رأت صحيفة نيويورك تايمز في افتتاحيتها المنشورة على موقعها الإلكتروني اليوم، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستغل حالة “الشلل” التي تتسم بها السياسة الأمريكية في سوريا؛ إذ يسعى من خلال تصعيد النشاط العسكري الروسي في سوريا إلى إعادة ترتيب المشهد الإستراتيجي في الشرق الأوسط.

وتقول الافتتاحية: “يبدو أن عدد قليل هم الذين لديهم القدرة على إدراك النطاق الكامل لما يحاول بوتين تحقيقه، ويرجع ذلك إلى أنه من الناحية النظرية، ينبغي أن يفوق ذلك قدرات روسيا إلى حد كبير، بيد أن بوتين – على أقل تقدير – يستشعر الفرصة بحذر لاستعادة روسيا للدور الذي فقدته في الشرق الأوسط خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي”.

هجوم مشترك

وترى نيويورك تايمز أن التدخل الروسي يستبق للتوصل إلى حل للصراع السوري من خلال التقسيم الفعلي.

وقد أوردت تقارير وكالة أنباء رويترز منذ عدة أشهر أن إيران اقترحت شن هجوماً مشتركاً (جاري تنفيذه الأن) يستهدف إنقاذ الرئيس بشار الأسد من الانهيار الذي كان وشيكاً.

وظهرت صورة للجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني وهو يتأمل خريطة سوريا مع المسؤولين الروس في الكرملين.

وتضيف الصحيفة: “تهدف القوة العسكرية الروسية في تأمين الجزء الغربي من الدولة السورية الذي لا يزال تحت سيطرة بشار الأسد، وعلى وجه التحديد القواعد الجوية والبحرية قرب اللاذقية وطرطوس. وبعيداً عن الغارات في بؤر التوتر في الشمال مثل حلب، سوف تركز القوات الإيرانية وميليشيات حزب الله في معظمها على النصف السفلي من هذا الشريط الذي يمتد من الحدود اللبنانية من خلال القلمون ويصل إلى دمشق، ومنه إلى المدن الساحلية وقلب الأراضي الساحلية للعلويين، وهم الطائفة الشيعية الموالية لبشار الأسد”.

سوريا الصغرى

وتعتقد نيويورك تايمز أنه على الرغم من الحديث عن دحر تنظيم داعش الإرهابي فإن الهدف الحقيقي لروسيا يتمثل في إبعاد الجماعات المعارضة لبشار الأسد وتأمين ذلك الجزء الذي يسيطر عليه “سوريا الصغرى”.

وبالنظر إلى حلفاء الأسد وما هم مستعدون للقيام به لإنقاذ “سوريا الصغرى” – بالمقارنة مع التدخل المحدود لمن يمكن اعتبارهم خصوم بوتين الدوليين – فإن هذا الهدف على الأرجح قابل للتحقيق.

وتوضح الصحيفة أن مثل هذا التقسيم لسوريا من شأنه أن يترك أجزاء أخرى من البلاد في أيدي الثوار القوميين والإسلاميين، إضافة إلى منطقة كردية في الشمال، وربما بعض الجيوب الصغيرة، أما الجانب الأسوأ فيتمثل في خلافة داعش المزعومة في الشمال والشرق. وعلى الرغم من الدعاية التي يقوم بها الكرملين، فإن تنظيم داعش الإرهابي من بين أكبر الرابحين من التدخل الروسي.

وتفسر نيويورك تايمز أنه في نهاية الأسبوع الماضي على سبيل المثال، استفاد تنظيم داعش من الضربات الجوية الروسية؛ حيث إن 90% منها استهدفت جماعات المعارضة الثورية، واستولى التنظيم على العديد من القرى قرب مدينة حلب، كما قتل الداعشيون بعضاً من كبار قادة إيران في سوريا بما فيهم الجنرال حسين همداني. إن تقدم داعش وانتصاراته تحقق هدف بشار الأسد في إرسال رسالة لكل من السوريين والعالم مفادها “أنه يجب الخيار ما بينه هو أو الجهاديين”.

النموذج اللبناني

وبحسب الصحيفة، فإن الرسالة غير المعلنة – ولكنها واضحة المعالم تماماً – هي أن موسكو تحاول بطريقة ما (طريقة واحدة على الأرجح) إنهاء الصراع على غرار النموذج اللبناني من خلال عزل سوريا إلى مناطق تسيطر عليها الميليشيات المتناحرة.

وتقول الصحيفة: “وبالنسبة إلى قلق واشنطن الدائم حيال أي وضع معقد في الشرق الأوسط، ورغبتها في معرفة (كيف سينتهي؟)، فإن استجابة روسيا ستكون كالتالي: سيتم “حل” الصراع السوري بشروط روسيا، حتى إذا ثبت للكرملين أن الأسد يمكن الاستغناء عنه على المدى الطويل”.

الاستسلام المخزي

وتلفت نيويورك تايمز أنه طالما ترغب إدارة أوباما في رؤية نهاية هذا الصراع من دون القيام بأي شيء بنفسها، فإن هذا يعني أن مجموعة من كبار المسؤولين الأمريكيين على استعداد لتأييد الخطة الروسية، لاسيما أن سياسة الولايات المتحدة في سوريا قد تحولت من كونها “مأساة” إلى “مهزلة”.

وقد تجسد أحدث دليل على هذا الفشل الذريع في إلغاء برنامج التدريب العسكري للمعارضة المعتدلة من أجل محاربة تنظيم داعش الإرهابي، بعد أن تكلف أكثر من 500 مليون دولار لتدريب حفنة من المقاتلين على الأرض.

وتتساءل الصحيفة: “طالما تتوافر لدى موسكو سياسة وهو ما تفتقر إليه واشنطن، فلماذا لا ندعم ذلك؟”

وتقول نيويورك تايمز: “لا يمكن تجاوز حقيقة أنه من العبث أن نأمل أن نهج بوتين من المحتمل أن يخدم المصالح الأمريكية، والواقع أن إفساح المجال للسياسة الأمريكية من شأنه أن يترتب عليه التخلي عن مكافحة تنظيم داعش الإرهابي في سوريا، ولا يمكن مواجهة الميليشيات المتشددة بفاعلية في العراق وحدها.

وستكون المحصلة النهائية لهذا الاستسلام المخزي تهديد السوريين في المستقبل القريب من كل من بشار الأسد (أو خليفته الذي سوف تعيينه روسيا) وكذلك تنظيم داعش الإرهابي”.

وتضيف الصحيفة: “ليس من المستغرب أن يعلن الجنرال جون آلن، المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف الدولي لمحاربة داعش، استقالته مؤخراً؛ حيث إن كونه مسؤولاً عن مهزلة يُعد أمراً سيئاً بما يكفي، ولا يقبل أي شخص أن يكون مجرد واجهة لعملية احتيال”.

تحالف جديد

والأسوأ من ذلك، من وجهة نظر نيويورك تايمز، أنه في سياق الإطار الإقليمي الواسع، يعني إذعان الولايات المتحدة لهذه المبادرة الروسية تسوية مع إعادة تشكيل كبرى للنظام الإستراتيجي للشرق الأوسط. ومن الواضح أن موسكو تحاول إنجاز خلق تحالف قوي مع إيران والعراق وحزب الله و”سوريا الصغرى” وآخرون. ولضمان تأمين هذا الاتفاق الجديد، روسيا على استعداد للمخاطرة ليس فقط بالمواجهة مع الغرب، ولكن أيضاً بالعلاقات التي تحسنت مؤخراً مع قوى إقليمية أخرى مثل تركيا والسعودية.

وتؤكد الصحيفة على أنه لا يوجد سبب وجيه يلزم واشنطن للموافقة على أيا من ذلك؛ لاسيما أن روسيا من الناحية العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية في مرتبة أقل بشكل واضح من الولايات المتحدة، بيد أن الأمر لم يعد يتوقف على “القدرات”، وإنما يتوقف على “الإرادة”.

من الناحية النظرية، روسيا ليست في وضع يسمح لها بالتدخل وإقحام نفسها في الشرق الأوسط والعالم، ولكن بعد تدخلها في أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم وكارثة الأسلحة الكيميائية، فإن الحكم على بوتين كان صحيحاً في أنه لن يوقفه أحد.

دهاء بوتين

وتستخلص الصحيفة: “يمتلك بوتين ما يكفي من الدهاء لإدراك أنه بالفعل يتحمل ما يفوق طاقته، ويواجه العديد من المآزق المحتملة، وعلاوة على ذلك لديه اختلافات أساسية مع حلفاؤه مثل إيران، ومن ثم فإنه على استعداد في أي لحظة لأن يحصد مكاسبه ويقوم بإبرام صفقة مع الأمريكيين، بعد أن يكون حقق موقعاً متميزاً بالفعل”.

والسؤال المتبقي، كما تطرح نيويورك تايمز في نهاية افتتاحيتها، هو: “إلى أي مدى سيتم السماح لبوتين بتحقيق هدفه؟” في الوقت الراهن يبدو أن الإجابة المذهلة على هذا التساؤل هي: “لا أحد يعترض طريقه”.

24 – إعداد- مروة هاشم

نيويورك تايمز: 21/10/2015