(إشكاليات ومحددات): مناف الحمد

ينظر طيف من اليساريين إلى التَّسامح على أنَّه دعوى يطالب بها رجعيون يمارسون اضطهادًا لتبرير ممارساتهم، وينظر بعض اليمينيين إلى التَّسامح على أنَّه سياسة عشوائيَّة تبيح التَّهتك والفجور، بينما ينظر إليه البعض من خارج اليسار واليمين على أنَّه ممارسة يمكن أن ينتج عنها إهمال للعائلة بذريعة التَّسامح مع ممارسات أفرادها.


أمَّا من منظور ليبراليّ فإنَّ الغاية القصوى المتمثّلة في إقامة مجتمع آمن ومسالم لا يمكن تحقيقها بدون تمثُّل فضائل ليبراليَّة عديدة من ضمنها وأهمّها فضيلة التَّسامح، فالمجتمع الآمن الَّذي تحترم فيه الحقوق والخصوصيات لا بدّ له لكي يصبح واقعا من أن يترك لأفراده حريَّة تبنّي ما يشاؤون من آراء مغايرة للآراء السَّائدة في مجتمعاتهم وهو ما تحقّقه فضيلة التَّسامح.


تمديد المجتمع اللّيبراليّ لمعنى الـ “نحن” إلى أشخاص كانوا يعدُّون ضمن الـ “هم” هو أحد أهمّ إنجازات هذا المجتمع حسب رورتي وساندل ولكن رورتي بالمقابل يتحفَّظ على مفهوم التَّسامح اللّيبراليّ الكلاسيكيّ لأنَّه يسلب -حسب رورتي- القدرة على التَّمييز بين الجيّد والسّيئ، كما يسلب القدرة على الشُّعور بالازدراء، وهو تحفُّظ يجد رورتي له حلاً يتمثَّل في رفض أن يكون المجتمع اللّيبرالي مجتمعًا لأفراد يكيّفون أنفسهم للخضوع للقانون وإنَّما يعدّه مجتمعًا لـ “وكلاء حب”؛ لأنَّ جذر التَّسامح هو الحبّ، فلا يكفي منح الإذن للمنشقّين عن تقاليد المجتمع ومعتقداته، وإنَّما يجب التَّخلُّص من مشاعر الكراهية الَّتي كان النَّاس يكنّونها لطرق حياة غير مألوفة.


وأحد الأسئلة الَّتي توجَّه للمدافعين عن التَّسامح اللّيبراليّ هو قابلية هذا المفهوم للتَّمييز بين الحريَّة الَّتي يجب التَّسامح معها وبين الانحراف وهو ما يعبّر عنه والتزر” بطرح هذا السُّؤال:


لنتخيَّل شخصًا لا يقيم وزنًا لأهله ولا لزوجته ولا لأطفاله، ويسرف في مشاهدة الممارسات الإباحيَّة في الأماكن الَّتي تعرض فيها، وما إن ينضمَّ إلى إحدى الطَّوائف الغريبة حتَّى يغادرها بعد فترة قصيرة.


هل يمكن وصف حياة هذا الرَّجل على أنَّها حياة حرَّة تندرج تحت أنماط الحياة الواجب التَّسامح معها، وبعبارة أخرى كما قلنا في البداية هل هذه الحياة حرَّة أم منحرفة؟


والحقيقة أنَّ اللّيبراليين الكلاسيكيين رغم أنَّهم يضعون حريَّة الممارسة والتَّفكير للفرد في المجتمع اللّيبراليّ كأولويَّة إلاَّ أنَّهم في المقابل يطالبون هذا الفرد باحترام الدَّعاوى الَّتي يعدُّها المجتمع معقولة مقابل ما يمنح له من حريَّة.


والأهمُّ من ذلك أنَّ الفرد اللّيبراليّ كما تمثّلته اللّيبراليَّة الكلاسيكيَّة هو فرد لا يسعى لأن يكون سيّدًا، ولا يقبل أن يكون عبدًا، ولهذا فإنَّ الفرد اللّيبراليّ مطلوب منه أن يوفّق بين أمرين متباعدين: أن يفخر بذاته لكيلا يكون عبدًا، وأن يقيّد ذاته لكيلا تراوده طموحات السّيادة.


لا يتحقَّق الأمان الَّذي هو غاية المجتمع اللّيبراليّ ما لم يكن هذا الفرد الَّذي يتنازعه الفخر والتَّقييد نواته الأساسيَّة وهذا الفرد بدوره لكي يصبح واقعا فإنَّ عليه أن يتخلَّى عن قدر من حريَّته الطبيعيَّة ويخضعها لسلطة المجتمع.


هذا التَّصوُّر للفرد المستعدّ للتَّنازل عن جزء من حريَّته يمكن أن يكون حلاًّ معقولا لإشكاليَّة والتزر.


وممَّا يشتقُّ من هذا التَّصوُّر رفض المجتمع اللّيبراليّ تطبيق القوانين الجنائيَّة ضدَّ المعتدين على الدّين؛ لأنَّ المساء إليه في هذه الحالة هو الله، وهو يحدّد وقت انتقامه وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ مونتسكيو الجمهوري كان قد اعترض على تطبيق القوانين الجنائيَّة خلافًا لعموم الجمهوريين؛ خشية من أن تصبح هذه القوانين سلاحًا في أيدي البيوريتانيين الَّذين يمكن لحماسهم أن يشكّل تهديدًا لأمن المواطنين وحريَّتهم.


ومثل الإساءة للدّين كلّ الكتابات والأفكار الطَّائشة الَّتي لا تنسجم مع مزاج المجتمع العامّ لا تعدُّ أفعالاً جنائيَّة في النّظام الجنائيّ اللّيبراليّ ما لم تنطو على أفعال تهدّد سلام وأمن المواطنين، ولا يكفي لإدانتها أن تكون منطوية على إهانات للدّين أو الأعراف الجنسيَّة.


فضيلة التَّسامح استجابة طبيعيَّة لواقع التَّنوع فالمنشقُّون والمتمرّدون على عقائد المجتمع وأعرافه وتقاليده سيواجهون تحدّيًا من باقي الأفراد الملتزمين بهذه المعتقدات والتَّقاليد والأعراف، وسيشكّل الاستقطاب تهديدًا لأمن المجتمع والسَّلام الَّذي يجب أن يتّصف به، ولهذا يجب أن يطلب من التَّقليديين تقديم تنازلات للمتمرّدين، وهي تنازلات لا تشترط الثَّناء على طرق الحياة أو الأفكار غير المألوفة، ولكنَّها تنازلات عبر الاقتناع بعواقب وخيمة يسبّبها عدم الاكتراث بهذه الأفكار والطرق الغريبة أو احتقارها.


تواجه التَّسامح كذلك مشكلة نابعة من الجذر الاشتقاقيّ للمصطلح في اللُّغة اللاَّتينيَّة والَّذي يقصر المصطلح على بعد سلبيّ فقط فهو عكس المقاومة ولا يتعدَّى ذلك إلى البعد الإيجابيّ الَّذي ينطوي عليه المصطلح في اللُّغة العربيَّة الَّذي يوسّع المفهوم إلى الإيثار للآخر والتَّعاطي الإيجابيّ معه وهو ما أفقر المفهوم إذ ربطه بالاختلاف ربطً وجوديًّا.


فمدلول المصطلح في اللاَّتينيَّة لا يتجاوز معنى التَّحمل والكفّ عمَّا فيه أذى للآخر، وإن كان يمثّل أحد بعديه أمَّا في اللُّغة العربيَّة فالدَّال ذو بعدين: -بعد سلبّي هو المذكور أنفًا، و-بعد فعّال لا يقف عند حدود فمدلول المصطلح في اللاَّتينيَّة لا يتجاوز معنى التَّحمّل والكفّ عمَّا فيه أذى للآخر، وإن كان يمثّل أحد بعديه، أَّما في اللُّغة العربيَّة فالدَّال ذو بعدين: -بعد سلبي هو المذكور أنفاً، و-بعد فعّال لا يقف عند حدود التَّحمّل أو الكفّ عن الأذى، ويتعدَّى ذلك إلى إتيان سلوك فكريّ أو قوليّ أو فعليّ يتضمَّن التَّعاون مع الآخر والدّفاع عنه وعن حقوقه، بل وإيثاره على النَّفس في بعض الظروف.


وهذا البعد الإيجابيّ يتناقض مع وجود علَّة قصوى أو مبدأ مركزيّ ينظّم الحياة الاجتماعيَّة أو السّياسيَّة أيا كان هذا المبدأ المركزيُّ وأيًّا كانت هذه العلَّة: دور مركزيّ للمشيئة الإلهيَّة، العقل، أو وجهة التَّاريخ.


ويجب أن ننوّه إلى أنَّ المبدأ المركزيَّ يمكن ألاَّ يلغي وجوده وجود التَّسامح -حسب ما يرى آلان تورين- ولكن عدم التَّضادّ بينهما -في نظرنا- لم يكن ليتحقق عند تورين لولا انغلاقه داخل مدلول التَّسامح الَّذي تحمله اللُّغة اللاَّتينيَّة. والاستبدال بمبدإ مركزيّ مبدأ آخر لا يغيّر في تقييد هذا المبدأ للتَّسامح كمفهوم وكممارسة.


فالشُّبهة الَّتي تشوب التَّسامح -حسب طه عبد الرًّحمن- الَّتي تتمثَّل في أنَّ المتسامح يخالجه الشُّعور بالتَّفوّق على المتسامح معه وهو شعور يؤدّي إلى توقّح الأمَّة المتسامحة، والَّذي يجعل عبد الرَّحمن يقترح بديلاً له هو مبدأ الحياء النَّقيض للتَّوقح ويربطه بالإيمان بالله. هو اقتراح يغفل عن أنَّ التوقّح الَّذي يشوب التَّسامح إنَّما ينشأ عن ربط التَّسامح بالاختلاف ربطًا وجوديًّا، وإغفال بعده الثَّاني الَّذي يتمثّل في التَّعاون والايثار والدّفاع عن الآخر، وما يقترحه عبد الرَّحمن لا يعدو أن يكون مبدأ مركزيًّا صالحًا لأن يكون بعدًا خصوصيًّا ومن غير الممكن موضوعيًّا رفعه إلى مستوى البعد العموميّ لما يمثّله ذلك من فرض عقيدة مهيمنة لا يحضر التَّسامح إلاَّ في غيابها ولا يغيب إلاَّ في حضورها.


وغياب المبدأ المركزيّ قاسم مشترك بين التَّسامح والدّيمقراطيَّة فأبعاد الدّيمقراطيَّة الثَّلاثة الصّفة التَّمثيليَّة للزُّعماء، والمواطنيَّة، والحقوق الأساسيَّة، لا تصلح كأبعاد لها إلاَّ إذا نظّمها ناظم وحيد هو غياب المبدأ المركزيّ للسّلطة -حسب تورين- تظهر في غيابه وتختفي في حضوره.


إنَّ التَّسامح كاستجابة معياريَّة للتّنوع يشكل أرضيَّة صلبة للدّيمقراطيَّة الَّتي لا تقوم إلاَّ على اعتراف بصراعات قيم لا يمكن تجاوزها وتكريسه شرط ضروريّ لوجودها.

 مناف الحمد

الأوان

الخميس 7 كانون الثاني (يناير) 2016