• المحتويات
  • ملخص البحث
  • أولًا: مقدمة
  • ثانيًا: دعوى الانتقال من الأمية إلى الأممية
  • ثالثًا: الهامش النسبيّ من الحرية الذي فتحه مالك بن أنس
  • رابعًا: الاستحسان عند مالك
  • خامسًا: الشافعي وتكريس السنة
  • تفسير السنة بالحكمة
    قرأنة السنة
    إثبات حجية خبر الواحد
  • سادسًا: الناسخ والمنسوخ لدى الشافعيّ
  • هل يتناقض الشافعي؟
    آلية النسخ عند الشافعي
    الهندسة الحديثية
  • سابعًا: القياس عند الشافعيّ
  • ثامنًا: أيّ استحسان أنكره الشافعي؟
  • خاتمة
  • قائمة المراجع
  • ملخص البحث

كتاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” كتاب بالغ الأهمية؛ لتسليطه الضوء على مناطق شديدة الحساسية في المنظومة التراثية، وتجاوزه خطوطًا يعدها كثيرون من المختصين في التراث، ومن أهل الثقافة غير العالِمة خطوطًا حمرًا.

وهي جرأة لا تفاجئ من تابع إنتاج جورج طرابيشي الذي لم يتوقف إلا قبل رحيله بقليل. ولكنّ البحث ناقش أفكارًا معينة وردت في الكتاب يرى الباحث أن طرابيشي جانب الصواب في مقاربتها.

يبدأ البحث بمقدمة عن مكامن الخطأ في نقد التراث عمومًا. ثم ينتقل إلى مناقشة دعوى محلية الدعوة المحمدية. وبعد ذلك يناقش البحث مقاربة طرابيشي منهج مالك بن أنس، ويحاول أن يثبت أنها مقاربة مجانبة للصواب.

وأخيرًا يتناول الاتهامات التي يوجهها طرابيشي للشافعي الذي يعد في نظر طرابيشي مسؤولًا أساسيًا عن النكوص والعجز عن التطور في المدونة التشريعية الإسلامية. ويخلص البحث إلى خاتمة توجز ما توصل إليه الباحث.

أولًا: مقدمة

إن وضع التراث على مشرحة النقد عمل مطلوب وملحّ، وبغضّ النظر عن غاية من يتصدى لهذا العمل، فإن للنقد نصابه من المشروعية التي لا نظنّ أن أحدًا يماري فيها. ولكن للنقد ضوابط لكي يكون منتجًا، منها:

– أن تكون مرجعية الناقد المعترض هي عين مرجعية المنقود أو العارض؛ بمعنى ألا يحاكم الناقد منقوده بمعايير لا تُلزمه.

– وأن يكون قول المعترض متصلًا بمنطوق قول العارض.

ويتسع الخرق بين الناقد والمنقود عندما يحاكم الأول الأخير انطلاقًا من مرجعية مغايرة، وعندما يقحم في اعتراضه مفهومات من مجال تداوليّ مغاير لمفهومات المجال التداوليّ للعارض أو المنقود.

ولعل من صور النقد الذي يعاني علة تسبّب عقمه قبل أن يبدأ هو النقد المدّعي الالتزام بالموضوعية الخالصة، وهي موضوعية يصعب تحققها؛ لأن للسياقات الثقافية والتاريخية المختلفة، وللغة المستخدمة، وللخلفية الفكرية إكراهاتها التي تفرض هذا القدر أو ذاك من الانزياح عن موضع الحياد المدّعى.

ولأن المعرفة الخارجية المتوسّلة بمعايير محايدة من خارج الموضوع المنقود لا تؤتي أكلًا دائمًا، بسبب عجز من يحاول امتلاكها عن الولوج في الحقل التداولي للمنقود، وهو حقل في التراث الإسلامي خصوصًا لا يمكن أن تغوص في عمقه من دون تفاعل وجدانيّ، لا تفهّم عقلي فحسب، ومن دون تذوّق للقول الإشاري الذي لا يحاكم بمقولات العقل؛ لأنه مضمر اللفظ، مشتبه المعنى، متغلغل في عالم الخيال الأدبيّ.

محاولة طرابيشي في كتابه: “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” تركّز في جزء أساس منها على أسباب جمود العقل التشريعيّ الإسلاميّ، ونكوصه، وهما جمود ونكوص يحمّل طرابيشي الشافعي قدرًا كبيرًا من مسؤوليتهما بقرأنته السنة، وتسنينه القرآن، وبتهميشه العقل عن طريق آلية قياس لا تستطيع الانفكاك من أسر النصّ، وإبطال للاستحسان يكرّس هذا التهميش.

وتحاول إثبات محلية الرسالة المحمدية مستندة إلى أدلة منتقاة من النصوص، ومن محاكمات عقلية تستمدّ موضوعاتها من حوادث تاريخية.

وعلى الرغم من تقديرنا الذي يكاد لا ينقضي للثروة المعرفية التي قدمها طرابيشي إلى المكتبة العربية، فإن كثيرًا من مواطن قصور النقد تتجلى في محاولته التي ضمّنها كتابه: “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”،

فالعقلانية التي يحاكم من خلالها طرابيشي نصوص الشافعي -مثلًا- عقلانية مغايرة لعقلانية الأخير، وما محاولة فرضها رائزًا لتقويمها إلا موقف مسبق يصادر على المطلوب، ويتوسّل قولًا غير متصل بقول المنقود، إلا في الشكل وبيان ذلك:

إن قول المنقود يمتح من نصوص مقدسة لديه، يهيمن فيها القول الإشاري الذي يخترق الاحتمال معانيه، ويصبغ المجاز جسمه الأساسيّ، بينما يحاكمه الناقد بقول عباريّ صريح اللفظ، واضح المعنى مفترضًا أن القولين من نوع واحد.

ولأن القولين من نوعين متغايرين، إذ إن عقلانية الناقد تتغلغل في مقولات عقلانية كلية، بينما لا يسلك الثاني في تعقّله مسلك التعقّل المحض الذي لا يمثل مسلك العقلانية الوحيد، لأنه يحلق بجناحي العقل المحض من جهة، والعقل المسدّد بالنص من جهة أخرى، ويغوص في طبقات المعاني التي تتكثّر؛ بسبب ماهية القول الإشاريّ، يصبح النقد مفتقرًا إلى ركن من أركانه المهمة.

ويعتور البحث في إثبات قول لنبيّ الإسلام، أو رفضه علة أخرى هي فقد البحث تبريره المعرفي؛ لأن الناقد المتسلّح بالمنطق الوضعيّ ينظر إلى النصوص الدينية نظرة تطابق بينها وبين النصوص البشرية، إذ يعدّها كلها من صنع الإنسان، ولهذا لا يكون ثمة معنىً لمعرفة صحيحها من ضعيفها من موضوعها ما دامت نصوصًا منحولة في الأصل على الله في نظر هذا الناقد.

ولهذه العلة لوازمها التي تجعل النقد لا يحقق موضوعيته المدّعاة، فالمنقود إذ يتحرك في إطار النصّ لا يهمّش العقل؛ لأنه يتحرك في إطار نصّ مطلق منزل من لدن مفارق مطلق في اعتقاده، ولهذا يسيح عقله في فضاءات لا حدود لها، ولا يرِد عليه، وحاله هذه، الاتهام بانغلاقه داخل النصّ، الانغلاق الذي يسدّ أمامه الآفاق، ويحرمه من الانفتاح على فضاءات الإمكان.

من لوازم هذه العلة أيضًا الوهم بوجود تغاير حقيقيّ بين صانعي الموروث الفقهي، وتفاوت كبير في درجة التحرر من النصّ، وهو ما يجانب الصواب؛ لأنهم جميعًا إنما يتحركون في فضاءات النصّ، والفروق بينهم معظمها إما شكلية، أو تعبيرات عن خلافات فرعية، لفروق زمنية، أو تغاير في الأحوال، أو في تباين في الموسوعة المعرفية ينتج حتمًا تفاوتًا في الفهم لا يخترق الاتفاق الضمنيّ على عدّ النصّ نقطة الاستناد، والإطار الأكبر الناظم لفاعلية العقل.

بعد هذه الملاحظات الرئيسة سوف نناقش تفصيلات في كتاب طرابيشي المذكور، مناقشة يمكن أن تبرز علل النقد التي ذكرناها، وهي لا تستغرق كلّ العلل، مثل ما أن مناقشتنا لا تستغرق محاولة طرابيشي كلّها.

وقبل أن نشرع في المحاولة نؤكد ما ذكرناه عند رحيل جورج:

ثار طرابيشي على ما عدّه خزعبلات في دروس الكاهن في الكنيسة إبّان مراهقته، وقرر ألا يكون مسيحيًا بعدها، وثار على نظام البعث الذي انتمى إليه قبل استلامه السلطة، واستقال منه بعد انقلابه العسكريّ، ولم يكترث بنبذ رفاقه البعثيين له في المعتقل عندما سخّف قناعاتهم الرجعية عن جريمة الشرف، وفضّل الانعزال في زنزانة انفرادية.

وثار على ما يعرفه، ويكوّن ثقافته بتحفيز غير مقصود من المفكر المغربي ّمحمد عابد الجابري عندما قرأ كتاب الأخير “تكوين العقل العربي”، وأثنى عليه، ثم اكتشف تناقضاته ومخاتلته النصوص، فعقد العزم على مراجعة التراث الإسلاميّ واليونانيّ والمسيحيّ، وهي مراجعة أنتجت موسوعة في نقد مشروع الجابريّ لم تكتفِ بكشف ما عدّه جورج تحريفًا للنصوص وتزويرًا للشواهد، وإنما فنّدت تفضيل الجابريّ المتحيّز للمغرب على المشرق، ونقضت اتّهامه الغزالي بإنكار السببية، وإخوان الصفا بمعاداة المنطق، واتّهامه اللغة العربية بالقصور عن مجاراة العصر؛ لأنها من صنع الأعرابيّ صانع العقل العربيّ، الذي لا يدرك عقله الاتصال؛ لأنه ابن الصحراء التي يسيطر عليها الانفصال، وما ينتج من ذلك -بحسب زعم الجابريّ- من ضعف العرب في الهندسة القائمة على الاتصال، وبراعتهم في الجبر القائم على الكمّات المنفصلة.

قبل ذلك عرّف طرابيشي القارئ العربي على فرويد والتحليل النفسي عبر الجهد الذي بذله في ترجمة مؤلفات فرويد، وهو جهد يستحق طرابيشي خالص التقدير عليه.

ثار جورج على المسلّمات في التراث، وتحدّث عن إسلام القرآن وإسلام الحديث، وعلى ما أحدثه هذا التحول الموازي لانتقال من إسلام الرسالة إلى إسلام الفتوحات من تضخّم في المدوّنة التشريعية العابرة للمكان والزمان، وجمودها، واستعصائها على التطور منذ القرن الخامس الهجريّ؛ الأمر الذي جعلها ممانعة للحداثة.

كان جورج ثائرًا بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى عندما حلّل أزمة المثقفين العرب تحليلًا نفسيًا عميقًا، وشخّص حالهم بأنها حال عصاب جماعيّ محاولًا -بكفاية- استقصاء أسباب هذا العصاب وطرق علاجه، وكان ثائرًا عندما حاول تأصيل العلمانية في التراث العربيّ باكتشاف بذرتها في سيرة النبيّ، والعثور على لفظ (علمانيّ) في القرن الرابع الهجريّ عندما استخدمها ابن المقفع المصريّ معبّرًا بها عن الرجل المشغول بأمور الدنيا، أو بمعنى آخر من ليس راهبًا.

أكّد جورج ضرورة العلمانية؛ لأنها في نظره الحلّ للصراعات الطائفية، والاقتتال المذهبيّ، والطريق المفضية إلى الخروج من حالة التردّي التي يعيشها العالم العربيّ.

لم نتفق مع جورج حول تعبير “الديمقراطية في الرؤوس” عبر تطوير العقليات، والقضاء على الأمية، ومسار التثقيف الطويل، ولا يمكن من دون تحققها تجسيد الديمقراطية في العالم العربيّ في رأيه.

وهي رؤية تركز على البعد الثقافويّ، وتمنح لمنظّري أنظمة الاستبداد مبرّرًا لبقائه وتكريسه، وتتجاهل إمكان انبثاق الديمقراطية في الرؤوس عبر الصراع النبيل، وعبر التضحيات العظيمات في سبيل الخلاص من ربقة الاستبداد.

كان جورج ثورة كاملة في أعماله النقدية الغزيرة وفي ترجماته، وحتى في انكفائه الأخير؛ بسبب الإحباط الذي أصابه في عقب عودة الظلاميين، والمرضى بالطائفية لينشروا الموت والعفن.

لن نستكمل وصفنا بثوريين ما لم نستلهم ما خلّفه جورج طرابيشي عبر عمره المديد الذي لم يكفّ فيه عن النقد والإبداع.

[gview file=”http://www.syria-sdpp.org/wp-content/uploads/2018/01/From-the-Islam-of-the-Koran-to.pdf”]