مناف الحمد

لفصل الدين عن الدولة موجبات منطقية تسم عملية الفصل هذه بسمة الضرورة التي تتجاوز بل وتفارق سمة الضرورة العملية التي استطاع الفكر الاسلامي المعاصر في بعض روافده الاعتراف بها، ولكن بدون القدرة على القبض على الفحوى الأساسي للضرورة المفهومية لهذا الفصل.
وإن في قبول الاسلام السياسي بهذا الطرح ما يناقض بعض طروحاته الأساسية التي تجعل رضوخه المتأخر _إن صح التعبير_ يأتي على استحياء لا نكلّف أنفسنا مؤنة بحث شاق لمعرفة أسبابه . فإن احدى المقولات الأساسية للإسلام السياسي التي يكفي تفنيدها لللبرهنة على ما ندّعيه من ضرورة منطقية لعملية الفصل هي استحالة اشتقاق المعرفة الأخلاقية إلا من المعرفة الدينية ولا يستطيع أحد أن ينكر أنها أصل من أصول الاسلام السياسي على اختلاف تياراته وأشكاله.
وتفكيك الأصل الأول من أصول المعرفة الدينية كفيل بكشف عوار هذه المقولة وعدم تماسكها ،فالأصل الاول للمعرفة الدينية يقوم على أساس وجود خالق واحد كلي القدرة كلي العلم كلي الإرادة كلي الخير، وهذه الصفة الأخيرة تفترض ضمناً قدرة لدى العقل البشري _الذي يدعي متبنو االأطروحة التي نناقشها أنه واسطتهم إلى المعرفة الدينية _على تمييز الخير من الشر أو ميزاناً يزين به الخير من الشر وإلا فما أدراه ان هذا الخالق الواحد ليس خالقاًشريراً
ولا ينفع في الاجابة على هذا السؤال القول ان ما يأمر به الخالق هو الخير وما ينهى عنه هو الشر، لأن هذا يستلزم طاعته حتى لو أمر بقتل أبرياء أو بخيانة صديق ، كما لا ينفع القول إن أوامره هذه تنطوي على خير آجل غير مدرك من قبل الانسان لأن هذا يعيدنا الى سؤالنا الأول عن كيفية تمييزنا لخيريته الكليه المدعاة بدون امتلاكنا ميزاناً نزين به الخير من الشر
نخلص من هذه المناقشة أن المعرفة الأخلاقية لا بد منها منطقياً للوصول إلى المعرفة الدينية فهي سابقة عليها وليست مشتقة منها .
أما المقولة الثانية التي يدعي الإسلام السياسي المعاصر أنه قد خلّفها وراءه ولم يعد يتبناها فهي فكرة الحاكمية
نحن لا ننكر أن الشكل المتطرف لها كما ظهر عند سيد قطب أول المنادين بها لم يعد مقبولاً لدى الكثير من تيارات الاسلام السياسي المعاصر ولكننا نجزم أن الفكرة لا تزال تقرأ بين السطور لديهم وإن بشكل مخفّف عن الشكل الأولي لها فما يدّعونه من تضمن الشريعة الاسلامية لكل ما هو نافع للناس في حاضرهم ومستقبلهم، وأنها تنطوي على حلول لكل المشاكل لأنها منزلة من الخالق للعباد العالم بطبائعهم وحاجياتهم وما ينفعهم وما يضرهم في كل زمان ومكان ، وقبولهم بالصراع التنافسي السلمي على أساس أن غايتهم النهائية هي الوصول إلى دولة يهيمن على دساتيرها شرع الله ليس إلا شكلاً مقنّعاً للفكرة الأساسية.
ونحن لا نناقش مضمون هذا الطرح هنا وهو ليس مدار البحث وإنما نحاول ان نحفر بحثاً عن جذور هذه الفكرة التي قام السيد باستيرادها ومحاولة استنباتها.
وليس كشفاً عبقرياً أن نقول إن مصدر الفكرة هو أبو الأعلى المودودي أستاذ السيد الذي حاول من خلالها إضفاء صبغة شرعية ورسم إطار نظري لفصل الباكستان عن الهند، الأمر الذي يجعل استيرادها ومحاولة استنباتها عملية محكومة بالفشل لأن السياقين مختلفان بكل حيثياتهما وملابساتهما.
من موجبات الفصل الضروري الذي ندّعيه عدم قدرة العقل النظري الوصل إلى حقائق قطعية فيما يخص الغيبيات وانطواء الأدلة التي يقدمها علماء اللاهوت على مصادرة على المطلوب، وهو شأن كل منظومة لاهوتية قائمة على الإغلاق العقيدي. وان كنا لا نستطيع انكار قدرة ما يسميه طه عبد الرحمن العقل المؤيد وهو عقل أهل العرفان على الوصول إلى حقائق قطعية لا تلزم إلا صاحبها لأنها نتاج تجربة روحية شخصية لا يمكن لها ان تتخذ صفة الكلية والقطعية والضرورية ، الأمر الذي يلزم عنه ضرورة حصر الدين في اطار الحياة الخاصة
إن في هذه النقاط التي ناقشناها في عجالة ما يعزز دعوانا ويحفّزنا على المطالبة بالتخلي عن المحاولات التلفيقية التي يتصدى لها في عالمنا العربي علمانيون يحاولون عن جهل أو عن نفاق خلق هذه الصيغ التلفيقية وإسلاميون مدفوعون إما بنقص أدواتهم المعرفية في أحسن الظنون أو بانتهازية مفضوحة في أسوئها.