مناف الحمد  

بمجرّد  وصولك القبو الواقع على مسافة بعيدة  في أسفل البناء في أحد أجهزة  الأمن السورية،  تبدأ مشاعر العجز المطلق تجتاح كيانك، ففقدان الرؤية بسبب الغطاء محكم الربط على عينيك، والقيد الذي يشدّ يديك بقوّة إلى الخلف، وأصوات آهات التعذيب الّتي تصل مسامعك من الزنازين كفيلة بسلبك أدنى شعور بالقدرة، ما خلا القدرة على محاولة تخيل مصير قاتم يتربّص بك بعد قليل.

كلّ هذا الشعور بالعجز تسبقه إجراءات أهمّها تجريدك من كلّ متاعك، وفي مقدمته هويتك الشّخصية.

وفي الإجراء رمزيّة ربّما تكون غير مدركة من المنفّذ أنّك في هذا المكان شخص بلا هويّة، مجرّد رقم يمكن بسهولة طمسه وإحلال آخر محلّه.

ولكنّك إذ تفقد التركيز، تستعيده بقوّة مفرطة عندما يأمرك السجان شديد الغلظة أمرًا غير مفهوم الغاية:

اخلع ثيابك كلّها!

وهو تركيز قويّ على معنى واحد هو الهوان الّذي بلغ أقصاه مجسّدًا أكثر من أي شيء آخر عجزك المطلق.

وعندما تكشف سوءتك، ولا يجد السجّان حرجًا في تأمّلها تدرك أكثر من أي وقت مضى أنّك لست في مكان للبشر.

فقبل أن يكون ثمّة مجتمع إنساني وتقاليد وأعراف تحكمه استحيى آدم وحواء من انكشاف سوءاتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة كما يحدثنا الكتاب المقدّس.

فأن تكشف سوءتك مكرهًا، وأن تتكيف مع تأمّل مسخ إنسان لها أمران دالان على أنّك عندما جرّدت من هويتك قبل النزول إلى القبو قد بدأت تخضع لعملية سلب إنسانيتك، وتكريس استحالتك إلى مجرّد رقم.

وفي المشهد الآخر في بلد اللّجوء تقف عاجزًا عن اجتراح بدائل تؤمّن مستقبل أطفالك أمام موظّف متجهم أحاله الروتين إلى شبه قطعة جامدة، يتحّرك منها بآلية رتيبة جزء واحد يتناول الأختام الكثيرة الّتي يملأ بها أوراقك لكي يمنحك انتماءك الجديد.

ومع كلّ ختم تسقط به ذراع الرّجل فاقد الرّوح على أوراقك يتسلّل إلى داخلك شعور غريب لا تعرف كنهه يبعثرك إلى أجزاء.

من الطبيعي أن يتجاور الانتماءان ويتشاكسا لتماكنهما في حيز واحد عند مزدوج الجنسيّة، ومن غير المستغرب أن تزدوج الشخصيّة لدى المنتمي إلى عالمين وثقافتين بحكم حمله هويتين.

ولكن من المبرّح للنّفس أنّك بينما يفترض أن تصاب بالازدواج فحسب كأي إنسان طبيعي، تتشظى وتتبعثر أجزاؤك؛ لأنّك قدمت من عالمك الأوّل مسلوب الإنسانيّة، مهيض الجناح، متعرضًا لتجربة كطعم العلقم في المعتقل تهمّش كلّ الذكريات الأخرى، فتنطبع الأختام الّتي ترمز إلى الانتماء الجديد على فراغات في داخلك، وليس على أوراق مصقولة محدّدة الأطراف.

هي تجربة -رغم مرارتها- لا تخلو من فائدة، فعبرها يمكن أن تلملم ما تبعثر، وتستعيد القدرة على طرح سؤال: من أنا؟

وربّما يصبح الازدواج هدفك الأوّل؛ لأنّك بفعل التمثيل الّذي مارسه الاستبداد الهمجي على ذاتك لم تخض تجربة الانتماء الجديد سليمًا معافى.

لا ريب أنّ البحث النظري عن هويّة مسعىً له أهميته، ولكنّ تبلورها لا يكون ناجزًا دون مزجها بالتجربة، وهي تجربة بالغة الثراء يمكن أن تنفع قسوتها في إزاحة عبء الأوهام، وإعادة بناء الهويّة المنفتحة على الآفاق الإنسانيّة، القادرة على التّشكل والتّجدد المستمرين.