محمد زاهد غول

لا تخفي السياسة التركية دورها في السعي لإيجاد حل سياسي في سوريا، منذ بداية الثورة الشعبية فيها، فقدرها الجغرافي أن تتحمل مسؤوليات إنسانية واجتماعية وسياسية مع الشعب السوري، وألا تغلق أبوابها مهما بلغ عدد اللاجئين إليها، بل تأمين كل ما يلزمهم من حياة كريمة وفرص عمل وغيرها.
وفي الوقت نفسه العمل لانقاذ تركيا من تداعيات الصراع في سوريا، فقد تعرضت تركيا لهجمات إرهابية وعدوان متواصل على أراضيها بالصواريخ وقذائف الدبابات الحدودية مرارا، وأوقعت هذه الاعتداءات العديد من القتلى من المواطنين الأتراك المدنيين والعسكريين، ما جعل الأزمة السورية على سلم أولويات اجتماعات مجلس الأمن القومي التركي، وطرق كل أبواب المؤتمرات الدولية التي عقدت باسم الامم المتحدة لإيجاد حل سياسي يوافق عليه الشعب السوري.
بذلت السياسة التركية جهودا كبيرة مع أمريكا لانجاح مؤتمر (جنيف 1) 2012، وشاركت السياسة الأمريكية بعده في مؤتمرات أصدقاء سوريا، واستضافت العديد منها، وكانت السياسة التركية على تواصل وحضور دائم مع أطراف الصراع الخارجية، وبالأخص الحكومة الإيرانية، التي تورطت بتشجيع أمريكي في الصراع السوري دموياً، بارسالها جيشها وحرسها الثوري وميليشياتها الطائفية من لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها، وقتلها وتشريدها ملايين السوريين، فخسرت سمعتها في العالم الاسلامي، ومع ذلك لم تقطع السياسة التركية اتصالاتها مع الحكومة الإيرانية لأنها تريد حلا ينهي الأزمة، وكذلك فعلت السياسة التركية مع روسيا قبل تدخلها العسكري وبعده، وقدر لها أن تجد في القيادة الروسية بعد سنة من تدخلها العسكري، رغبة حقيقية للخروج من الأزمة التي ورطت نفسها فيها، لذلك وجدت تركيا أن من واجبها أن تجمع بين فرقاء الصراع أو من يمثلهم، فجاءت لقاءات المعارضة السورية مع السياسيين والعسكريين الروس في أنقرة، منذ أشهر، لإيجاد ارضية للحوار اولاً، والتوصل إلى وضع مشروع للحل السلمي، الذي يتم التفاوض عليه، وكان دور تركيا رعاية هذه اللقاءات، دون ان تفرض رأيها على احد، ودون أن تتدخل في قرارات أحد، ولكنها يمكن ان تكون ضامنة لتطبيق المعارضة السورية لأي اتفاق سوف توقع عليه.
لذلك فإن كل ما يقال عن توصل تركيا إلى اتفاق مع روسيا هو من قبيل المجاز السياسي، لأن الاتفاق هو مع المعارضة السورية الداخلية والخارجية، مع الأطراف السورية الأخرى، وما يمكن ان تتحدث عنه السياسة التركية مع الروس أو الأمريكان أو الإيرانيين أو الدول العربية المعنية، هي مشاريع اتفاق، أي وضع مبادئ عامة وبنود مشاريع اتفاق للتفاوض عليها، لأن التوقيع النهائي سيكون لأطراف الصراع السوري السوري، وليس تركيا ولا روسيا ولا غيرهما، ولذا فإن ما يعقد هذه الأيام في تركيا هو مشاورات وحديث عن مشاريع اتفاقيات، وحتى وقف النار الذي أعلن عنه فهو بين الأطراف المتصارعة، وكذلك وضع خريطة طريق للحل الذي سوف تلتزم بها الأطراف داخل سوريا، فتركيا لا تتفاوض مع بشار الأسد ولا مع حكومته، وهذا أمر متروك للمعارضة السورية، بوصفها الممثل الحقيقي للشعب السوري، وهي التي وقعت على وقف إطلاق النار، وهي التي ستوقع على الاتفاقيات المقبلة، فالاجتماعات التي تعقد في العاصمة التركية أنقرة هي اجتماعات بين ممثلين عن المعارضة السورية المسلحة وعسكريين روس وأتراك، تمهيدا لاجتماعات في العاصمة الكزاخية أستانا.
والاتفاق الموقع لتوسيع نطاق وقف إطلاق النار ليشمل كل سوريا، وكذلك اتفاق إجلاء السكان من مدينة حلب ليشمل جميع مناطق الاشتباكات، سوف تتفاوض عليه المعارضة السورية، على أمل ان يدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بحلول منتصف ليل 29 ديسمبر 2016، ولا شك أن تركيا لها ما يعنيها بهذه المشاريع والاتفاقيات، وهي إبعاد الإرهاب عن حدودها، سواء كانت من داعش أو وحدات حماية الشعب الكردية وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، بل تعمل على استثنائها من اتفاق وقف إطلاق النار، فالحل السياسي الكامل لا يمكن ان ينجح ما لم يسر في خطوات وقف إطلاق النار الناجح أيضاً، فتركيا وهي تسير بهذه المشاريع من أجل السلام في سوريا لا تغير موقفها من نظام بشار الأسد، ولا من شخص بشار على وجه التحديد، وليس بالضرورة أن تكرر تركيا موقفها في كل مؤتمر صحافي، ولكن موقف السياسة التركية من بشار الأسد ليس بالضرورة ان يعطل مفاوضات الحل السلمي أيضاً، لأن هذا الموقف تشاركها به المعارضة السورية أيضاً.
وللتأكيد على أن دور تركيا هو الرعاية وليس الاتفاق مع الروس أو غيرهم، فإن المعارضة السورية المسلحة نشرت مسودة البنود التي طرحتها على الأتراك والروس معاً، ونشرت على بعض المواقع الالكترونية وفيها:
ـ وقف لإطلاق النار بكل سوريا باستثناء المقار العسكرية لتنظيم «الدولة».
ـ تضمن تركيا التزام المعارضة في مناطق سيطرتها بوقف إطلاق النار بكل أشكاله، مقابل ضمان روسيا التزام النظام وحلفائه في مناطق سيطرتهم بوقف مماثل وبما يشمل القصف الجوي والمدفعي.
ـ تكفل الأطراف الضامنة عدم محاولة طرفي النزاع الاستيلاء على مناطق جديدة لم تكن عند دخول الاتفاق حيز التنفيذ خاضعة لسيطرتهم.
ـ اقتراح آلية مناسبة لمراقبة الاتفاق استنادا لمعايير أممية.
ـ أن يسمح بإدخال المساعدات للمناطق المحاصرة.
ـ أن تطلق مفاوضات للوصول إلى حل سياسي خلال شهر من بدء الاتفاق.
هذه بعض البنود التي كشفت عنها معارضة الداخل المسلحة، وقد تم الحديث عن نقاط خلافية أيضاً، ومهما تكن نتائج تلك المفاوضات وحتى بعد انتقالها إلى العاصمة الكازاخية، فهي محاولات للخروج من الأزمة السورية، بعد ان استنزفت مؤتمرات جنيف 1 و2 و3 كامل جهودها دون أن تحقق شيئاً، وقد أخذت أكثر من أربع سنوات، لم تنتج إلا القتل والدمار والتشريد، بل ذهبت المشاريع الدولية التي تقودها أمريكا إلى تقسيم سوريا، وإقامة كيان كردي مستقل، أو بحكم ذاتي داخل سوريا الفيدرالية حسب مخططاتهم، وفي كلتا الحالتين فإن الشعب السوري لن يخرج من الحرب والاقتتال لعقود مقبلة، فلا توجد أرض موحدة للاكراد لاقامة هذا الكيان عليها، وبالتالي سيتم الاستيلاء على اراض عربية من شمال سوريا، ويتم تهجير أهلها منها، وهذا سيخلق حروبا متواصلة يتجاهلها زعماء الاحزاب الكردية الآن، لأنهم يحلمون بدولة أكبر تشمل أراض من تركيا والعراق وايران، وهذا سيدخل المنطقة في عقود من الحروب الداخلية المدمرة، لا مصلحة فيها الا للقوى الاستعمارية الخارجية، لأن الأكراد سيكونون وقودها فقط.
بهذه القراءة فإن تركيا جزء من المعركة الكلية التي تجري في المنطقة، وإن لم تكن طرفا مفاوضا في الحل السياسي في سوريا، فالشعب السوري صاحب الصلاحية فيه، وكل من يبني رؤيته على ان تركيا طرف في المفاوضات والاتفاق مع الروس فهو خاطئ، فما يبحث في تركيا ومع تركيا هو مشاريع الحل، والاتفاق سيكون بين السوريين أنفسهم، وعلى هذا الأساس فإن تركيا لا تجازف بسمعتها بسبب تفاهماتها مع روسيا، لأنها لم تطلب من الشعب السوري أن يقوم بثورته الشعبية عام 2011 أولاً، ونفذت ما وعدته به بالمساعدات الإنسانية وغيرها، ولم تعده يوما بأنها سوف تحارب النظام السوري عسكريا لإسقاطه، فهذا حق دولي وليس شأنا تركيا، وربما أخطأ البعض في توقع أمنيات تأتي من تركيا، فتركيا محدودة القدرات والسياسات، ولولا التفاهم التركي الروسي بعد الانقلاب العسكري في تركيا، لما استطاعت دعم عملية «درع الفرات» التي يقوم بها الجيش السوري الحر، فأمريكا على استعداد لتزويد إيران بالاسلحة التي تريدها إذا دخلت في حرب مع تركيا في رأي البعض، أي أن هناك قيوداً على الحكومة التركية بوصفها دولة تحترم القانون الدولي.
وأخيراً فإن أهم ما ينبغي التأكد منه أن التقارب التركي الروسي الحاضر او المستقبلي لن يكون على حساب الشعب السوري، بل ينبغي جعله لصالحهما المشترك، لأن الخيار الدولي الآخر ، أي مع الغرب وأمريكا تحديداً ـ وهو غير مستبعد الآن ـ كان حربا متواصلة قاربت الست سنوات في سوريا، فالتجربة العملية في تولي أمريكا وكوفي عنان والأخضر الإبراهيمي ودي مستورا لمسألة الصراع في سوريا كانت مأساوية، وأصبحت تهديدا للأمن القومي التركي، والتوجه نحو روسيا هو محاولة لتجربة خيار آخر، والعمل السياسي ليس تكهنا بالنجاح أو الفشل، وإنما العمل المتواصل لتحقيق النجاح، وذهاب وزير الخارجية التركي جاويش أغلو إلى الدوحة ولقاء رياض حجاب بعد الاجتماع الثلاثي في موسكو، دليل رغبة تركية ان تتفهم الدول العربية والمعارضة السورية المعتدلة ضرورة فتح المجال للخيار الروسي، الساعي لإنقاذ نفسه أولاً، من خلال إنهاء الصراع في سوريا.
كاتب تركي