مراجعة كتاب «الوجه المظلم لليبرالية (النخبوية ضد الديمقراطية)»

1469
0

مراجعة: مناف الحمد

وحدة مراجعات الكتبمراجعة: مناف الحمد

الكتاب: الوجه المظلم لليبرالية (النخبوية ضد الديمقراطية).

تأليف: روبرت هولينغر

الناشر: برايغر للنشر

مكان النشر: كاليفورنيا/ الولايات المتحدة الأميركية

تاريخ النشر: 1996

 

روبرت هولينغر: أستاذ مشارك في الفلسفة في جامعة ولاية أيوا. له عدد من المؤلفات منها: “ما بعد الحداثة والعلوم الاجتماعية”، “البراغماتية: من التطورية إلى ما بعد الحداثة”.

 

 

المحتويات

القسم الأول “فصول في تاريخ الليبرالية الحديثة”

الفصل الأول: الليبرالية والفلسفة

الفصل الثاني:الليبرالية والعلوم الاجتماعية؛ فيبر ودوركهايم

الفصل الثالث: الليبرالية الأميركية؛ توجهات دوركهايمية

الفصل الرابع: الليبرالية الأميركية؛ اتجاهات فيبرية

القسم الثاني “التطورات الأخيرة في الليبرالية”

الفصل الخامس: ليبرالية رورتي البراغماتية، بين مل وفيبر

الفصل السادس: الليبرالية والديمقراطية التشاركية

الخطوة الأولى

الخطوة الثانية

الخطوة الثالثة

الخطوة الرابعة

الخطوة الخامسة

الخطوة السادسة

القسم الثالث “موضوعات ليبرالية”

الفصل السابع: الليبرالية والنخبوية تحت المجهر

الفصل الثامن: الليبرالية، العلم، المجتمع

الفصل التاسع: الليبرالية، الثقافة والتعليم

القسم الرابع “تطورات حالية”

الفصل العاشر: عن الليبرالية، الديمقراطية، والنخبوية اليوم

الفصل الحادي عشر: عن الديمقراطية، الثقافة، والتعليم اليوم

خاتمة

 

يضيء كتاب “الوجه المظلم لليبرالية” بعدًا بالغ الأهمية من أبعاد الليبرالية، يقول: إنه رافقه منذ بداياتها، وهو البعد النخبويّ الذي يجعل -في رأيه- التوفيق بينها، وبين الديمقراطية تلفيقًا؛ لأن الاستعلاء على الجماهير، وفقد الثقة بها لا يمكن أن ينسجما مع جوهر الديمقراطية، وهو يعزو كثيرًا من المظاهر السلبية في المجتمع الأميركي إلى هذا المزج بين متنافرين، ولكنه يؤكد إمكان فضّ التنازع بين الليبرالية والديمقراطية، إذا تخلّت الأولى عن نخبويتها، وإذا كان المقصود بالديمقراطية ثقافة تتغلغل في مفاصل الحياة كلها.

في مقدمة الكتاب بعنوان: “الليبرالية، الديمقراطية، والنخبوية” يعرض الكاتب نقد اليسار الأكثر شيوعًا للديمقراطية الليبرالية الذي يركز على عناصر الفردية الاقتصادية، والرأسمالية، والنخبوية التي لن ينتج بوجودها إلا ديمقراطية هزيلة يقتصر حضورها على نطاق ضيق من الحياة السياسية.

ويعرض نقد اليمين المحافظ الذي يحاول أن يجد بديلًا لهذه الديمقراطية التي تنقصها القيود الواجب فرضها في المجالات الثقافية، والاجتماعية، والأخلاقية.

ويشير الكاتب في المقدمة إلى نوع من الليبرالية نتج من هذا المزج بين الليبرالية، والأفكار المحافظة، يطلق عليه اسم “الليبرالية الأرستقراطية” التي تدمج قيم الحرية، والتنوع، والتحكم الذاتي العقلاني بفضائل التقليد الجمهوريّ المدينيّ، وصورة من ديمقراطية تمثيلية تتحرك بين حدّي الاشتراكية، وحكم الأرستقراطية المحافظة. ويؤكد الكاتب أن النخبوية الليبرالية الأرستقراطية سمة تقاسمها الليبراليون في نطاق واسع.

يُرجع الكاتب العلاقة بين النخبوية الليبرالية والنخبوية الديمقراطية إلى شومبيتر([1]) في كتابه: ” الرأسمالية، الاشتراكية، الديمقراطية” الذي يقول فيه: إن الديمقراطية تستند إلى افتراضات لا واقعية؛ لأن الواقعي السياسي يعتقد أن الناس معظمهم غير عقلانيين، ولا قدرة لهم على تبنّي أحكام عقلانية في القضايا العامة.

وما يلزم عن فكرة شومبيتر هذه -في رأي الكاتب- هو تحويل المشاركة الديمقراطية إلى محض تصويت لنخب متنافسات.

وأن تصل الديمقراطية إلى هذا الدرك هو عاقبة تجد أساسها في المساواة بين الديمقراطية، وحكم الغوغاء.

يشير الكاتب في المقدمة إلى رفضه هذه الرؤية، ويؤكد تأييده لفكرة “جون ديوي” عن ضرورة انتشار الثقافة الديمقراطية في فضاءات الحياة كلها. ويعرض أفكارًا متنوعة معادية للديمقراطية التشاركية، منها أن حكم الأغلبية استبداد، وهو يفند هذا الرأي بالقول؛ إن من جوهر الديمقراطية التشاركية حرصها على تحقيق التوازنات لحماية الأقليات. ومنها أن الناس العاديين لا يستطيعون تبنّيَ أحكام موضوعية؛ لأن التحيز يغلب على مواقفهم، وهو ما يردّ عليه الكاتب بأنه إذا كانت نتيجة الحوار الديمقراطي قرارات يراها المرء سيئة، فإن الحلّ الوحيد هو إبقاء الحوار مفتوحًا؛ لكي يتمكن من يعدّ القرارات سيئة من تعديلها، وإلا فإن بديل إغلاق الحوار هو النخبوية، والتسلطية.

ويجزم الكاتب في نهاية مقدمته أنه يرفض النخبوية الليبرالية الديمقراطية، ويرفض الشعبوية، وأنه يدافع عن ديمقراطية كلاسيكية، لكن مع تطعيمها برؤى ما بعد حداثية، إضافة إلى عناصر من الليبرالية، والنسوية، والاشتراكية الديمقراطية التي يمكن أن تُنسج في نظرية ديمقراطية ما بعد حداثية.

 

القسم الأول “فصول في تاريخ الليبرالية الحديثة”

ويتضمن أربعة فصول

 

 الفصل الأول: الليبرالية والفلسفة

وفيه تشديد كبير على رؤية “جون ستيوارت مل” الذي يؤسس -في نظر الكاتب- فكرة ضرورة وجود قائد من نخبة مثقفة يقود الجماهير.

ومن خلال حجج “مل” التي يسوقها؛ لإثبات تصوره عن الديمقراطية يقول: إنه لا يرفضها بشرط أن تكون حكومة نخبة يستنبط الكاتب ما يدعوه معضلة الليبرالية التي تقع بين حدّي النخبوية، والديمقراطية.

ويقول الكاتب إن “مل” متأثر بـ “كانط” شريكه في تأسيس الليبرالية الحديثة، فعلى الرغم من اختلافهما في نواح عدة؛ إذ كان عند كل منهما إبستمولوجية مختلفة، ومفهوم مختلف للأخلاق مختلف، وقد اختلفا في تصورهما عن العلاقة بين العلم والأخلاق، فالقاسم المشترك بينهما هو غياب الثقة بالديمقراطية الحقيقية.

“كانط” تنبأ بـ “مل” في تطوير الأخير كراهية لليبرالية الديمقراطية التشاركية بدفاع “كانط “عن ديمقراطية ضعيفة لنخبة فكرية. وقد استشرف “مل” “دوركهايم” و”فيبر”؛ فليبرالية “مل” يمكن العثور عليها في خليط غير متجانس في كتابات “دوركهايم” و”فيبر” التي تُفاقم التوتر بين الليبرالية والديمقراطية ويحاول “مل” أن يوازنها.

ويطرح الكاتب سؤالًا: هل ينبغي النظر إلى الديمقراطية بوصفها محض وسيلة لتعزيز الليبرالية أم العكس؟.

والجواب الذي يعثر عليه الكاتب عند “كانط” و”هايك”([2]) هو أن الأولوية لليبرالية، والسبب هو غياب الثقة بالجماهير، والتقاليد، والحسّ العام، ومنح الثقة كاملة للعلم، والمنهج التجريبي.

ومثال الكاتب الأبرز على هذا التوجه هو “رسل” الذي يقرن الليبرالية بالتجريبية، ويصف الليبراليّ الحقيقيّ بأنه الشخص الذي لا يقول: إن هذا صحيح، وإنما يقول: (أنا أميل الى الظن أنه في ظل الظروف الراهنة يرجح أن يكون هذا الرأي هو الأفضل)، وإذا دافع عن الديمقراطية، فإنه سيدافع عنها بهذا المنطق غير الدوغمائي.

إن جوهر الرؤية الليبرالية لا يكمن في سؤال: ما الآراء المتبناة؟ وإنما في سؤال: “كيف تتُبنى الآراء”؛ لأن الآراء تُتبنّى موقتًا، ولا تُتبنّى عقائديا بصورة نهائية، فإذا ما طرأ دليل جديد يفندها ينبغي التنازل عنها، وهو الطريق نفسه الذي تُتبنى فيه الآراء في العلم، وبناء على رؤية “رسل” هذه، فإن الليبرالية ليست مرتبطة بأي مذهب سياسي بما فيها الديمقراطية، والتسامح.

إن هذه الرؤية تفضي حتمًا إلى تبنّي أيّ رأي يثبته العلم حتى لو أدى إلى التنازل عن قيم أخرى بما فيها الديمقراطية. وهنا جذر معضلة الليبرالية في نظر الكاتب؛ لأن الليبرالية إذا كانت رؤية علمية مطبّقة على السياسة، فإنها يمكن أن تشجب القيم، والممارسات الديمقراطية إذا أثبت العلم عوارها، وفواتها.

ويقترح الكاتب دفاعًا عن ديمقراطية مستقلة عن الليبرالية كما فعل “جون ديوي” الذي أراد أن يسوغ الديمقراطية تسويغًا فلسفيًّا، وأكد أن الأعضاء المتعلمين جميعهم في الديمقراطية قادرون على رأب الهوة بين النخبوية الليبرالية، والديمقراطية.

 

الفصل الثاني:الليبرالية والعلوم الاجتماعية؛ فيبر ودوركهايم

في هذا الفصل يسلط الكاتب الضوء على ليبرالية “فيبر” التي ذكر سابقًا أنها متأثرة بالرؤية الكانطية والرؤية الملية (نسبة إلى مل)، وهو يقول: إن الخلاف في مدى دقة وصف فيبر بالليبرالي خلاف ما يزال قائمًا، وأحد الأسباب الرئيسة لهذا الخلاف، هو معاداة “فيبر” للديمقراطية بالصراحة كلها، باستثناء سماحه للناس بالتصويت لقادتهم، أما بعد ذلك فعلى الناس أن يطيعوا.

فهي ديمقراطية لا تمثل إلا وسيلة لتحقيق أهداف أخر ضروريات، وأهمها نشر سلطة البيرقراطية، ووضع الأفراد في قفص حديديّ، يسعون لتحقيق قيمهم الشخصية، وخيارات حيواتهم ضمن حدوده.

والخلاف -في رأي الكاتب- لا موضوع له؛ لأن المشككين في ليبراليته إنما يشككون فيها بسبب موقفه المعادي للديمقراطية التشاركية، وهو موقف لا يقف على طرف نقيض من الليبرالية -في نظر الكاتب-؛ فيمكن للمرء أن يكون ليبراليًّا غير ديمقراطيّ.

وفيبر نخبوي صريح؛ فهو يدعو إلى حكومة نخبة محترفة نيتشوية أرستقراطية. ويرفض التفسير الفلسفي لليبرالية، ويقصرها على عالم السياسة؛ لذلك فهي مرتبطة لديه -بطريقة ما- بالبراغماتية؛ ولهذا يمكن أن يوصف بـ “الليبراليّ البراغماتيّ”، وسمات ليبراليته البراغماتية: -رغبته بالمحافظة على النيتشيوية العدمية الأرستقراطية، وهو -في نظر الكاتب- تأثر بشكلانية كانط، وارتباط بالادعاء أن القيم العامة ذاتية، بعد أن عرّتْ إرادة الحقيقة النيتشوية عالم القيم والمعنى. وبسبب براغماتيته يقول الكاتب: إن نسخة “رورتي”([3]) من الليبرالية تكشف تأثرًا كبيرًا بفيبر.

إن أنموذج الديمقراطية الذي ينادي به فيبر، إنما يتحقق بالتنازل عن قيم الديمقراطية التشاركية لمصلحة نوع من الطرح الكانطي عن حيادية الدولة الأخلاقية. والتعددية التي ينادي بها تبعده أيضًا عن الديمقراطية؛ لأنها مشروطة بالمحافظة على القيم الليبرالية البروتستانتية، والعدمية الأرستقراطية لـ “نيتشه”، وأخلاقيات المسؤولية، ولا يتحقق هذا إلا بالتنازل عن الديمقراطية التشاركية الحقيقية.

إن وظيفة الديمقراطية -لدى فيبر- شرعنة السلطة بواسطة التصويت، والهدف الآخر هو تحرير الناس من هيمنة بعضهم بقدر الإمكان، وفي الأحوال كلها فإن هذه الديمقراطية لا يمكن أن تحقق أهدافها، وتنسجم مع المجتمع الحديث إلا إذا اندمجت مع سمات بيروقراطية حديثة.

أما جذر رومانسية الليبرالية الفيبرية، فهو كامن في مطالبة فيبر كلّ شخص منسجم مع القفص الحديدي بأن يلزم نفسه بقيم، ومثل، وخيارات حياة حددها لنفسه، وأن يتمسك بها مهما حدث.

وهذه الرومانسية الفيبرية تنطوي على مطالبة بفصل فضاءات الثقافة، الفنّ، والعلم، والأخلاق، وهو فصل يعمد الليبراليون اللاحقون إلى تبنّيه؛ لتكريس الفصل بين المعرفة، والقيم، وبين الخاص، والعام.

هذه السمات لليبرالية الفيبرية يقول الكاتب: إنها استهلال لأطروحة نهاية الأيديولوجيا.

في الفصل نفسه يعرض الكاتب تأويله لليبرالية دوركهايم، وهي رؤية تستمد عناصرها من الأساس الذي تستند إليه الفلسفة الدوركهايمية، وهي رؤية المجتمع كائنًا عضويًّا، أجزاؤه مترابطة وظيفيًّا، فيصبح عالم الروح الموضوعيّ الهيغليّ عالم الحقائق الاجتماعية، والقوانين الاجتماعية التي يمكن اكتشافها تجريبيًّا من خلال استثمار مناهج مل، وإحصاءاته.

والفكرة الرئيسة الثانية عند دوركهايم هي أن المجتمع يتطور باتجاه صورة من التضامن الاجتماعي الذي يسميه التضامن العضويّ. وتتضمن رؤية دوركهايم رفضًا لنظرية الفعل الفيبرية، ومحاولة الاستبدال بها حتمية اجتماعية تحكم تطوّر المجتمع.

الدولة الحديثة -بحسب دوركهايم- سوف تتطور إلى كائن عضوي تركب فيه الفردية مع صورة جديدة من الوعي الجمعي. ضمن هذا الكائن العضوي تصبح كل مهنة عضوًا من كلٍّ يعمل باستقلال نسبيّ، وعندما ينجز كلُّ عضو مهمته، ستكون النتيجة صورة من صور التضامن القوميّ.

وبينما تدافع ليبرالية دوركهايم عن قيم الاستقلال، والكرامة، والمساواة، فإنها في الوقت نفسه، تستمد من التقليد الألماني عدّ الفردية اجتماعية، ومتطورة في سياق اجتماعيّ.

أما الأهم في حديث الكاتب عن دوركهايم في ما يتعلق بموضوعه الأساس، فهو نخبوية دوركهايم؛ فهو لم يكن يثق بالجماهير، وكان يردد كلام روسو عن ضرورة إجبار الناس على أن يكونوا أحرارًا عندما تتعارض إرادتهم الفردية مع الإرادة العامة.

فلا يكون الفرد حرًّا إلا عندما يكون تحت سيطرة عقلانية، ويكون شاذًّا عندما يكون خارج الضمير الجمعيّ، وفي محاولة التوفيق بين الاستقلال الذاتيّ المأخوذ من كانط، والحتمية الاجتماعية يعمد دوركهايم إلى الاستناد إلى سلطة الدولة، ونخبة المجتمع المهنيّة.

أما ديمقراطية دوركهايم، فهي ليست سوى سلسلة من الترتيبات الرسمية التي تساعد السلطة في المحافظة على النظام بخصائصه البنيوية التي يتطلبها التقسيم الحديث للعمل. وهي رؤية للديمقراطية تستبطن تصورًا لدولة تدار إدارة كاملة من النخبة. إن الليبرالية الدوركهايمية -في رأي الكاتب- لا يمكن أن تصان إلا بالابتعاد عن الديمقراطية.

يلخص الكاتب النقاط الأساس لليبرالية فيبر ودوركهايم، ويخلص إلى أن الأول قدّم وصفة للانسحاب من الفضاء العام؛ لأن ليبراليته مفصولة عن الديمقراطية؛ ولأن القيم في نظره ذاتية، وتأكيده ضرورة النخبوية. أما دوركهايم فقد دفع بعلم الاجتماع السياسي باتجاه دولة إدارية تجسد حقائق اجتماعية موضوعية.

 

الفصل الثالث: الليبرالية الأميركية؛ توجهات دوركهايمية

في هذا الفصل يسرد الكاتب تاريخًا من التطورات التي مرّت بالولايات المتحدة الأميركية، وصبغت ليبراليتها بالصبغة الدوركهايمية. فقد بدأت الحداثة في أميركا في عام 1890، وتجسّدت بالانتقال من ليبرالية ملية (مل)، ورأسمالية “دعه يعمل” لمصلحة ليبرالية الشركات.

وتحقيب التطورات بعد ذلك يبدأ بالحركة الإنجيلية التي أسسها جدّ رورتي لأمه، وتبنتها نخبة أميركية بروتستانتية، وقد ارتبط توجهها بالطابع المهنيّ للعلوم الإنسانية، ونموّ مهن الخدمة الاجتماعية. ومن ثمّ تأسيس ديوي وزميل من زملائه الجمعية الأميركية لأساتذة الجامعات التي رسمت حدود الاختلاف بين الخبراء حول الوسائل فحسب، وليس الغايات. وارتبطت هذه الحوادث بظهور الجامعة الأميركية الحديثة، ونموّ الاحترافية.

ويشير الكاتب إلى ظهور أدبيات أسهمت في وسم الليبرالية الأميركية بالسمة الدوركهايمية، ومن ضمنها كتابات تؤكد مفهومات الكفاءة والارتقاء. وقد أفضت هذه التغيرات إلى تأكيد أن الديمقراطية لا يمكن أن تتقدم إلا بوساطة نخبة من العلماء، والتكنوقراط.

سيطرت البيروقراطية على الجامعات الأميركية الجديدة، وقد كرّست هذه البيروقراطية مفهوم الاحتراف في الجامعات، الدور الذي لا يمكن إغفال دور اعتقاد “فبلن”([4]) في تأكيده وهو اعتقاد فحواه: أن المهندس الحديث يمكن أن يحرك البلد إلى الأمام باتجاه يوتوبيا تكنولوجية.

يقول الكاتب: إن ثمة صراعًا نشب بين الاحترافية، والديمقراطية؛ لأن الاحترافية تتطلب نخبة معرفة تمتلك سلطة ما، وقد انتصرت النخبوية على الديمقراطية بعد علاقة تخلّلها الحب، والكره بين المؤسسة العلمية، والديمقراطية -ويؤكد الكاتب- مقتبسًا من أحد الباحثين.

إن هذا التوتر بين الاحترافية، والديمقراطية انتهى بانتصار للنخبوية –بحسب ما يقول الكاتب- انتصار تمثّل في فصل المهنيين الاحترافيين عن الأكثرية؛ الأمر الذي أدّى الى إنقاص حوافز المشاركة الديمقراطية.

وقد فقد مفكرون كثيرون الثقة بالجماهير بعد الحرب العالمية الأولى، وهو فقد للثقة بالديمقراطية بالضرورة، وتماهت روح الإصلاح لديهم مع ذهنية نخبوية عُدّت تجسيدًا لفكرة فيبر عن القائد الكاريزمي القوي.

وقد أكد “ليبمان”([5]) فكرة نخبة متعلمة؛ من أجل خير ديمقراطي مشترك، ولكنها ديمقراطية في حدّها الأدنى مثل ديمقراطية مل، وفيبر، ودوركهايم؛ لأن الجماهير عاجزة عن حكم نفسها. ويشير الكاتب أيضًا إلى تأثير حركة الإدارة العلمية لـ “تايلور” التي انبثقت منها قوى تؤكد مفهوم الجدارة.

ولكي لا يفهم خطأ نية كلٍّ من تايلور، وفيبلن يشير الكاتب إلى أنهما لم يريدا أن يضعا المهندسين الاجتماعيين في خدمة رأسمالية الشركات، وإنما في خدمة الخير العام، ولكن نياتهما الحسنة لم تجدِ نفعًا.

قدمت الحرب العالمية الأولى فرصة لتكريس دور النخبة العلمية، وإبعادها عن الطموحات الديمقراطية؛ فقد صار للعلماء حظوة لدى الحكومة الفدرالية التي أصبحت لا تطلب إلا بحوثًا علمية عملية.

الحدث المرافق هو تطور علم النفس الصناعيّ، وفروع علم النفس التطبيقيّ الذي يعد تطبيقًا لـ “الداروينية الاجتماعية”، وهو يساعد العمال؛ لكي يصبحوا أكثر فاعلية وكفاية.

وفي علم الاجتماع أُسّس مجلس البحث العلمي الاجتماعي عام 1923، وكان يهدف إلى جعل علم الاجتماع أكثر موضوعية.

من الشخصيات البارزة التي يشير الكاتب إلى مشاركتها الفاعلة في هذه التطورات باتجاه ليبرالية دوركهايمية هو “تشارلز ميريام”([6]) الذي استطاع أن يدمج فكرة علم السياسة لـ دوركهايم مع مهنة السياسة لـ فيبر، وطوّر مع زملائه فكرة الديمقراطية بوصفها إطارًا تنظيميًا مضبوطًا بوساطة نخبة من الخبراء مع حدّ أدنى من السيادة الشعبية.

وقد تابع أحد أبرز طلاب ميريام وهو هارولد لاسويل([7]) طريق أستاذه، فطالب بإدخال تقنيات فرويدية؛ من أجل تحقيق السيطرة الاجتماعية، والتكيف. وقد أصبح هارولد علمًا من أعلام الواقعية السياسية الفيبرية.

حاول هربرت ميد ([8]) وديوي من مدرسة شيكاغو أن يقدما مقاربات هيرمينوطيقية للعلم الاجتماعي، والتفاعل الإنساني بمثل التفاعلية الرمزية لـ ميد؛ إذ فضّل ميد التفاعل الإنسانيّ وسيلةً للتحليل السياسيّ، والثقافيّ، والاجتماعي، وللفعل أيضًا. طالب أيضًا زميله ديوي الذي ينتهج النهج نفسه بمزيد من الديمقراطية حلًّا لعيوب الديمقراطية.

يفسر الكاتب ظاهرة ضعف قدرة الحركات الإصلاحية الراديكالية على التجذّر في الولايات المتحدة بأن الولايات المتحدة مُحافظة، ولم تمرّ بالتاريخ الاجتماعيّ الذي ولّد الحركات الراديكالية في أوروبا. ولذلك ظلت محكومة بتوافق ليبراليّ، وظلّ الخلاف حول الوسائل، لا الغايات؛ الأمر الذي جعل الخبراء الاحترافيين أقل إصلاحية.

إن نتائج النخبوية؛ أن النقد المقبول الوحيد للمجتمع هو نقد الأكاديميين، وهو نقد متمحور حول مسائل متعلقة بخلافات تجريبية بين الخبراء، فهم كائنات متفوقة أخلاقية، وهي رؤية مدعومة بأخلاقيات طبيعية ملية، ودوركهايمية، أو برؤية فيبرية عن امتلاك السياسيّ، والأكاديميّ فضائل أخلاقية لا يملكها غيرهما بالقدر نفسه.

ومن النتائج عدّ المعرفة الأمر الوحيد المهمّ؛ فهي التي ستزود العلماء، والقادة، والمستشارين السياسيين بالقدرة على تغيير عقول الناس، وتغيير أفعالهم من خلال الضبط الاجتماعيّ والتكيف. والأشخاص الذين لا يتقبلون التعديلات سيحكم عليهم بأنهم ليسوا أخلاقيين.

أما النتيجة اللافتة للنظر، فهي التي جاءت على لسان هنتغتون، وغيره وفحواها: أن البلاد ستكون أفضل من دون مزيد من الديمقراطية. إن أميركا؛ نتيجة للتطورات السابقة هي -في نظر الكاتب-: قصة ذهنية النخبة الإدارية التكنوقراطية، وهي الثورة الإدارية، والشراكة بين الحكومة والشركات والجامعات. هي التفاوت المتزايد بين الخبراء، وأغلبية الناس، والهيمنة المتزايدة للوضعية في البحث، والعلوم السياسية والتطبيقيّة، وانخراط العلماء الاجتماعيين في المؤسسة العلم القوميّ، والوكالات المتحالفة معها بما فيها وكالة الاستخبارات المركزية. ورفضهم أن يكونوا خاضعين لتحكم سياسيّ من جانب الشعب، ومن ينتخبه، وتشديدهم على نهاية الأيديولوجيا، والتفاؤل في مواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية.

كلّ ما سبق تآمر؛ لتبرير رؤية التكنوقراط في ما يتعلق بالديمقراطية الأميركية.

ويُلاحظ أن الكاتب معجب بالرؤية الديوية التي يضعها في مواجهة الرؤية النخبوية، فديوي لم يرفض وجود طبقة الخبراء، ولكنه كان يري ضرورة إقصائها عن المصلحة العامة، وضرورة أن يقتصر عملها على اختصاصاتها التي تلبّي حاجات للناس يُعلمونهم بها، وكان يرى أن الطريق إلى التفاعل بين الناس والخبراء إنما يكون بتحسين سبل الحوار والإقناع، وأن أداة ذلك تكليف الخبراء بمهمة استقصاء حاجات الناس؛ لمعرفة حاجاتهم، ونشر نتائج عمليات الاستقصاء.

يظن الكاتب أن رؤية ديوي ما تزال منطوية على إمكانات قابلة للاستثمار؛ لأنه حاول أن يسخّر التكنولوجيا، والعلم لغايات مساواتيه اجتماعية، بدلًا من مصالح نخبوية خاصة. وديوي؛ لأجل ذلك متقدم على كانط ومل وفيبر ودوركهايم، بقدر رفضه تجاوزات النخبوية، والرومانسية، والعلموية، ومنحه ولاءه للديمقراطية بوصفها طريقة حياة.

ويعزو الكاتب فشل الرؤية الديوية لا إلى قصور سياسي، أو فلسفي، وإنما إلى أسباب أخر، منها: الحرب العالمية الثانية، وعقابيلها، والحرب الباردة، والمكارثية، وهيمنة الوضعية، والسلوكية على الفضاء الأكاديمي.

 

الفصل الرابع: الليبرالية الأميركية؛ اتجاهات فيبرية

يقول الكاتب في بداية هذا الفصل: إن ليبرالية فيبر قد وسمت الليبرالية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، فمفهوم فيبر للسياسة، وفصله الحادّ بين القيمة والواقع مع تأكيده الحاجة إلى خبراء مستشارين تنفيذيين، ودعوته إلى الأخلاقيات البروتستانتية، وبراغماتيته هي العناصر الماهويّة لليبرالية ما بعد الحرب.

وأهم تنويع من تنويعات الليبرالية الأميركية ذات الاتجاهات الفيبرية، هو ليبرالية مجموعات المصالح التي تشدد على أنموذج الصراع في المجتمع، وتعدّ الإجماع الديمقراطيّ نتيجة صفقة بين مجموعات المصالح. وهي الفكرة التي استثمرها روبرت دال([9]) الذي دعا إلى تنافس بين النخب أسماها بولياركية([10]) تُختار من خلالها الجماهير نخبها التي تسيطر على الفضاء السياسيّ.

الخطر الماثل الذي يحذر منه الكاتب في رؤى كهذه؛ أنها تفضي إلى ديمقراطية تجريبية ليست إلا نظامًا غايته تنظيمية، كما هو الحال في رؤية دوركهايم، أو أداة لإنجاز مثل ليبرالية معينة بمثل الحرية الفردية، مثل ما هو الحال لدى فيبر.

تصبح الديمقراطية إذا كان محمولها تجريبيًّا قابلة للتخلّي عنها إذا سوغ ذلك دليل تجريبيّ في الحالة الأولى، وتصبح مقتصرة على حدّ أدنى من الإجراءات التي تفضي إلى تحقيق مثل ليبرالية في الحالة الثانية؛ ما يمكن أن يؤدي إلى انسجامها مع ممارسات غير ديمقراطية.

ومن أدلة ذلك مطالبة بعض قادة الشركات في المجتمع ما بعد الصناعيّ بتقليص الخصوصية على أساس أن كلّ شيء يفعله الناس في النظام الجديد ذو صلة بأدائهم الوظيفي، ومن ثمّ بالمصلحة العامة. وهو توجه يمكن أن يفضي إلى البحث عن توازن ديناميّ للنظام، ولكن بطرائق غير عادلة.

ويدرج الكاتب رؤية هنتغتون للديمقراطية في حدودها الدنيا ضمن هذه الرؤية للديمقراطية التجريبية. ويحذّر من هذا التوجه تحذيرًا مشفوعًا بدعوة إلى إحياء تعريف ديوي للديمقراطية بوصفه منهج حياة، قيمة جوهرية، وإلا فإن المشاركة الديمقراطية، والقيم الليبرالية ستكون في خطر.

ومن ضمن النماذج التي يحذر الكاتب من تغلغلها نموذج “دانيال بل”([11]) الذي يعدّه أحد مهندسي الليبرالية الجديدة، ويمزج ليبرالية ملية، مع رأسمالية سوق، مع إيمان دوركهايمي، أو بطريقة أخرى يجمع تنفيذية فيبرية، مع نخبة معرفة دوركهايمية من بيروقراط وتقنيين.

ويفترض “بل” أن المجتمع الذي يكون أعضاؤه أعضاء نخبة معرفة سوف يتحرك باتجاه مجتمع دوركهايميّ تنتج فيه التعددية تعاونًا لا صراعًا.

إن الليبراليين الجدد الذي يحذون حذو “بل” يساوون بين الليبرالية، واقتصاد السوق، وسياسات الكفاءة البراغماتية. ويقول الكاتب: إن هذه الرؤية يتردد صداها في طروحة “نهاية التاريخ” لـ فوكو ياما الذي يدعي أن الليبرالية قد انتصرت، وأن الاشتراكية قد ماتت، وأن العالم ما بعد الصناعي هو العالم الذي تسود فيه صيانة حقوق الإنسان.

لا يرى الكاتب تجليات هذا النصر المدعى لهذه الليبرالية إلا في الشكل الأكثر شراسة من الداروينية الاجتماعية، وهيمنة الشركات، واليمين المتطرف، ويقول: إذا كان النصر هكذا، فإنه يرتعد خوفًا من التفكير في الهزيمة.

إن هذا الانتصار خيانة للديمقراطية الأميركية، وتنكّر لكثير من التقليد الليبرالي؛ لأنه يأتي بعد إزالة أي انتقاد جذريّ، أو غير جذريّ غير متوافق مع مشروع نخبويّ ليبراليّ.

 

القسم الثاني “التطورات الأخيرة في الليبرالية”

يتضمن فصلين

 

الفصل الخامس: ليبرالية رورتي البراغماتية، بين مل وفيبر

يبدأ الكاتب الفصل بشرح مسهب لليبرالية رورتي الذي يدافع عن ليبرالية برجوازية، ما بعد حداثية، جذرها فلسفة براغماتية تؤسس لمجتمع ليبراليّ ذي سمة مركزية إثنية، وتاريخية لا مكان فيه لسرديات كبريات، ولا نظريات حول الطبيعة البشرية، ولا للمثيولوجيا.

ويؤكد رورتي أن ليبرالية مل صاحبة الكلمة الأخيرة في طبيعة النظام السياسي المنشود. وأن الشعراء، والثوريين الحالمين يجب أن يخترعوا مفردات جديدة؛ لكسر قشرة التقاليد. وأن نقد اليسار للمجتمع ضروري.

ومن الأسئلة الموجهة لرورتي:

ألا يمكن للثوريين الذين يصنعون المفردات الجديدة النهائية أن يقصوا ليبرالية مل، ويضعوها جانبًا؟

ألا يمكن للنقد اليساري الذي يعدّه ضروريًّا أن يجعل ليبرالية مل موضع شك؟

إن النسخة الرورتية تؤكد الفصل بين العام والخاص الذي أكده مل، ولكن من دون الاستناد إلى حقوق طبيعية، ولا إلى نظرية حول الطبيعة البشرية بمثل ما فعل الأخير؛ لأنه لا وجود لدى رورتي لهذه النظرية، وإنما يجد رورتي مستنده لدى فيبر.

فاستراتيجية رورتي – فيبر التي تؤسس لليبرالية من دون فلسفة تستند إلى أمل أن التكنوقراط، والبيروقراط، والقادة السياسيين سوف يبذلون جهدهم؛ لتعزيز الغايات النفعية بينما يذرون الناس، وشأنَهم في الفضاء الخاص.

إن الاستراتيجية الفيبرية التي يتبنّاها رورتي كان لها أثر في تقليص الديمقراطية الحقيقية، وتعزيز السياسات النخبوية، وزيادة الانسحاب السياسيّ.

فمن أجل المحافظة على الليبرالية السياسية ينبغي أن نتخلّى عن الديمقراطية التشاركية؛ لأن هذه الديمقراطية من النمط الديويّ تهدد الخصوصية الرومانسية.

وعندما يحاول رورتي الهرب من قفص فيبر الحديدي، فإنه يفعل ذلك عن طريق اللجوء إلى عالم الخيال، والتأكيد أنه ليس على المرء إلا أن يقوم بواجبه في الحدّ الأدنى، وألا يكون قاسيًا في المشاركة العامة.

إن استراتيجية رورتي هذه -في نظر الكاتب- ليست سوى هزيمة سياسية، واستراتيجيته المستمَّدة عناصرها معظمها من فيبر محاولة لتشكيل تحالف بين فكرتين متعارضتين: الخيال الرومانسيّ، والسلطة التكنولوجية. إن رؤية رورتي تبرّر ديمقراطية إجرائية نحيفة.

 

الفصل السادس: الليبرالية والديمقراطية التشاركية

يحاول الكاتب في هذا الفصل أن يجيب عن سؤال فحواه: هل يمكن العثور على توافق بين التقليد الليبراليّ، الحديث، والديمقراطية؟

يرى الكاتب هذا السؤال بالغ الأهمية؛ لأن الفكر الليبرالي الحديث، والممارسة الليبرالية تقوّضان الديمقراطية التشاركية، لأنهما يقومان على فقد الثقة بالناس، ولكنّ هذا لا يعني أن ثمة خلافات مفهوماتية بين الليبرالية، والديمقراطية.

والسبيل المؤدي إلى استخراج عناصر من الليبرالية تؤسّس؛ للوصول إلى مزج بينها وبين الديمقراطية؛ هو إما رفض الأبعاد النخبوية، أو تكييفها.

وبمثل عادته يرجع الكاتب إلى ديوي الذي تفهّم الحاجة إلى الخبراء، ولكنه طالب بألا يكون لهم دور حاسم في الحياة العامة.

ولكنه مع استناده إلى رؤية ديوي يرى ضرورة تجاوزها باتجاه أفكار ما بعد حداثية حول الديمقراطية، والحوار، والمجتمع، والتعددية.

ويدعو الكاتب إلى ديمقراطية راديكالية مصطلحًا يعبر عن رؤية تتحرك في هذا الاتجاه؛ ولأجل تطوير نموذج كهذا للديمقراطية يقترح الكاتب مجموعة من الاقتراحات:

-يجب الاستناد إلى رؤية ما بعد حداثية معينة عن الحوار، والفلسفة، والعقلانية، وينبغي تجنّب النخبوية؛ لأن الديمقراطية تتطلب حوارًا وتنافسًا.

-يجب التأسيس لمفهومات الذات، والمجتمع، والتعددية، والعدالة ضمن إطار مفهوماتي يأخذ في الحسبان مناقشات ما بعد الحداثة عن الاختلاف، والآخرية.

-ينبغي فهم المجتمع بوصفه متجذّرًا في الاختلاف، والتعددية، وليس في الوحدة.

-ينبغي تطوير أفكار في السياسة ترفض الأطر الأخلاقية، والمعرفية للفلسفة الحديثة خصوصًا في ما يتعلق بالحقيقة، والكونية، والعقلانية؛ بمعنى ألا تكون متجذّرة في نظرية المعرفة.

ولأجل تحقيق هذه الاقتراحات يضع الكاتب خطوات عدة:

الخطوة الأولى

نزع الأسسية؛ من أجل التأسيس لمجتمع محكم التنظيم بعدّه هدفًا للسياسة الديمقراطية. ولهذه الخطوة المأخوذة أفكار مفتاحية عدة:

1- السياسة مستقلة عن الفلسفة.

2- لا يتقيد الحوار بمعايير فلسفية أو نظريات للحقيقة، والمعرفة، والعقلانية.

3- تهدف السياسة إلى الإجماع في ما يتعلق بقضايا الحاضر.

4- لا يؤدي الخبراء دورًا حاسمًا في الممارسة الديمقراطية.

5- على الرغم من ضرورة الإجماع المتشابك، فإن هذا لا يعني نفي ضرورة شكل للتعددية في الرؤى والأصوات.

6- تنهض السياسة بتأثر حوار، وتفسير مستمر للتاريخ المشترك؛ فالديمقراطية لا تعمل ما لم تؤرخ.

الخطوة الثانية

هي الليبرالية التي تتحرك في اتجاه ما بعد حداثي، والرؤية المفتاحية لهذه الخطوة هي أن مفهوم الحيادية الليبرالية يجب أن يُنحّى لمصلحة مفهوم للحوار أكثر إثارة للجدل.

وأن الديمقراطية لا تكون ممكنة إذا قُيدت بافتراضات إبستمولوجية عن المعرفة، والحقيقة، والعقلانية، والمنهج، ومن شأن هذا أن يُبقي النخبوية تحت السيطرة.

الخطوة الثالثة

ضرورة تبنّي التعددية التي تقتضي قابلية التوافق بين الآراء للتحدي، فهو توافق بين آراء تعاني توترًا دائمًا غير فلسفيّ، وغير إلزاميّ.

الخطوة الرابعة

إعادة التفكير في المجتمع والتعددية، وهي خطوة تتضمن:

1- التعددية اعتراف بالاختلاف ذات منظور إبستمولوجي تحتاج إلى الإبقاء على الآخرية مهما كانت التكلفة، ويشير الكاتب إلى أن كتاب النسوية، والماركسيين الجدد، ودريدا، وليوتارد قد اكتشفوا هذا البعد للتعددية.

2- يجب أن يعاد التفكير في المجتمع؛ لكي يقوم على أساس تنوع الأصوات التي تؤدي إلى هوية الاختلاف.

الخطوة الخامسة

الجمع بين الليبرالية، والماركسية، والنسويّة، وما بعد الحداثيّة، والاشتراكية الديمقراطية من خلال تطوير مفهوم تاريخيّ، براغماتيّ، ما بعد ميتافيزيقي للديمقراطية الراديكالية التي تأخذ أفكار التعددية إلى أبعد حدودها.

الخطوة السادسة

على الرغم من وجود فوارق بين فكرة الديمقراطية الراديكالية، وواقع النظام العالميّ الجديد، ومجتمع ما بعد الصناعة، والسياسات المتوجهة نحو السوق، والتكنوقراطية، فإن المناقشات حول المرونة ما بعد الفوردية التي تقترح ضرورة الديمقراطية في مكان العمل مثلًا، هي مؤشر على مستقبل أفضل للديمقراطية.

يرى الكاتب أن رفض النخبوية، وأخذ الحوار والتفاوض بجدية يجعلان الحوار، والمشاركة إمكانات حقيقية.

 

القسم الثالث “موضوعات ليبرالية”

ويتضمن ثلاثة فصول

 

 الفصل السابع: الليبرالية والنخبوية تحت المجهر

يشدد الكاتب في هذا الفصل على الطرق التي تقوّض بها الليبرالية النخبوية الديمقراطية التشاركية بالدفاع عما يسمى الديمقراطية الهزيلة.

فالديمقراطية تصبح إما وظيفية محايدة أخلاقيًا –مثل ما هو الحال في الدوركهايمية، وليبرالية الشركات- أو أداة لغايات من مثل المحافظة على القيم الليبرالية مثل ما هو الحال لدى فيبر.

ويعرض الكاتب لتوضيح فكرته الرئيسة تلك شرحًا للنخبوية الليبرالية التي تأخذ صورتين:

الصورة الأولى: النخبوية الثقافية، و هي الصورة التي تنتج عن قلق مستحكم من استبداد الأكثرية دفع بـ (كانط) إلى الدفاع عن تنوير ينطلق من القمة إلى القاعدة ، ويمكن العثور عليها لدى مل، وتوكفيل في ليبراليتهما المحافظة، هؤلاء كلهم دعوا إلى طبقة حاكمة لنخبة ثقافية تقع على عاتقها مسؤولية تعليم الجماهير؛ من أجل ما يسمّى “ديمقراطية هزيلة” (وهي ديمقراطية تفسح المجال لمستوى أدنى من المشاركة الديمقراطية، ونظام تصويت يعطي النخبة تمثيلًا أكثر ) إذ تعمل النخبة على تدريب الجماهير على الانصياع إلى ما هو أفضل لهم.

القلق المشار إليه من استبداد الأكثرية ناجم عن قناعة متبنّي هذا النوع من النخبوية بأن الناس معظمهم غير عقلانيين وغير ناضجين، وهو ما يقدمونه تبريرًا لمطالبتهم بالمستوى الأدنى من المشاركة الديمقراطية، ولمطالبتهم بنظام تصويت يعطي النخبة تمثيلًا أكبر.

من نتائج النخبوية الليبرالية بصورتها المذكورة (النخبوية الثقافية) ظهور طروحة نهاية الأيديولوجيا، وإنهاء الحرب على الديمقراطية التشاركية من جانب النيوليبراليين الذين أعلنوا نصرًا عالميّ النطاق لليبرالية. وقد تعولمت الطروحة السابقة بطروحة نهاية التاريخ لـ فوكو ياما، وإن كانت هذه النتائج غير مسبّبة مباشرة من النخبوية الثقافية.

وطروحة نهاية التاريخ تدّعي أن الليبرالية قد انتصرت، وأن الاشتراكية قد ماتت.

وتظهر النخبوية المعولمة في صورتها الفجّة في بناء حائط يفصل بين بشر جديرين بالحياة، وآخرين لا يستحقونها.

في الجانب الأول: توجد الشعوب التي تعيش في دول تتبنّى أنظمتها الديمقراطية الليبرالية، و هو جانب لا أثر للصراعات في دوله، و تهيمن عليه علاقات التفاعل الاقتصادي، أما الجانب الثاني: فتوجد فيه الشعوب التي تتبنى أنظمتها السياسية شكلًا آخر غير الديمقراطية الليبرالية، و هو سيستمرّ في انقساماته، وصراعاته الأيديولوجية، والقومية، والدينية، ولا خلاص لهذه الدول إلا بالالتحاق بركب الديمقراطية الليبرالية، وإلا فإن العلاقة بين الجانبين ستظلّ علاقة يحكمها الحذر، والخوف، وستظلّ الهيمنة الإمبريالية ثابتًا من الثوابت التاريخية، و في تكريس للنخبوية الثقافية يفسّر فوكو ياما عجز أغلب البلدان عن  تبنّي الديمقراطية الليبرالية بالعوامل الثقافية التي تعوق هذا التبنّي، بمثل الانتماء الإثنيّ، والدين، والبنية الاجتماعيّة، وقدرة الجماعة على خلق مجتمع مدني سليم.

هذه العوامل المعوقة للانتقال إلى الديمقراطية الليبرالية -وفقًا لفوكو ياما- تصدر جميعها عن الافتراض الأساس أن اختلاف ثقافات البشر هو الذي يفسّر اختلاف استعدادهم لتبنّي النظام الأكثر عقلانية.

وقد ترافقت هذه النخبوية الثقافية مع ظهور فكرة مجتمع الجماهير خلال القرن التاسع عشر لدى نيتشه، وسبنسر، وآخرين.

مجتمع الجماهير هذا يمثله الشخص المتوسط الذي يمثل محموله هذا خطرًا كفيلًا بتدمير الثقافة العالية. وقد عولجت ظاهرة المجتمع الجماهيري بثلاث رؤى: رؤية محافظة، رؤية راديكالية (ماركسية، اشتراكية ديمقراطية)، رؤية ليبرالية.

بالنسبة إلى أصحاب الرؤية المحافظة: الجماهير خطرة؛ لأنها جاهلة، وغير عقلانية؛ ولهذا فإن من واجب النخبة الثقافية أن تمنع الفوضى، وذلك بتعليم أعضائها الأفكار الأرستقراطية، والدين التقليدي داخل إطار الثقافة العالية؛ بغية المحافظة على الثقافة، وإبقاء البرابرة، والمتخلفين خارج هذا الإطار.

أما الرؤية الراديكالية التي عبرت عنها مدرسة فرانكفورت التي جمع بين كتابها رؤية للمجتمع على أنه لا عقلانيّ، وقمعيّ.

تظهر نخبوية مدرسة فرانكفورت النقدية بصورة رئيسة في تحليلهم لمسألة الثقافة، فقد قام أدورنو في “جدل التنوير” بتحليل صور الثقافة الموجهة للطبقات المثقفة، والموجهة للطبقات غير المثقفة.

وشدد على الطريقة التي تُنتج بها صناعة الثقافة حاجات زائفة، وهذه الأخيرة تعكس النخبوية، والاستعلاء اللذين يصبغان هذه المدرسة؛ لأنها تعني الشك في قدرة الإنسان على تقدير حاجاته الشخصية، والادعاء بأن هناك من هو مؤهل أكثر منه لتقدير حاجاته.

الليبراليون لم يتخذوا الموقف نفسه تجاه المجتمع الجماهيري، فهذا المجتمع الذي تمثل ثقافته الاستهلاكية، وعداه للساميّة، والمهاجرين الوجه المؤلم للديمقراطية الحديثة، وهي التي تفرّخ المكارثية، واليمين الراديكالي يحتوي في رأي ليبرالي كـ “إدوارد شيلز”([12]) على ثقافة ديمقراطية متكاملة، وثقافة استهلاكية، وتتكامل الثقافتان؛ إذ تمثل الأخيرة محيطًا لمركز تمثله الأولى.

المحافظة على هذا المركز هو هدف الليبراليين بإصلاح تدرجيّ، لا ثوري، على الرغم من أن الانتصارات الليبرالية المبدئية، وعدد من آثارها اللاحقة كانت ثورية، ونتيجة لثورة.

أما الصورة الثانية للنخبوية فهي “نخبوية المعرفة”، وهي تجد ظلالها في الإصرار على أن الخبراء في المجتمع العلميّ، والاقتصاد السياسي يمكن أن يُعطَوا أصواتًا أكثر، وسلطة أكبر من أيّ شخص آخر.

ظهور الاحترافية في العلوم السلوكية، وظهور التايلورية ترافق مع بروز هذه الصورة من النخبوية، وما يلزم عن هذه الرؤية أن السياسيات تصبح حكرًا على نخبة المعرفة. وما تنطوي عليه هذه النخبوية هو عدّ الديمقراطية وظيفية، إجراءً تنظيميًّا؛ لصيانة المساواة، وقد توّجت وظيفية بارسونز([13]) هذا التغير لهذه النظرة.

يمكن تصوير تاريخ أميركا في القرن العشرين بأنه تاريخ تقويض هذه الصور من النخبوية للديمقراطية التشاركية لمصلحة ديمقراطية هزيلة، وسياسات ضبط فحسب. فظهور الفروع الأكاديمية، وخصوصًا في العلوم السلوكية والاجتماعية، منح النخب دورًا أكبر؛ ما ساعد في غرس روح الطاعة لسلطة الخبراء، وساعد في تقويض الأفعال التشاركية.

لقد ساد افتراض من وحي هذه التغيرات هو أن الناس يجب أن يعدّلوا منذ الولادة لكي يصبحوا أكثر كفاية، وإنتاجية في نظام الشركات. وازدهر علم النفس الصناعيّ، والفروع التطبيقية المتنوعة لعلم النفس التي نُظر إليها بوصفها إنجازات تؤكد تقليد الداروينية الاجتماعية؛ إذ استخدمت في الصناعة اختبار العمال، ومساعدتهم في التكيف.

أما نمو الاحترافية في العلوم الاجتماعية، فقد تمثل في البدء بتأسس مجلس البحث للعلوم الاجتماعية عام 1923 الذي بذل الجهد؛ لجعل علم الاجتماع، وعلم السياسية أكثر موضوعية..

هذه التغيرات في الاحترافية في العلوم السلوكية، وغيرها من الفروع الأكاديمية نجم عنها هيمنة مزاج عام يعدّ التخطيط القومي من جانب نخبة إدارية متحكّم بها من طرف قائد قويّ سوف يكون تقدمًا طبيعيًّا باتجاه ديمقراطية أكبر.

إن الخبراء كائنات بشرية أفضل أخلاقيًا من غيرهم، وهي رؤية مدعومة من أخلاقيات دوركهايم، ومن نظرة فيبرية للمدرسيّ، والسياسيّ على أنهما الأفضل أخلاقيًّا.

ومن رؤية فيبر للمعرفة، والقيم على أنهما ميدانان منفصلان، وأن الأولى هي المهمة، أما الثانية فهي ليست موضوعية كالمعرفة العلمية التي تزود العلماء، والقادة، ومستشاري السياسة بالقدرة على ضبط المجتمع والتحكم به.

من هنا فإن الناس الأقلّ انسجامًا سيكونون أقلّ أخلاقية، ولا يمكن جعلهم أسوياء، ومقبولين إلا بتعليمهم كيف يتكيفون مع النظام الذي يكون لخير الجميع إذا ما تكيّفوا معه بالطريقة الملائمة، وهي الطريقة التي يعرفها الخبراء، ويدربون الآخرين عليها.

الخلاصة لهذه التوجهات هو ما قاله هنتغتون: إن بلدنا سيكون أفضل من دون كثير من الديمقراطية.

كان التجسيد الأبرز للديمقراطية التجريبية بوصفه نسخة للتحالف الليبراليّ النخبويّ مع الديمقراطية هو نقاش هنتغتون عن أزمة الديمقراطية الذي يفترض أن الديمقراطية تؤدي وظائفها بطريقة أفضل عندما يوجد حدّ أدنى من المشاركة الديمقراطية من طرف المواطنين

يقول هنتغتون: إن مشكلات الديمقراطية في الولايات المتحدة لا تتأتّى من تهديدات خارجية، ولا من تخريب داخليّ، وإنما تنبع من الديناميات الداخلية للديمقراطية نفسها في مجتمع ذي مشاركة عالية، وثقافة عالية، وهذا ما يدفعها إلى الانتحار، إنها تستنزف وتدمر نفسها، لم توجد ديمقراطية حتى الآن لم تُقدم على الانتحار بحسب تعبير جون أدامز.

فعل الانتحار ناتج عن الإفراط؛ فالقيمة التي تكون جيدة من حيث ماهيتُها، لا تكون كذلك بالضرورة إذا ضخمت، فثمة حدود مرغوبة للنمو الاقتصاديّ، وحدود مرغوبة للمشاركة السياسية.

ويعدّ هنتغتون الديمقراطية قابلة للحياة إذا امتلكت وجودًا متوازنًا، ولكن كيف يكون ذلك؟

يجب -وفق هنتغتون-  تهميش بعض الجماعات، وهو يقرّ أن هذا الإجراء غير ديمقراطيّ، ولكنه يرى أنه إجراء ضروري، وقد اعتمدته الديمقراطيات في الماضي التي كانت فيها السياسة ميدانًا يشارك فيه شريحة معينة من السكان بحجم كبير، أو صغير، وهذا ما مكّن تلك الديمقراطيات من أداء وظائفها.

إن مشاركة المجموعات الاجتماعية الهامشية من مثل السود مشاركة كاملة في النظام السياسي يحمل خطر زيادة العبء على هذا النظام، بتوسيع وظائفه، والتهديد بتقويض سلطته.

إن مناقشة هنتغتون تحمل الافتراض الذي تنطوي عليه الليبرالية النخبوية الذي يعدّ المهمشين من مثل النساء، والشواذ، والسحاقيات، وأعضاء ما يدعى بالطبقة الدنيا؛ قوىً دافعة للنظام خارج حدود التوازن.

ما يسوغ تحالف النخبوية الليبرالية مع الصورة الأخيرة من الديمقراطية: هو غياب الثقة بالشخص المتوسط، وغياب الثقة هذا متجذّر في الليبرالية، وقيمها التي تُمنح لها الأولوية على الديمقراطية، بتعبير آخر ليست الديمقراطية في هذا التحالف سوى وسيلة لتحسين الليبرالية.

هذا التفضيل لليبرالية على الديمقراطية يجد تسويغه في أن الليبراليين مثل رسل يعدّون الليبرالية تجسيدًا للمنهج العلمي؛ لذلك فهي تتطلب كي تُسقط على الواقع نخبة حاكمة، وهذا ما تهدده الديمقراطية التشاركية.

يرى الكاتب أن ما ينجم عن هذه النخبوية بصورتيها من ديمقراطية هزيلة هو جزء من المشكلة، أما المشكلة الكبرى فهي دخول أفكار هنتغتون وفوكو ياما والليبراليين الجدد من جهة، واليمين الجديد من جهة أخرى وامتزاج ذلك مع لا مبالاة متزايدة من جانب المصوت، وما أسماه ليوتارد إضفاء الطابع التجاري على المعرفة. ويؤكد الكاتب أن الديمقراطية تموت إذا انتصرت ليبرالية نخبوية مع ما يرافقها من ظواهر.

 

الفصل الثامن: الليبرالية، العلم، المجتمع

في هذا الفصل يناقش الكاتب نقاطًا عدة؛ الليبرالية والتنوير، الليبرالية والروح العلمية، الليبرالية والتمييز بين القيمة – الواقع، العلم والنخبوية.

فالليبرالية مثل ما هو معروف قد ترافقت مع تنوير القرن الثامن عشر، والتنوير يعنى بالنقاط الآتية:

-المعرفة قوة.

-الجهل هو سبب البؤس البشريّ.

-المنهج العلميّ يمكن أن يخفف هذا البؤس من خلال التطبيقات المستمرة على المجتمع، وعلى المشكلات البشرية – الناس أنانيون بطبيعتهم؛ لذلك فإن على التعليم أن يحرّضهم على التصرف بغيرية.

-ستتقدّم الإنسانية عندما يسمح لنا العلم أن نستبدل بالمؤسسات، والممارسات غير العلمية أخريات علمية.

هذه النقاط تضع خبرة غير المثقفين في مواجهة نخبة المعرفة، ويضرب الكاتب مثلًا على التعارض:

عندما يريد المجتمع أن تُعلّم نظرية الخلق في المدارس، فهل ينبغي ألا يستجاب لهذه الرغبة؛ لأن نظرية الخلق نظرية زائفة من منظور النخبة؟

وإذا سمح بتحقيق هذه الرغبة؛ استجابة لمتطلبات الديمقراطية ألا يعني هذا أن الممارسة الديمقراطية تقود إلى فعل غير عقلانيّ؟

النقطة الثانية الليبرالية والروح العلمية؛ وفيها يقول الكاتب: إن الليبرالية المختَزلة إلى تطبيق المنهج العلمي على المجتمع سوف تفضي إلى تخفيض المشاركة الديمقراطية؛ لأن المشكلات الحديثة تتطلب معرفة خبير، أو مستوىً من الذكاء، والعقلانية غير موجود لدى عامة الناس.

النقطة الثالثة الفصل بين القيمة والواقع؛ العلم في نظرية المعرفة الليبرالية الحديثة هو الذي يعطينا معرفة موضوعية محايدة، أما الأخلاق، والقيم فهي مظنة خلاف، فإما أن تكون قابلة للاستيعاب للعلوم التجريبية، وتتحول بذلك إلى علم تطبيقيّ، فتقود إلى عقلية نخبة تكنوقراطية، وتصبح قرارات السياسيين ليست أحكام قيمة، وإنما محايدة أخلاقيًا، وذات نتائج علمية موضوعية. أو عدّها -بحسب ما يقول رسل وفيبر- خارج مجال العلم، وليست إلا محض آراء، وتفضيلات ذاتية، ومن أمثلتهم أن العلم لا يستطيع إثبات أن الإبادة الجماعية لا أخلاقية، ولهذا فهي مسألة رأي.

ونتيجة هذه الرؤية أن الاخلاق والسياسة يصبحان بلا معنى سوى التلاعب بالرأي العام، أو الإكراه، أو أن تعالج القيم بالطريقة الكانطية، فتصبح شكلية بحتة، وهو خيار يدعم المذاهب الليبرالية للدولة المحايدة أخلاقيًّا، والعدالة الإجرائية.

أما البديل الأكثر قابلية للانسجام مع الديمقراطية التشاركية، فهو البديل الديويّ الذي يدعو إلى أخلاقيات التواصل، والمستمد من مفهوم أرسطو عن المعرفة العملية، وهي أخلاقيات تكون الديمقراطية التشاركية -وفقها- مشاركة في مجالات الحياة جميعها.

يشير الكاتب إلى أن الفصل بين العلم، والأخلاق، وبين السياسة، والفنّ وأنواع أخرى من الفصل التي يطلق عليها راولز “فن الفصل الليبرالي” تنقل فضاءات الفن، والعلم إلى الخبراء، والسياسة إلى التكنوقراط، ويصبح مكان الديمقراطية التشاركية، والثقافة الديمقراطية بين الشقوق.

النقطة الرابعة العلاقة بين النخبوية والعلم؛ يشير الكاتب إلى أن النخبوية الثقافية بدفاعها عن الثقافة العالية تُخوّف من فكرة مجتمع الجماهير التي قد يؤدي منح نموذجها الأساس فرصة المشاركة السياسية إلى استبداد الأكثرية الكفيلة بتدمير الثقافة العالية.

وكذلك النخبوية المترافقة مع المعرفة التي تتحرك باتجاه برنامج ليبراليّ لحكومة خبراء، والنتيجة التي قد تُوصل إليها هي تعريف الليبرالية بأنها غير سياسية.

إن أفكار الليبرالية عن حيادية القيمة، والحيادية الأخلاقية للدولة مرتبطة بالتبشير بمفهوم النخبة، فالمطلوب حكومة لأجل الشعب، ولكن ليس بواسطة الشعب.

 

الفصل التاسع: الليبرالية، الثقافة والتعليم

يناقش الكاتب في هذا الفصل موضوعات عدة:

فكرة الطبقة المتعلمة الليبرالية، وهي فكرة تجد جذرها في التقليد الإنساني الكلاسيكي الذي يقوم على التهذيب الذاتي، وقد كان كل من علمنة الثقافة، وظهور مجتمعات ديمقراطية حديثة في القرن التاسع عشر  سببًا في تعديل الفكرة، فقد صار يُخشى من استبداد الأكثرية في السياسة والثقافة، فقدم مل نظرية النخبة الديمقراطية، ولكن الليبراليين المحدثين معظمهم، أرادوا الجمع بين التقليد الإنسانيّ الكلاسيكيّ، والديمقراطية السياسية بتثقيف الجماهير، أو الطبقة المتوسطة على الأقل، ومن ثمّ إعدادهم للديمقراطية بترقيتهم روحيًّا، وجعلهم طرفًا موازنًا للجماهير في الطرف الأدنى من السلم الاجتماعي.

ولكن عمليًّا ظلت النخب الليبرالية خائفة من الثقافة الديمقراطية مرددة صدى مخاوف رسل من الديمقراطية السياسية التي ستقود الجماهير إلى اعتناق الاشتراكية.

ومن ضمن الحلول لمعضلة التعارض بين معاداة الإنسانية الكلاسيكية للمساواة والديمقراطية مقاربة رورتي التي تقصر النخبة الثقافية على الفضاء الخاص، والمساواة الديمقراطية على العام على أمل أن التعليم سوف يسمح للنخبة الثقافية أن تصهر القيم الإنسانية في الفضاء العام، أو بالأحرى في المساحة الفارغة المتبقية منه.

يختم الكاتب هذا الفصل بمناقشة في دور المثقف العام في الثقافة الليبرالية الحديثة، وهي مناقشة تهتم بأفكار الإصلاح، والثورة، وحدود النقد الليبرالي.

إن الثورة الكاملة لم تكن جزءًا من التقليد الليبراليّ، والرفض الليبرالي للثورة يعني رفضًا للماركسية، والاشتراكية، ويعني أن الليبرالية مع الإصلاح مهما كان جذريًّا، لكن ضمن الإطار الموجود؛ أي باتباع نهج تدرجي لا يتمرد على الإطار العام، وهي رؤية للإصلاح تعدّ التغيير ممكنًا، إما بوسائل جديدة؛ لتحقيق غايات موجودة بالفعل، وإما بإغلاق الفجوة بين المثل والممارسات.

وفي الحالين يكمن اعتقاد أن النظام الموجود يتحرك ببطء في الاتجاه الصحيح، وبثبات، وهو اعتقاد موروث من إيمان التنوير بفكرة التقدم، ومن البراعة الأميركية القديمة.

 

القسم الرابع “تطورات حالية”

ويتضمن فصلين:

 

 الفصل العاشر: عن الليبرالية، الديمقراطية، والنخبوية اليوم

في هذا الفصل يؤكد الكاتب فكرة الكتاب الرئيسة، وهي ضرورة تجنيب الديمقراطية نخبوية الليبرالية الحديثة، ويحاول أن يصنف البدائل السياسية في أربعة أصناف؛

1- الجناح اليمينيّ للجمهوريين الجدد الذي يتميز بالتدين ذي الصيغة القديمة الذي يؤمن بأخلاقيات العمل البروتستانتيّ.

2-اليسار الراديكاليّ، ويركز على قضايا الطبقة، والعرق، والجنس، والتنوع، والتعددية الثقافية، ولا يهتم أعضاء هذا الصنف بجمع التنوع مع أي وحدة من أي نوع، وهو مهتمّ اهتمامًا رئيسًا بكيفية وصول نخبه إلى السلطة.

3-الليبراليون من غير أعضاء الحزب الديمقراطيّ، وهم يدافعون عن الخصوصية، والتنوع، والاختيار، ولكنهم يفاقمون التشظيَّ المصنوع بوساطة الحروب الثقافية.

4-حملة الفكرة الديمقراطية التشاركية التي تجمع أفكارًا ديويّة، مع ثقافة ديمقراطية في العائلة، والعمل، والجامعة، وتهاجم رأسمالية الشركات.

إن مفهوم الديمقراطية التشاركية هو الوحيد الذي يحفظ ما هو أفضل في الليبرالية -بما فيها دفاعها عن الخصوصية، ورفض الداروينية الاجتماعية- وهو البديل عن النخبوية الليبرالية، وعن تطرف اليمين واليسار.

ولأجل هذا يؤكد الكاتب أن معالجة قضايا التعليم الخاصة بالديمقراطية لها الأولوية على أي إصلاحات حقيقية أخرى. إضافة إلى تأكيده ضرورة إعادة النظر في مصطلح الديمقراطية، فالأيديولوجيات الليبرالية، والمحافظة قد عفا عليها الزمن، ثم إن مصطلحي الديمقراطيين والجمهوريين أصبحا مصطلحين مضللين؛ لأن هذين الحزبين -في رأي الكاتب- يعكسان صورة بعضيهما، وما هما إلا تنويعان على الليبرالية الحديثة.

فبينما يعد الديمقراطيون المجال الخاص تعدديًا، والمجال الاقتصاديّ عامًا، يرى الجمهوريون العكس، فهما صورتان لليبرالية تختلفان في ما هو خاصّ، وما هو عام. وفي رأي الكاتب أن كليهما ساعدا في تدمير المجال العام.

يقترح الكاتب أن تشجع الجامعات تعليم المواطنين التفكير النقديّ، والحوار، وليس ما يؤهلهم للعمل فحسب، وعليها أن تقود الطريق نحو المناقشة العامة، وتقنع الناس بأن المشاركة الديمقراطية ذات أهمية حيوية.

 

الفصل الحادي عشر: عن الديمقراطية، الثقافة، والتعليم اليوم

يناقش الكاتب في هذا الفصل نموذج التعليم العالي الليبراليّ، وهو نموذج يرتقي من خلال بحوثه التطبيقية بالعقل، ويساعد المتعلمين على إدراك قيم الحيادية، والموضوعية، والحياد الأخلاقي.

ولكن المشكلة في هذا النموذج أنه قد يسبب غياب القدرة، أو الرغبة في التعبير عن رأي ما، أو موقف ما إذا كان سينظر إليه أنه غير منسجم مع الحيادية، والموضوعية.

فمثلًا إذا ظن طلاب أن المثليين ليسوا أخلاقيين، بينما كان الظن الليبرالي قائمًا على أن هذا حكم قيمة ذاتيّ، فكيف يمكن التسوية؟

باختصار يؤكد هذا النموذج أنه في القضايا غير المؤكدة، أو القضايا غير العلمية، كلّ شيء على قدم المساواة؛ لأنها ليست قضايا موضوعية، وإنما قضايا رأي.

ويعدد الكاتب مظاهر عدة صارت تهدد التعليم العالي في أميركا:

-أصبح الطالبون بعدّهم مستهلكين لا يسمعون أفكارًا لا يحبونها، ويمكنهم أن يغادروا قاعة الدرس عند عرض هذه الأفكار من دون أن يعاقبوا، وعلى الكلية أن تحدد مقررات بديلة إذا كانت المقررات الموجودة خلافية.

-أصبح المديرون مستبدين، يبنون لأنفسهم مكاتب فخمات، ويأخذون كلّ قرش من الأقسام الأكاديمية لأنفسهم، وللمجمعات البحثية، ويصبّون اللوم دائمًا على الهيئة التدريسية متهمين إياها بالتقصير.

-أصبح البحث العلمي هجينًا؛ فقد صارت الشركات هي التي ترعى البحوث، وهو ما يطلق عليه ليوتارد ظاهرة “إضفاء الصبغة التجارية على المعرفة” بعد أن أصبحت المعرفة هي السلعة الاقتصادية الرئيسة.

-التحالف بين الشركات، والسياسيين الأكثر صخبًا، وهو تحالف لا أساس له سوى القوة، فمسؤولو الجامعات همّهم امتصاص أموال الطلاب بينما يسعى السياسيون للهيمنة على مناهج الجامعات.

يقترح الكاتب في نهاية هذا الفصل عدة اقتراحات تساعد في غرس ثقافة المشاركة الديمقراطية:

-يجب أن تأخذ الثقافة الديمقراطية والتعليم في الحسبان سياسات الاعتراف، القيمة الإيجابية للتنوع، والتعددية الثقافية مجتمعة، مع التركيز المتجدد على المواطنة، والمجتمع، والحوار.

-إذا كان لدى “ما بعد الحداثة” شيء تعلمنا إياه، فهو أن كلًّا من الحنين إلى الدين، المطلق الأخلاقي، وغيره من المطلقات حلول للمشكلات التي لا أساس لها في الواقع،

-يجب تجاوز الإيمان الأعمى بالعلوم، والتكنولوجيا، والرأسمالية الفردية، والخبرة لمصلحة العناية بالتفاهم، والحوار، والتجريب الاجتماعي، والاعتراف المشترك بأن عوالمنا الاجتماعية هي نتاج الأعمال البشرية.

 

خاتمة

يخلص المرء بعد قراءة هذا الكتاب إلى نتائج مهمة: أولاها أن علاج جوانب القصور في الديمقراطية هو مزيد من الديمقراطية، وأن النخبوية أيًّا كان شكلها مقتل للديمقراطية، وتشريع للاستبداد.

ولكنّ ما نظنه أكثر أهمية لنا من هذه النتائج المباشرة هو أن للقيم التي تنطوي عليها المنظومات الفكرية قدرتها على التضليل، يظن المأخوذ بها أنها علاج سحريّ يفاجئه الغوص في أعماقها، والتبصر في حالها المتعين بجوانبها المظلمة، ونيات المنادين بها غير الطيبة في أحيان كثيرة.

ولعلّ الدرس المستفاد أكثر من غيره بالنسبة إلينا، هو ضرورة ألا يدفع بعضنا شعور النقص باتجاه تبنّي أحدث الأفكار، ومنح الولاء لآخر النظريات، من دون الإمساك بتلابيبها، وفهم حمولاتها الأيديولوجية، وواقعها، وأبعادها كلها.

وربما يمكننا العثور على جوانب نخبوية في منظوماتنا كلها التي نفهم من خلالها الواقع، وربما نستطيع بالقبض على هذا البعد فيها إضافة عامل تفسيريّ جديد إلى تأخر انتقالنا إلى الديمقراطية، وعجزنا عن الإطاحة بجلادينا.

 

([1]) عالم أميركي في الاقتصاد والعلوم السياسية، اشتهر بترويجه لنظرية الفوضى الخلاقة في الاقتصاد.

([2]) اقتصادي ومنظر سياسي نمسوي، عرف بدفاعه عن الليبرالية الكلاسيكية والرأسمالية القائمة على أساس السوق الحر، ونقده للفكر الاشتراكي.

([3]) فيلسوف أميركي اشتهر بليبراليته المؤسسة على إقصاء الفلسفة، ومفهومات الذات والطبيعة البشرية، وتعويله في الإصلاح على الشعراء والثوريين الحالمين.

([4]) عالم اقتصادي واجتماعي أميركي اشتهر بدمجه نظرية التطور مع نهجه المؤسسي للتحليل الاقتصادي، وتأكيده الفرق بين إنتاجية مهندسي التصنيع وتطفل التجار.

([5]) كاتب أميركي، أسس مصطلح الصورة النمطية، تناقضت وجهات نظره مع ديوي في موضوع الديمقراطية، التي كان ليبمان يحاول معالجة التوترات بينها وبين النخبوية.

([6])عالم سياسة أميركي، كان عضوًا في الحزب الجمهوري.

([7]) عالم اجتماع أميركي، اشتهر بدراسته تأثير أجهزة الإعلام على تكوين الرأي العام، وهو صاحب صيغة لاسويل الشهيرة في تصميم الرسائل الإعلامية.

([8]) أحد أهم الشخصيات في تاريخ الفلسفة الأميركية، صاحب نظرية التفاعل الرمزي، التي تبدأ من الأفراد وتنظر إلى أفعالهم بوصفها بنى ثابتة ينبغي على الأفراد أن يستوعبوها في تفاعلهم مع بعضهم.

([9]) عالم سياسة أميركي، اشتهر بنظريته الخاصة في الديمقراطية التي ضمنها في عدد من كتبه وأهمها كتابه: “الديمقراطية ونقادها”

([10]) المصطلح الذي أطلقه روبرت دال؛ لكي يصف شكلًا للحكومة ليس ديمقراطيًا، ولا ديكتاتوريًا.

([11]) عالم اجتماع أميركي، أسس لكثير من مصطلحات ثورة المعلوماتية ولفكرة نهاية الأيديولوجيا.

([12]) عالم اجتماع أميركي، اشتهر بنظريته عن دور المثقفين، وعلاقاتهم بالسلطة والسياسة العامة.

([13]) عالم اجتماع أميركي، اشتهر بنظريته في تفسير السلوك التي اعتمدت المنهج التطوعي بديلًا من المنهجين النفعي الوضعي، والتفسيري المثاليّ.