بينما تسعى القوى الدولية المؤثرة في الشأن السوري إلى اجتراح حل سياسي يمهّد الطريق لإنهاء المأساة السورية ينشغل نظام الأسد بانتخابات مجلس الشعب ولا يلقي بالاً للتبكيت الذي يتعرّض له من حلفائه بله خصومه.

ليس خافياً على أحد أن ما يسمى بمجلس الشعب السوري لم يكن إلا مجلس دمى يتقاسم مقاعده رجال أعمال يعدّونه وسيلة لتيسير مصالح مشبوهة، وشيوخ قبائل وعشائر كانوا يعدّون كرسي البرلمان مكوناّ ضرورياّ من مكوّنات النفوذ وشخصيات متنوعة أخرى لا وزن لها سوى الوزن الذي تستمدّه من نفاقها ومداهنتها لأجهزة الأمن.

وقد اعتاد السوريون على التندّر بهذا المجلس الذي يفترض أنه يمثل السلطة التشريعية، ومن أعضائه الذين يرفعون أيديهم بالموافقة بحركة أشبه ما تكون برد الفعل الانعكاسي على كل قرار يقترح للتصويت.

ولكن النظام السلطوي إذ مسخ هذه السلطة التشريعية لم يعدم وسائل تمكّنه من وضعها تحت قدمه، فشبكات الزبائنية التي لم تقتصر كما يروّج كثيراً على أبناء الطائفة العلوية كان من ضمن مكوّناتها برجوازية مدنية سنية، وقد استثمرت هذا المسخ لمصالحها، وشيوخ القبائل والعشائر قايضوا عبر كرسي البرلمان ولاءهم المطلق للنظام بمكتسبات يقع في بؤرتها هدفهم الأساسي المتمثّل في تكريس رمزيتهم القبلية، علاوة على مصالح شخصية، وغير ذوي الشأن استخدموه كمطيّة للصعود في سلم المكانة الاجتماعية.

يشارك اليوم في مهزلة الانتخابات مكوّنات شبيهة بالمذكورة آنفاً، وإن اختلفت الشخصيات وهو ما يدحض الفرضية التي فحواها أن الصراع في سوريا صراع بين نظام أقلوي وأكثرية فالمكوّنات المذهبية لا تكون محرّضاً للاستقطاب في انفصال عن مصالح سياسية واقتصادية في وضع اجتماعي معين.

السلوك والوعي الطائفيان متغيران وفقاً لمتغيرات مصالح سياسية واقتصادية وليسا ثابتين ثبات الطوائف، ومجلس الشعب بصورتيه الهزليتين السابقة والحالية يؤكد أن عقوداً أربعة من تسلّط النظام لم تكن فقط بسبب قمعه وطائفيته وإنما ساهم فيها مصالح ضيقة لشرائح مختلفة من السوريين، وأن سنوات خمساً من الثورة السورية لم تكن لولا تلطيخ نقاء هذه الثورة وتدنيس طهرها من قبل أصحاب المصالح المتوزعين على الخارطة الجغرافية والاجتماعية والإثنية والطائفية.

لا شكّ أن ظلماً كبيراً يرتكبه من يقارن مجلس الشعب في ظلّ نظام البعث بالبرلمان السوري في منتصف القرن الماضي ولكنّ مساهمة الدوافع المصلحية في إحداث نتائج بالغة السوء ظاهرة لا يصعب رؤيتها هنا وهناك.

فالبرجوازية المدنية الممثلة في البرلمان السوري آنذاك بعد أن عقدت تحالفاً وثيقاً مع ممثّلي الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين في مواجهة الإقطاع حرصاً منها على رفع معيشة العمال والفلاحين وتوفير سبل العيش الكريم لهم لإدراكها العميق أنهم الرافعة الطبيعية للتنمية الاقتصادية والانتقال بالبلاد إلى طور التصنيع، ما لبثت بعد أن رفع ممثّلو العمال والفلاحين من سقف مطالبهم أن فكّت عرى التحالف معهم وعادت إلى عقد تحالف مع الغريم السابق من ملاكي الأراضي خوفاً من الاندفاع الراديكالي الذي ينذر بسحب البساط من تحت أقدامها والذهاب بميّزاتها السياسية والاقتصادية المستقرة منذ زمن طويل.

وجه الشبه الذي نريد تسليط الضوء عليه هو ما تفعله شبكات الثقة-بحسب مصطلح استخدمه أحد كبار الباحثين في الديمقراطية لوصف شبكات المصالح الضيقة التي تعيق انسيابية التوافق والإجماع الوطنيين-التي ساهمت في إجهاض التجربة الليبرالية الديمقراطية الناشئة في سوريا في القرن الماضي وساهمت كذلك في إطالة عمر النظام الأسديّ وفي تأخّر انتصار الثورة، وإن اختلفت الآليات والظروف والاصطفافات.

يتوخّى هذا الطرح الخروج بنتيجة مغايرة للمزاج العام للمعارضين الذين يكتفون بالسخرية من النظام والتعبير عن الضيق الشديد من وقاحته، وهي إدراك أن قرابة القرن من الزمان لم تبلور مصلحة وطنية عليا لا تستطيع المصالح الضيقة لشبكات الثقة والمصالح الشخصية مغالبتها، وأن العمل على مشروع متكامل متعدد الأبعاد لتجذيرها هو مهمة قد تأخرنا في الشروع فيها، وأن وقاحة النظام هذه ليست بدون معطيات في المجتمع السوري لم تكن من صنعه لوحده وإن كان يتحمل المسؤولية الأكبر عن منحها شكلها الأكثر قبحاً.

رئيس التحرير