ليست ظاهرة إصدار الأوراق السياسية التي تحاول تقويم ما جرى، وتقترح حلولًا أو مفاتيح حلول لإعادة ألق الثورة السلمية ظاهرة مثيرة للاستغراب، ولكنّ ما يجعل المراقب يحار في شأنها أن مصدريها كأنما ران على قلوبهم، فلم يعودوا يصدرون عن تفكير منطقي تتجدد قدرته على المحاكمة بتجدد المتغيرات، وتتكامل رؤيته بتكامل الصورة.
ونحن إذ نقول هذا لا نتوخى الانتقاص من شأن من يقصد المراجعة مخلصًا، ولكننا إذ نفكك بعض ما تحتويه هذه الأوراق من مراجعات لا نعثر إلا على اللغة النخبوية التي تجد لنفسها الحق في إطلاق الأحكام، وفي تقرير ما ينبغي أن يكون، وفي كلام مكرر عن الديموقراطية على أنها هي جوهر ثورة السوريين في إيهام مدهش للذات؛ لأن مطلب الديموقراطية كان مطلب نخب منفصلة عن الواقع، ولم يكن مطلبًا متبلورًا واضح المعالم لدى من صدحوا بشعارات الثورة في بداياتها.
لا شك أن مطلب الديموقراطية هو المطلب الذي ينبغي لكل ثائر على الاستبداد أن يجعله في قائمة أولوياته، ليس لأنها وسيلة لتحقيق العدل ولكن لأنها تستبطن قيمة العدل، ما يجعلها وسيلة وقيمة في الوقت نفسه.
ولكن السياحة في عوالم منفصلة عن الواقع في عبارات من قبيل:
“لا شك في أن ذلك يبدأ من إطلاق عملية تمكين قوى التيار الديمقراطي لاحتلال مكانة حقيقية في سورية المقبلة، بحيث تكون له القدرة على تمثيل مصالح قطاعات وازنة من الشعب في ساحة السياسة العامة والحزبية، على أن يجري تركيز الجهد في هذه المرحلة على بناء توافق بين مختلف تمثيلات المجال السياسي والحزبي حول انتقال ديمقراطي تدريجي، منظم وممرحل زمنيًا، ما يتطلب ضرورة إعادة إحياء النخب والحامل المجتمعي الديمقراطي، وتوحيدها.

لا يوجد اليوم خيار أفضل من الخيار الديمقراطي، بل ليس هناك أي خيار آخر غيره، إذا ما أخذنا في الحسبان حال الانهيار الذي أصاب قطاعي المعارضة السياسي والعسكري، وبدل تبديلًا جذريًا وضعها، بعد تهميش الفئات التي أطلقت ثورة الحرية، وتشتيت وتفتيت الحامل المجتمعي، الذي نزل إلى الشوارع دعمًا لها. ثمة حاجة للتأكيد أن عملنا يجب أن يستهدف كل سوري بغض النظر عن جنسيته ووضعه الاجتماعي ولغته وعقيدته ومذهبه وعمله … الخ، وأن علينا الانطلاق من حقيقة جوهرية هي أن نقص الاندماج المجتمعي لعب دورًا خطيرًا في ما عاشته الثورة من انزياحات قاتلة، ومكن نظام الأسد من التلاعب بولاءاتنا الدنيا والجزئية، وتحويلها إلى تناقضات أحدثت صدوعًا فككت شعبنا، ونقلت الصراع بينه وبين قتلته إلى احتراب داخله.”
هي التصرف الممجوج، إن عملية تمكين التيار الديمقراطي عملية لا بد منها، هذا ما تقوله الورقة في حسم لا يقبل المساومة، وهو مطلب حق يفتقر إلى آليات التحقيق؛ لأن ما عجز عنه من صدّعوا الرؤوس بالدمقراطية محولينها إلى أيديولوجيا مع زخم ثورة الحرية التي كانت في بداياتها السلمية الباب المشرع لذلك، لن يستطيعوا تحقيقه في ظل تمزق النسيج المجتمعي، وسقوط البلاد تحت سنابك خيول الاحتلال.
لا يزال الخطاب يسبح في فضاء المثل، ويتحدث عن الواقع من فوق برج عاجي، فقد صنف المتحدثون أنفسهم في صنف الديمقراطيين المتعالين على التخندق، وهم في موقع من يلقن الناس الدروس حول ما يجب وما لا يجب.
ثم يأتي بعد ذلك لزوم ما لا يلزم في الحديث عن ضرورة استهداف السوري بغض النظر عن أي انتماء أصغر من سوريته، والتنويه إلى ما سببه نقص الاندماج المجتمعي من انزياحات استغلها النظام.
كيف يمكن لورقة مراجعة أن تكرر كلامًا بات يبعث على السأم من كثرة ما طرق الأسماع؟ وهي تكرره في صيغة توصيات لا تنطوي على اقتراح وسائل عملية كما قدمته مرارًا منذ انطلاقة الثورة، وكأن شيئًا لم يكن.
لن نخوض في فقدان بعض هؤلاء ماء المحيّا، ولن نتحدث عن فقدانه أبسط مبرر لتصديقه، بعدما سلك سلوكًا بالغًا حده الأقصى في الوضاعة والتحلل الأخلاقيّ، وهو ما عاصرناه بأنفسنا، ولكننا نركز على فقدان الخطاب قدرته العملية على التحقق؛ لأن المتحدثين تقريبًا يتحدثون إلى أنفسهم، ولأنه لا يمتلك ميكانيزمات الاتصال مع المستهدفين الحقيقيين.
إن التعبئة ضد نظام الاستبداد -حسب ما تقرر الأبحاث الميدانية الاستقرائية- تحتاج إلى شرطين ضروريين وغير كافيين لكي تكون تعبئة عامة لا يصيبها التقطيع بالوهن، ولا يسمح فقدانها للعمومية بتسلل جراثيم التصديع إليها ومن ثم الانحسار هما:
-موارد شرعية للحركة تجعلها قادرة على استهداف العقل الجمعيّ، وهي شرعية دينية إذا كانت الحركة دينية، وشرعية من نوع آخر إذا كانت غير ذلك.
وموارد حركية تجعلها قادرة على استهداف الوجدان الجمعيّ، وهي موارد تمثلها قيادات كاريزمية بالمعنى الحديث للشخصية الكاريزمية الذي يعني شخصيات الظروف غير العادية، وليس الشخصيات غير العادية.
وهذان الشرطان غير كافيين؛ لأنهما يؤمنان إطلاق ديناميات الاحتجاج والثورة، ولا يضمنان استمرارها، ولاستمرارها ينبغي وجود هياكل متينة تقدم الدعم لمسيرة الاحتجاج؛ بمعنى وجود ضامن يضمن عدم حدوث صراع على المعنى بين مختلفين في الرؤية للعالم، وللغاية من الثورة.
أما الموارد الشرعية والحركية، فإنها لم تتوافر عند أي فئة من فئات المعارضة السورية، فلا التيار الإسلامي كان يمتلك موارد شرعية في إطاره تجعله مقنعًا لكل الإسلاميين فضلًا عن غيرهم، ولا التيار العلماني والديمقراطي كان يمتلك من الموارد الشرعية ما يجعله يجترح صيغة توفيقية بين أطيافه المختلفة.
أما الموارد الحركية فربما عثرنا عليها في بعض البسطاء المخلصين من غير المثقفين والمتثاقفين، ولكن هؤلاء أخفوا من الساحة باكرًا لأسباب كثيرة متداخلة لا يتسع المجال للإسهاب فيها.
ولا يوجد ما يضمن عدم حدوث صراع على المعنى بين مختلفين في النظرة للعالم خصوصًا أن من كرس و يكرس حالة الصراع هذه هم أمثال هؤلاء من النخبويين الذين ساهموا المساهمة الأكبر في حالة التخندق المستعصي على أي محاولة لمدّ الجسور بين المختلفين؛ لأنهم لا يزالون أسرى منظوماتهم الأيديولوجية المغلقة، ولا ينفع في التحلل من ذلك التسجيلات التي يرسلها أحدهم كل فترة لكي يبرئ نفسه من كل الأخطاء، ونظنه يرسلها إلى خارج الحدود لكي يحصل على أوراق اعتماد جديدة بعد أن أصيببت القديمة بالبلى.
رئيس التحرير