كامل عباس

منذ أن تعرّف النوع البشري على الملكية الخاصة ظهر التباين مع فئة تسعى لتأمين مصلحتها بأي شكل وفئة تدافع عن مصلحة المجتمع ككل؛ الأمر الذي أدى بالنهاية الى المواجهة .

 أصحاب المصلحة الخاصة كانوا وما زالوا يحرصون على تأمين مصلحة الفرد أو الفئة بالدرجة الأولى واصحاب المصلحة العامة دعوا إلى تغليب مصلحة المجتمع على مصلحة فرد أو فئة ما، وقد كلّفهم إصرارهم على حمل تلك القيم الكثير من التضحيات في التاريخ بدءًا من المحاصرة والتهميش وحرمانهم من لقمة العيش مرورًا بالسجون والتعذيب انتهاء بالتصفية الجسدية.

هذا يعني أن الصراع بين المصالح والقيم قديم قدم التاريخ ،وأول تقدم للقيم على حساب المصالح حققته الأديان السماوية بدعوتها لتطهير قلب المؤمن من الأنانية وحب الشهوات وجعله يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وثاني تقدم للقيم قدّمته لنا أوروبا بقرن أنوارها الذي دعا إلى قيم جديدة تقوم على العقل بدلًا من الضمير كأساس لحضارة كونية أخلاقية ذات نزعة إنسانية كبيرة جدًا.

وثالث تقدم للقيم على حساب المصالح حققته لنا الثورات الاشتركية التي بدأت بالثورة الروسية الروسية وما تلاها من ثورات دعت إلى اقامة الجنة على الأرض وليس في السماء.

 صراع الداعين إلى قيم إنسانية على حساب المصالح أنتج في النهاية الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.

 كان من المؤمل أن تتقدم القيم الإنسانية على المصالح درجة جديدة بفضل حضارة وثقافة البشرية في القرية الكونية الجديدة، لكن الذي جرى هو العكس و كأن التاريخ مشى على رأسه بدلًا من أن يمشي على قدميه بعد انقلاب مسار العولمة ليظهر الصراع على أشده من جديد بين المصالح والقيم، وليبدو أصحاب المصالح منتصرين ليس بفضل السلاح والأيديولوجيا فقط، بل بفضل حنكتهم وذكائهم الذي مكّنهم من اختراق الأديان جميعها بايجاد علماء دين يفسرون الأديان بما يخدمهم، وبالالتفاف على قرن أنوار أوروبا لتصبح تلك القارة ربيبة الاستعمار الحديث القائم على مصلحة بلدانها على حساب الشعوب المستعمرة، أما الحلم الاشتراكي فقد أصبح كابوسًا على صدر الجماهير بسبب انقلاب الكثير من رموزه على مبادئهم وتحولهم إلى وحوش كاسرة تمزق مخالبها أبناء شعبها.

 انتصار الداعين إلى المصالح على حساب القيم واضح وضوح الشمس في قريتنا الكونية الآن، ومن يظن أن الانتصار بفضل اسلحتهم فقط فهو واهم.

 إن الانتصار الأساسي كان وما يزال في قدرة أصحاب المصالح على شراء حفنة من أصحاب القيم تمثلوا فيما عرف بالمنافقين من رجال الدين ومساحي الجوخ الانتهازيين من العلمانيين، هؤلاء كانت خدمتهم لا تقدر بثمن؛ إذ إنها حيرت عامة الشعب وجعلتها سلبية تجاه قضيتها ذاتها فكان ما كان من أنانية وفردية وحب للذات ومن فساد وإفساد للضمائر، ومافي ذلك من خدمة لأصحاب المصلحة الخاصة على حساب القيم الداعية إلى تفضيل المصلحة العامة على المصلحة الفردية، وهو ما ساهم في النهاية في أن تصل إلى قريتنا الكونية الحالية حفنة من هذا الجنس تستأثر بخيرات الطبيعة، لايهمها سوى مصالحها حتى ولو أدى ذلك إلى موت الملايين جوعًا وتلوث الهواء والماء وهما عصبا الحياة الحساس.

 لا بد من وضع حد لهذا الجنون الرأسمالي المتوحش الحالي بإلزامه على الأقل بالجمع بين المصالح والقيم حفاظا على حياتنا المشتركة، وإذا كانت حاجتنا للعلمانيين وعقولهم النيرة التي تشرح لنا خطر هذا الطريق في السياسة والاقتصاد والبيئة، فإن المؤمنين لايقلون تلبية للحاجة الآن بما لديهم من قيم إنسانية دعت إليها كل الأديان، و قد قدم لنا التاريخ  الكثير من المناضلين سواء كانوا رجال دين أم علمانيين قبل أن ينجح الراسمال بإغراء فئة قليلة من الجهتين تركت قيمها ولحقت مصالحها الخاصة.

ما أحوجنا إلى طاقة المؤمنين الروحية وطاقة العلمانيين المادية من أجل إعلاء قيمة الإنسان على هذا الكوكب ليحلق بهما كطائر يحتاج إلى جناحيه معًا

صراع أصحاب المصالح على حساب القيم فاق كل توقع على الأرض السورية، أربعة احتلالات على أرضنا مصنفة كبرى دوليًا وإقليميًا، غير معنية بالشعب السوري ولا بإصراره على طلب حريته كقيمة إنسانية.

 الأكثر وجعًا هو معارضة كلاسيكية تبحث عن مصالحها الخاصة أكثر مما تبحث عن تحقيق قيم إنسانية ثار من أجلها الشعب السوري .

 يحزنني جدا ذلك الصراع الجاري الآن بين الإسلاميين والعلمانيين داخل هذه المعارضة، وكأنهن لاجديد تحت الشمس .

لسان حال الإسلامين يقول: ماذا قدم العلمانيون للثورة ؟ لقد انتظروا حتى نسقط النظام بسلاحنا لنهديهم الدولة كي يقودوها. وهم لايزالون كما كانوا بالأمس يحاولون عزل العلمانيين بالعزف على وتر جماهيرنا العفوية المتدينة كونهم ملحدين لايحللون ولا يحرمون، وهذا هو الائتلاف الواقع تحت هيمنتهم يرفض أمينه العام عبد الله الفهد الاستجابة لطلب العلمانيين فيه بالوقوف دقيقة صمت على روح المناضل العلماني الذي قدّم جسده وروحه من أجل ثورة شغف بها حتى نقي عظمه، والحجة أنه كافر !!.

أما العلمانيون الكلاسيكيون تحديدًا فلسان حالهم يقول: نحن أحوج ما نكون الآن إلى فصل الدين عن الدولة والسياسة بعد أن ركب ثورتنا المتطرفون الإسلاميون، وكل روابطهم العقلانية تظن أن خذلان الثورة من قبل المتطرفين الاسلاميين أكّد صحة وجهة نظرهم القائمة على سحب التجربة العلمانية سحبًا ميكانيكيًا في بلادنا، وجوهره فصل الدين عن الدولة وإقصاء الدين الاسلامي عن السياسة وحصره في الجانب الروحي جانب العبادات .

أما من قال و يقول بدولة مدنية ديمقراطية فهو أبله كونه يروج لشعار ملتبس مركزه كلمة مدنية هي من بنات أفكار الإخوان المسلمين، ولا يعتد بدفاع أمثالي عن انّ كلمة مدنية هي قديمة قدم التاريخ وقبل الإخوان المسلمين بكثير . هي من أيام غرناطة وتعني إبعاد العسكر عن السياسة وحصرهم في مجالهم العسكري. وتعني أيضًا عقدًا اجتماعيًا بين مكونات المجتمع لايستثني أحدًا بمن فيهم الأحزاب الدينية شريطة نبذها العنف والاعتراف بالآخر والتقيد بالدستور الذي يصاغ من قبل المتعاقدين.

غريب عجيب أمر هؤلاء الداعين إلى دولة علمانية في سوريا بدلًا من أن يراجعوا حساباتهم تحديدًا تجاه الدين وأهميته ودوره في المجتمع حتى الآن، وخاصة في البلدان ذات الحضارة الاسلامية:

 يا أصدقائي: يختلف الدين الإسلامي عن بقية الأديان لأنه كما يقول عنه فقهاؤه: دين ودنيا. الدين الإسلامي يحض معتنقه صراحة على التدخل في الشؤون الدنيوية لصالح العامة وليس لصالح القلة من الناس . يحضهم صراحة على العمل السياسي الذي يخدم الفقراء، فلماذا نريد إقصاءهم عن السياسة ؟

ربما كان من أعمق من أشار إلى خصوصية الدين الاسلامي هو المفكر الليبرالي جون ستيوارت ميل (( إن آداب المسيحية – كما يدعونها – قد اجتمعت فيها كل صفات رد الفعل، وهي في معظمها عبارة عن احتجاج على الوثنية، فهي تطلب للناس كمالاً سلبياً أكثر منه إيجابياً، وتدعو إلى التخلي عن الرذائل أكثر مما تدعوهم إلى التحلي بالفضائل، وتخوفهم من الشر أكثر مما تحضهم على الخير، وإذا تأملت في وصاياها وجدت النهي متغلبًا على الأمر، والزجر متفوقًا على الندب، والترهيب مبرزًا على الترغيب، وقد دفعها الاشمئزاز من الفسق والفجور إلى تمجيد الزهد والرهبنة، وإذا أنعمت النظر في آداب المسيحية هذه رأيت قوامها الطاعة العمياء، فهي تحض أتباعها على الإذعان لكل سلطة قائمة، والخضوع لكل سلطان موجود، حقيقة هي لا توصيهم بتنفيذ أوامر السلطان إن كانت تخالف نصوص الدين، لكنها تأمرهم بالاستسلام والإذعان وتنهاهم عن الخروج والعصيان مهما أصابهم من الأذى ولحقهم من العدوان، وها نحن نقرأ في آداب الاسلام، لا في آداب المسيحية  هذه الكلمة الجامعة: “كل وال يستكفي عاملاً عملاً وفي ولايته من هو أقوم به وأكفأ منه، فقد خان عهد الله وخليفته” (من كتيب الحرية. ترجمة طه السباعي باشا، دار المعارف، مصر ص 87).

 الدين الإسلامي يعتبر الفقراء جزءًا من الله تعالى وهو جزء منهم، وعمل المؤمن من أجل الفقراء يقربه من ربه كما تقربه عبادته وصلواته له.

 الدين الإسلامي هو أول من اعترض على الراسمال المتوحش بتحريمه الربا.

 الدين الإسلامي جعل جزءًا من أموال الأغنياء حقًا شرعيًا للسائل والمحروم.

 لماذا ننكر على معتنقيه العمل السياسي من أجل قيمه ؟ وبطريقة يستفيد منها المجتمع وتتناسب مع فهمه لتغير الأمصار بتغير الأحوال.

 خاتمة: أحببت أن أختم مقالتي بحادثة واقعية ربما تخدمها أكثر من كل التنظير عن الإسلام والعلمانية لمن يعنيه بحق دفع بلادنا من فضاء الاستبداد إلى فضاء الديمقراطية .

في السابع من كانون أول عام 2007 التقيت بالمهندس نزار نجار -عضو اللجنة المركزية لحزب الإخوان المسلمين في سورية- على هامش الاجتماع الأول للمجلس الوطني لإعلان دمشق في بيت رياض سيف، وكان كل منا يعرف الآخر من خلال فضاء الانترنت.

 بادرني بالسؤال عن منتدى الحوار الثقافي الذي يعقد أغلب جلساته في بيتي،  وكم شخصًا يحضره ؟

قلت له: حسب الظرف بين العشرة والأربعين شخصًا.

 رّد قائلًا : أنا في كل يوم جمعة يكون أمامي أكثر من خمسمائة شخص، هذا هو شعبكم تعالوا وتعرفوا عليه من خلالنا .

 كلامك صحيح ولكن ذلك يحتاج إلى اتفاق بين الطرفين.

 العلمانيون يتعهدون للإسلاميين أن يشرحوا لجماهيرهم أن الدين ما يزال له دور في المجتمع، وأنّ بلدنا يحتاج كي ينهض إلى الطاقة الروحية والمادية معًا،  وعلى الإسلاميين أن يتعهدوا للعلمانيين أن يكفوا عن محاصرتهم عبر زعبرتهم عن مجتمع الربوبية وإفهام جماهيرهم بأن لهم شركاء في الوطن لايؤمنون بيوم النشور ولا بيوم القيامة وعلينا أن نحاسبهم في الأرض على سلوكهم تجاه الوطن، ونترك حسابهم عن إيمانهم لربهم في يوم القيامة.

 إن هذه المعارك الدائرة على الأرض أو على فضاء الفيس بوك لا تشير إلى استيعاب الجهتين ما جرى في بلدهم، وهم ماضون في غيهم مع كل أسف

. من هنا تأتي أهمية القائلين بالتعاون على أرضية التنافس بين الإسلاميين والعلمانيين الآن للمساهمة في خلق جيل سوري ديمقراطي صاعد يستطيع أن يعزل المتطرفين من الجانبين، ويمهد لعقد اجتماعي جديد في سورية.