من الأقوال الشهيرة لهنري كسينجر «العبث الاستراتيجي ستدفع الدولة التي تمارسه ثمناً باهظاً سواءً عاجلاً أم آجلاً»، وقد آن الأوان أن يدفع الملالي ثمن جرائمهم الإقليمية، وعلينا أن نتأكد أن يكون ثمناً فاحشاً.
إلا أن تمني زوال نظام الملالي يجب ألا يدفعنا لارتكاب أخطاء كارثية، فإسقاط النظام سيفتح باب جهنم على المنطقة، فإيران تختزن داخلها طاقة تدميرية هائلة لا يستطيع أن يسيطر عليها إلا نظام مهووس من المكونات المحتقنة والمحتشدة نفسها في الداخل، فبالتالي الطريقة الصحيحة للتعامل مع إيران هي ثُلاثية؛ «خنق» النظام بالعقوبات الصارمة المتزايدة لتبديد قدرته على تمويل وتجنيد المليشيات، ثم «قَصقَصة» أجنحته الإقليمية في سورية والعراق واليمن، وأخيرا «إشغاله داخلياً» عبر دعم النضال المشروع للمعارضة الداخلية مع إبقاء النظام مشلولاً يناضل من أجل البقاء.
تتكون إيران من كتلة من الفرس الشيعة ويمثلون حوالى ٥٠ في المئة من الشعب وهم النواة الصلبة للنظام ويسكنون منتصف إيران وتحيط بهم أطراف تتكون من قوميات متشابهة مع دول الجوار، فجنوب غرب إيران مثلاً هي منطقة عربستان المجاورة للعراق، والشمال الغربي هو كردستان إيران، أما الجنوب الشرقي إقليم بلوتشستان المجاور لنظيره إقليم بلوتشستان الباكستاني.
يتكون المجتمع السياسي الفارسي الشيعي، بخلاف الأقليات العرقية والمذهبية، من تيارات متعددة يسيطر عليها التيار الإسلامي الثوري بمرجعتيه المستندة إلى مرشد الثورة مع وجود تيارات دينية وقومية أخرى مختلفة، لكن قدرتها على التغيير محدودة بسبب قوة النظام الأمني مثل:
– تيار ليبيرالي قومي يميني معارض من مؤيدي نظام الشاه السابق، لكن يجب عدم الاعتقاد أن هذا تيار سلمي؛ فالخلاف الوحيد بين هذا التيار وبين نظام الملالي أن هذا التيار يستند إلى الإرث الإمبراطوري الفارسي المشبع بإحساسٍ بتفوق شعوبي وعرقي عانت منه المنطقة آلاف السنين، فهو قومي أولاً ثم طائفي ثانياً، مع الفصل بين الاثنين، أما نظام الملالي فيستند على الإرث الشعوبي الطائفي الشيعي الحاقد، ويأتي الانتماء القومي في المرتبة التالية مع المزاوجة بين الانتماءين، فهو طائفي أولاً ثم قومي ثانياً، بالتالي الفارق بين الاثنين في التعامل مع المنطقة العربية لا يختلف بدرجة تبعث على التفاؤل.
– تيار وطني معارض يساري كبير وهو «مجاهدي خلق»، وهذا التيار هو الذي أشعل الثورة الإيرانية وقاد مظاهرات الشارع التي أدت لزعزعة نظام الشاه الراحل قبل أن يمتطي الملالي الموجة.
– التيار الإسلامي الأكثر معارضةً للنظام داخل إيران هو «الشيرازيين»، وهم جماعة مهووسة مشكلتها الرئيسة مع نظام خامنئي أنها تعتبر النظام ليس ثورياً مهووساً بما يكفي، وهم يمثلوا التيار الأكثر تطرفاً طائفياً وهم أكثر خطراً من الخامنئي على المنطقة.
يملك النظام بنية أمنية لا يمكن إسقاطها إلا بمواجهات داخلية دموية هائلة، وإذا كان انهيار العراق وسورية وحروبهم الداخلية شكلت معضلة استراتيجية من انتشار مليشيات وجرائم إبادة وملايين اللاجئين، فإن إيران تحوي داخلها تناقضات قومية ومذهبية وشحنة لا نهائية من غضب وحقد يتم حقنه في المآتم والحسينيات والإعلام ضد البشرية بأكملها، وهو حقد منظم في ميليشيات هائلة وتملك الدولة طاقات بشرية تقترب من ضعف إجمالي سكان العراق وسورية مجتمعتين، إضافة إلى ملايين المسلحين المهووسين الذين سيخرجون حتماً عن السيطرة مما سيؤدي إلى:
أولاً: انهيار منظومة الدولة والأمن بشكل يؤدي لحرب داخلية طاحنة متعددة الأطراف من طائفية وقومية تتجاوز المآسي الاجتماعية في العراق وسورية ولا يمكن احتوائها داخل حدود إيران.
ثانياً: مخاطر تقسيم إيران بين المكونات العرقية المختلفة وتأثير ذلك على وحدة دول الجوار؛ فانفصال عربستان إيران مثلاً قد يؤدي لانفصال الجنوب العراقي الشيعي الذي قد يفضل الاتحاد مع عربستان الشيعية على البقاء في العراق المتعدد المذاهب، ما سيفتح بابا خطرا على دول مثل الكويت والسعودية والبحرين، كذلك انفصال بلوتشستان إيران قد يدفع منطقة بلوتشستان باكستان والتي تعاني هي الاخرى حركة انفصالية نحو الانفصال والاتجاه نحو الاتحاد مع بلوتشستان إيران، كذلك حال شرق إيران مع أفغانستان ثم إقليم كردستان إيران سيتجه نحو الانفصال، ما سيعزز حركات الانفصالية الكردية في العراق وتركيا وسورية نحو كردستان الكبرى، ما يعني أن مخاطر تقسيم إيران سيتجاوز حدودها نحو تفكيك دول إقليمية عدة هائلة الكثافة السكانية والقدرة العسكرية إحداها تملك قوة نووية وذلك عبر سلسلة حروب أهلية لا تنتهي، وهو سيناريو لا يمكن تصور نتائجه.
ثالثاً: انفجار مشكلات لاجئين من عشرات الملايين الذين سيتدفقون عبر حدود إيران لن تقتصر على دول جوار حدودها البرية، بل ستشكل عشرات الآلاف من قوارب اللاجئين مشكلة أمنية وطائفية واقتصادية هائلة عند عبور مياه الخليج نحو دول مجلس التعاون بحثاً عن أوضاع أمنية واقتصادية أفضل في دول الخليج العربية التي ستجد نفسها أمام معضلة لاجئين مروعة لا يمكن التعامل معها ولا إيقافها، إضافة لاحتمال أن يكون كثير منهم إرهابيي الحرس الثوري أو الباسيج مختبئين بين اللاجئين.
رابعاً: ستمثل الحالة فرصة ذهبية لعصابات ومليشيات إرهابية مذهبية حاقدة خارجة عن السيطرة للثأر من (الاستكبار العالمي والنواصب) عبر ممارسة الإرهاب والقرصنة عبر مياه الخليج انطلاقا من الشاطئ الإيراني، خاصةً إذا سقطت مخازن الصواريخ التابعة للجيش والحرس الثوري بيد هذه العصابات، التي ستسعى حتماً للاستيلاء عليها، وذلك باستهداف الملاحة في مضيق هرمز أو مياه الخليج عموماً وتوجيه الانتقام والابتزاز نحو أهداف على الشاطئ الغربي من الخليج العربي، ما يشكل تهديداً لا يمكن السيطرة عليه.
خامساً: آثار الإرهاب الفوضوي على تدفق وأسعار النفط والاقتصاد العالمي سيقود حتماً لتدخل عسكري دولي لإيقافه، ما سيؤدي لتدويل الأزمة وتحول المنطقة إلى ساحة حرب عالمية، في الوقت الذي العالم لم يسيطر بعد على الإرهاب في سورية وأفغانستان وليبيا، وهي أقل بكثير من التهديد الذي يمكن أن تمثله دولة بحجم إيران.
سيناريو الإرهاب الفوضوي سيزداد ظلاماً لو وقع مخزون إيران من الأسلحة الكيمياوية والجرثومية أو المواد النووية في يد مليشيات تملك عقلية فوضوية تدميرية، ما سيفتح باب (الإرهاب الكيماوي – الجرثومي) الذي تنتجه وتديره مصانع ومؤسسات متقدمة.
هذه الاحتمالات حقيقية وتمثل مجتمعة مخاطر لا يمكن السيطرة عليها وستفتح بابا لتغيير خرائط وكيانات المنطقة بأسرها وتدمر السلام الإقليمي والعالمي، بالتالي علينا التخطيط والاستعداد لاحتمالات الخطر الممكن حدوثها كافة.