في 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، احتشدت مجموعة من الأشخاص في مدينة مشهد وتظاهروا ضد السياسات الاقتصادية للحكومة الإيرانية. وجاءت هذه المظاهرة داخل مدينة تحمل قدسية بالنسبة لـ250 مليون مسلم شيعي بمختلف أرجاء العالم، فهي المدينة التي تضم رفات رضا، الإمام الثامن.
أيضاً، يشكل ضريح الإمام رضا تكتلاً من الشركات بقيمة تبلغ عدة مليارات من الدولارات، ويملك هذا التكتل عدداً من الصناعات والبنوك والمستشفيات، وبطبيعة الحال مدارس دينية عبر مختلف أرجاء إيران. وتجري إدارة التكتل تحت توجيه المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي.
وبفضل وجود تكتل الإمام رضا، تحتل مشهد المرتبة الثالثة بين أهم المدن الإيرانية، بعد العاصمة طهران ومدينة قم، التي يعيش فيها غالبية آيات الله العظمى من الإيرانيين. وتبقي مجموعة مختلفة من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، بما في ذلك وزارة الاستخبارات ووحدة الاستخبارات التابعة للحرس الثوري وكذلك الشرطة، عينها على مشهد للتأكد من أنها آمنة بالنسبة لملايين الحجاج الذين يفدون إليها من مختلف أرجاء إيران، إضافة إلى 2.5 مليون شيعي من دول أخرى يزورون المدينة سنوياً.
وعليه، لم تغب رمزية المظاهرات التي اشتعلت الخميس عن أذهان ملايين الإيرانيين في مدن أخرى ممن عانوا من الظروف الاقتصادية العصيبة ذاتها. وإذا كان أبناء مشهد مع جميع القيود التي يخضعون لها قد تمكنوا من الخروج إلى الشوارع في احتجاجات، فإن أبناء مدن راشت وأصفهان وساري وكثير من المدن الأخرى بمقدورهم بالتأكيد الخروج إلى الشوارع هم أيضاً. اللافت أنه على خلاف الحال مع «الحركة الخضراء» التي ظهرت عام 2009، وبدأت داخل العاصمة، وقعت معظم الاحتجاجات الأخيرة في الأقاليم.
وبتشجيع من المساحة الصغيرة التي وفرتها الحكومة للمظاهرات داخل مشهد، خرج آلاف الإيرانيين ليعبروا عن سخطهم إزاء السياسات الاقتصادية والخارجية للحكومة، وغضبهم حيال النظام الإسلامي الذي يتولى إدارة مقاليد السلطة بالبلاد منذ عام 1979. وضمت صفوف المتظاهرين موظفين بالقطاعين العام والخاص لم تسبق لهم رؤية ارتفاع الأسعار على نحو يومي من قبل على امتداد السنوات الأخيرة، بجانب متقاعدين خسروا أموالهم في مشروعات استثمارية مختلفة، وآخرين يرون أنهم حرموا من حقوقهم بصفتهم مواطنين إيرانيين.
وردد كثير من المتظاهرين شعارات ضد التطورات الأخيرة التي زادت من سخطهم، على صعيدي السياسات الداخلية للحكومة وأحلامها في الهيمنة. جدير بالذكر أنه في 10 ديسمبر (كانون الأول)، قدم الرئيس حسن روحاني الميزانية الجديدة لحكومته التي من شأنها زيادة تكلفة المعيشة بالنسبة للإيرانيين، وفي الوقت ذاته تضمنت مخصصات سخية لمنظمات دينية داخل إيران وبدول أخرى.
وخلال الاحتجاجات التي اشتعلت عبر مدن إيرانية مختلفة، تكرر شعار «ليس من أجل غزة، ولا من أجل لبنان … من أجل إيران فقط أضحي بحياتي». جدير بالذكر أن كثيرا من الإيرانيين ينظرون إلى المساعدات السخية التي تقدمها حكومتهم إلى جماعة «حماس» الفلسطينية و«حزب الله» اللبناني ونظام الأسد السوري والحوثيين في اليمن، باعتبارها إهداراً للموارد الإيرانية، بل وباعتبارها تنطوي على خيانة للوطن.
ورغم الحماس الشديد الذي يبديه المحتجون، فإن أحداً لا يدري ماذا يجري داخل إيران على وجه التحديد. ويشعر المحللون بحيرة وارتباك بالغين، وآثر معظمهم التزام الصمت. أما الناس الذين خرجوا إلى الشوارع فلا يبدون تأييدهم لجماعة أو فرد بعينه، لكنهم رددوا شعارات مناهضة لروحاني وخامنئي. إلا أنه على خلاف الحال مع احتجاجات عام 2009 فلا يوجد قادة يوجهون الاحتجاجات هذه المرة.
أما روحاني، فإنه حتى وقت كتابة هذا المقال، يعقد اجتماعاً مع وزرائه ومستشاريه لتقييم الموقف. وحتى الآن، لم تفعل حكومة روحاني سوى إلقاء اللوم على الأصوات الناقدة المحافظة. كما لمّح نائب روحاني إلى أن المعسكر المتشدد تعمد إلى استغلال المشكلات الاقتصادية بهدف إسقاط الحكومة. الواضح أن بعض المتشددين شعر بالسعادة بالفعل إزاء الشعارات المناهضة لروحاني التي رددها المتظاهرون، لكن تظل الحقيقة أن كثيرا من المتظاهرين رددوا كذلك شعارات مناهضة للمرشد الأعلى، الذي من المفترض أنه يتمتع بمكانة مقدسة في النظام.
جدير بالذكر أن المئات ألقي القبض عليهم في مدن بمختلف أرجاء إيران خلال الـ48 ساعة الماضية، ولم يطلق سراح أي منهم حتى الآن. وسيكون من المثير التعرف على ما تخلص إليه التحقيقات بشأنهم والاتهامات الموجهة إليهم.
بوجه عام، يمكن القول إن المظاهرات كشفت عن حجم سخط الإيرانيين إزاء النظام كله، بمعسكريه الموالي للإصلاح الذي يتزعمه روحاني والمحافظ بزعامة خامنئي. وربما تدفع هذه الاحتجاجات النظام نحو توحيد صفوفه لفترة قصيرة، لكن المؤكد أن الفرق المتناحرة بداخله ستعاود التشاحن بعد فترة، ذلك أن لكل من روحاني وخامنئي مصالح مختلفة وقاعدتي تأييد متباينتين. وعليه، فإنه لا يمكنهما التعايش معاً على نحو سلمي، والاهتمام في الوقت ذاته بمصالح جماهير الناخبين الخاصة بكل منهما.
وليس بإمكان روحاني تجاه الدور المدمر لأعوان آيات الله داخل «الحرس الثوري» وقبضتهم المحكمة على الاقتصاد، خاصة أن «الحرس الثوري» يضطلع فعلياً بصياغة سياسات إيران في المنطقة بوجه عام – بما في ذلك دعم بشار الأسد و«حزب الله» – وقد قوض عن عمد محاولات روحاني التقارب مع جيران إيران والغرب.
في المقابل، فإنه ليس بإمكان المرشد الأعلى إرضاء ملايين الإيرانيين الساعين للرخاء والحرية، والاحتفاظ في الوقت ذاته بدعم أنصاره المتشددين الذين يسيطرون على مقاليد الحكم طوال العقود الأربعة الماضية.
وهنا يظهر التساؤل: هل ما تعايشه إيران اليوم ثورة؟ ليس بعد، لكن الحكومة الإيرانية تعتبر ألد أعداء نفسها، والشعب الإيراني يدرك ذلك. وبإمكان المصاعب الاقتصادية أن تشعل حالة من الاقتتال الداخلي في النظام الإيراني، ما يسفر عن سقوطه نهاية الأمر. أما الشعب الإيراني فقد تعلم بعد العيش قرابة 40 عاماً في ظل الجمهورية الإسلامية، كيف يمكنه رفع صوته تدريجياً وبذكاء في مظاهرات سلمية تدفع الحكومة لتمزيق نفسها بنفسها.
* خدمة «واشنطن بوست»