الاقتصادية، ابتداء من شلل النظام الاقتصادي، إلى فقدان المواد من الأسواق، وتدهور الإنتاجين الصناعي والزراعي (في عام 1984 بلغت قيمة المستوردات الغذائية من القمح 700 مليون ليرة والدقيق 200 مليون، والذرة 175 مليون، والسكر 280 مليون، أي ما مجموعه 1،335 مليار ليرة سورية ويعادل في حينه 334،1 مليون دولار)،والارتفاع الشديد في نسبة البطالة بشكليها المقنع والسافر إلى ارتفاع الأسعار المستمر.

وهكذا انحدرت قطاعات واسعة من المجتمع إلى ما دون خط الفقر، وتحمل الشعب وخاصة فئات الدخل المحدود وزر الأزمة الاقتصادية التي كان من مؤشراتها أيضا تراجع معدلات النمو الاقتصادي،  (تراجعت من 11%عام 1981 إلى 3% عام 1982 إلى الصفر عام 1983 إلى – 2% عام 1984، وتضاعفت الكتلة النقدية المتداولة بين أعوام 1970 – 1984 بمقدار 14 مثلا، بينما تضاعف الناتج المحلي الصافي، الذي يعبر عن النمو الحقيقي، بمعدل ثلاث مرات فقط وفقا لمصادر النظام الإحصائية ). كشفت هذه الأزمة مآل سياسات النهب اللاعقلانية والسير في طريق التبعية في ظل نهج التسلط والاستبداد والغياب الفعلي للرقابة والمحاسبة.

ولم تجد السلطة أسلوبا لمواجهة الأزمة الاقتصادية غير ما أنتجه عقلها البيروقراطي التسلطي من إجراءات وقرارات ذات طابع تعسفي تحمل المجتمع التبعات دون أن تمس بامتيازات الطبقة السائدة.

ومن أجل وضع حد لتدهور العملة الوطنية والتخفيف من حدة الخلل في ميزاني التجارة والمدفوعات، لجأت السلطة إلى إصدار القانون رقم 24 لعام 1986 لقمع المتعاملين بالعملة الصعبة في السوق السوداء، متوهمة أن تدبيرها هذا سيؤدي إلى صمود سعر صرف الليرة السورية بالنسبة لباقي العملات. كما أقدمت على فرض القيود على عمليات الاستيراد ووقفها في ميادين عديدة بشكل تعسفي دون النظر إلى النتائج المترتبة على سير الإنتاج، وعلى الاحتياجات الأساسية للمواطنين بما فيها الغذاء والدواء. كذلك كان للإجراء الذي اتبعته بعد ذلك بالسماح بإصدار (إجازة استيراد بضائع بطرق تحويل غير نظامية) دور كبير في ارتفاع جديد وباهظ في الأسعار، أدى إلى مزيد من الهبوط في القيمة الشرائية لليرة السورية التي جرى طرح كميات كبيرة منها في السوق المحلية وفي الأسواق المجاورة للحصول على القطع الأجنبي.

كما سارعت في إصدار القانون الأساسي للعاملين في (الدولة) الذي بوشر بتنفيذه في بداية عام 1986، والذي قيدت من خلاله فرص العمل والتوظيف في الدولة والقطاع الاقتصادي إلى حد كبير، (ازداد عدد عمال قطاع الدولة الصناعي خلال الأعوام 1985 – 1989 /3432/ عاملا فقط، في الوقت الذي كان يدخل سوق العمل بشكل فعلي /120/ ألف عامل جديد سنوياً). كما أكسبها هذا القانون حق تسريح العامل تعسفيا وتجريده من حق الاعتراض والتقاضي بموجب المادة / 138/ التي شكلت تعديا صارخا على حق العامل، وتجاوزت في خطورتها المادة /85/ السيئة الذكر من قانون الموظفين الأساسي التي استغلت في مراحل مختلفة لتطهير مؤسسات الدولة من عناصر المعارضة السياسية.

لم تمر هذه السياسات دون مضاعفات. لقد ظهر في حينه التململ الشعبي منها، وأخذ يظهر الارتباك في أوساط أجهزة السلطة التي راحت تستخدم سلاحي القمع والإرهاب، بالإضافة إلى سلاح الديماغوجيا الرخيص، للجم أي بادرة تحرك مضاد. كما أنه عمل، انطلاقا من نهجه الطائفي البغيض، على توظيف نتائج سياساته في أوساط الطائفة العلوية من خلال بث الإشاعات والادعاءات بأنها مستهدفة من ورائها، بهدف العودة إلى أجواء الاستنفار، الطائفي بعد التململ الملحوظ الذي أخذ يعم أوساطا واسعة من أبنائها، كغيرهم من أبناء الشعب، تجاه نهج النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

مع استفحال الأزمة، أدركت السلطة أن التعويل على المساعدات والقروض الخارجية لدعم الاقتصاد لم يعد ممكنا الركون إليه، وبالتالي، لا بد من الاعتماد أكثر فأكثر على الموارد المحلية، الأمر ا لذي دفعها إلى توجيه سياستها منذ منتصف الثمانينات وفق الاتجاهات التالية:

أ– التركيز على استثمار الثروات الباطنية بأسرع السبل وأقصر الأوقات.

ب– العمل على وضع حد لتدهور الإنتاج الزراعي ولتفاقم مسألة استيراد الغذاء. وجرى تنفيذ بعض الخطوات التي عملت على تحسن نسبي أخذ يشهده القطاع الزراعي بالتدريج. غير أن المحاولات التي جرت لجذب الرساميل للاستثمار في ميدان الزراعة بالمرسوم التشريعي رقم /10/ الصادر عام 1986 الذي قضى بإحداث شركات زراعية مشتركة، أفضت إلى نتائج مخيبة للآمال.

ج– اعتماد برنامج للتصحيح الاقتصادي، هدف إلى التخفيف من حدة الاختلالات في معادلات التوازن الاقتصادي، دون الاكتراث بالأضرار الاجتماعية التي ترافقت مع تنفيذ هذا البرنامج.

د– الاستمرار في مد الأيدي إلى جيوب الناس من خلال التضخم النقدي الذي جرت تغذيته باعتماد أسلوب تمويل موازنة الدولة عن طريق العجز، ومن خلال سياسة رفع الأسعار التي كانت تلجأ إليها السلطة بين الحين والآخر (المحروقات، السلع التموينية، الدخان، الدواء.. ألخ).

لقد أدى العمل وفق التوجهات السابقة إلى التخفيف من حدة الاختلالات الاقتصادية، لكن مع تحميل قطاعات واسعة من المجتمع السوري أعباء إضافية فاقمت في تدني مستواها المعيشي المتدني أصلا. وفاقمت أيضا من ظاهرة التوزيع غير العادل للدخل الوطني ا لذي جعل التمايز الطبقي أكثر حدة. وهذا بدوره أدى إلى بروز ظاهرة الركود التضخمي التي تجلت في الكساد الذي ما انفكت تواجهه الأسواق رغم الانخفاض المستمر للقيمة الفعلية للنقد الوطني.

باختصار، ظهر واضحا أنه قد ولى عهد “الازدهار ” الذي عرفته البلاد بين أواسط السبعينات ونهايتها، وحل محله عهد الأزمة والبؤس. وهو واقع ستكون له نتائج بالغة الخطورة على مستقبل البلاد.

رابعاً- حين اندلعت شرارة الحرب العراقية – الإيرانية في أيلول من عام 1980، وحتى حملة الاعتقالات الواسعة التي طالت الحزب وغيبت قيادته، لم تكن قيادة الحزب قد اتخذت موقفا محددا من هذه الحرب.

لقد اندلعت هذه الحرب بعد سنة ونصف تقريباً من انتصار الثورة الإسلامية في إيران، التي كنست نظام الشاه الإمبراطوري، الذي كان من أكثر الأنظمة رجعية وارتباطا بالخارج في المنطقة كلها.

وسرعان ما أخذ النظام الجديد في إيران، بعد أن استتبت له مقاليد الأمور، برفع شعارات تصدير الثورة إلى بلدان المنطقة التي أخذ ينتابها قلق شديد من النظام الجديد، خاصة العراق السعودية وبلدان الخليج.

ولم يتأخر الوقت كثيرا ليتكشف الأمر ويظهر جلياً أن قرار الحرب، وقرار استمرارها أيضا، كان قرارا دوليا, أمريكيا على وجه الخصوص، دفعت إليه ومولته بسخاء أطراف عربية وتولى تنفيذه النظام العراقي.

وعلى رغم صدور أكثر من قرار عن مجلس الأمن الدولي بوقف هذه الحرب، إلا أن استمرارها كان يعكس حقيقة موقف الأطراف الدولية والإقليمية منها. فطالما بقيت في إطار استنزاف البلدين المتحاربين، ولا  تتعدى مصالح الدول والأطراف الأخرى، الدولية والإقليمية، وطالما بقيت توظف مضاعفاتها وتناقضاتها في رفع نسبة صادرات الأسلحة وزيادة المستهلك منها، كان أوارها يشتد، ونزيف شعبي البلدين وقدراتهما يظل مفتوحا.

لقد عملت أميركا وإسرائيل على استغلال هذه الحرب، ورأتا فيها فرصة ذهبية لإضعاف المنطقة وإخضاعها وفرض مخططاتهما عليها.

ولقد آل ذلك إلى رضوخ حكام دول النفط الخليجية لنشر المظلة الأمريكية فوق بلدانهم وموافقتهم على التدخل العسكري المباشر لحماية منابع النفط، بما يعني عودة المنطقة إلى الاستعمار المباشر، والحصول على مزيد من التنازلات في مسألة الصراع العربي – الإسرائيلي.

كما جاءت فضيحة الأسلحة الأمريكية- الإيرانية – الإسرائيلية، أو ما عرف وقتها بـ “إيران- غيت”، لتؤكد معطياتها أن استمرار هذه الحرب كان من المسائل الكبرى في السياسات الأمريكية في ذلك الوقت. وكان يجري العمل على توظيفها في دفع الوضع العربي إلى مزيد من التدهور، عبر الإبقاء على تناحر نظمه، وربطها بعجلة سياسات القوى الخارجية، ولتؤكد أيضا أن كل الذين عملوا من العرب على تغذيتها ومدها بأسباب الاستمرار، إنما كانوا يخدمون تلك السياسات انطلاقا من مصالح آنية وأنانية ضيقة لا يربطها رابط لا بالوطنية ولا بالقومية ولا بالتقدم. ويستوي في هذا النظامان السوري والليبي  “التقدميان” “أو الرجعية السعودية التقليدية”.

 الأمريكان، والإسرائيليون على وجه الخصوص، ومعهم بعض الحكام العرب، لم يكونوا يرغبون برؤية نهاية سريعة لهذه الحرب المأساوية التي أخذت الاحتفالات بذكراها السنوية تجري عبر شن هجمات جديدة عملت على تبديد المزيد من الثروات والطاقات، وكان يذهب وقودا لها عشرات الآلاف من البشر.

من جانب آخر فإن الرؤوس الحامية في إيران لم تكن ترغب بوقف هذه الحرب. فعلى رغم الفشل الذي آل إليه الهجوم الإيراني الكبير الذي جرى في مطلع العام1987 والنتائج المدمرة التي انتهى إليها، لم تصغ إيران إلى كل الدعوات الصادقة التي كانت تطالب بوقفها. ومن بينها كانت الدعوة السوفييتية الرسمية والعلنية التي جرى إبلاغها (1987) لوزير الخارجية الإيراني والتي جاء فيها: “إنه، لمعالجة شؤون هذه الحرب، ليس مفيدا النظر إلى الماضي. المفيد هو النظر إلى الحاضر والمستقبل. وخمس سنوات على طاولة المفاوضات أفضل بكثير من حرب ولو ليوم واحد”.

ولقد جاء قرار مجلس الأمن الدولي (598) الذي صدر في /20 /7/1987 بشان هذه الحرب معبرا عن درجة الاحتقان العالية في الرؤية الدولية لمجرياتها. وإذا كان إجماع الدول الكبرى، كما تجلى في إصدار القرار، لم  يخف التباينات التي أملت عليها توافقها في إصداره، فإن مجرد إقراره كان مناسبة ثمينة لكي يصار إلى قطع الطريق على كل ما كانت تضمره الإدارة الأمريكية في سعيها لإطالة أمدها أكثر فأكثر.

ومع غياب أية إرادة دولية كافية لفرض تطبيق هذا القرار، الذي لم يوضع في حيز التنفيذ إلا بعد عام من صدوره، ظهر الفارق بين القبول العراقي به والتعنت الإيراني ضده فارقا بين مبدأ توفير فرص السلام لحرب لم تكن ذات معنى ومبدأ إبقاء الأبواب مشرعة للتدخلات الخارجية ولمزيد من الكوارث التي طالت شعبي البلدين المتحاربين ولفحت شعوب المنطقة بأسرها.

لقد رأى النظام السوري في الحرب العراقية – الإيرانية فرصة سانحة للعمل على عزل العراق وإشغاله بها، وعلى ابتزاز الوضع العربي عامة وبلدان الخليج خاصة، من خلال سياساته التي دفعت إلى استمرارها، متغاضيا عن كل المخاطر التي ترتبت عنها على صعيد الوضع العربي، وعل صعيد الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلى الأخطار الكبيرة التي هددت المنطقة من جراء استمرارها.

إن حزبنا الذي دان هذه الحرب منذ العام 1981، ودان استمرارها، كان يرى أن الحل العملي والعقلاني هو في الوقف الفوري لها، والتوجه للعمل على حل جميع المشاكل التي كانت عالقة بين البلدين المتحاربين بعيدا عن الأحقاد التي ورثتها، من خلال المفاوضات على أساس الاحترام المتبادل لاستقلال كل منهما وسيادته على أراضيه، وعدم التدخل في تطوره المستقل وفي شؤونه الداخلية، ووقف التدمير الفظيع واللامعقول للموارد البشرية والمادية الهائلة، وتوجيهها، من ثم، لإعادة إعمار ما خلفته من خراب ودمار.

وكان يرى أن مصلحة شعوب المنطقة تكمن في وقف هذه الحرب الطاحنة والدخول في مفاوضات تضمن حقوق الطرفين وتوقف مسلسل الدمار الذي أطاح بقدرات البلدين معا. وهذا، بالتالي، يقطع الطريق على كل التدخلات الخارجية التي تعمل على تمرير مشاريعها العدوانية في المنطقة.

وقد استمر على موقفه هذا إلى أن وضعت الحرب أوزارها في العام 1988.

خامساً- لكن لم يمض وقت طويل على طي صفحة هذه الحرب المدمرة، حتى آلت تعقيدات الوضع العربي إلى توليد أزمة كبرى حين أقدم النظام العراقي على اجتياح الكويت في الثامن من آب عام 1990، كرد فعل على ضغوط السعودية وبلدان الخليج التي طالبته برد الديون الضخمة التي أغدقتها عليه خلال حربه الطويلة مع إيران، وعلى تضرره من سياساتها النفطية التي عملت على إغراق السوق النفطية العالمية بالنفط وآلت، بالتالي، إلى انخفاض أسعاره إلى الحدود الدنيا.

هذه الأزمة التي لم يتمكن الوضع العربي العاجز من احتوائها، واجتراح الحلول المناسبة لها، دفعت المنطقة على مسار، جعل أبوابها مشرعة في وجه تدخلات خارجية لم يسبق لها مثيل.. وآلت إلى اندلاع حرب الخليج الثانية في كانون الثاني من عام  1991.

وإذا كانت المتغيرات الدولية في أواخر عقد الثمانينات وبداية التسعينات جاءت لتسحب من النظام السوري هامش المناورة الذي كان يستثمره لمصلحته في ظل الحرب الباردة والاستقطاب الدولي، فإن أزمة الخليج الثانية في عام 1990 جاءت لتضعه أمام خيارين: إما موقف ينسجم مع المصلحة الوطنية والقومية بالتمسك بالحل  العربي لهذه الأزمة ومعارضة تدخل القوات الأجنبية وتجنيب العراق العدوان المبيت له، وإما الانضواء تحت لواء السياسة الأمريكية. ولقد أخذ النظام بالخيار الثاني الذي جاء محمولا بوعد إطلاق يديه في لبنان وبتسوية مسائله الشائكة مع العدو الإسرائيلي.

في هذا السياق، كان اتفاق الطائف الذي احتاج في عام 1989 إلى قابلة دولية وعربية لولادته فرصة محفوفة بالمخاطر. لكنها كانت الأوفر حظاً في ذلك الوقت لترميم الدولة اللبنانية ورأب الشروخ الحادة في المجتمع اللبناني، وإعادة الاعتبار- ولو جزئيا- للمسألة اللبنانية بوصفها مسألة لبنانية – لبنانية، وإعادة الاعتبار للصراع السياسي الديمقراطي السلمي وتهدئة أصوات المدافع.

على أرضية هذه الحقائق، وفي ظل قراءة التطورات التي فرضتها أزمة الخليج الثانية، كان النزوع الأمريكي واضحاً لادعاء عكس ما كان قائماً بالفعل، وذلك بتأكيد فصل ظاهري، مفتعل وقسري، لأزمة الخليج عن أزمة الصراع العربي الإسرائيلي والأزمة اللبنانية، وبالتالي، ساعدت اللحظة السياسية في حينه كي يلعب الأمريكان دورا فاعلاً، بالتنسيق مع الدور السوري، لبعث الحياة في اتفاق الطائف، ولإظهار أن مسيرة الحل في تقدم، الأمر الذي أخذ يلقي ظلالاً من الشكوك على خلفية إطلاق اليد السورية في لبنان، وعلى التطور الملحوظ في العلاقات الأمريكية-السورية التي تنامت مع أزمة الخليج، وحيال موقف النظام السوري من هذه الأزمة التي لقيت من الإدارة الأمريكية أشد الترحيب، ونقلت أشكال التشاور والتنسيق بين الجانبين الأمريكي والسوري إلى أعلى المستويات.

ولعل إحدى أهم المسائل التي تبرز اليوم بالذات إلى الواجهة، في خضم الأحداث التي يشهدها لبنان، تلك المتعلقة “بالتفويض” الأمريكي للبنان، كي يستدعى الجيش السوري لضرب القصر الجمهوري، حيث كان يعتصم الجنرال عون، والإستحصال من إسرائيل على الأمان الجوي للطيران السوري حتى يحلق في الأجواء اللبنانية، ويقصف بعبدا، أو غيرها من المواقع. كل ذلك لأن سوريا كانت قد وافقت على الاشتراك العسكري الرمزي إلى جانب أمريكا في الحرب الأولى على عراق صدام حسين.

ولقد طُوِي مع سقوط حكومة الجنرال عون، فصل من فصول الأزمة اللبنانية التي ظلت متفجرة طوال خمسة عشر عاما، وأزيحت إحدى العقبات الهامة أمام تنفيذ المراحل الأولى من اتفاق الطائف، الذي كان مضى عليه عام ونيف. ودخلت الأزمة اللبنانية طوراً جديداً أخذ يُفرض على الأطراف المحلية اصطفافاً يتناسب مع الدور السوري المباشر فيها بعد أن بات يحظى في حينه باعتراف ودعم وتغطية دولية وعربية لم يصل إليه من قبل، في الوقت الذي ظلت فيه أمريكا تحتفظ لنفسها بالدور الأهم في إدارة هذه الأزمة والإمساك بخيوطها الأساسية، مع سيطرة إسرائيل المباشرة على الشريط الجنوبي، واستباحتها للجنوب اللبناني بين الحين والآخر، واستمرارها عاملا مؤثرا في الوضع الداخلي اللبناني.

لقد كان هناك شيء من الغموض أحاط باتفاق الطائف، وما دار حوله من صراع مع سوريا للقبول به لجهة دورها العسكري في فترة تنفيذه، وإلزامها فترة سنتين، بعد إنجاز الإصلاحات الدستورية المطلوبة، لإخراج جيشها من بيروت إلى البقاع، تمهيدا لبرمجة عودته إلى ثُكُن داخل حدودها.

وظل النظام السوري يلعب على هذا الغموض بغية إبقاء هيمنته في لبنان مفتوحة على الدوام.

وإذا كان الحزب أكد في ذلك الوقت، أن المخرج الجدي للأزمة اللبنانية، يرتبط برفع الوصاية السورية عنه، وبتغيرات تطال الوضع العربي، فإنه كان يؤكد أيضاً، أن أي أفق ممكن لوضع حد للحرب العبثية الدائرة على الساحة اللبنانية، مسألة تلقى ترحيب كل الغيورين على القضية الوطنية وعلى  المصلحة القومية.

سادساً- لقد جاءت مواقف الحزب من الأحداث الدولية ومعالجاته لها خلال الفترة المعنية، معبرة عن استقلالية الحزب في رسم سياساته التي دشنها المؤتمر  الرابع وكرسها المؤتمر الخامس. من هذا المنطلق عارض الحزب التدخل السوفيتي في أفغانستان ودان التدخل الفييتنامي في كمبوديا، والتدخل الصيني في فييتنام. كما لم يخضع في معالجته الأزمة البولونية للإرهاب الفكري الذي اختصر أسباب هذه الأزمة بالعامل الخارجي، بل نظر  إلى جذور هذه الأزمة، ورأى أنه من غير معالجة الأسباب العميقة لها، فإنها ستعاود الظهور مرة أخرى .. وسوف تعمل القوى المعادية في الخارج على استغلالها ودفعها بالاتجاه الذي يخدم مصالحها ويحقق أهدافها.

من جانب آخر، فإن التطورات المتسارعة والكبيرة التي شهدها الوضع الدولي في السنوات الأخيرة من الثمانينات، بعد ومع المتغيرات التي حصلت في الاتحاد السوفيتي وبلدان أوروبا الشرقية، على إثر وبفعل البيروسترويكا التي أطلقت بعد العام 1985، لم تأخذ في تحليلات الحزب ومواقفه الحيز الكافي والاهتمام المطلوب. غير أننا نستطيع القول: إن الحزب بادر إلى إعلان موقفه المبدئي، الواضح والمحدد، من البيروسترويكا وعملية التجديد التي أطلقتها، منذ عام 1987. وهو لم يتخذ من العملية حينذاك موقفا إيجابيا فحسب، بل رأى فيها أيضا مدخلا طبيعيا لإعادة تأسيس الوعي من جديد، من خلال إعادة الاعتبار للفكر بعد تخليصه من الدوغمائية والجمود العقائدي اللذين لازما هيمنة الستالينية على الماركسية عالميا، وتحريره من القيود التي كانت تكبله وتحول بينه وبين الإبداع الإنساني الذي هو أساس كل تقدم بشري، ولتخليصه من الشوائب والانحرافات التي ألحقتها به التجربة العملية على مدى عقود من الزمن، ولإعادة الاعتبار للإنسان كقيمة عليا في المجتمع وكهدف أسمى في هذا الوجود.

وبالاستناد إلى جوهر رؤيتنا التي بنينا عليها موقفنا الإيجابي تجاه البيروسترويكا في لحظة انطلاقها، فإننا لم نتخل عن نظرتنا الانتقادية في التعامل مع التطورات التي أعقبتها خلال السنوات التي تلت. غير أن الحزب كان حذرا من الوقوع في مطب التفسير المؤامراتي، دون أن يعني هذا غض النظر عن التدخلات المرتبطة بالمصالح العديدة والمختلفة التي تسعى، مستغلة الواقع الموضوعي، إلى التأثير في الظواهر والأحداث، وإلى العمل على دفعها في هذا الاتجاه أو ذاك يما يخدم تلك المصالح وينسجم معها.

وفي محاولة لاستخلاص الدروس، رأى الحزب أن حرب الخليج الثانية التي وقعت مع مطلع العام 1991، كانت نصيب شعبنا وأمتنا من نتاج المتغيرات الدولية و” النظام الدولي الجديد “. ونظر إلى أن هذا لم يكن مجرد قدر محتوم، بل نتيجة موضوعية للواقع الاجتماعي السياسي، ولوضع قوى المعارضة الديمقراطية أيضا.

لقد كانت أزمة القوى الوطنية والقومية والديمقراطية على امتداد الوطن العربي قائمة منذ ما قبل الحرب، كما أنها جزء من الواقع الذي أعطى لنتائج الحرب طبيعتها الكارثية التي لم تجد مقاومة لها.

ولقد أكد الحزب أن هذه المتغيرات تجعل المهمة التي يفرضها الواقع على رأس جدول الأعمال هما مفروضا على الجميع: التغيير الجذري للأوضاع مدخل لا بد منه للإنقاذ من الهاوية التي يدفعنا إليها التسلط والاستبداد والتخلف والتفكك. ولا بد، من ثم، من وضع أساس لسيرورة حقيقية وواقعية تتبدى وتترابط مع تعميم الديمقراطية.     

والصدمة التي أحدثتها هذه المتغيرات في الوعي ينبغي تجاوزها. وهذا يستدعي مراجعة شاملة للمسلمات الفكرية والإيديولوجية دون تردد أو خوف من الضياع. كما أن مراجعة البرامج وتدقيق خطوطها الأساسية أمر ملح في المرحلة الحالية، حتى لا تضيع احتمالات وحدة القوى بين متاهات هذه البرامج، أو تبتعد عن تحديد أولوياتها، مع التخلص من  المخططات الجاهزة والمسبقة والاقتراب أكثر من الواقع والمعطيات التي يفرضها بروح من العقلانية النقدية والتجديد والانفتاح.

[/toggle]

[toggle active=”yes” title=”الفصل الثالث: الأوضاع العامة بين عامي 1992 – 2000“]

 

مثّل العقد الأخير من القرن المنصرم بداية حقبة جديدة عنوانها: هيمنة القطب الواحد على الساحة الدولية، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي المثقل بأزماته، وسقوط جدار برلين، وتبدل الخريطة السياسية على الصعيد العالمي.

خرجت الولايات المتحدة كمنتصر وحيد من الحرب الباردة، وسعت سريعاً إلى ترجمة انتصارها تفرداً، بإعادة ترتيب الأوضاع الدولية بما يخدم مصالحها، ويمهد السبيل أمام مشروعها الإمبراطوري الجامح لقيادة العالم. وعلى الرغم من السعي الأوروبي لمقاومة هذا التفرد، والحد من اندفاعه، والمحاولات العديدة التي بذلت دفاعاً عن المصالح الأوروبية للإفلات من القبضة الأمريكية، أو التمييز عنها في المواقف والتحالفات والعلاقات، تجاه عدد من القضايا الدولية، إلا أن المنحى العام بقي في إطار الهيمنة الأمريكية.

ربما شكلت حرب الخليج الثانية المحطة الأهم في هذا السياق. فرسمت بداية التحولات الكبرى عالمياً، وبداية الانهيارات العربية على كافة الصعد والمستويات، والتي كان من أهم نتائجها انهيار النظام العربي، وتعطيل دور الجامعة العربية وفشلها في تأمين الحد الأدنى من التنسيق بين الأعضاء. وأصبح الانخراط في الاستراتيجية الأمريكية والتقرب منها موضع تسابق مكشوف أو مضمر لدى الأنظمة العربية، الأمر الذي مهد الطريق أمام انطلاق مسيرة التسوية وفق المنظور الأمريكي – الإسرائيلي، وفرضها على الوضع العربي، في ظل خلل غير مسبوق في ميزان القوى ليس في مصلحة العرب.

وضع النظام السوري نفسه ضمن الاستراتيجية الأمريكية في حرب الخليج. وأرسل جيشه للحرب تحت قيادتها، وانخرط في مشروعها للتسوية من خلال مؤتمر مدريد. وصارت تطورات الوضع الداخلي السوري، وآفاق الدور الإقليمي لسورية محكومة بشكل أساسي بهذا الخيار، وبالتالي بمسار التسوية مع إسرائيل. وأدرك النظام أن مقايضة “الأرض مقابل السلام” وفق الشروط الأمريكية – الإسرائيلية، تتطلب استحقاقات لا تطال موقعه ودوره الإقليمي فحسب، بل تتعدى ذلك إلى الأوضاع الداخلية في سورية حاضراً و مستقبلاً.

فعلى المستوى الداخلي، حاول النظام إدخال بعض التعديلات، بما يتلاءم مع هذه الاستحقاقات الدولية والإقليمية، التي تفرضها المتغيرات من جهة، ومتطلبات التسوية المطروحة من جهة أخرى. وبدأت عملية التكيف التدريجي تأخذ طريقها على الصعيد الاقتصادي، رغم الصعوبات الكبرى التي واجهتها، في ظل وضع تتشابك فيه البنية السياسية الاستبدادية المتيبسة وتتناقض مع حاجة الاقتصاد إلى مزيد من المرونة والانفتاح والتغيير، في نموذج من الدولة الأمنية الشمولية مثقل بالفساد والبيروقراطية، وقائم على ريعية الموقع والدور، استطاب الاعتماد على الخارج كمصدر رئيس يستمد منه قدرته على الاستمرار في الدعم والتمويل. وكانت الأزمة الاقتصادية الحادة في النصف الثاني من الثمانينات دافعاً كبيراً في هذا الاتجاه.

أما على الصعيد السياسي، فقد استمر النظام، دون تغييرات تذكر، وفق بنيته الشمولية المتكلسة في القواعد والآليات، مع السعي إلى التلاؤم مع بعض المتطلبات من حيث الشكل دون أن تطال المضمون.

تجلت الأزمة العامة التي تعيشها البلاد بوضوح في هذا المنعطف الهام، ولم تجد السلطة أمامها كي تتجنب مفاعيلها التي تؤثر على البقاء والاستمرار إلا الهروب إلى الأمام، عبر التمترس خلف “الثوابت الوطنية والقومية”.

وأدرك النظام أن التسوية المطروحة سوف تؤول إلى إعادة صياغة أوضاع المنطقة، وإعادة النظر بالأدوار السياسية لمختلف أطرافها، على حساب دوره ومصالحه ووجوده. فصار يتطلع للخروج من حبائلها بموقع يحافظ من خلاله على استمراريته وعلى شيء من دوره الإقليمي. وكانت الورقة اللبنانية هي الأهم في هذا الإطار، بعد أن حظي طوال السنوات الماضية بالغطاء “الشرعي” عربياً ودولياً، من خلال اتفاق الطائف 1989، الذي أمن له الوكالة اللبنانية دون منازع، حيث عمل على استمرار ربط المسار اللبناني بالمسار السوري التفاوضي، ومتابعة ضبط الوضع الداخلي اللبناني على الطريقة السورية، مع إحكام الهيمنة على الحياة السياسية فيه والتعدي الممنهج على الحريات العامة، والتدخل السافر في حياة اللبنانيين بالتنسيق مع الأطراف الإقليمية والدولية ذات التأثير في المعادلة اللبنانية (الولايات المتحدة – فرنسا – إيران)، وتابع توظيف ورقة المقاومة اللبنانية وحزب الله في تقوية موقعه التفاوضي في أي مشاريع تسووية تطرح في المنطقة.

لقد أمنت له المشاركة في الحرب على العراق والانخراط في التسوية السياسية، استمرار الرضى الدولي والعربي عن امتداد هيمنته السياسية على لبنان، ومكنته من خلق بنية سياسية وأمنية هناك قادرة على لجم أي توجه داخلي للمطالبة برحيله ونزع هيمنته. وشكل ذلك اعترافاً دولياً وعربياً بالدور السوري في لبنان.

“1- الإفراجات الأمنية:

في إطار محاولات السلطة للتكيف مع المتغيرات الدولية والإقليمية، وانكشاف الداخل السوري أمام استحقاقات التسوية المطروحة، بدأ النظام بإجراء بعض التكيف على الصعيد الاقتصادي باتجاه الانفتاح أكثر فأكثر على آليات اقتصاد السوق. إلا أنه سرعان ما وجد نفسه وجهاً لوجه أمام أزمته البنيوية الخاصة والناجمة عن التركيبة السياسية والاقتصادية المتشابكة. وأصبح واضحاً أن الانفتاح يحتاج إلى خطوات تطال البنية السياسية وأسلوب إدارة الحكم، قد تحدث خللاً في إحكام سيطرته الشمولية، وما يمكن أن ينجم عنها من إضعاف لقبضته الأمنية على المجتمع. وفي الوقت الذي بدأ فيه بعض الإجراءات الاقتصادية المنفتحة، فإنه عجز عن إحداث تحولات في البنية السياسية والأمنية، وارتفعت نبرة التأكيد على “الجبهة الوطنية التقدمية” كصيغة منجزة للتعددية السياسية والاقتصادية ونموذجاً للممارسة “الديمقراطية”، وبدأ يظهر مبدأ “سيادة القانون” وصون “حرية المواطن وكرامته” على لسان كبار المسؤولين رداً على التهم التي وجهت لسورية بانتهاك حقوق الإنسان، وتمويهاً على استمرار حالة الطوارئ والأحكام العرفية القائمة في البلاد منذ عام 1963. في هذا السياق أطلق النظام حوالي /2000/ من المعتقلين السياسيين عام 1991 من مختلف الاتجاهات السياسية، لكن غالبيتهم من الإخوان المسلمين. حيث صدر خبر الإفراج عن مصدر رسمي، وبلغ لوكالات الأنباء العربية والعالمية، في شبه احتفالية توحي بانفراج سياسي عام. طال هذا الإفراج عدداً من رفاقنا وبعض الأحزاب الأخرى. وتم تحويل بقية المعتقلين حينها إلى محكمة أمن الدولة العليا، لتشهد سورية بعد ذلك في عامي 1993 – 1994 مجزرة للأحكام السياسية هي أبشع ما شهدته في تاريخها الطويل، طالت المئات وبينهم رفاقنا، وامتدت الأحكام إلى 22 سنة. ثم جاء العفو الذي صدر نهاية عام 1995 وشمل بين من شملهم بعض السجناء السياسيين، حوالي 1200 سجيناً من اتجاهات مختلفة. طال هذا الإفراج عدداً من رفاقنا الذين أمضوا فترات حكمهم الطويلة. كما جرى في دمشق الإعلان عن عفو خاص عن المراقب العام السابق للإخوان المسلمين عبد الفتاح أبو غدة، إثر التماس خطي قدمه لرئيس الجمهورية.

وبالرغم من هذه الإفراجات، بقي سلوك الأجهزة الأمنية على حاله، واستمر تجريم العمل السياسي المعارض ومنعه، مما يدل على أن النظام مازال بعيداً عن عقلية الانفراج السياسي التي تحتاجها سورية.

من أجل إعطاء هذه المرحلة شيئاً من الزخم والأبعاد الشعبية، ومن أجل تحسين صورة النظام، جرى العمل على صياغة وطرح شعارات تلقى تجاوباً من قبل قطاعات واسعة من الناس، من نوع “محاربة الفساد” و “الإصلاح الإداري” والتي أصبحت من التعابير المتداولة بين الناس وعلى صفحات الجرائد، بالإضافة لعدد كبير من الشائعات التي تبشر بقرب حدوث تغيير ما هنا أو هناك، بهذه القضية أو تلك. كما بدأ الإعلان عن نشاطات الجهاز المركزي للرقابة المالية، والكشف عن اختلاسات وتزوير وهدر للمال العام في بعض الشركات والإدارات العامة (ساد كوب)، وجرى فضح بعض المسؤولين على خلفية استغلال مناصبهم، كما جرت التضحية ببعض الرؤوس الكبيرة كان أشهرها رئيس الوزراء محمود الزعبي.

“2- تعزيز الانفتاح الاقتصادي:

تحت شعار التعددية الاقتصادية، وتعزيز الانفتاح الاقتصادي، تم إنشاء شركات مشتركة للإنتاج الزراعي. وقدم قانون الاستثمار رقم 10/ لعام 1991 للمستثمرين كثيراً من الإغراءات والامتيازات كالإعفاء الجمركي والضريبي والاستثناء من قانون العمل، وتسهيلات في مجال القطع والتصدير، دون أن يضع البنية القانونية والإدارية اللازمة للاستثمار، ومن غير أن يوفر المناخ السياسي الضامن لذلك. لم تؤد هذه الإجراءات لإنعاش الاقتصاد. واستمر تقاسم المغانم واقتصاد الفساد بين الفئة الحاكمة والشريحة الكمبرادورية والطفيلية في السوق. حيث نمت في العقدين الأخيرين ظاهرة غير صحية للعلاقة مع الخارج في إطار الانفتاح. هي نوع من العمل خارج إطار القوانين، أي عبر اقتصاد غير شرعي مواز أسهم إلى حد كبير في تنمية ثقافة الفساد وتعميمها. فنشأت برجوازية جديدة لا يمكن المراهنة عليها كقوة انفتاحية ليبرالية لأنها لا تعرف قيم العمل والإنتاج، ولم تتعود على العمل ضمن القانون أو وفق مبدأ السوق أو أخلاق المجتمع.

أجمع المختصون على أن قانون الاستثمار رقم /10/ شكل اندفاعة سريعة في مجال تحرير الاستثمار وتشجيعه، أعقبه اتخاذ إجراءات ملموسة في زيادة دور القطاع الخاص، وتوجه متدرج لتوحيد سعر الصرف، وتحرير جزئي للتجارة الخارجية وتشجيع التصدير ورفع المنتجات الزراعية الرئيسة. ولقد رعت السلطة في إطار “الإصلاح” وتعزيز مناخ الانفتاح ورشات عمل لنخب ومجموعات من الخبراء والمختصين لدعم التوجه الجديد ومنها تجربة “الإدارة بالأهداف” كبديل عن الإدارة الأوامرية. حققت بعض النتائج المحدودة ثم انطفأت لأن الإصلاح الاقتصادي في البلاد أبعد بكثير من مشكلة “إدارة”. إنه قضية سياسية أولاً وأخيراً. وتتالت محاولات السعي والتجريب بتشكيل “لجنة التنمية الاقتصادية والاجتماعية” و “لجنة 18” ثم “لجنة 35” دون أن يلمس المجتمع أي أثر لهذه المحاولات، أو تنعكس إيجابياً على الاقتصاد الوطني. فبقيت البطالة في معدلات مرتفعة جداً تهدد بانفجار اجتماعي، رغم إطلاق “مشروع البرنامج الوطني لمكافحة البطالة” والذي شارف على نهايته في أيلول 2005 دون طائل يذكر. وبقي الاقتصاد السوري في تراجع مستمر، بنسبة نموه، أسيراً للكساد وجمود الأسواق. وبدأت تظهر فضائح الخسائر الفاجعة في قطاع الدولة الاقتصادي والتي تجاوزت (80) مليار ليرة سورية. إلى جانب هدر المليارات الأخرى في مشاريع فاشلة ذهبت إلى جيوب السماسرة والوكلاء والمتنفذين من رجال النظام وحاشيتهم.

“3- حصار العراق وانعكاساته على سورية:

اندرجت المسألة العراقية منذ بداياتها الأولى (قبل وبعد حرب الخليج الثانية)، في إطار التحضيرات البعيدة المدى والاستعدادات الدولية القائمة لربط نتائجها بمجريات التسوية الأمريكية للصراع العربي الإسرائيلي، ضمن المشروع الأكبر وهو إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة بأسرها، الأمر الذي مهد الطريق لانطلاقة قطار ” مدريد”.

فأخضع العراق لأكثر من عشر سنوات من أقسى وأطول حصار عرفته البشرية، والذي بدأ يهدده بتآكل بعديه السياسي والاقتصادي بشكل مسبق الأهداف والنتائج.

أورثت سنوات الحصار الطويلة وسياسة الاحتواء المزدوج المتناقضة والتي استخدمتها أمريكا كعصا غليظة لتشديد الحصار، تعاظم المآسي التي أصابت الشعب العراقي بما فيها موت عشرات الألوف من الأطفال، وأكثر من مليون مواطن بريء كانت شكلاً من أشكال حرب إبادة للشعب العراقي بكل معنى الكلمة. تم ربط رفع الحصار بسقوط صدام حسين. ثم تأكد عدم جدوى وجدية الحصار في إنهاء النظام.

أرسلت لجنتان بمهمة ” نزع أسلحة الدمار الشامل ” وبعد ثماني سنوات لم تقدم اللجنتان أي دليل عليها ولا على نزاهة تطبيق قرارات الأمم المتحدة. وباعتراف لجنة بتلر بأنها كانت أداة للتجسس لمصلحة أمريكا وإسرائيل.

وبعد عملية ” ثعلب الصحراء ” ك2 98، وطرد العراق لجان التفتيش، شهدت الفترة اللاحقة تراجعاً نسبياً  بأعمال القصف الأمريكي البريطاني للعراق، بسبب مجريات الحرب على البلقان، وظهور اعتراضات جدية من قبل باريس وموسكو وبكين على استمرار القصف والمطالبة بتعليق العقوبات.

لقد دعا الحزب وقتئذ ( إلى التعامل بمنتهى الجدية والمسؤولية لتحويل شعار ” كسر الحصار عن العراق ووقف العدوان المستمر عليه ” من حيز المطالبة إلى حيز التنفيذ العملي. وهذا يحتاج لإرادة سياسية عربية لم تكن متوفرة ضمن معطيات الوضع الراهن ).

كانت نتائج الحصار على العراق الذي أخذ أشكالاًً متنوعة من العقوبات الاقتصادية إلى الضربات الجوية إلى العقوبات الذكية، إضافة إلى سياسة ” النفط مقابل الغذاء ” بإشراف الأمم المتحدة، غلالاً وفيرة بالنسبة للنظام السوري، الذي أخذ يتعامل مع كل محطة منها بما يمكنه من كسب سياسي واقتصادي.

فكما استثمر وقوفه إلى جانب إيران في الحرب الأولى، فقد استفاد من حصار العراق عبر التجارة غير المنظورة والتي كانت تدر عليه أرباحاً طائلة، ولاسيما بعد تطبيق قرار النفط مقابل الغذاء. فكانت سورية أكبر المستفيدين من عمليات التهريب ومن المبادلات التجارية المباشرة ومن الشراء الرخيص الثمن للنفط العراقي الذي يتم استيراد قسم كبير منه باسم المعونات المجانية من العراق لدول الجوار. بلغ حجم الفائدة السنوية لسورية حوالي ( 2 ) مليار دولار سنوياً.

وجرى تسيير رحلات القطار بين الموصل وحلب والإعلان عن بدء ضخ النفط العراقي عبر الأنبوب السوري وتسيير رحلات تجارية بين البلدين.

ولقد تداولت بعض وسائل الإعلام الخارجية المقروءة والمسموعة في الأشهر الأولى عام 996 معلومات عن حركة واتصالات غير معلنة بين الطرفين السوري والعراقي تهدف لتطبيع العلاقة بينهما ووقف التدهور نظراً للظروف الخارجية.

أبدى الحزب تشككاً وعدم تفاؤل حيال هذا التطور نظراً لعدم جدية الطرفين في إنهاء خلافاتهما ولأن ذلك لن يدخل في صلب الحل الذي يلبي الحاجة الوطنية لوقف التدهور.

“4- مسيرة التسوية في المنطقة – أوسلو- وما تلاها:

أثمرت العملية (السلمية) الجارية بعد انطلاقة مدريد 1991، على المسارين الفلسطيني والأردني (أوسلو ووادي عربة) على التوالي، وكادت أن تصل إلى نتيجة على المسار السوري قبل أن تتوقف في شباط 1996.

حصر اتفاق أوسلو (أيلول 1993) حل القضية الفلسطينية بين الطرفين (إسرائيل ومنظمة التحرير) دون أي مرجعية عربية، قدم خلالها الطرف الفلسطيني التنازل تلو التنازل ولم يستطع عرفات انتزاع وعد بإيقاف المستوطنات عن أراضي الضفة والقطاع إذ بقيت موضع تفاوض في مباحثات الحل النهائي.

شكل هذا الاتفاق مع اتفاقات كامب ديفيد وما سوف تسفر عنه المفاوضات اللاحقة من اتفاقات توثيقاً رسمياً للهزيمة العربية الشاملة، والتي تعود بجذورها لعام 67. فهو يطوي مرحلة من الصراع العربي الإسرائيلي، ويدشن مرحلة جديدة… وينفتح المستقبل على مسارات أخرى مختلفة لم نعهدها من قبل.

استشعر الأردن الخطر القادم إليه من أعماق القضية الفلسطينية وأبدى قلقاً من خطورة النتائج المترتبة عليه لجهة نظامه ومملكته. أما في بيروت فقد اتسمت ردود الفعل بالغضب والاستنكار وأبدى الحكم في لبنان مخاوفه من مشاريع توطين اللاجئين (حوالي 400 ألف).

أما في سورية فقد أخذ رد الفعل شكل انتقاد مرير وحاد طاول شكل الاتفاق دون مضمونه وعبرت السلطة السورية عن ردة فعلها بالقول: إنه اتفاق مفاجئ، وقد دمر جدار التنسيق العربي، وأن كل بند فيه يحتاج إلى مفاوضات خاصة واتفاق خاص الخ…

اضطر النظام إلى تليين موقفه عبر إعادة الاتصال مع الأمريكان واستقبال عرفات في دمشق، واعتماد تكتيك دفاعي محض مع احتفاظه بحق انتقاد الاتفاق واحتضان معارضيه من الفلسطينيين، واستنفار الجهود في لبنان لإحكام القبضة السياسية عليه والإمساك بآخر ورقة بقيت له. ورفع مستوى التنسيق والإلحاح على وحدة المسارين السوري واللبناني، وبقي يدعو لاستئناف عملية السلام والالتزام بتعهداتها وفقاً لصيغة مدريد التي يجري العمل الآن لتجاوزها ولإكمال التفاوض. لكن بوادر الأزمة الضاغطة على السلطة السورية جراء اقتراب استحقاق التسوية بدأت تتوضح بسبب صلتها الوثيقة بالأوضاع الداخلية للبلاد.

وقد سجل الحزب موقفه بموضوع دعوة السلطة الفلسطينية للتهديد بإعلان الدولة الفلسطينية في 4 أيار 1999 بالقول: إن موضوع الدولة هدف استراتيجي، لا يجوز استخدامه كورقة ضغط تكتيكية من أجل تنشيط المفاوضات. وقد يكون الرد الأنسب في سياق مجمل الظروف القائمة هو إعلان الجانب الفلسطيني تنصله من جميع الالتزامات المفروضة بموجب اتفاق أوسلو والاتفاقات اللاحقة بسبب عدم إيفاء الجانب الإسرائيلي بالتزاماته. ودعا إلى حوارات في أوساط “التجمع الوطني الديمقراطي” وفي أوسع دوائر مجتمعنا من أجل وعي جديد يتصل مباشرة بالنتائج التي سوف تتمخض عنها الاتفاقات المرتقبة لعملية التسوية والترتيبات الخاصة بمستقبل المنطقة التي يعمل الأمريكان على إنجازها بعيداً عن الأنظار.

 

“5- الأزمة الاقتصادية

شهدت السنوات الأخيرة من عهد الأسد / الأب / تطوراً متسارعاً لتجليات الأزمة الاقتصادية وأصبح بإمكان أي متابع لأوضاع سورية الداخلية أن يلاحظ عمق واتساع حالة الركود الاقتصادي السائدة في البلاد منذ بداية عام 1995 ودخولها في أطوار نوعية بدأت تضغط بأثقالها على مختلف مجالات الحياة واشتداد وطأتها على معيشة المواطنين التي وصل تدهورها إلى مستويات أخذت تهدد بالخطورة، وترافق ذلك مع خلل غير مسبوق بإعادة توزيع الثروة الوطنية الذي تفاقم في السنوات الأخيرة مخلفاً مساحات من البؤس والعوز وتاركاً الأكثرية الساحقة من الشعب ترزح تحت وطأة المعاناة والحاجة.

وتظهر الأرقام السورية الرسمية انكماشاً في الناتج المحلي بنسبة 4,4% عام 1997 مع تسجيل عجز في ميزان المدفوعات هو الأول من نوعه منذ عام 1989. على الرغم من الازدياد الكبير في عائدات البلاد من النفط في السنوات الأخيرة حيث يشكل النفط 55% من صادرات سوريا، وتراجعت قيمة الصادرات السورية بنسبة 30% بين عامي 1997- 1998 كما تشير التقديرات الفعلية إلى وجود نحو 60% من السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في مناخ بلغت فيه نسبة البطالة أكثر من 20% من قوة العمل.

شكل الفساد ومستعمراته المافيوية باستيلائها على المال العام واستباحة أملاك وأموال الشعب والتعامل مع قطاع الدولة كبقرة حلوب لجمع الثروات، شكل مع غيره من الانحرافات والتشوهات الآفة الرئيسية التي وضعت البلاد في مأزق لا سبيل إلى الخروج منها والذي بدأ يأخذ ذرا جديدة، فشلت المعالجات في حلها. وفي ظل الغياب الكامل للمحاسبة والإفلات من رقابة المجتمع، اتخذ الفساد في سورية أبعاداً خطيرة ليس لأنها تزيد كثيراً من الهوة بين الطبقات الاجتماعية وحسب، بل لأنه التوأم الحقيقي لزيادة الاستبداد. وظهرت استحالة الإصلاح بسبب الارتباط العضوي لمتلازمة الفساد والاستبداد.

في الأعوام الأخيرة من عهد الأسد الراحل كانت تتركز الأسئلة عن قدرات هذا النظام السياسي الذي بني على أسس خاصة واستثنائية في بعض وجوهها.

ومن هذه الأسئلة: مدى قدرة هذا النظام المتكلس على إنجاز التحديد النهائي لموقع سوريا الإقليمي والخارجي عبر خطر مسألة مصير التسوية مع إسرائيل التي طرحت على البلاد ملفات كثيرة كان أهمها

    – التسوية ومتطلباتها السياسية والاقتصادية.

    – الملف اللبناني ومستقبل الدور السوري فيه في ضوء المتغيرات والتسوية السياسية.

    – انعكاسات الملفين السابقين على الأوضاع الداخلية ومن ضمنها عقبتي الاقتصاد – الخلافة.

أقدمت السلطات السورية في منتصف التسعينات على اقتحام أحد قصور رفعت الأسد في اللاذقية وخلفت المعركة أعداداً من القتلى والجرحى والمعتقلين والمسرحين وقد عكست هذه الحادثة أولى عقبات الخلافة ومظهراً من مظاهر الصراع على السلطة.

وكان تقدير الحزب أن ورقة رفعت قد تستخدم للضغط على السلطة واستخدامها من قبل الأمريكان أو بعض العرب عند اللازم، أما إذا سارت المفاوضات مع إسرائيل فإن مصير هذه الورقة سلة المهملات.

استجابت السلطة السورية لمطلب استئناف المفاوضات مع إسرائيل 6/12/1999 نتيجة جملة من التطورات، كما كان للراعي الأمريكي الباع الأطول في التحضير والاتصالات، ولقد مورست ضغوط على السلطة السورية بلغت حد التحذير فيما يتعلق بقرار إسرائيل الانسحاب من جنوب لبنان في أيار 2000 ولقد رأت السلطة السورية واللبنانية والمقاومة في إعلان الانسحاب من جنوب لبنان نوعاً من الضغط لإجبار سوريا على قبول المفاوضات للوصول إلى اتفاق على المسار اللبناني، وأن يضمن السوريون والسلطة اللبنانية أمن شمال إسرائيل.

شهد عام 2000 تغيرات كبيرة في سوريا ولبنان وفلسطين فلقد تحرر الجنوب اللبناني 26/5/2000 وخرجت القوات الإسرائيلية دون قيد أو شرط بعد احتلال دام /22/ عاماً مترافقاً مع الوجود السوري في لبنان، وتم في سوريا الإفراج عن دفعتين من المعتقلين السياسيين في نيسان وتشرين ثاني من العام نفسه رافقها تدشين ما عرف ( حملة على الفساد ) سلطت الضوء على درجة الفساد المذهلة في المراتب العليا من أجهزة السلطة والتي بلغت ذروتها بالإطاحة برئيس الوزراء ( الزعبي ) ثم تم إيقافها لأن سيرورة استمرارها تتجاوز كثيراً المعادلة الإصلاحية القائمة، إصلاح قاعدته “الاستقرار” وسياقه “الاستمرار”.

لقد فتح الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان أول ثغرة في جدار الحضور السوري المفروض على لبنان وشكل أول منعطف نحو مرحلة جديدة نوعيا. فلقد تراجعت إسرائيل إلى ما وراء الحدود في لبنان وتراجعت معها مبررات الوجود السوري الذي كان أحدهما حجة للآخر. لقد أفسحت فترة المفاوضات الطويلة لسورية و إسرائيل على الانسحاب من لبنان مجالاً رحباً لديمومة الوجود السوري فيه وكم كان مفاجئاً ومربكاً إعلان نهاية الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، فهو اعتراف إسرائيل بالهزيمة تحت ضربات المقاومة التي كانت سورية طرفاً فيها وطويت صفحة الجنوب لتبقى صفحة الجولان الذي بلا مقاومة محتلاً لأزمان مرهونة باستعداد أحد للتطوع للمقاومة فيه.

 [/toggle]

 


[toggle active=”yes” title=”الفصل الرابع: الأوضاع العامة بين عامي  2000-2005 رئيس جديد لنظام شائخ“]

شهد العام 2000 إلى جانب وفاة الرئيس حافظ الأسد تطورات إقليمية ودولية هامة، ما زالت تلقي بظلها على الوضع السياسي الداخلي والإقليمي لسورية. مثل انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان (أيار 2000) بعد 22 عاماً من صدور القرار/425/ الذي اندرج ذلك الانسحاب في سياقه. وفشل قمة كامب ديفيد الثانية في تحقيق اختراق على الجبهة الفلسطينية، وتصاعد التجاذبات الدولية والعربية لحصار العراق المستمر منذ عشر سنوات. وتوج ذلك بقدوم إدارة أمريكية جديدة متطرفة يقودها اللبراليون الجدد.

في هذه الأجواء وصل بشار الأسد إلى سدة الرئاسة، بعد أعوام من الإعداد المدروس والمباركة الدولية. وكان قد باشر بعض المهام الخاصة في السنوات الأخيرة من حكم والده تحت عناوين مثل “مكافحة الفساد” و “الإصلاح الاقتصادي والإداري”. ففي نصف ساعة تأمن الغطاء الدستوري لترشيحه للرئاسة، عبر تعديل المادة /83/  من الدستور، واستصدار مرسومين أحدهما بترقيته إلى رتبة فريق، والآخر بتعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة. ثم قام المؤتمر القطري لحزب البعث بانتخابه أميناً قطرياً، ورشحته القيادة القطرية لمنصب الرئيس. ثم تحدد يوم 10/7 موعداً للاستفتاء، الذي كانت نتيجته 97,29%. وجرى في 17/7 تنصيب الرئيس الجديد، وأدى القسم الدستوري.

بنفس العقلية ونفس الأساليب، استدعيت الآلة الدعائية للنظام بحشود في الشوارع، تهتف بنفس الشعارات التي استهلكت في عهد والده، في إشارة واضحة إلى أن القديم باق على قدمه. وحشدت جهود الحزب والجبهة والنقابات والمنظمات الشعبية وغرف التجارة والصناعة تعبيراً عن المباركة والتأييد، قبل أن يظهر أي جديد في برنامج الرجل. وكان للدور الأمريكي أثر واضح في إضفاء الشرعية على النظام الجديد، وعلى حسم تردد بعض القوى الداخلية والخارجية حياله. وبدا الشعب السوري كمن يتفرج على صنع مصيره، تتقاذفه مشاعر الإحباط واللامبالاة وانعدام الحيلة.

ابتعد خطاب القسم عن الشعارات الفضفاضة الصاخبة من إرث الماضي، لكنه تمسك بصيغة “الجبهة” داخلياً، وبالسلام كخيار استراتيجي خارجياً. وتضمن بعض الإيحاءات ذات الدلالة الإيجابية بحديثه عن “دور المؤسسات” والاعتراف “بالرأي الآخر”، ودعوته إلى “الشفافية” و “نقل الديمقراطية إلى حيز الممارسة”، مقرناً كل ذلك باشتراطات خاصة، تظهر بوضوح أن السلطة خط أحمر، وأن لهذه المفاهيم معنى آخر في ذهن الرجل. لكن هذا الخطاب سوف يشغل الحياة السياسية في البلاد، ويحرفها عن محور جهدها الرئيس، ويهدر بعض طاقتها بما حمله من إشارات متناقضة ومضللة، إلى أن حسم الأمر صاحبه عندما صرح بأن “البعض أساء فهم خطاب القسم”، مما أتاح للواهمين أن يخرجوا من وهمهم، في مناخ تسوده الدعايات والتسريبات والرغبات المنعكسة، ويتسم بالضبابية وعدم اليقين.

وفي هذا الوقت الذي بدأت تظهر فيه تناقضات أطراف النظام من أصحاب المصالح القديمة والجديدة المختلفة، وتعبر عن نفسها هنا وهناك، فترتفع أسماء وتغيب أخرى بارتجال بارز، دون أن يعبر عن رؤية واضحة أو نهج مجدد، كان عامة الناس يحضنون مشاكلهم الخاصة، وينتظرون تحسناً بأوضاع المعيشة. في حين بدأ بعض المثقفين ورجال الأعمال بتجاوز حاجز الخوف والانخراط بنشاطات وحوارات وطنية عامة، تثير الأسئلة المشروعة والحقيقية للبلاد، والتي بقيت لأربعة عقود في دائرة الممنوعات.

شهد العام الأول من عمر النظام القديم/الجديد انبعاث حركة نشطة في أوساط الأحزاب المعارضة، وبدأت تظهر ملامح الحيوية الإيجابية من قبل بعض الفعاليات الثقافية والاجتماعية للتعبير عن احتياجات الشعب، وإعلان مطالبه في الإصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي، عبر الكتابة وعقد الندوات وإصدار البيانات مثل بيان 99. وتم إطلاق فعالية اجتماعية ثقافية لإحياء المجتمع المدني، وتأسيس المنتديات وجمعيات حقوق الإنسان سميت “ربيع دمشق”. وكرد سريع على ما يجري، قامت السلطة بتسميم هذه الأجواء، عبر تحريك الأدوات والأتباع للاعتراض والإرباك وصولاً إلى التخوين الذي تكرر على لسان أكثر من مسئول في أعلى هرم السلطة، ووصل الأمر أخيراً، إلى اعتقالات أيلول 2001، التي وضعت حداً للتكهنات حول نوايا النظام. فتم إغلاق المنتديات وكبحت النشاطات إلا أقلها.

تقدمت السلطة بعدها إلى رفع شعار “الإصلاح” وتفريعاته، الاقتصادي أو الإداري أو الحزبي، لكن صحف النظام وحدها كانت المروج والمستهلك لهذه البضاعة الكاسدة.

كبيرة هي أعباء التركة التي آلت إلى الرئيس الشاب، أهمها جمود الحياة السياسية في البلاد وتعطيلها. إلى جانب تهميش الدور الإقليمي لسورية، وخسارة أوراقها واحدة بعد الأخرى. وبروز صعوبات في العلاقات مع دول الجوار. إلى جانب تعمق الركود الاقتصادي، واشتداد الضائقة المعيشية للشعب، وتراجع في الموارد العامة للدولة. وقد بدا واضحاً أمام النظام أنه لم يعد بإمكانه أن يسوس البلاد كما فعل في عقدي الثمانينات والتسعينات وبنفس الوسائل والأساليب. فهو يواجه تحديات تتطلب إجراءات مؤلمة، وتوجهات متباينة وأحياناً متناقضة. وفي كل الحالات تفرض عليه الحركة في محيط غير ملائم ومليء بالمخاطر. يأتي في أولها إعادة تحديد علاقاته بالخارج على ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية، وإعادة ترتيب البيت الداخلي الذي تآكل بفعل الشيخوخة والعطالة، حيث تهتكت مؤسسات الدولة وسمعتها، واستفحلت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعم الفساد بشكل غير مسبوق. وفي نفس الوقت فهو يواجه مهمة تأمين استمرار سيطرته وإحكام قبضته على المجتمع في ظروف مختلفة، وفي مناخات صار التغيير وتقديم التنازلات اتجاهاً وحيداً فيها.

أصدرت الرئاسة سيلاً من القوانين والتشريعات التي تعمل على تحرير الاقتصاد وخاصة القطاع المالي والمصرفي، وفق توجهات تهم الخارج، وتلبي متطلبات الأوساط التجارية والاستثمارية في البلاد. فتم تعديل قانون الاستثمار لعام 1991 وإلغاء المراسيم السابقة المتعلقة بالقطع الأجنبي، وإصدار نظام النقد الأساسي وقانون مصرف سورية المركزي، والقانون الذي أجاز تأسيس مصارف خاصة ومشتركة، إضافة إلى قوانين الإيجارات واعتماد الخطة الخمسية التاسعة والبرنامج الوطني لمكافحة البطالة، واعتمدت توجهات لتخفيف الأعباء الضريبية، وتخفيض رسوم التركات.

تميزت هذه المرحلة باعتراف السلطة مباشرة أو عبر إعلامها ب:

1- وجود الأزمة العامة في البلاد.

2- المشاكل البنيوية للاقتصاد السوري.

3- تردي أوضاع القطاع العام وخسارته التي وصلت إلى /75/ مليار ليرة عام 2001.

4- الإخفاق في جذب الاستثمارات العربية والأجنبية.

5- استفحال مشكلة البطالة وعجز الدولة عن الإنفاق الاستثماري.

6- تراجع الموارد العامة للدخل الوطني.

وهنا بدا الارتباك والتردد واضحين على برامج السلطة “الإصلاحية” العامة والجزئية، نتيجة لاضطرارها إلى اعتماد إجراءات وأساليب تتناقض كلياً مع خطابها الإيديولوجي وتوجهاتها السياسية التي تجاوزها الزمن، وتبتعد بهذا القدر أو ذاك عن الدستور وميثاق الجبهة وكثير من القوانين الاقتصادية والإدارية الناظمة لعمل الدولة.

شكلت الحكومة أولاً لجنة /18/ ثم لجنة /35/ وفي تموز 2002 “برنامج الإصلاح الاقتصادي” الذي لم يثر اهتمام أحد، لأنه أقرب إلى برنامج حكومي فاشل منه إلى مشروع إصلاح اقتصادي، ليس فيه إلا الوعود. وخلال هذه الفترة، بدأ يتبلور تياران بشأن الإصلاح الاقتصادي- داخل السلطة وخارجها-.

الأول: ليبرالي يهتم بالنمو الاقتصادي والربح، ويدعو للوصفات العالمية للإصلاح، دون الاهتمام بالآثار الاجتماعية لبرنامجه.

الثاني: تنموي يزاوج بين المهام الاقتصادية والاجتماعية، يتمسك بالقطاع العام مع الدعوة لإصلاحه والمحافظة على الدور الحمائي والتدخلي للدولة.

وهناك اتجاه تجريبي، يدعو لإعادة هيكلية القطاع العام من أجل الخصخصة والبيع، تلبية لمصالح أصحاب المناصب الريعية وشركائهم من المافيات الذين اغتنوا من المال العام ويريدون الاستيلاء على الاقتصاد. وأخيراً حسمت الحكومة موقفها في نهاية 2004 بالتوجه نحو اقتصاد السوق بإعلان رسمي.

كانت مواقف القوى متباينة إزاء الطروحات الإصلاحية للسلطة. ففي حين التزمت أطراف النظام “الجبهة، بخيارات السلطة مع بعض التباينات الجزئية، استندت المعارضة إلى موقف التشديد على المسألة السياسية كمدخل للخروج من الأزمة الاقتصادية والسير بطريق الإصلاح، ولم تقدم عبر وثائقها غير الملاحظات والانتقادات والتوجهات العامة. أما حركة المثقفين فقد خلت وثائقهم من أي تصور لمستقبل الوضع الاقتصادي في البلاد.

جاء احتلال العراق في نيسان 2003 ليعري النظام السوري، ويضعه مكشوفاً أمام شعبه ودول المنطقة والقوى العالمية. ولأول مرة يستشعر النظام خطراً حقيقياً يهدد وجوده بالكامل. فانهيار النظام الاستبدادي المثيل في بغداد كان بالنسبة لكثيرين في الداخل والخارج”بروفه” لما يمكن أن يتكرر في دمشق. وبدا أن النظام الذي فقد مقومات استمراره بدأ يترنح. فالوضع الجيوسياسي الجديد في المنطقة أحكم الخناق حوله، والوجود الأمريكي المباشر عطل أدوار الوكالة والاستنابة التي عاشت عليها السياسة السورية طوال عقدين من الزمن، وانطفأت الأضواء الخضراء أمام سياسة النفاق واللعب على الحبال التي أتقنها النظام، ولم تعد دروب المقايضة سالكة، إذ لم يعد لدى النظام ما يقايض عليه فالهيمنة الأمريكية – الإسرائيلية على المنطقة انتزعت كل الأوراق أو كادت، وصار النظام في مرمى المدى المجدي.

ولم يكن تصريح الرئيس الأمريكي أن “الحرية سوف تمتد من طهران إلى دمشق” غير إعلان لاتجاه الضربة القادمة. ثم تتالت رسائل العنف الإسرائيلية – الأمريكية عبر الإغارة على عين الصاحب، واغتيال القادة الفلسطينيين بالسيارات المفخخة في قلب دمشق، لتفضح في العلن ما هو معلوم علم اليقين من تهتك النظام ومؤسساته وعجزه عن حماية البلاد والشعب، وانعدام قدرته على الدفاع عن نفسه أيضاً، في وقت ينعدم فيه وجود أي ظهير له عربياً وعالمياً. قدم النظام قدراً كبيراً من الاستجابة للمطالب الأمريكية على الصعيد الأمني في برامجها لمحاربة “الإرهاب” في العراق وعلى صعيد المنطقة. وحاول التلويح بالورقة اللبنانية التي يمسكها، مشيراً إلى أهمية دوره هناك وقدرته على الفعل. كما حاول الاستفادة من الغطاء الأوروبي الذي يمكن أن تقدمه اتفاقية الشراكة المتوسطية مع أوروبا، من أجل التخفيف من الضغط الأمريكي الكبير وقد تصاعد عبر قانون محاسبة سورية في مجلس الشيوخ الأمريكي. إضافة إلى القيود التجارية والمالية التي فرضتها الإدارة. وبقي النظام في عزلة، لأن جعبته فارغة، فلم يستطع أن يقدم داخلياً غير زيادة طفيفة على الرواتب، ومنحة هزيلة لم يكن لهما أثر يذكر في نيل رضى الناس، أو التأثير في حركة السوق. ولم تستطع التغييرات الحكومية المتتالية، واستبعاد بعض القادة العسكريين والأمنيين المزمنين عن مواقعهم، وإطلاق سراح بعض السجناء السياسيين، والإعلان عن إصلاح في الحزب والجبهة، أن يعطي انطباعاً بولادة أي جديد في البلاد. كما لم تنفع الحركة النشطة ومسلسل الزيارات الرسمية العربية والدولية أن تخفف من أثر العزلة.

وخلال أحداث القامشلي آذار 2004، وما تلاها، برهن النظام أن لا شيء يتغير في سورية، وذلك عبر إصراره على اعتماد الحلول الأمنية فقط لمعالجة القضايا السياسية والاجتماعية، واستمراره في تجاهل هذه المشاكل ونكران وجودها أصلاً، ومحاولته تأليب بعض الفئات الاجتماعية ضد بعضها الآخر، دون إدراكه لمخاطر سلوك كهذا على الوحدة الوطنية. وإذا أضفنا محاكمات نشطاء حلب الأربعة عشر، وعقوبات الفصل من الجامعة في صفوف طلبة كلية الهندسة ومحاكمة بعضهم، إلى التصدي الصارم للاعتصامات والتظاهرات السلمية وتفريقها بالقوة، ومنعها من التعبير عن تضامنها مع المعتقلين السياسيين وقضايا حقوق الإنسان في البلاد، واستمرار النظام في تجاهل المطالب الشعبية التي ترفعها القوى الوطنية والديمقراطية نكتشف بوضوح المحور الأساس لتوجهات النظام وهي تقديم التنازلات إلى الخارج فقط والإصرار على إبقاء البلاد في حالة الاحتقان السياسي تعيش مع أزماتها المتعددة في حالة استعصاء. في الوقت الذي يقدم فيه تنازلات ملموسة للأمريكيين على الجبهة العراقية، والتساوق مع مشروعهم للشرق الأوسط الكبير. ويقدم عروضاً من جانب واحد للقاء مع الإسرائيليين في مفاوضات غير مشروطة من أجل التسوية. نقول: في هذا الوقت، ما زال يوصد الأبواب أمام الانفتاح على الشعب، وإتاحة إمكانية الحوار مع المجتمع وقواه الحية لتحقيق انفراج ديمقراطي،تحتاجه البلاد كمقدمة من أجل التغيير. ولم تكن مغامرته غير المحسوبة جيداً على الصعيد اللبناني، والتي أدت إلى استصدار القرار الدولي /1559/ غير عمل طائش زج نفسه والبلاد فيه نتيجة حسابات خاطئة، ومحاولة يائسة لاستعادة دور مفقود.

راهن النظام على المصاعب الأمريكية في العراق، وعلى قدوم إدارة أمريكية نتيجة انتخابات 2004 في استمرار كبحه لإرادة التغيير، لكنه خسر الرهان. ويراهن الآن على دور مصري يبعده عن دائرة الاستهداف، وعلى استجابة إسرائيلية لمفاوضات ترعاها الولايات المتحدة وتنال رضاها. ويعمل في نفس الوقت على خلط الأوراق وتبديد جهود الطيف الديمقراطي المعارض الذي يعمل على إثبات استحقاق التغيير وراهنيته، معلناً أنه قوة الفعل الوحيد في سورية.

الآن، وبعد أربع سنوات لا حصيلة لها من حكم بشار الأسد، تبدو السلطة كمن يدير الأزمات، يراكمها ويفاقمها، ولا يستطيع مقاربتها بحلول جديدة وجادة، لأن ذلك يمس مباشرة بنية النظام وطبيعته وطرائق عمله ومصيره. فهذا النظام وما يمثله صار نشازاً غير قابل للاستمرار في حياة السوريين وفي المنطقة، وقد أصبح شيئاً من الماضي. إنه لا يريد التغيير، أو أنه عاجز عن فعل ذلك، في الوقت الذي يشكل فيه التغيير قدر سورية القادم.

لقد وقع النظام في أخطاء فادحة بسياسته الخارجية، وهو لا يزال يمارس تقريباً السياسة الخارجية نفسها من أيام الحرب الباردة. ولم يستوعب العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وأوربا، إذ أعطى الخلاف بين الطرفين بعد حرب العراق وزناً لا يتفق مع الواقع؛ وهذا ما أدى لأن يفاجأ بالموقف الفرنسي خصوصاً والأوربي عموماً في الأزمة اللبنانية والقرار 1559. فالنظام لا يزال يستخدم في سياساته الخارجية سياسة اللعب على الحبال كما كان يستخدمها الرئيس الأب أيام الحرب الباردة، في الوقت الذي تغير فيه الواقع الدولي جذرياً من واقع معسكرين إلى قطب واحد. 

 


[/toggle]

 [toggle active=”yes” title=”الفصل الخامس الوضع العربي والإقليمي“]

 

الفصل الخامس الوضع العربي والإقليمي

العالم العربي في المرحلة التي نعيشها، و لزمنٍ قادم لا يمكن تحديده، هو في حالٍ من التمزق والتبعية وانعدام الوزن لم يمرَّ بها من قبل. فهنالك انهيار شبه كامل في العمل العربي المشترك، وانحدار هائل في العلاقات البينية السياسية، ومراوحة في المكان إن لم نقل تراجعاً في العلاقات البينية الاقتصادية والفكرية والثقافية. هذا الانكفاء المخيف ينعكس بشكل مكثف في تلك المواقف العربية المتهالكة، إزاء ما يحدث من مآسٍ وكوارثَ وتجزئة في كلٍ من فلسطين والعراق والسودان…إلخ. ولاتتنافى هذه النظرة إلى الأوضاع العربية، مع ملاحظة بعض الإيجابيات، كالحراك الديموقراطي في مصر ولبنان، أو حتى في الجزائر والسعودية وسورية.

هذا الوضع العربي هو محصلة عوامل رئيسية لا تزال تتحكم بممارساتنا السياسية، وتشكل محددات لها. من أهمها:

“1- إخفاق الحركة القومية العربية؛

لقد أخفقت البلدان العربية، خلال ربع القرن الماضي الذي شهد تبلور التكتلات الدولية الرئيسية الفاعلة اليوم، في التوصل إلى أي شكلٍ من أشكال التوحد أو الاندماج أو التعاون ، يسمح بتجاوز تفككها وتشتتها وتخطي الضيق الذي تمثله حدودها وأسواقها الوطنية الصغيرة.

لقد كرَّس هذا الإخفاق استمرار التشتت العربي، ومهَّد الطريق لتشديد الهجوم على الفكرة العربية التي رعت حركة التوحد العربي وأضفت الشرعية عليها، وثالثاً وضع الأقطار العربية بما فيها سوريا لفترةٍ طويلة قادمة في مواجهة منفردة مع عواصف التحول والتغيير وتحديات العولمة، وحرمتها من الاستفادة من مزايا التكتل، التي تستفيد منها على الصعيد الاقتصادي والاستراتيجي والأمني، أقطار أخرى نجحت في شق طريق الاتحاد والتكامل الاقتصادي.

ليس هنالك شك، في أن التقسيم الاستعماري للمنطقة إلى عدد كبير من الدول الصغيرة، لم يجهض مشاريع التنمية العربية ومشاريع التحديث وبناء قوة استراتيجية تضمن الحد الأدنى من الأمن والفعالية في مواجهة الاعتداءات والضغوط الخارجية فحسب، بفصله بين الموارد المادية من جهة والموارد البشرية المتركزة في الدول الفقيرة ذات الكثافة السكانية العالية من جهة أخرى. لكنه عمَّق بشكل كبير التوترات والنزاعات الداخلية بين الأقطار العربية، التي كانت على الدوام تشكل النافذة الرحبة للتدخل الخارجي، و العامل الأساس في عدم التمكن من كسر السيطرة الأجنبية وإعاقة بناء النظام الإقليمي الذي يضمن مصالح الشعوب العربية.

في مواجهة هذا الوضع، وفي مواجهة النخب التقليدية شبه الإقطاعية والتابعة نشأت وتطورت الحركة القومية العربية التي جعلت من توحيد المنطقة وتنميتها رهانها الأول لتعزيز استقلال الشعوب العربية وخلق شروط الاستثمار والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وفي سياق الحرب الباردة، أسهم في البداية ما قدمه الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية من دعم مادي وسياسي، في تعزيز قدرة الحركة القومية العربية، ولكن في المقابل أسهم في تغييب الصراع الداخلي من أجل التغيير، سواءً ما يتعلق ببناء الديمقراطية وتفعيل المشاركة السياسية والمجتمع المدني، أو ما يتعلق  بتغيير علاقات القوة الإقليمية، لمصلحة الصراع الأكبر بين الدولتين العظميين. وانقسم العالم العربي في سياق هذه الحرب إلى كتلتين متخاصمتين، “تقدمية” موالية للكتلة السوفييتية ومحافظة “رجعية” موالية للغرب والولايات المتحدة، وأدى هذا الانقسام بدوره إلى حروبِ استنزاف عربية – عربية كانت باكورتها حرب اليمن. وعلى الأغلب كان التحاق الحركة القومية العربية بالكتلة السوفييتية لضعفها البنيوي، وعدم قدرتها على مواجهة التحالف بين النخب المحلية المحافظة والقوى الغربية الاستعمارية.

يعود ضعفها البنيوي إلى عاملين أساسيين: الأول نموذج نظام الحكم الشعبوي  الذي استقرت عليه الحركة في كل الأقطار التي تسلمت الحكم فيها؛ وأساليب الاستبداد والتفرد والعنف التي اعتمدتها، والعامل الثاني إخفاق النخب القومية في التفاهم والتعاون فيما بينها وسيطرة روح النزاع والانقسام والتناحر والاقتتال بين فئاتها المتباينة، سواءً في داخل القطر الواحد أو بين الأقطار المختلفة. وخير مثال على ذلك هو تلك العلاقة التناحرية التي كانت سائدة بين العراق وسوريا في الوقت الذي يحكمهما حزب واحد، وكذلك العلاقة التي كانت بين اليمنين…

وانعكس إخفاق الحركة القومية العربية وأنظمتها في إنجاز أي شيء وحدوي حقيقي على قدرتها على تحقيق برامجها الداخلية الوطنية والاجتماعية، وراحت تزداد عزلة وانكفاء وتحولت بخطوات متسارعة إلى نظم تسلطية فاشية الطابع، مقطوعة في الوقت ذاته عن العالم وعن مجتمعاتها وشعوبها، وغارقة في حروب مستمرة عربية –عربية، داخلية  وخارجية، وذلك لفك عزلتها أو لحماية نفسها (في العراق والسودان والصومال ولبنان واليمن والجزائر…). ؛ وقد شملت الخلافات على الحدود معظم دول الوطن العربي تقريباً(الجزائر والمغرب، قطر والبحرين، مصر والسودان، السعودية واليمن…)

وكان هذا التردي العربي يتعاظم باستمرار مع كل انزلاق أكثر في نفق النظم الأمنية العسكرية والبيروقراطية الاستبدادية. وقد أسهم تكريس نموذج السلطة الفردية المطلقة في تعميم الفساد وتدمير مؤسسات الدولة وتحويل المجتمعات العربية إلى مجتمعات سلطانية شبه إقطاعية يتم التعامل مع مواردها وثرواتها كأنها موارد شخصية يتصرف بها الحاكم  وأسرته وحاشيته دون أي محاسبة أو رقابة.  وراح يتراجع مبدأ الجمهورية لمصلحة مبدأ توارث السلطة؛ ومبدأ انتخاب القيادات السياسية لمصلحة تعيينها من الحاكم بأمره.

“2- عجز النظام العربي  عن التوافق على استراتيجية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي؛

فلقد رهن العجز عن حل وإنهاء هذا النزاع الإقليمي الرئيسي المنطقة بكاملها، واستنزف مواردها البشرية والمادية. ويبدو أن هذا الصراع بين العرب وإسرائيل  سوف يستمر بسبب هذا العجز لفترة طويلة وقد يمتد إلى خارج حدود فلسطين التاريخية. وهذا يعني أن المشرق العربي  سيستمر في تحمل  تبعات الحرب المتواصلة من التوتر والخراب وعدم الاستقرار والافتقار إلى التنمية الجدية،  وسيغرق أكثر في الفقر والبؤس والاستبداد، والمجتمع المافيوي الطفيلي الذي لا يخدم سوى إسرائيل موضوعياً.

منذ البداية كانت السياسة الاستراتيجية لإسرائيل ذات سمة توسعية، وظهر هذا بشكلٍ أوضح بعد حرب 5 حزيران في 1967 وسيطرتها على كامل فلسطين والجولان وشبه جزيرة  سيناء، لذلك كانت ولا تزال تصر على فرض وجودها بالقوة وليس عبر التسويات مع الفلسطينيين والعرب. سياساتها هذه دفعتها دائماً إلى تبني منطق الحرب الهجومية والوقائية وتطوير وسائل التفوق العسكري والاستراتيجي الحاسم. بينما في المقابل  باتت الأجندة الرئيسية لدى الدول العربية بعد هزيمة حزيران هي إزالة آثار العدوان، وفيما بعد تحولت إلى: السلام خيار استراتيجي. هذه المعادلة تعبر عن خلل هائل في موازين القوى بين الطرفين.

لقد استنزفت الحروب الإسرائيلية التوسعية الاستيطانية المستمرة الطاقات الرئيسية للمجتمعات العربية؛ التي دفعت مئات مليارات الدولارات لإعداد الجيوش وشراء الأسلحة. لكن تكاليفها السياسية كانت أعظم أثراً، فقد عززت منذ عام 1948 وإلى الآن الفرص أمام النخب العسكرية العربية للتسلط على الحكم والتمترس فيه والعمل على حرمان المجتمعات من حقها في المشاركة السياسية والنشاطات المدنية. وهذا التسلط أدى بدوره إلى تعميم الفساد في الإدارات العسكرية والمدنية والمجتمع كله.

وربما كانت النزاعات والاختلافات بين الدول العربية بسبب تباين الوضع الاستراتيجي لكل دولة إزاء إسرائيل ومخاطر مواجهتها، وما نجم عن ذلك من إلغاء لفرص التعاون الإقليمي العربي هي الثمن الأكبر الذي دفعته المجتمعات العربية لقيام الدولة اليهودية ولضمان استمرارها. لذلك نرى أن منع التفاهم والتعاون بين الدول العربية لا يزال هدفاً رئيساً من أهداف استراتيجية ضمان الأمن والاستقرار في إسرائيل والولايات المتحدة والغرب عموماً. وربما يشكل الحرص على وجود إسرائيل وضمان أمنها وتقدمها عاملاً قوياً في تردد الغرب الأطلسي عموماً في الاستثمار الاقتصادي والتقني والعلمي في البلدان العربية.

ولقد انعكس التفكك العربي بدوره على الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات وعلى كل المستويات، ولعب دوراً مفصلياً في منع تبلور استراتيجية موحدة للنضال الفلسطيني حتى الآن. ورغم التضحيات الهائلة التي يقدمها الشعب الفلسطيني، فإن عدم وجود مثل هذه الاستراتيجية كان دائماً ينقص من جدواها ويقلص مفاعيلها.

“3- إخفاق الدول العربية في مشاريع التنمية والسيطرة على الموارد النفطية:

 فشلت الدول العربية في السيطرة على نفطها، سواءً عبر التأميم، أو عبر منظمة الأوبك. وأدى هذا الفشل إلى تحول هذه المادة الاستراتيجية من عامل للتنمية والرخاء إلى سبب رئيسي من أسباب التدخل الخارجي المباشر في مصير المنطقة والشؤون الداخلية لأقطارها. وتتفاقم المفاعيل السلبية لتواجد النفط مع تناقص قدرة عائداته على تأمين متطلبات التنمية والازدهار الاقتصادي والاجتماعي، مع استمرار معدلات النمو الكبيرة في عدد السكان في العالم العربي، و تعاظم الهدر في الثروة وسوء توزيع الريع النفطي.

ويؤدي تزايد الوزن الاستراتيجي للنفط إلى تفاقم التدخلات الأجنبية، والحد من استقلالية الدول العربية، وهامش المناورة لديها على الصعيد الدولي، و قدرة شعوبها على التحكم بمصيرها، فلقد ساهمت العوائد الريعية الكبيرة من النفط في تدعيم أنظمة حكمٍ رعوية لا تستند إلى شرعية سياسية وتفويض شعبي، وترفض بإصرار مبدأ تداول السلطة و التغيير الديمقراطي.

تزايد الحاجة إلى النفط العربي، ومخزونه الاستراتيجي الأكبر في العالم مع قرب استنفاذ المنابع الأخرى، وكذلك الخوف من تكرار عملية قطع النفط واستعماله كسلاح رادع، كل هذه العوامل أدت إلى ازدياد الضغط السياسي والاستراتيجي على المنطقة من قبل الدول الصناعية الكبرى المتنافسة.ولم تكن حرب الخليج الأولى والثانية خارج إطار هذا التنافس. واستثمرت الولايات المتحدة خطأ النظام العراقي الاستراتيجي في احتلال الكويت لتدمير القوى العسكرية للعراق وبنيته التحتية والسيطرة على نفطه والتحكم به.

فالنفط الذي كان من المفروض أن يكون أهم مورد لتحقيق التنمية الإنسانية والتقدم التقني والعلمي والصناعي في المنطقة، تحول ويتحول أكثر فأكثر إلى مصدر للنزاعات والحروب الداخلية والخارجية. فلقد أصبحت السيطرة على النفط والتحكم بتسويقه وتسعيره وصناعته  موضوع تنافس وصراع دولي وشن حروب مدمرة باسم الدفاع عن المصالح الحيوية والقومية. وبالنسبة لعديد من الدول العربية فقد أضعف الصراع على النفط استقلالها وسيادتها وهامش المبادرة لديها. وأسهم بشكل كبير في توسيع قواعد النفوذ الأجنبي فيها، والتدخل في سياساتها بما يخدم المصالح الأطلسية.

“4- إخفاق النظام العربي في تقييم مرحلة ما بعد الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي؛

 لم تستطع النخب الحاكمة في العالم العربي استيعاب مرحلة انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفييتي وبروز الولايات كقطب وحيد يحكم العالم، وكذلك لم تستطع تجنب استحالة منطقتنا إلى كبشِ فداء ومسرحِ صراعٍ رئيسي على طريق إعادة بناء النظام العالمي الجديد.

وكان للعجز الذي أظهرته النخب العربية وذلك بعدم الاستجابة السريعة والناجعة لتحديات التجديد السياسي والاقتصادي والفكري والعلمي والتقني دور أساس في تحويل العالم العربي إلى مسرح لأخطر مواجهة تنظمها الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، تحت يافطة الحرب ضد الإرهاب.

وربما يتحمل عالمنا العربي لفترة طويلة أعباء هذه الحرب العالمية ضد الإرهاب و أسلحة الدمار الشامل؛ وقد نجحت القوى المعادية له في تحميله مسؤولية إنتاج الإرهاب ورعايته.

و كذلك استطاعت الولايات المتحدة أن تجعل من نظريات صدام الثقافات وحرب الحضارات غطاءً إيديولوجياً لهذه الحرب العالمية التي تشنها الآن في سياق إعادة التوازنات ومعادلات السيطرة العالمية. واستطاعت هذه الإيديولوجية أن تؤثر على قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي، التي اختلطت عليها في كثير من الأحيان الحرب ضد الإرهاب بالحرب ضد الثقافة العربية والدين الإسلامي. في هذا السياق أصبح العمل على عزل العرب والمسلمين وتهميشهم وإخراجهم من مجالات العلم والتقنية والتقدم بمثابة سياسة دفاعية وأمنية رسمية للعديد من الدول الغربية. وما حدث ويحدث في فلسطين والعراق  يدخل في إطار هذه السياسة التي تتطور إلى تدمير منهجي ومنظم لشروط التنمية والتقدم المادي والعلمي والمعنوي.

لا يوجد شك في أن أحداث 11 سبتمبر قد لعبت دوراً كبيراً في تعميق الشعور بالتناقض الثقافي بين الغرب والإسلام، وفي ترويج نظرية صراع الحضارات والثقافات. لكن في المقابل لعبت الحركات المتطرفة والإرهابية الداعية إلى العنف دورا كبيراً في إضفاء شيء من الصدقية والمشروعية على هذه النظرية.

ومن أكثر القوى التي لها مصلحة في توتير الأجواء الغربية – العربية وتعميم نظرية الصراع الحضاري هي إسرائيل وأنصار الدولة اليهودية الذين يبذلون كل جهودهم لتبرير الحرب الاستيطانية الاستعمارية في فلسطين، و تمريرها على الرأي العام العالمي باعتبارها جزءاً  من الحرب العالمية ضد الإرهاب.

والعواقب الأخطر في الحرب الثقافية المعلنة على عالمنا العربي تكمن في النزعة القوية التي تنمِّيها القوى المتطرفة لدى الرأي العام العربي والإسلامي للانقطاع عن العالم الغربي والخوف منه والشك في نواياه ومعاداة كل ما يصدر عنه؛ وللانكفاء على قيم الماضي والتراث ورفض الحداثة وهذا يعزز نوازع الانعزال والتعصب ورفض الآخر ويصب الماء في طاحونة العنف والإرهاب الذي تجذر في البلاد العربية نتيجة عقود من سياسات القمع والاستبداد والتبعية التي مارستها الأنظمة العربية بدعم من الخارج. وفي الواقع ليس هنالك ما هو أخطر على مستقبل التقدم العلمي والتقني في العالم العربي من فك الارتباط مع العالم والانعزال عنه.

“5- إخفاق العالم العربي في مواجهة العولمة

لم يأتِ عصر العولمة للعالم العربي بفرص أكبر للتنمية، لكنه أدخله في مشاكل استراتيجية جديدة، كان غير قادر على مواجهتها، فلم يكن لديه الأدوات النظرية ولا الأطر المؤسساتية والقانونية ولا الإمكانات المادية للانخراط بها والاستفادة مما هو ايجابي فيها. وهكذا فقد صار العالم العربي بسبب قصوره هذا ضحيةً لتجاذبات السياسات الدولية، ففقدت الجامعة العربية اتساقها وتجانسها، وانشلت إرادة الدول العربية تماماً وأصبحت كل دولة لا همًّ لها سوى الحوز على رضا أمريكا وقبولها.

فلقد شجع ارتباط المنطقة العربية بموارد نفطية هائلة، وبقضايا ذات أبعاد دولية مثل أمن إسرائيل بوصفها الحل الذي تبلور للمسألة اليهودية في الغرب، وبقاء دولها الوطنية أسيرة أنظمة معادية لشعوبها، وهياكل سياسية وقانونية ومؤسسية ضعيفة وهشة مرتبطة بالغرب ويسهل اختراقها، مولدةً للتوتر وعدم الاستقرار المزمن، فقد شجع هذا كله على تحول المنطقة إلى ميدان للصراعات الدولية، وأخضعها لاستراتيجيات الدول الكبرى المتنافسة، وجعلها محط استخدام هذه الدول لحل خلافاتها ومشاكلها الخاصة على حساب أصحابها. وفي هذا السياق كلف استيطان فلسطين حتى الآن ست حروب آخرها لا تزال مستمرة على أرض فلسطين وتهدف إلى خنق الانتفاضة، في الوقت الذي كلفت مسألة السيطرة على النفط إلى الآن ثلاثة حروب، كانت أولاها الحرب العراقية الإيرانية التي خيضت  لحماية النفط  الخليجي بدعم عسكري وتقني واقتصادي من الدول الغربية وتمويل خليجي، وتلتها حرب الخليج الثانية وحرب احتلال العراق بواسطة قوات التحالف الدولية بقيادة أمريكا المرتبطتان عضوياً بالحرب الأولى.  وتمركزت ساحة الحرب ضد الإرهاب في منطقة الشرق الوسط.

“6- تفسخ النظم الاستبدادية وفشل التحول نحو الديمقراطية وتفاقم الهجوم الاستعماري؛

 تحول العالم العربي إلى ملعبٍ للآخرين، محرَّمٌ على أهله اللعب فيه. مصيره على كل المستويات مرهون باللعب الخارجي، ومهمة أنظمته باتت مقصورةً على التفرج وعقد مؤتمرات واجتماعات رفع العتب، وإصدار البيانات والاستنكارات والوثائق الإنشائية المتخشبة؛ وبطبيعة الحال الاستمرار باللازمة الدائمة التي هي مواصلة قمع واضطهاد الشعوب العربية المكبلة منذ حوالي أربعة عقود.

والمشهد الأبرز والأكثر طفواً على سطح الوضع العربي الراهن هو تلك الهجمة الاستعمارية الشاملة والكاسحة على منطقتنا. وكان الدرك السحيق الذي وصل إليه الضعف العربي خيرَ عونٍ لهذه الهجمة. ولا يكتفي الهجوم الحالي كما كان في القرن الماضي بالوقوف ضد أي مبادرةٍ للتوحد العربي ومنعها بالقوة، إنما يستهدف وتحديداً منذ 11 أيلول، الدولَ القطرية العربية ككيانات سياسية لتفتيتها وتجزئتها، رغم تبعيتها له ورغم كل ما قامت به من مهام ووظائف لخدمته.. ويبدو من مجريات الأحداث أن الموكِّلَ قد حسم أمره وراح يسحب توكيلاته تباعاً من متسلمي هذه الدول القطرية، التي لم يعد يعتبرها دولاً “صديقة” بل دولاً “راعية للإرهاب”، ودولاً “مصنعة لأسلحة التدمير الشامل”، ودولاً “لا تتوفر فيها الحريات الدينية”…إلخ. فالهجوم الاستعماري الراهن الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا يختلف عن الذي سبقه في القرن العشرين، فقد انتقل من  راعٍ للدول القطرية، إلى مروجٍ للكانتونات الدينية والمذهبية والعشائرية والإثنية… ولربما العراق والسودان سوف تكون حقلَ التجارب الأولى في هذا المجال. والأمور تبدو صريحة لدى أمريكا، فهي ترغب باستئصال الفكرة والنزعة العربية ومحوها من الخطاب السياسي، لأنها تعتبرها العامل الأساس الذي يسبغ الشرعية على أية حركةِ توحد أو تعاون في العالم العربي.

والتراجيدي بامتياز في المشهد العربي، يتمظهر الآن في سياسة وسلوك الحكام العرب، الذين مازالوا  يعيشون حالاً مستحكمةً من سوء الفهم للمتغيرات الدولية والإقليمية، ويبدو أنهم لم يتيقنوا بعد من أن دورهم الوظيفي وصل إلى نهاياته، لذلك لم يقطعوا الأمل وما زالوا مصرين على مواصلة قمع شعوبهم في ظل قوانين الطوارئ والأحكام العرفية ودمج السلطات والانتخابات الصورية وسياسة النهب الداخلي المنهجي.

ويبدو أن خيار النخب العربية الحاكمة للخروج من مأزقها التاريخي الراهن قد حسم في اتجاهٍ أحادي، هو الحوار مع المتدخل الخارجي وقطع الطريق على أي حوارٍ مع الداخل. وحدانية خيار المساومة مع الخارج والقطع مع الداخل، تأتي من كون مجمل السياسات الداخلية والخارجية لهذه النخب ما برحت تعتبر الاقتصاد والثروة ريعاً سلطانياً، وفي نظرها ديمومة هذا الريع تتطلب الحفاظ على السلطة وعدم تداولها بكل الوسائل. تكرَّست هذه النظرة الإقطاعية الريعية في طول العالم العربي وعرضه دون استثناء، وكرَّست معها عدم التمييز بين مفهوم “الحكومة” ومفهوم “الدولة” ودمجتهما في مفهوم واحد هو السلطة والتسلط. هذا هو الذي دفع لأن تكون الأنظمة السياسية العربية عصيةً على أي إصلاح؛ وجعلها تلف وتدور حوله دون أن تقربه وتتكلم على “تطوير” و” تحديث” و”تجديد”  و”الاقتصاد قبل السياسة” و”الإدارة أولا”….إلخ. وهذا يعني أن هنالك إصراراً من القائمين على السلطة على إبقائها في حزب واحد أو طائفة واحدة أو عشيرة واحدة أو عائلة واحدة لنهب أكبر نسبة ممكنة من الريع والثروة.

لم يصل الوضع العربي إلى هذا التردي وهذا العجز وهذا الاستعصاء على التغيير والإصلاح، فقط بسبب الغرب والاستعمار والصهيونية وإسرائيل؛ ورغم أن هذه المحددات الخارجية هي رئيسة ومحورية في ما نحن فيه، لكن في المقابل وبالمقدار ذاته والمستوى عينه  نتحمل نحن العرب حكاماً وشعوباً وأحزاباً سياسية ومثقفين ومفكرين ورجال دين وفقهاء جزءاً كبيراً من المسؤولية. فهنالك محددات داخلية تتعلق بأخطاء وإخفاقات وهزائم سواءً في تجارب حركة التوحد العربي على كل المستويات، أوفي مجالات نقد وتجديد الفكر العربي والإصلاح الديني التي لعبت دوراً محورياً في عرقلة بناء النظام الديمقراطي والمجتمع المدني في الدول القطرية، وبالتالي، عرقلة أي إنجاز على طريق الوحدة العربية.

*********

 


[/toggle]

 [toggle active=”yes” title=”الفصل السادس: الوضع الدولي“]

 

ربما يعود الوضع الدولي الذي نعيش بين ظهرانيه الآن إلى حدثين كبيرين، كانا يتبلوران خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، الحدث الأول: انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة(الاشتراكية المحققة)، وانتصار النظام الرأسمالي في حلبة السباق الدولية، وبروز الولايات المتحدة كقطب واحد يطمح بالهيمنة على العالم والتربع على عرش الإمبراطورية العالمية. والحدث الثاني تبلور مرحلة العولمة الرأسمالية، التي لعبت دوراً مسرِّعاً أساسياً في تحقق الحدث الأول.

وفي الواقع معظم السمات الأخرى التي يتسم بها الوضع الدولي الراهن، ارتبطت وترتبط بشكل أو بآخر بهذين الحدثين المحوريين. ومن أهم هذه السمات:

1- حقبة القطب الواحد والطموح الإمبراطوري للولايات المتحدة

من أهم المشاهد الأساسية في الوضع الدولي الراهن، هذه النزاعات الهائلة التي تسيطر عليه، والتي تزداد يوماً عن يوم انتشاراً وحدةً واضطراماً.

وإذا كانت هذه النزاعات ملجومةً إلى حدٍ كبير إبَّان نظام القطبين، فقد انفلتت من عقالها بعد انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفييتي. نتيجة الخلخلةٍ الهائلة التي نشأت في التوازنات الدولية والإقليمية والوطنية، التي دفعت بالدول العظمى إلى إعادة ترتيب الأوضاع الدولية بما يخدم مصالحها الخاصة، وفي مقدمة هذه الدول كانت الولايات المتحدة الأمريكية.

فنهاية الحرب الباردة لم تضعف أسباب النزاعات في العالم ولم تخمدها بقدر ما أدخلت العالم في ديناميةِ صراعاتٍ جديدة يغلب عليها طابع النزاعات التي تجري ضمن النظام الواحد؛ وهذا ما يعبر عنه مفهوم  “الإمبراطورية ” الذي يكثر استخدامه الآن من قبل منظري العلاقات الدولية للدلالة على جموح الولايات المتحدة نحو قيادتها.

فقد أدَّى انهيار أنظمة (الاشتراكية المحققة) إلى فتح المجال واسعاً أمام تعميم نمط الإدارة الاقتصادية الليبرالية أو اقتصاد السوق، ولكن من جانبٍ آخر لم يُخمِدْ  هذا الانهيار النزاعات في داخل الرأسمالية ذاتها. وبالإضافة إلى ذلك فقد رفع الغطاء عن ذلك التفاوت الفاحش في النمو ومستويات العيش على مستوى العالم كله، وعلى مستوى التكوينات الإقليمية والوطنية ذاتها؛ وهذا يعني أن الرأسمالية راحت تواجه تناقضاتها الداخلية بشكلٍ مكشوف، إذ لم يعد هنالك ما يغطِّيها أمام الرأي العام العالمي، وما يسمح بغض النظر عن آثارها وعقابيلها المحلية والعالمية. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن هذه التناقضات تزداد تفاقماً أكثر من أية فترة مضت بتأثير العولمة؛ فهي قد أخذت تفقد الكثير من الوسائل التي تساعدها على ضبط تناقضاتها الداخلية، وفي مقدمة هذه الوسائل (الدولة الوطنية) بكل ما تعنيه هذه الدولة من سيطرة على الأسواق الاقتصادية والمالية وقوانين تتكيف بها وفق مصالحها.

ومما يزيد من شدة الشعور بالتناقضات  في المنظومة الرأسمالية المتعولمة، أن زوال الحرب الباردة يكشف يوماً بعد يوم عن افتقار المنظومة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية الليبرالية إلى أي رؤية متسقة ومنطقية لإخراج البشرية من حالات التمزق والتنافس والتفاوت الصارخ في مستويات المعيشة وممارسة الحقوق والتمتع بالحريات الأساسية. وهذه المرة الأولى التي توضع فيها الرأسمالية على المحك كإطار لإدارة الموارد العالمية المادية والبشرية معاً. وكذلك لأول مرة تنتقل الشعوب بآمالها في العدالة والحرية والديمقراطية التي علقتها على الاشتراكية والشيوعية سابقاً نحو الليبرالية ورأسمالية السوق.

وفي واقع الحال، لم يؤدِ انتصار الرأسمالية الليبرالية حتى الآن إلى أي نتائج ملموسة فيما يتعلق بتعميم التنمية الاقتصادية ودولة القانون والديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان؛ فلم يرَ العالم سوى الحروب الداخلية والخارجية المدمرة، التي لن تؤدي في النهاية إلا إلى الاستقطاب الاجتماعي في داخل الدول الوطنية، وحرمان الشعوب الأضعف من مواردها وثرواتها لمصلحة الدول الأقوى لزيادة فرص النمو فيها وتقوية حظوظها في حرب  المنافسة الاقتصادية والإستراتيجية العالمية.

وإذا استمر التناقض الخطير الراهن بين السوق العالمية والسوق الوطنية، فربما لن يكون هناك أي أمل في الحدِ من هذه الحروب وفي تقليص التنافس من أجل السيطرة على الموارد البشرية؛ وكذلك أي أمل بالتنمية أو حتى الحفاظ على مستويات المعيشة الحالية في أكثر بلدان العالم.

وبغض النظر عن كل تناقضات الليبرالية الامبريالية الراهنة، فلقد زادت الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة من سيطرتها العالمية؛ ولكن هنا لا بد من التمييز بين مفهوم السيطرة التي يرتبط استقرارها وديمومتها بالقوة العارية المحضة، ومفهوم الهيمنة التي يعتمد استقرارها وديمومتها على ذخيرتها المعنوية ورأسمالها الرمزي وقدرتها على إقناع الآخرين وقبولهم بالانضواء في إطارها.

لذلك وبالرغم من أن أحداً لا ينازع في حقيقة التفوق الأمريكي في الميادين الاستراتيجية والاقتصادية والمعرفية والتقنية والثقافية، ليس من الصحيح والثابت أن هذه السيطرة الأمريكية قد تحولت إلى هيمنة عالمية تملك فرص استقرارها. فلا تتحقق هذه الهيمنة المعنوية وتستقر ما دام الخاضعون لها يعتقدون أنها لم تجلب لهم سوى ضررهم واستغلال مواردهم وثرواتهم واستخدامهم كأدوات وملاعب لخدمة مصالح غيرهم. وفي هذه الحال ليس هنالك من وسيلة للإبقاء على هذه السيطرة إلا الاستخدام المتزايد للقهر والقوة، وهذا يؤدي إلى أن تصبح تكاليف السيطرة على المسيطرين والمسيطر عليهم أكبر مما يمكن احتماله.

ربما كان هذا هو وضع الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الحالي جورج بوش الابن وإدارته اليمينية المتطرفة التي غرقت إلى حدٍ كبير في غرور القوة والتفوق الاستراتيجي والعسكري، والتي قطعت الطريق على أية مفاوضات دولية جدية، حتى مع حلفائها الأوربيين الأقرب لها, فهي لم تقم أي وزن لأي مصالح إقليمية أو وطنية أخرى غير مصالحها القومية.

والتناقض الرئيس في سلوك الإدارة الأمريكية الحالية يكمن في أنها لا تزال تمارس نهجاً قومياً محضاً، في الوقت الذي تطمح في أن تقود العالم بما تملك من موقع وإمكانات وقدرات مادية وعلمية وثقافية. فطموحها هذا يتحول عبر ممارستها القومية الفظة المتغطرسة إلى مشروع شبيه بمشاريع السيطرة الاستعمارية القديمة في القرن التاسع عشر.

ويبدو في الوقت الراهن، أنه لا يوجد أي تكتل دولي فاعل، أو أي قوة عالمية قادرة على تحييد الآثار التدميرية لسياسة القوة الأمريكية الجامحة. وكذلك يبدو أن الولايات المتحدة لا تزال بحاجة إلى جهد كبير وحروبٍ كثيرة قبل أن تدرك صعوبة تحقيق هيمنتها على المجموعة الدولية بأساليبها الراهنة، حيث لا تزال في باقي أنحاء العالم وفي المجتمعات الصناعية الكبرى مصادر قوة كبيرة مادية ومعنوية يمكنها أن تقاوم السيطرة الأمريكية بالمنطق القومي نفسه.

فالمضمون الرئيسي إذاً للوضع الدولي الراهن، هو نزوع الولايات المتحدة الجامح إلى قيادة العالم وتأكيد سيطرتها وهيمنتها الأحادية، وفي الوقت ذاته عدم قدرتها على تأكيد هذه الهيمنة لوجود مقاومات وصعوبات موضوعية وهيكلية تجعل من المستحيل اليوم إخضاع العالم بالقوة لقوة واحدة.

2- آفاق التعددية القطبية ومقاومة الطموح الإمبراطوري الأميركي

نحن نرى أن المجموعة الدولية لن تخرج من حالة النزاعات والفوضى السائدة اليوم، ما لم تنجح القوى المناهضة للسيطرة الأمريكية في تجاوز سياساتها القومية وإعادة بناء جدول أعمالها من منطلق المصالح الجماعية للبشرية. مثل هذه السياسة الدولية تتطلب تعاون جميع الدول والمجتمعات؛ وترتيب الأوضاع العالمية على أسس احترام التعددية السياسية والفكرية والثقافية، وفي إطارٍ يسمح بإشراك جميع البلدان والمجموعات الثقافية والحضارية. وفي الواقع لا يمكن الوصول إلى حدٍ أدنى من الاستقرار إلا ببلورة سياسة عالمية تأخذ بالاعتبار مشاكل المجتمعات الفقيرة التي تمثل ثلاثة أرباع البشرية.

من المبكر جداً أن نتكلم على نشوء وتبلور تعددية قطبية يمكن أن تضع حداً حاسماً لطموح الولايات المتحدة الجامح في السيطرة على العالم، وربما لسنواتٍ عديدة قادمة لن نرى مراكز قوى عالمية يمكن أن تكسر هذا الجموح. لكن في الوقت ذاته يجب ألا نتجاهل وجود مقاومات موضوعية وهيكلية مختلفة في العالم، تعرقل طموحها في الهيمنة.

ولقد أفسحت في المجال أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 لنزعة (الأبطرة الأمريكية) أن تشق طريقها، وأن تعلن إيديولوجيا جديدة فحواها حرب عالمية غير محدودة الزمان والمكان ضد ما أسمته الإرهاب العالمي؛ ومن ثم راحت تتوالد تباعاً على لسان بوش مصطلحات وأدوات هذه الإيديولوجيا مثل(الدول المارقة) و(محور الشر) و(الحرب الاستباقية) و(الدول عير الناضجة)…….

في عهد جورج بوش الأب وفي عهد الرئيس الديمقراطي كلينتون تصرفت أمريكا كقطب وحيد ولكن بالتعاون مع حلفائها الأوربيين وتحت يافطة هيئة الأمم المتحدة، بينما تغيرت الأمور في عهد جورج بوش الابن فراحت تعطي لنفسها الحق في أن تملي خططها على الجميع ضاربة عرض الحائط بموقف المنظمة الدولية ومواقف حلفائها الأوربيين المعارضين، وهذا ما تجلى بوضوح في حربها الأخيرة ضد العراق وفي دعمها غير المحدود لشارون في حربه الوحشية ضد الشعب الفلسطيني.

في الواقع لم تستطع أوربا ولا روسيا ولا الصين إيقاف جموح الولايات المتحدة باتجاه تنفيذ جدول أعمالها؛ فالصين منهمكة بتحديث نفسها وتأمين حاجاتها النفطية ودفاعاتها وصيانة حدودها، مكتفية من السياسة الدولية في أغلب الأحيان بالامتناع عن التصويت. بينما روسيا لا تزال غارقة في نفض غبار انهيارها ولملمةِِ أطرافها ومحاولة إعادة تأسيسها؛ والمفارقات الروسية الأخيرة تؤكد ذلك، حينما وقفت هي وأوربا إلى جانب أمريكا وإسرائيل لمنع إيران من تخصيب اليورانيوم، وفي الحماس الذي أظهره بوتين لصالح بوش قبل المعركة الانتخابية وبعدها.

أوربا إلى الآن لم تستطع أن تجد لها مكاناً في النظام العالمي الجديد. فعلى الرغم من كونها تشكل كياناً اقتصادياً وثقافياً أساسياً في العالم المعاصر؛ لكنها لا تشكل في الوقت الراهن قوة سياسية فعالة؛ ولقد ازدادت هلاميتها السياسية أكثر بعد توسعها الأخير، فصارت لا تعاني فقط من تبعية وذيلية بريطانيا التقليدية  للولايات المتحدة وذبذبة ايطاليا وهولندا، إنما من هرولة دول أوربا الشرقية خلف السياسة الأمريكية.

والعامل الثاني الذي لا يقل أهميةً بالنسبة إلى ضعف أوربا هو قصور قدرتها العسكرية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وحتى بريجينسكي الذي يعتبر من الديمقراطيين الصقور يقول في هذا المجال: ( إذا لم تكن أوربا جاهزة لاستثمار مبالغ طائلة في المجال العسكري، فهنالك مخاوف كبيرة من أن لا ترى النور القوة الرادعة الجديرة بها).

وكذلك الحال بالنسبة إلى اليابان، فبالرغم من قدرتها الاقتصادية الهائلة فهي لاتزال سياسياً وعسكرياً أسيرة السياسة الأمريكية.

ونستطيع أن نقول أن المنظومة الدولية لا تزال في حالة حركة وعدم استقرار، ويبدو أنها لن تستقر بسرعة؛ ورغم أن الولايات المتحدة تلعب دور المركز في الإمبراطورية فهي تواجه على المستوى الاقتصادي صعوداً سريعاً لأقطاب مهمة جداً مثل أوربا والصين.

3- العولمة وتحدياتها:

راحت تتبلور العولمة مع الثورة المعلوماتية وهي الأساس الموضوعي لها، وهي ما مكَّنت الأجزاء المتناثرة والمتباعدة في المكان والزمان من العالم أن تتواصل بسرعة وكثافة إلى منظومة واحدة. لكن إمكانية هذا الاندماج التي أنشأتها الثورة المعلوماتية لا تخلق وحدة عالمية من تلقاء ذاتها، فلا بد لإتمامها من فاعلين؛ والأمر هنا يتعلق بفاعلين تاريخيين لهم وعيهم ومنظورهم ومصالحهم المتميزة والخاصة؛ وهذا يعني نشوء استراتيجيات متعددة لاستثمار فرص العولمة الموضوعية التي تصبح بدورها ميدان صراع وتنافس.

كانت الولايات المتحدة سباقةً لاستغلال الآفاق التي طرحتها العولمة وأدواتها، فابتدأت بالاندماج التجاري لكونها تشكل السوق الأعظم والأوسع في العالم، فأطلقت استراتيجية الليبرالية الجديدة القائمة على إطلاق يد قوانين السوق، وتحرير التجارة عبر سوقٍ عالميةٍ واحدة. فهذه الاستراتيجية تعطي الأسبقية للاقتصادات الأكثر تقنية وتقدماً. وهذا ما يجعل الولايات المتحدة الرابح الأكبر في السوق العالمية المفتوحة.

أما الجماعات العالمية الأقل نمواً والأقل قدرة على المنافسة، بما في ذلك الأوربيون فمن مصلحتهم أن يلجأوا إلى استراتيجية أخرى، أو إلى تعديل الاستراتيجية الأمريكية النيوليبرالية، بحيث تأخذ العولمة بعين الاعتبار مصالح الشعوب المتوسطة والفقيرة؛ وهذا ما حدث في مؤتمر دافوس في عام 2003 .

ولا تزال تتنامى قوى عالمية متعددة تظهر تناقضاتها ومعارضتها للاستراتيجية الأمريكية العولمية، وهذا ما تعبر عنه منظمات العولمة البديلة، وما تعبر عنه التكتلات الصناعية الأصغر مثل اليابان والاتحاد الأوربي وغيرها لنزع التقديس المطلق لسياسة حرية التجارة.

الاستراتيجية العولمية المطبقة الآن، التي لا تزال تصر الولايات المتحدة على تطبيقها، سوف تقود إلى تدمير المجتمعات الفقيرة والضعيفة، وسوف تفقدها ما تبقى لديها من موارد اقتصادية وستقزِّمها ثقافياً إن لم تطحنها نهائياً.

في هذا الإطار، تقع على عاتق النخب السياسية في عالم الجنوب مسؤولية كبيرة؛ وبطبيعة الحال هذه الدول من الصعب أن تبني استراتيجية بديلة للعولمة في الوقت الذي لا تسيطر على أي عنصر من عناصر الثورة التقنية والعلمية؛ لكن بإمكانها لو وحدت رؤيتها وصفوفها أن تفرض على الدول مفاوضات جدية بشأن استراتيجية العولمة.

وهنالك تناقض لا بد من رؤيته في استراتيجية العولمة الراهنة، يكمن في أن العالم لا يمكن أن يتعولم مع استمرار الفقر والمرض والجهل فيه؛ ولحل هذا التناقض لا بد من دفع العولمة في اتجاهٍ آخر غير الذي تسير عليه الآن. أي إلى عولمة بديلة.

ويجب أن نلاحظ أن النضالات من أجل عولمة بديلة مازالت حتى الآن تتركز في داخل الدول الصناعية نفسها، وهي شبه غائبة عن المتضرر الرئيسي أي عن عالم الجنوب الذي يبدو بعيداً عن ساحة الأحداث تماماً. وعلى أية حال فالتحدي الرئيسي لعصر العولمة القادم، هو تفاقم القطيعة بين الأطراف العالمية، حين يصبح الشمال مركز الرفاه المادي والتنمية الاقتصادية والتراكم الرأسمالي والحريات والخدمات الاجتماعية؛ والجنوب عالم الفقر والإفقار والكوارث البيئية والفساد وحرب الفرد ضد الفرد.

وفي الواقع لا يبتسر النضال من أجل تغيير الوضع الدولي الراهن الذي تسيطر علبه الولايات المتحدة بثنائية (إما مع العولمة أو ضد العولمة)، فلا يوجد أحد اليوم خارج العولمة، والعرب ليسوا خارجها أيضاً وهم من المعوْلَمين الذين تستخدم مواردهم لعولمة غيرهم.

4- تمزق حدود الدولة القومية

لم تعد الدولة هي الفاعل الوحيد في السياسة الدولية الراهنة، فهناك الشركات المتعددة الجنسيات، التي تتجاوز الحدود الجغرافية للدول، وتمارس الضغوط السياسية الكبيرة وحتى الثقافية والإيديولوجية على معظم البلدان الصغيرة. وهنالك الإعلام الدولي الذي يتجاوز نتيجة قوته الحدود السياسية للدول، وهنالك شبكات الجريمة المنظمة(المافيات) التي تعمل عبر الحدود وتقوم بنشاطات تجارية كبيرة غير شرعية بما فيها تجارة الرقيق الأبيض وتهريب السلاح,

وطبعاً هنالك المنظمات الدولية السياسية مثل الأمم المتحدة بما ما تشمله من مؤسسات استراتيجية مثل مجلس الأمن، ومؤسسات مالية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. وطبعاً هنالك عامل هام يجب عدم تجاهله وهو الرأي العام العالمي الذي صار يشكل فاعلاً مستقلاً في تكوين السياسات الدولية، وقد رأينا ذلك في حركة الاحتجاج الهائلة ضد الحرب الأمريكية على العراق. فهي وإن لم تستطع منع شن الحرب، لكنها تمخضت عن حركة عالمية قوية ومتماسكة تطالب بنظام عالمي قائم على أسس من القانون الدولي والمفاوضات بدل الحرب والانفراد بالقرار العالمي,

ويبدو أن التكتلات الدولية أخذت تلعب دوراً رئيساً فاعلاً وقوياً إلى جانب الدولة القومية في السياستين الدولية والوطنية؛ من أهم الأمثلة في هذا المجال الاتحاد الأوربي فالكثير من الدول الأوربية تدين باستقرارها السياسي وازدهارها الاقتصادي إلى اندماجها فيه. ومن الأمثلة البارزة أيضاً الآن هو تأثير الاتحاد الأوربي على السياسة الداخلية التركية سياسياً ودستورياً وقانونياً.

بشكل عام تضعف الدولة القومية كمركز للقرار في السياستين الوطنية والعالمية، وتترك مكانها لمنظومة متعددة الأشكال من التكتلات الإقليمية والمؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية وجماعات الضغط السياسية وحركات الرأي العام.

طبعاً هذا لا يعني زوال الدولة، وإنما تغير مفهوم الدولة ودورها ووظائفها. وربما أهم ماطرأ على الدولة يتعلق بمفهوم السيادة الذي شكل أساساً لمفهوم الدولة القومية منذ القرن السادس عشر. فباسم السيادة تضرب الدول الكبرى عرض الحائط بكل متطلبات القانون الدولي؛ وباسم السيادة تنجح فئات وأقليات حاكمة، في التمديد لنفسها والبقاء  في الحكم واستعباد شعوبها إلى ما لا نهاية.

ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن هناك بعض الدول أخذت تتخلى عن جزء من سيادتها لمصلحة التكتلات الإقليمية لضمان مصالح شعوبها. إذ لم يعد ممكناً للدول الصغيرة والمتوسطة أن تضع خططاً للتنمية، بدون التعاون مع البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، وبدون إقامة العلاقات مع الدول الصناعية الكبرى.

فقد فقدت الدولة القومية جزءاً كبيراً من سيادتها المطلقة وأصبحت نسبية. ومن الناحية الموضوعية لم يعد بإمكان أي دولة، مهما كانت قوتها ومواردها أن تحقق أهداف مجتمعاتها من دون التعاون والتشارك مع دول أخرى.

5- الطاقة وتأثيرها على الوضع الدولي

لا يزال النفط، ولعشرات من السنين، يتسم بكونه الشريان والعصب الأساس في استمرار الثورة الصناعية الحديثة. لذلك يجب ألا نستغرب أن يكون الصراع عليه في هذه الحقبة في أعلى مستوياته؛ وبات عبق النفط أول ما يشتمُّ في أي صراعٍ يحدث في العالم.

فقد صار بالإمكان التكلم عن حروبٍ نفطية؛ وقد كانت حصة الشرق الأوسط من هذه الحروب ثلاثة إلى الآن: الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج الثانية في 1990/1991 والحرب الأمريكية الأخيرة على العراق. وكذلك الحال بالنسبة إلى الحرب الأمريكية الأفغانية فهي لا تخلو من رائحة النفط. وكذلك الحال في إفريقيا، في السودان ونيجيريا وأنغولا فالصراع على النفط على أشده. ويلعب النفط دوراً بارزاً في الانقلابات العسكرية وهذا ما نراه منذ بضع سنوات في فنزويلا حيث التدخل الأمريكي المستمر لقلب حكومة شافيز التي تحاول أن تمارس سياسة نفطية تخدم المجتمع الفنزويلي.

وتحاول الولايات المتحدة أن تسيطر ليس فقط على صناعة استخراج النفط في العالم، إنما تحاول السيطرة على تسويقه وتوزيعه، لكي تضع التكتلات والمراكز الصناعية الأخرى تحت رحمتها، وتستخدم في ذلك قدرتها العسكرية الهائلة. وهكذا يمكننا  اعتبار حربها الراهنة على العراق بهدف السيطرة على الشرق الأوسط باسم الحرب على الإرهاب، هي، في أحد وجوهها، حرب موجهة ضد أوربا لتقزيمها.

وبالنسبة إلى قضية الطاقة والنفط فيجب ألا ننسى الصين التي أصبحت من المستهلكين العالميين الكبار للنفط، والتقارير تقول أنها سوف تستهلك في عام 2050 أكثر من الولايات المتحدة.

===================

هذا هو الوضع الدولي الراهن، عهد العولمة حيث الولايات المتحدة تحاول فرض ليبراليتها الجديدة على العالم؛ والمراكز الصناعية الأخرى تحاول تعديل الأجندة الأمريكية لمصلحتها، والمناضلون ضد العولمة يكافحون من أجل عولمة بديلة. وهذه الحقبة هي حقبة انحسار نفوذ وسيادة الدولة الوطنية وبروز دور التكتلات الاقتصادية والسياسية الإقليمية والدولية والمنظمات غير الحكومية.

 


[/toggle]

[toggle active=”yes” title=”الفصل السابع: حال المعارضة السورية“]

 

إذا كان العرض الذي قدمناه في هذا التقرير يقارب أو يلامس الحقيقة، فليس صعباً علينا، حين نعالج في هذا الفصل حال السياسة في سورية، وبالتالي، حال الحكام والمعارضة، أن نضع أيدينا على الجرح العميق الذي مازال ينزف منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي. ولكي يندمل هذا الجرح ويستعيد المجتمع عافيته، لا بد أن نتوقف عند الأسباب التي تحول دون ذلك.

كثيرة هي الأسباب التي جعلت مجتمعنا السوري يشهد صراعات حادة، وينحدر إلى درك لا قرار له. ولعل أهمها تسيد “العقلية الإقصائية” للآخر. هذه العقلية هي التي تفسر سياسات النظام الحالي، وتفسر بهذه الدرجة أو تلك، السياسات التي مورست منذ انقلاب 8 آذار عام 1963، بل تفسر أيضاً، ولو بدرجة أخف ما فعله حكم الوحدة (22 شباط 1958 – 28 أيلول 1961) حين وضع اللبنة الأولى للنظام الاستبدادي في سورية. كانت حجته الخلاص من الحزبية المقيتة التي تقسم المجتمع. ولكي نكون أكثر إنصافاً، فإن التيارات التي سادت في الحياة السياسية السورية بعد الاستقلال حملت تلك العقلية. نذكرها تحديداً: التيار الإسلامي والتيار القومي بطيفه المتنوع وخصوصاً – الناصري والبعثي – والتيار الماركسي.

وإذا رجعنا إلى الوراء، قبل أن تضع تلك التيارات بصمتها على الحياة السياسية السورية، وتؤثر بها تأثيراً كبيراً، لوجدنا أن الحكم الوطني الديمقراطي كممثل للتيار الليبرالي، قد عجز عن إدارة دفة الحكم بعد الاستقلال بسبب أنانيته الطبقية التي جعلته لا يعطي الأهمية الكافية لمتطلبات النهوض بالمجتمع ولجسر الهوة العميقة بين الريف والمدينة، وبسبب عجزه، بالتالي، عن رسم سياسة عربية ودولية من شأنها أن تواجه المؤامرات الاستعمارية ومشاريعها المشبوهة، والتي كان قمتها قيام دولة إسرائيل في قلب الوطن العربي. فكان لا بد أن يسقط ويحل محله العسكر. ورغم أن معارضي حكم العسكر عادوا فأسقطوه ومارسوا حياة ديمقراطية بين عامي 1954-1958، إلا أن الأمور تبدلت، فعادوا إلى الحكم، وأضحوا القوة الأساسية التي أمسكت بزمام السلطة من جديد.

لسنا الآن في معرض تحليل تلك العهود التي مرت على البلاد. لكننا بعد ستين عاماً من عمر الاستقلال نستطيع القول: إن الزمان قد دار دورته لنعود من جديد. لنرى أن حال المجتمع السوري والسياسات التي مورست ونتائجها المدمرة قد أرجعته إلى الوراء إلى ما قبل الاستقلال، وربما إلى الحال التي، كان عليها أواخر الحكم العثماني. وليعود الخارج، ممثلاً بالولايات المتحدة وسواها من مراكز القوى الدولية يتدخل ليرسم لنا مصيرنا ويفرض وصايته ربما على نحو أسوأ مما فعله الانكليز والفرنسيون حين قسموا البلاد العربية وفق الاتفاقية المعروفة باتفاقية سايكس- بيكو. إن المسؤولية في ذلك تقع تحديداً على الأنظمة الاستبدادية التي سادت في أغلب الأقطار العربية ومنها بالطبع نظامنا الحالي. وهكذا نجد أن العامل الخارجي، وبسبب الضعف الذي أصاب تلك الأنظمة وسحق الحركات المعارضة على اختلاف مسمياتها، أضحى القوة التي تصنع لنا مستقبلنا بدلاً من أن نصنعه بأيدينا.

إن الوضع السياسي في البلاد اليوم، هو حصيلة السياسات التي طبقت في مختلف المراحل السابقة، من إقصائية تمت تحت شعار “الحزب القائد”، إلى تزييف للعمل السياسي وفبركة مؤسسات شكلانية ك “الجبهة الوطنية التقدمية”، لتغطية الحكم الاستبدادي الفردي تحت شعار “الأب القائد”، إضافة لنتائج إرهاب الدولة الأمنية على المجتمع. كل ذلك أدى إلى ابتعاد الناس عن السياسة والاهتمام بالشأن العام، وإلى انعدام السياسة من المجتمع، ليكون مصير المعارضين تهجيراً في بلاد الاغتراب أو تصفية وتغييباً في السجون، وتكون الحصيلة تدميراً على الصعيد الاجتماعي، حيث تفككت الروابط الاجتماعية بين الناس، وسادت قيم الكذب والنفاق والتدليس، والعلاقات الطائفية والعشائرية والإقليمية بتمييز واضح. فتكسرت الوحدة الوطنية، وتأهلت البلاد لدخول مرحلة الفساد المستشري والإرهاب، وتعاظم دور المافيات التي تقاسمت مقاليد السلطة ومصادرة الثروة.

ونتيجة لهذه العلاقة بين الدولة الاستبدادية والمجتمع، وحجم التخريب الذي أحدثته في البنية الاجتماعية وفي الحياة العامة، كان من الطبيعي أن تتهمش المعارضة ويضعف دورها وتتشتت جهودها.

ولم يكن ذلك لأسباب ذاتية فحسب، إنما كان موضوعياً أيضاً بفعل السياسات الدولية والإقليمية. ولا ينطبق ذلك على المعارضة السورية فحسب، بل أيضاً على معظم البلدان التي ابتليت بمثل هذه الأنظمة.

مع منتصف السبعينات، وبعد التدخل السوري في لبنان 1976، وتفاقم الأزمة العامة في البلاد، بدأت تظهر بوادر التململ الشعبي والاعتراض على سياسات النظام، وتتبلور على الأرض جهود المعارضة السورية بمختلف الأشكال الحزبية والنقابية والشعبية. وكانت إحدى ذرا صعود العمل السياسي المعارض في تاريخ سورية. حيث برز اتجاهان رئيسان في أوساط المعارضة.

1- المعارضة الإسلامية:

وتمثلها بشكل أساسي حركة الإخوان المسلمين، التي اعترضت على الدستور عام 1973، ثم صعدت عملها المعارض حتى استخدام السلاح. ولم يكن نشاط هذه الحركة موحداً ومنسجماً نتيجة عدم توحد مواقف قياداتها، الأمر الذي أدى إلى بروز تنظيمات انفصلت عن التنظيم العام وانفردت بانتهاج العمل المسلح بتحريض وتشجيع ودعم بعض الأنظمة العربية كالطليعة المقاتلة. أحرزت هذه التنظيمات نجاحات مؤقتة في إرباك النظام وإثارة البلبلة في البلاد وإيهام نفسها والشعب بقرب الخلاص. وكان لأجواء التحريض الطائفي والنجاحات المسلحة للطليعة من جهة ولطريقة النظام في التدمير الشامل والدموي في معالجة الأمور، وصدور القانون 49 من جهة ثانية، الدور الأبرز في دفع حركة الإخوان المسلمين إلى الانغماس في العمل المسلح بحركة انجرار واقعية أورثتهم وأورثت البلاد نتائج كارثية. انعكس ذلك على مجمل التحرك السياسي المعارض في البلاد.

لم تعر المعارضة المسلحة اهتماماً لمدى استعداد الشعب للمشاركة في هذا الشكل من النضال، بل اعتمدت على قواها الذاتية وخاضت مواجهتها للنظام، دون أن تأخذ بالاعتبار مواقف القوى الديمقراطية المعارضة ولا الظروف الإقليمية والدولية المحيطة.

ومع اعتقادنا بأن النظام هو المسؤول الأول عن نشر العنف في البلاد، إلا أن الرد بعنف مضاد من المعارضة الإسلامية ساعد النظام على توظيف ردود الفعل الطائفية ونشر في البلاد عنفاً معمماً وصل حد المجازر الجماعية في حق الإنسانية، وأورث الوضع الاجتماعي في البلاد إحباطاً وخوفاً ما زال يتحكم بالمشاعر العامة حتى اليوم.

وكان لظهور “التحالف الوطني لتحرير سورية” الذي اشترك فيه الإخوان المسلمون إلى جانب النظام العراقي وتنظيمات، وشخصيات سورية أخرى دور في تطوير أعمال التفجير العشوائي والاغتيالات في البلاد مما حمل هذا التيار (المعارضة الإسلامية المسلحة) أعباء سلبية إضافية نتيجة التصرفات اللامسؤولة التي تخدم النظام العراقي ولا شأن للشعب السوري فيها، مما أعطى النظام ذريعة لإقدامه على الإعدامات بالجملة وبأعداد كبيرة في السجون السورية، لعناصر  هذه التنظيمات.

ورغم معركة كسر العظم التي سادت بين النظام وهذه المعارضة على طول عقد الثمانينات، إلا أنها مرت في أكثر من مرحلة بعمليات تفاوض ومساومة مع العديد من القيادات المتطرفة، مكنت النظام من إحكام السيطرة على البلاد، وحسم الصراع لمصلحته لقاء مكاسب شخصية ضيقة وحفظ أمن البعض منهم وأمانه. وانتهى الوضع إلى انقسامات حادة في هذا التيار، كان أهمها ذاك الذي جرى عام 1991، بين عدنان سعد الدين وعبد الفتاح أبو غدة، الذي عاد إلى البلاد بعد صدور عفو رئاسي خاص عنه.

بعد هزيمتها في الصراع مع السلطة دخلت المعارضة الإسلامية في مرحلة من الكمون والغياب عن الحياة السياسية في الداخل. إلى ما بعد عام 2000. فعادت تعبر عن وجودها من الخارج عبر بيانات تحمل توجهاً جديداً وفكراً منفتحاً ينفصل بهذا القدر أو ذاك عن خطابها السياسي السابق. وقد تجلى ذلك في الميثاق الذي دعت إليه في مؤتمر لندن 2002، فكان خطوة جيدة بالاتجاه الصحيح، قدمت التيار السياسي الإسلامي إلى مجتمعه بصورة إيجابية. واستمرت حركة الإخوان المسلمين بقيادة علي صدر الدين البيانوني في رصد ما يجري داخل سورية بمواقف وآراء سياسية مقبولة ومتناغمة مع طروحات التيارات الأخرى داخل البلاد، وكانت أبرز محطاته إعلان “المشروع الحضاري لسورية المستقبل آب 2004″ و”المشروع السياسي لسورية المستقبل 16/12/2004” للحركة ، واللذين أثارا حوارات وردود أفعال إيجابية من مختلف أطراف الطيف الديمقراطي المعارض وأعادا حضور الصوت الإسلامي إلى جانب الأصوات المعارضة الأخرى ومنسجماً معها. وينتقص من إيجابية النظرة الديمقراطية إلى مشروعي الإخوان، ما يخشاه كثيرون من طغيان على مفهوم المواطنة تحت ذريعة الشرع الإسلامي واستخدامه لحجب متطلبات التقدم. وذلك إضافة إلى الحديث باسم الإسلام أو باسم طائفة الأكثرية، الأمر الذي يخفي خلفه احتكاراً مرفوضاً للدين والانتماء الطائفي، ويشوش على بناء مجتمع الوطنية والمواطنة والديمقراطية.

وفي كل الحالات فللإخوان المسلمين الحق في العودة إلى البلاد واستعادة موقعهم في البيئة السياسية لسورية لأنهم جزء أصيل منها. لكن ما يصعب هذه الاستفادة ويؤخر حدوثها هو عدم إقدام الحركة حتى الآن على نقد نفسها وتجربتها في معارضة النظام خلال السبعينات والثمانينات وتقديم اعتذار للشعب السوري عن الأخطاء التي مورست بحقه من قبل الجماعة. أو تلك التي استدرجت أخطاء مقابلة من قبل النظام. بالضبط كما أن هذا الاعتذار مطلوب من السلطة لأن فتح هذا الملف ومعالجته بجرأة وصدق شرط أساسي لإغلاقه وإزالة آثار الشرخ الذي أوجده عنف الثمانينات في الوحدة الوطنية ولتعود سورية وطناً عادلاً لكل أبنائها على اختلاف انتماءاتها القومية والطائفية والحزبية وطناً قائماً على التعدد وتنظيم الاختلاف على أساس احترام الدستور والقوانين والتداول السلمي للسلطة، وهذا ما يساعد على إضعاف النعرات الطائفية وإعادة اللحمة الوطنية إلى المجتمع.

2- المعارضة الديمقراطية:

نتيجة السياسات التي مارسها نظام حافظ الأسد في حركته “التصحيحية” بدأت أحزاب عدة تنتقل تباعاً إلى صفوف المعارضة. وعندما انفجرت الأحداث الدموية في الثمانينات كانت المعارضة السورية متبلورة أساساً في التجمع الوطني الديمقراطي. وهو تحالف ولد في تلك المرحلة وبرز كقطب معارض عبر بيان آذار 1980، الذي حلل فيه أبعاد الأزمة التي تمر بها البلاد، وحدد المخارج الوطنية الديمقراطية منها.

لا قى الخطاب السياسي للتجمع والشعار الذي طرحه “التغيير الديمقراطي الجذري في حياة البلاد”، اهتماماً واسعاً في الأوساط الشعبية والسياسية عموماً، وتبادل التأثير مع حركتي النقابات المهنية والمثقفين اللتين برزتا في تلك الفترة وقدمتا إسهاماتهما من أجل التغيير الديمقراطي، وكذلك المؤتمرات النقابية والإضرابات والاجتماعات التي نظمت من أجل إشاعة الديمقراطية والمطالبة بالحريات العامة وسيادة القانون واحترام الدستور. ولو أصغت السلطة من جهة والمعارضة الإسلامية من جهة أخرى لذلك النداء السياسي الوطني والعاقل الذي قدمه التجمع لوفرت على البلاد آلام المحنة التي مرت بها، ولكان التاريخ السياسي الاجتماعي لسورية يسير الآن باتجاه آخر.

وإلى جانب المعارضة الديمقراطية، أسهم حزب العمل الشيوعي في النضال ضد الديكتاتورية والاستبداد وضد “الحلف الرجعي الأسود”، كما سماه، منطلقاً من مواقع إيديولوجية وطفولية يسارية، جعلته غير مدرك لأهمية المسألة الديمقراطية كحاجة وطنية وعلاج للأزمة السورية. وقد تعرض للاضطهاد والملاحقة والسجن كباقي أحزاب المعارضة الديمقراطية. كما تعرض مثلها لمجزرة الأحكام القاسية التي جرت أوائل التسعينات في محكمة أمن الدولة العليا والتي كانت استثناء نافراً في تاريخ السياسة السورية حيث تراوحت الأحكام من 6-22 سنة مبرمة، وشملت المئات من المناضلين الديمقراطيين وناشطي حقوق الإنسان.

رغم أن النظام حقق نصراً أمنياً على المجتمع السوري وعلى المعارضة المسلحة والديمقراطية على السواء، ونجح في إخماد الصوت المعارض، غير أنه عجز عن إحراز النصر السياسي، ولم يفلح في تقديم خطاب مقنع ومقبول إلى الشعب، خاصة وأنه صار أسير أزماته وعقليته الانعزالية وأساليبه الإرهابية. فبقي الخطاب السياسي للمعارضة الديمقراطية هو الأقوى، والذي يأخذ حيزاً يتزايد باستمرار في وعي الناس وإرادتهم وتعبيراتهم. ورغم أنه مر بفترة من البيات الشتوي الطويل نتيجة القمع العاري والتردد إلا أنه استطاع أن يأخذ مكانه في صدارة الحراك السياسي الديمقراطي الذي تجدد وانداح ليشمل أطرافاً من المعارضة الإسلامية ويصبح الخطاب الموحد للمعارضة السورية على اختلافها وانتماءاتها ومواقعها. في الوقت الذي تراجع فيه النظام وسياساته ومقولاته إلى درك لم تعد تجدي فيه كل أساليب التخويف والتخوين والتضليل والدعاية الإعلامية في ستر عورته ومنعه من الانهيار.

وعلى الرغم من الآلة القمعية الجهنمية التي سخرها النظام ضد المعارضة الديمقراطية ونشاطاتها، إلا أنه أخفق في محاولة إلغاء وجودها ومحوها عن الخريطة السياسية للبلاد. وقد كبدها الصمود والاستمرار جهوداً مضنية وتضحيات جلّى وصلت حد تقديم عشرات الشهداء في أقبية التعذيب واستمرت وراء نفس الأهداف بصلابة لا ينكرها جاحد، مجددة سعيها لشق الطريق أمام التحويل الديمقراطي لسورية.

لقد عمل النظام جاهداً وبمختلف الوسائل لزحزحة المعارضة الديمقراطية عن مواقعها، وتشكيكها بجدوى برامجها وأساليبها ودفعها (من الداخل والخارج) للتركيز على إدانة المعارضة المسلحة من أجل شق صفوفها والاحتماء وراء بعضها في الصراع مع البعض الآخر. إلا أنه فشل فشلاً ذريعاً في جرها إلى مواقع لا تريدها. وكان لحزبنا دور فعال في صد هذا التوجه وهزيمته. فاستمرت المعارضة الديمقراطية في تحميله المسؤولية الأولى لما حصل في البلاد وحافظت على موقفها في قضية وطنها وشعبها دون تشويه. وقد كان لهذا الموقف أثر كبير على التقاء المعارضة الإسلامية والديمقراطية فيما بعد على نقاط برنامجية وأهداف تغييرية ديمقراطية مشتركة تسهل الانتقال إلى برنامج وطني مشترك أو ما هو أكبر من ذلك بفضل عدم وجود حواجز من أي نوع، عجز النظام عن زرعها بين أطرافها. وهو امتياز للمعارضة السورية لا تتمتع به الكثير من المعارضات العربية.

بقي التجمع الوطني الديمقراطي في وضع يشبه الكمون حتى أواخر الثمانينات فأخذ يجدد نشاطه ويستأنف حركته في التعبير عن مواقفه المعارضة لتوجهات السلطة. وقد كان لتدهور الأوضاع المعيشية للشعب واشتداد الأزمات الداخلية إلى جانب انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى وتزعزع وضع النظام إقليمياً ودولياً أثر كبير في ذلك.

غير أن هذا النشاط المتجدد للتجمع والطرح السياسي المرافق لم يتناسب مع متطلبات المرحلة. فاكتفى بنقد النظام دون أن يصوغ برنامجاً سياسياً يكون أداة فعالة من أجل التغيير. ولم تستطع جريدته (الموقف الديمقراطي) أن تحمل خطاً سياسياً معبراً عن حاجة الناس وتوجهاتهم. ورغم أن جهوداً بذلت من أجل إعداد وثائق بغية إنجاز مؤتمر للتجمع يكون رافعة للعمل الوطني المعارض، إلا أنه قصر عن بلوغ ذلك الهدف وبقيت طروحاته متخلفة عن برنامج التغيير الذي طرحه عام 1980 وميثاقه الذي ظهر عام 1979. وربما يعود ذلك إلى بنيته التنظيمية التي أنهكها قمع النظام وملاحقته من جهة، وإلى خوفه من عودة عنف الثمانينات من جديد. وقد قاده ذلك إلى حياة الترهل التي منعته من تجديد سياساته وقياداته من أجل عودته إلى المجتمع وتوثيق الصلة به. وهكذا لم يظهر التجمع كقوة طليعية تنهض أمام الشعب للنضال ضد الاستبداد وإعادة الصلة بالأجيال التي انقطع عنها لتجديد شبابه وإطلاق دوره.

دخل التجمع في العهد الجديد (حزيران 2000) طور نشاط مختلف. إذ بدأ ظهوره العلني التدريجي في النشاطات السياسية وعلى وسائل الإعلام. وشارك في تأسيس المنتديات وجمعيات حقوق الإنسان والمنظمات المدنية الأخرى. كما شارك في الحراك السياسي والثقافي الذي عم البلاد. واستأنف بناء مؤسساته فأنشأ فروعاً له في بعض المحافظات السورية التي كان غائباً عنها ودفعها للإسهام في ذلك النشاط الكبير الذي سمي “ربيع دمشق”. كما لعب دوراً كبيراً في الدفاع عن المعتقلين السياسيين ورعاية شؤونهم. أما على الصعيد السياسي فقد كان لخطاب القسم والأوهام التي نتجت عنه أثر واضح في استنقاع حركة التجمع. ولعبت أجهزة السلطة المختلفة أدواراً متنوعة، وبأساليب متعددة لمنع توحيد المعارضة وراء برنامج واحد، وإبقائها أسيرة وهم الإصلاح السلطوي، فعجز التجمع عن لعب الدور الريادي المنوط به في نشاطات المعارضة وتوجهاتها، بل كانت حركته في كثير من الأحيان تلهث وراء الآخرين وتقصر عنهم. فلم تكن حركته ملبية للمتغيرات السريعة وحاجات الأحداث المتلاحقة.

تعرض التجمع لانتقادات مخلصة لكنها حادة وجريئة في هذه المرحلة من قبل أوساط معارضة وشخصيات وطنية تحب أن تراه محور الاستقطاب للعمل المعارض والموجه له. تجمع الانتقادات على بطء حركته وتخلف خطه السياسي وتقصيره عن التصدي لقيادة العمل المعارض.

ورغم المحاولات الصغيرة هنا وهناك بقي التجمع وأحزابه بما فيها حزبنا، دون المستوى المأمول من الفعالية، مما يفرض عليه تجديد أفكاره وسياساته وقياداته لاستنهاض الشعب السوري من أجل إنهاء الاستبداد. وقد أظهرت تطورات المنطقة في العامين المنصرمين قصور التجمع، وهددت حركته وسمعته ووحدته مما يرتب على قياداته وقيادات أحزابه ضرورة الوقوف مع الذات بنظرة نقدية شجاعة تتصدى للمهام وتنفض عنها غبار الإدارة البيروقراطية لتحل محلها فعالية القيادة المبدعة فيستعيد التجمع ألقه ويعيد الآمال به كقطب كفاحي للتغيير. وبالتالي يستأنف دوره في تجميع المعارضة في كل مكان حول برنامج التغيير الذي يجمع حوله الليبراليين والقوميين الديمقراطيين والإسلاميين واليساريين وكل الفئات الاجتماعية المتضررة من استمرار النظام. إضافة إلى كل من يرى من أهل النظام ضرورة هجر سياسة الاستبداد والتمييز والإقصاء والعودة إلى الشعب في ظل نظام وطني ديمقراطي حقيقي تتعايش فيه كل التيارات بطريقة سلمية وتلتزم بأحكام الدستور والقانون.

لقد وصل التجمع إلى منعطف مهم في حياته، تنهض أمامه مهمة النظر جذرياً في أوضاعه، فيعيد تأسيس نفسه وهيكلته، وبلورة برامجه السياسية والعملية، ويسمو إلى ما تتطلبه المرحلة، أو يواجه عجزه ويعترف بفشله ويدفع للبحث عن أشكال نضالية جديدة.

وفي السنوات الأخيرة، برز شكل واضح تحرك الأحزاب الكردية إضافة إلى منظمات أخرى كالآشورية والسريانية، واهتمامها بالشأن الوطني الديمقراطي السوري، واشتراكها بنشاطات الطيف الديمقراطي والحراك السياسي العام في البلاد. وهو الشيء الذي لم يكن ظاهراً على سطح الحياة السياسية السورية من قبل، كونها بقيت لزمن طويل منكفئة على القضايا التي تهم المواطنين الأكراد، وتلك التي لا تتعارض كثيراً مع سياسات السلطة.

3- الحزب:

كان حزبنا من أوائل القوى السياسية التي طرحت الديمقراطية بمواجهة الاستبداد، لإخراج البلاد من الأزمات العديدة التي أوقعها بها منذ منتصف السبعينات. ولم تفلح جهود النظام وجبهته، رغم استخدامهم كافة الأساليب، في عزلنا عن النشاط السياسي العام في البلاد. كما لم يستطيعوا منعنا من لعب دورنا مع الآخرين في النضال من أجل التغيير الديمقراطي في سورية.

فقد حافظ حزبنا على جوهر موقفه الإيديولوجي اليساري الديمقراطي الذي يهدف إلى الاشتراكية، إلا أنه كان في الوقت نفسه حزباً سياسياً بامتياز، استطاع أن يضيء الخطوط العريضة لمخارج البلد من أزماته فأقام علاقات متنوعة مع المثقفين والنقابيين والاتجاهات السياسية المختلفة سعياً وراء هذا الهدف. ونتيجة لذلك كنا من المسهمين الأساسيين في بلورة مضمون حقيقي للتيار الديمقراطي وتحديد أهدافه وأساليب نضاله. وتمكن الحزب من إقامة تحالف مواز لجبهة النظام يعتمد التغيير الجذري هدفاً والديمقراطية أسلوباً، وقدم كل ما يجب من أجل بناء هذا التحالف وتوفير أسباب بقائه واستمراره.

وبصرف النظر عن الصعوبات الناشئة والقصورات المختلفة والأخطاء العديدة هنا وهناك في عمل الحزب وعلاقاته ونشاطه والتي نشأت بسبب بنيته التنظيمية أو بسبب المواجهة الطويلة مع النظام، فإنه استطاع أن يحافظ على وجوده وعلى استمرار خطه السياسي المقر من المؤتمر الخامس واستمر على الخارطة السياسية رغم كل الصعوبات وعوامل الضعف والقصور.

تجاوز حزبنا معظم التحديات التي واجهها حتى الآن. وها هو اليوم أحد العناصر الرئيسة للوحة السياسية السورية، سمعته السياسية أكبر من حجمه التنظيمي ودوره يتجدد أصلاً بخطه السياسي وتاريخه الكفاحي قبل أي شيء آخر، واجه حزبنا بعد (آذار 1980) مباشرة قضية الموقف من الإخوان المسلمين، وعالجها بكثير من الحوار داخله حتى الحملة الشاملة عليه، فحسمت اللجنة المركزية الحوار لجهة الخط السياسي للحزب في مواجهة النظام. استهدف الحزب المصلحة الوطنية العليا ومستقبل العمل المعارض في البلاد، فامتنع عن أن يكون مطية للنظام للإسهام في ضرب الأطراف المعارضة الأخرى، رغم عدم تأييده للمعارضة المسلحة وانتقاده لسياساتها ورفضه لأساليب عملها وطرح فكرة الجبهة الوطنية العريضة في سبيل “نظام وطني ديمقراطي”. تجددت المحاولات بعد حملة الاعتقالات الكبرى عام 1980، بأساليب جديدة ووسائل ضغط متنوعة لكن الحزب رفض بإصرار كبير أي تطويع لسياساته أو تشويه لها ودفع ثمن هذا الموقف. وجاءت الحياة لتحسم الموقف لمصلحة رؤية الحزب وقراره. لقد تحمل الحزب بصبر النتائج السلبية لعدم تفهم بعض الرفاق لهذه السياسة التكتيكية، إذ طالب البعض من أجل حماية الحزب بانتقاد المعارضة المسلحة ومهاجمتها بعد انحسار الحركة الديمقراطية وفشلها في إضرابات المدن، واستعادة النظام لزمام المبادرة. ثم برهنت الأيام خطل هذه الآراء لأن الحزب فوت على النظام فرصة النصر السياسي على الجميع بعد انتصاره الأمني.

حاول النظام حرف الحزب عن سياساته، وإدخال البلبلة إلى صفوفه، بعد اعتقال أعضاء المكتب السياسي وعن طريق أحد أعضائه، مستغلاً الظروف الحرجة للحزب في وضع المواجهة مع النظام. لكن جهوده فشلت فشلاً ذريعاً نتيجة عدم تجاوب منظمات الحزب وكوادره مع هذا التوجه.

باشرت كوادر الحزب التي آلت إليها الأمور في قيادة العمل مسؤوليتها بعد الحملة مباشرة. وسرعان ما نجحت بتنظيم صفوفه وإعادة الصلة لبعض منظماته فيما بينها وبين المركز. وعاد إعلام الحزب للتواتر في الصدور(نضال الشعب، الساحل، الحقيقة، الفجر). عقد الحزب خلال تلك الفترة مؤتمراً تداولياً واجتماعات موسعة لمعالجة الأمور المستجدة.

وهكذا استأنف الحزب دوره ونشاطه وتابع صلاته بالتجمع بعد الضربة الشديدة التي تلقاها. لكن بحذر شديد فرضه الإرهاب المعمم على البلاد.

وبانتصار النظام على المعارضة وانتقاله للعمل على تجفيف منابع العمل السياسي المعارض من الحياة العامة، ازدادت صعوبات العمل في الحزب وقلت حاضناته الاجتماعية، جراء الخوف والاعتقال، الأمر الذي أعاق رفد الحزب بالدماء والكادرات الجديدة. ولقد ترافق ذلك مع سعي النظام المحموم لاستئصال الحزب كلياً. فتتالت حملات الاعتقال في صفوفه لعل أهمها حملة عام 1983، والتي طالت منظمة حلب وأعضاء مركزيين في اللاذقية ودمشق. ومن ثم حملة عام 1987، أيضاً واعتقالات عام 1989، ثم اعتقالات عام 1997، والتي طالت كادرات حزبية مختلفة وقد سقط في خضم هذه الحملات المتلاحقة عدد من شهداء الحزب وهم الرفاق؛ لؤي كضيب 1980، عبد الله شوبك 1980، عبد الله الأقرع 1980، موفق الجابي 1982، خالد جلاب 1982، إميل نصور 1982، أحمد مهدي 1982، تيسير الشهابي 1985، هيثم خوجة 1987، عبد الرزاق أبا زيد 1988، منير فرنسيس 1990، رضا حداد 1996.

تعرضت قيادة الحزب الجديدة لصعوبات في علاقاتها مع منظمة الخارج ومع بعض أعضاء القيادة في السجن، فقد حاول الرفيق المرحوم أحمد محفل عضو اللجنة المركزية أن يضغط على الحزب بمختلف الوسائل لحرفه عن التزاماته مع التجمع وخطه لمصلحة خط التحالف الوطني المدعوم من العراق. عالج الحزب هذا الموضوع بصبر وأناة إلى أن اضطر لإيقاف جريدة المسار الناطقة باسم منظمة الخارج، ثم حل هذه المنظمة عام 1989، إثر حضوره مؤتمراً سياسياً في الخارج، دون موافقة الحزب واستمراره بممارسة نشاطات تتباين مع خطه وسياسته، وقد التزم الرفيق أحمد ومنظمة الخارج بقرارات الحزب. كما حاول بعض أعضاء الهيئات القيادية في السجن استثمار موقعهم القيادي للتأثير على الرفاق الآخرين داخل السجن وخارجه، مما سبب إرباكات ونزاعات بين الرفاق خرَّشت السمعة النضالية للرفاق وللحزب لتعارضها مع خط الحزب وسياسته وتقاليده. فمن المعروف أن الرفيق المعتقل يصبح سلوكه الحزبي والتزامه بخط الحزب وتضحياته من أجل رفاقه، وعمله لرفع معنوياتهم، هو المعيار الحقيقي لمرتبته الحزبية ودرجة تأهله لقيادة العمل وممارسة الدور الفعال.

على أثر التغيرات التي جرت في السياسة الدولية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين حاول النظام تحسين صورته وتخفيف عزلته عن المجتمع نتيجة إرهابه الطويل لآلاف من المواطنين وخصوصاً السجناء، فأعلن الإفراج عن ألفين منهم بعفو شمل جميع الاتجاهات السياسية. وقد شمل الإفراج المذكور عدداً من رفاقنا الذين أمضوا أكثر من عشر سنوات من الاعتقال. وتحول رفاقنا الآخرون إلى محكمة أمن الدولة حيث تلقوا أحكاماً قاسية من 8-15 سنة. ليخرج القسم الأكبر منهم 1995، وما بعد، إثر انقضاء مدة حكمهم، وليخرج آخر رفيق لنا من السجن عام 2000.

نتيجة الممارسات القمعية للنظام خلال السبعينات والثمانينات والحملات المتلاحقة التي تعرض لها الحزب فقد حمل الرفاق هاجساً أمنياً هيمن على الحياة الحزبية والعلاقات السياسية مع الأصدقاء هدف إلى حماية الحزب والرفاق ومنع السلطة من اختراق التنظيم والوصول إليه، وتم ذلك على حساب نشاط الحزب السياسي وصلاته مع المجتمع.

نسجل اعتزازنا بقدرة القيادة الجديدة للحزب وكادراته وقواعده التي كان لها شرف التصدي بعد عام 1980  للإرهاب الأسود الذي استهدف تصفيته، فقد تمكنت من الحفاظ على وجوده، وإن أنهكتها الملاحقات. لقد بقيت قوة سياسية لم يستطع النظام أن يمحوها من الخارطة السياسية للبلاد، كما جرى لبعض الأحزاب المعارضة. إن هذا الجانب الإيجابي نعتبره مأثرة من مآثر الحزب نسجلها لجميع الذين ضحوا من أجل هذا الهدف النبيل. ولا بد لنا إلا أن نذكر شهداءنا الأبرار بكثير من الفخر والاعتزاز، ونؤكد أن ذكراهم ستبقى حية في نفوسنا ومثلاً نحتذيه في نضالنا من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والحفاظ على الاستقلال. ولا ننسى أبداً رفاقنا الذين عانوا في ظلمات سجنهم وصمدوا أمام آلة التعذيب والوحشية التي تعرضوا لها. كما نحيي رفاقنا المغيبين في المنافي والذين يتوقون لعودة كريمة للوطن.

إن هذه التضحيات التي قدمها حزبنا مع الأحزاب والقوى والشخصيات الديمقراطية، لا يجوز أن تمنعنا من رؤية جملة من السلبيات التي اعترت نضالنا وحياتنا الحزبية الداخلية وكذلك العثرات المختلفة التي وقع بها الحزب خلال أدائه السياسي والتي ينبغي أن نتوقف عند أهمها:

1ً– غياب المؤتمرات الحزبية التي أشرنا إليها في بداية هذا التقرير. لقد حال هذا الغياب دون مراجعة سياسات الحزب، ودون تجديد قياداته وفق النظام الداخلي. كما أن المؤتمرات التداولية أو الاجتماعات الموسعة للجنة المركزية كانت نادرة في السنوات الست والعشرين الماضية. وإذا حال الإرهاب الشديد والملاحقات المتواترة دون عقد المؤتمرات خلال الثمانينات، مما يعطي بعض التبرير لهذا الغياب، فالأمر قد تغير في فترة التسعينات، حيث كان بالإمكان عقدها، لأن الظروف السياسية، كما أشرنا، تسمح بذلك. وبصرف النظر عن الجدل الذي يمكن أن يثار حول هذه المسألة أو التعليل بالظروف الاستثنائية أو الأمنية، يبقى غياب المؤتمرات مؤشراً سلبياً يستحق النقد الجدي حفاظاً على شرعية القيادة تنظيمياً وسياسياً.

2ً– لم تستطع قيادة الحزب أن تطور خط المؤتمر الخامس بما يتلاءم مع تطورات الأحداث الداخلية والعربية والدولية. فكانت سياسات الحزب دفاعية في جوهرها. وإذا كان الأمر صعباً في فترة الثمانينات، إلا أن فترة التسعينات كانت تسمح بتجديد تلك السياسات.

على العكس من ذلك نرى أن الخط الذي طرح في فترة التسعينات كان خطاً متراجعاً، والشعار الأساسي، التغيير الديمقراطي، تراجع أمام مطالب إصلاحية، رغم أن النظام قد اختل توازنه بسبب أزماته الداخلية والمتغيرات الدولية. لذلك كان سقف الطرح السياسي دون المستوى الذي تطلبته تلك المرحلة. ربما كان السبب يعود أيضاً إلى التأثر بسياسات التجمع الإصلاحية.

3ً– أقدمت اللجنة المركزية على خطوة خاطئة وخطيرة تتلخص في السير التدريجي نحو الحركة السياسية الواحدة كبديل للشكل الذي كان سائداً في التجمع والقائم على تلاقي الأحزاب في جبهة لها ميثاقها وسياساتها القائمة على الإجماع أو التوافق. بينما كان الاتجاه. كما صاغته اللائحة الأساسية والتي هي بمقام النظام الداخلي، يقوم على مبدأ الأكثرية والأقلية في اتخاذ القرارات. وهذا يعني جعل قيادة التجمع بمقام قيادة للقيادات الحزبية التي عليها أن تنفذ قراراتها.

هذه الخطوة لو نفذت لغيبت وجه الحزب المستقل، وجعلته ليس تابعاً فحسب بل لكانت الخطوة الأولى لحله، وبالتالي قيام حزب التجمع الوطني الديمقراطي.

إن هذا يتنافى مع ما تأسس عليه التجمع الذي هو تجمع أحزاب تتلاقى عند الحد الأدنى الذي تتوافق عليه مع احتفاظ كل حزب على مواقفه الخاصة في المسائل الإيديولوجية والاجتماعية والسياسات الأخرى. ومن المعروف أن كثيراً من كوادر الحزب قد اعترض على هذه الخطوة الخاطئة. ومن المؤسف أن اللجنة المركزية لم تدع لا إلى مؤتمر أو إلى اجتماع موسع لإقرار مثل هذه الخطوة.

4ً– كان القرار القاضي بإيقاف جريدة الحزب المركزية من الأخطاء الأساسية التي وقعت بها اللجنة المركزية. والمعروف أن هذا القرار جاء تلبية لطلب التجمع بإيقاف نشرات أحزابه من أجل توحيد سياساتها عبر جريدة “الموقف الديمقراطي”.

لا أحد يعترض على تأسيس جريدة للتجمع تعكس المواقف المشتركة. لكن هذه المواقف تشكل الحد الأدنى المطلوب الذي تلتقي عليه. لكن لكل حزب سياسته الخاصة التي تحتاج هي الأخرى إلى جريدة تعبر عنها أيضاً.

في الممارسة العملية عكس “الموقف الديمقراطي” خطاً سياسياً، أقل ما يقال فيه، أنه لم يلب حاجات تلك الأحزاب منفردة. عدا عن أن طروحات “الموقف الديمقراطي” على العموم متخلفة ومتراجعة حتى عما توافقت عليه أحزاب التجمع في ميثاقها.

إن خطوة الدمج وإيقاف جرائد الأحزاب لم تساعد أبداً على تحسين لا أداء هذه الأحزاب ولا أداء التجمع، بل بقي متخبطاً وحتى عاجزاً عن الوصول إلى برنامج مشترك صادر عن مؤتمر منه حتى الآن.

5ً– هناك قضايا وإشكاليات تتعلق بالحياة الحزبية الداخلية التي نتجت عن المصاعب التي واجهها الحزب إبان مرحلة الإرهاب التي أجبرته على التراجع والانكفاء وحتى الانعزال. كذلك تراجع أداء قيادة الحزب ومنظماته في التواصل المتواتر فيما بينها وكذلك ضعف الروابط مع جمهوره ومع المجتمع.

ويمكن أن نشير إلى بعض هذه السلبيات فيما يلي:

أ- عدم القدرة على التوفيق بين شكلي النضال السري والعلني الذي أفقد الحزب جزءاً مهماً من دوره وفاعليته. كان طغيان الهاجس الأمني والانشغال في التدابير الاحترازية وحماية الذات يتم على حساب النشاط السياسي وعلى حساب حضوره الفاعل بين جمهوره وأوساط المجتمع. وبهذا المعنى تراجع دور منظمات الحزب التي لم تجد لها عملاً في تلك الأوساط لتعثر التواصل المستمر مع قيادة الحزب.

ب- من المنعكسات السلبية تراجع دور اللجنة المركزية، كهيئة قيادية، لصالح ما سمي “لجنة المركز” المستحدثة بديلاً من المكتب السياسي. هذا الأمر شجع على بروز العمل الفردي وضعف روح المبادرة وتهميش الحوار وتقليص المشاركة في صنع القرار وكذلك غياب الرقابة والمحاسبة من الهيئات الأدنى أيضاً.

ج- بسبب تباعد المنظمات عن مركز القيادة وضعف تواصلها، وغياب الكادرات عن بعضها البعض، أضحت منظمات الحزب أشبه بالجزر المنعزلة. فأدى ذلك ومع الزمن إلى أن تحمل كادرات الحزب مواقف وآراء متناقضة لا يجمعها جامع مشترك. فالقيادة في واد ومنظمات الحزب وأفراده في واد آخر. ولم تتحسن هذه الصورة إلا بعد عودة الجريدة إلى الصدور وجزئياً بعد المؤتمر التداولي 2001.

د- عانى الحزب من مصاعب كثيرة اعترته جراء اعتقال أعداد كبيرة من أعضائه. فلم يكن سلوك الرفاق داخل السجن مرضياً على العموم. مرد ذلك غياب سياسة محددة للحزب توجه الرفيق حين الاعتقال في كيفية تصرفه أمام التحقيق أو في علاقاته مع رفاقه السجناء. علماً أن أجواء الإرهاب قد ساعدت على تنمية الكثير من التصرفات الشاذة غير اللائقة بالرفيق المناضل، فهذه مسألة ينبغي دراستها ومعالجتها بما يساعد كلاً منا في حالة التعرض للسجن على البقاء قادراُ على حسن التصرف سواء في مرحلة التحقيق أم في العلاقة مع الرفاق ومع السجناء الآخرين.

هـ- المشكلة الأخرى لا تتعلق بتجربة السجن، وإنما بالعلاقة التي نسجناها مع الرفاق الذين أطلق سراحهم، فالشكوى الأساسية آتية من غياب منهج محددٍ في التعاطي معهم، بدءاً من ضرورة تقديم تقرير لمعرفة ما جرى معهم خلال التحقيق أو الحياة المشتركة فيما بينهم، وانتهاءً بترتيبات عودتهم على المستويات المختلفة. كان الرفاق يكتفون بالسماع إلى بعضهم شفاهاً. ومع قناعتنا أن عودتهم إلى الحزب كان يعيقها بالدرجة الأولى إرهاب النظام والخوف من الاعتقال مجدداً، إلا أن هذا لم يمنع من تسجيل ملاحظات كثيرة على إهمال عدد لا بأس به من الرفاق بعد خروجهم. فأمامنا الآن مهمة معالجة هذه المسألة بعد المؤتمر، والبحث في إمكانية إعادة من يرغب منهم بالعودة وفق الأصول المقررة في اللجنة المركزية والتي تتطلب تقريراً عن فترة الغياب.

و- إن تجربة السنوات الخمس الماضية تشير إلى تحسن أداء الحزب، وإعادة بناء بعض المنظمات. وعودة الجريدة إلى الصدور، وتأسيس موقع الرأي على شبكة الانترنت بعدد من الزائرين مبشر، وسواها من التدابير التي تعتبر إسهامات جيدة في هذا الاتجاه.

منح المؤتمر التداولي الذي انعقد أوائل آذار عام 2001 طاقة جديدة أسهمت في عودة التلاحم إلى صفوفه والشروع في حوارات غنية وجديدة، بددت الأوهام حول الإصلاح والمصلحين وجددت مسيرة النضال لأجل انجاز التغيير الديمقراطي في حياة البلاد، والشروع بالتحضيرات للمؤتمر القادم. واستطاع الحزب من خلال موقعه على شبكة الانترنت تفعيل حوار داخلي وإعادة الحرارة للحياة السياسية على المستوى الوطني للمعارضة. ورفد الحزب بأصوات ورؤى جديدة. كما لعبت الرسائل السياسية دوراً في توحيد الرؤية السياسية. وكذلك في تنظيم العلاقة مع الخارج.ولعبت /الرأي/ دوراً مهماً عبر أعدادها الأربعين في توحيد الرفاق سياسياً وتعميق الحوار ضمن الهيئات. كما شهدت فترة التحضير لوثائق المؤتمر السادس ونشرها على الملأ أجواءً من التفاعل غير المسبوق داخلياً، وأثرت موقعنا على شبكة الانترنت من الإسهامات والردود في شتى المجالات.

لكننا نلحظ بطئاً واضحاً في بناء المؤسسات الحزبية، ونقصاً فادحاً في الكادرات والكفاءات، مما ترك آثاراً سلبية على أداء الحزب. فالسلبية وضعف المبادرة، وغياب الحضور الحي، لم يمكنه من إملاء الحيز السياسي الخاص به. كما كشف قصوره لا بل عجزه عن المواكبة المطلوبة في النشاط الميداني، خصوصاً في اللحظات الساخنة.

[/toggle]

أيها الرفاق المؤتمرون:

في ختام هذا التقرير نود أن نؤكد جملة من الملاحظات الأساسية التي لا بد لنا أن نعيها جيداً بعد أن ننهي مؤتمرنا هذا:

1- إن الوثائق الأربع المطروحة عليكم لمعالجتها وإقرارها بعد تعديلها وتصويبها، هي وثائق تكمل بعضها بعضاً. وهي باعتقادنا تؤسس لخط سياسي وتنظيمي يتلاءم مع متطلبات هذه المرحلة الدقيقة والحساسة من حياة شعبنا. وهي قائمة على نهج منفتح ونقدي. كما هي قائمة على سياسة مرنة تفسح في المجال لأن نعمل على توحيد صفوف المعارضة في جبهة عريضة لا تستثني أحداً حتى من أهل النظام الذين يجدون في نظامهم الذي دعموه عائقاً أمام حل أزمات البلاد، نظاماً فات أوانه وأنه لا بد من العودة إلى حياة ديمقراطية قائمة على الحرية والتعددية، ونظام ديمقراطي يوفر سيادة القانون ومساواة المواطنين جميعاً أمامه.

إن الجبهة العريضة الساعية إلى التغيير الديمقراطي والمصالحة الوطنية بين مختلف أطراف المجتمع هي مهمتنا الأساسية الأولى.

2- إن بلادنا تمر في مرحلة تحمل في طياتها تحديات جمة أبرزها. تهاوي النظام وعجزه عن إيجاد مخارج لأزمات البلاد، وإعراضه عن الانفتاح على الشعب. وكذلك تصاعد وتيرة التدخل الخارجي فالأحداث العراقية واللبنانية واضحة أمامنا. ربما يأتي الغد فتصبح سورية أيضاً الهدف الثالث.

ولا يضيرنا هنا أن نحمل الأنظمة الاستبدادية مسئولية ما يجري أكثر مما نحمل الخارج، لأن الخارج لم يتوقف أبداً عن التدخل في شئوننا وشئون المنطقة.

لا يجوز أبداً في هذه الأجواء أن نعارض الديمقراطية بالوطنية وبالتالي علينا أن نؤسس وندعو إلى الخط الثالث، الذي عالجناه في أدبياتنا. فلا يجوز أن تختلط علينا الأمور، ونقع تحت تأثير الدعايات المضللة التي تمنعنا ألا نرى أن هذا النظام عليه إما أن يصلح وإما أن يرحل، ولا يجوز أن نجعل من الضغوط الأجنبية فزاعة تخيفنا.

3- لكي يكون لنا دور في هذه المرحلة لا يكفي نشر وثائقنا وطرحها على الرفاق والناس وإنما ينبغي على الحزب أن يرسم سياسة تنظيمية من شأنها أن تساعده على الحراك بين الناس، هذا الحراك الذي يبدو الآن ضعيفاً وضعيفاً جداً. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون وقفة تنظيمية تحسن من بنية الحزب وتوسعها وتتوجه بواسطتها إلى الشباب الذي تتسع دوائر مشاركته، وإلى النساء لتفعيل دورهنّ. وبهذا المعنى علينا أن نجدد شباب هيئاتنا القيادية في مختلف المحافظات لتنخرط في النضال من أجل الحرية والديمقراطية والحفاظ على الاستقلال. وربما احتجنا هنا إلى مؤتمرات تداولية أو محلية أو مؤتمر استثنائي.

4- إن تطورات الأوضاع الدولية والإقليمية الأخيرة، والتي تضيق الخناق على النظام السوري، مضافاً إليها تردي الأوضاع الداخلية للسلطة بشكل متسارع، وتفاقم عزلتها العربية والعالمية، تدفع البلاد نحو احتمالات مفتوحة على التغيير. وبسبب عدم تبلور مشروع مشترك للمعارضة الديمقراطية لملاقاة التطورات اللاحقة في البلاد، نستشعر أهمية أن يقدم مؤتمرنا هذا مبادرة سياسية للمجتمع وللطيف السياسي المعارض، لحشد طاقات الشعب السوري وقواه الحية في إطار جبهة وطنية عريضة تفعل جهود السوريين وتؤطر طاقاتهم من أجل إنجاز التغيير الديمقراطي المنشود. 

هذه هي ملاحظاتنا الأربع الأساسية في هذه المرحلة. إننا على ثقة بقدرة رفاقنا وهدي وثائقنا، بأن حزبنا كما تخطى في الماضي مصاعبه وواجه الأعداء بشجاعة، لقادر أن يتابع نضاله مع الحلفاء من أجل سورية حرة وديمقراطية ومستقلة.

أواخر نيسان  2005

اللجنة المركزية