عمر قدور

بعد استقالة رئيسه رياض سيف بنحو شهر ونصف، يعلن ثلاثة أعضاء من ائتلاف المعارضة السوري استقالتهم، متهِمين إياه بالمضي ضمن المسار الروسي للحل في سورية. أصحاب الاستقالات تحاشوا الإشارة مباشرة إلى العامل التركي، على رغم مسؤوليته عن توجهات الائتلاف الأخيرة، ومن دون ملاحظة ذلك عطفاً على التركيبة المؤثرة في الائتلاف يصعب وضع الأمور في نصابها. إذ لاعتبارات تتعلق بخط الإمداد التركي (الوحيد)، وأيضاً لاعتبارات أيديولوجية إسلامية لدى جزء من التركيبة، نحن إزاء سيطرة تركية مطلقة على الائتلاف تلحق بالتحالف التركي- الروسي المستجد.

حدثان كان يمكن لأحدهما أن يدفع إلى الاستقالات المتأخرة، أولهما مشاركة الائتلاف في مؤتمر سوتشي بواسطة حكومته المؤقتة، حتى إذا تغاضينا عن الإذلال الذي تعرض له وفدها، فهذه المشاركة تصب بقوة في النيل من مسار جنيف الأممي، أو في التأثير فيه لمصلحة موسكو. الحدث الثاني هو الاجتياح التركي لمنطقة عفرين، وتنطع حكومة الائتلاف المؤقتة لتغطيته بوصفه حرباً لأجندات وطنية سورية، مع زيارة من قادة الائتلاف إلى منطقة المعارك في ظاهرة غير مسبوقة خلال الصراع السوري. إلا أن المنسحبين تحاشوا إيراد أسباب واضحة، وإن كانت تخدم اتهاماتهم.

ما يضع الاستقالات في خانة تصدع الائتلاف أن تكون مقدّمة لانسحابات أخرى على خلفية مؤتمره القادم، فالهيئة التي حازت يوماً صفة تمثيلية دولية مهددة بأن تصبح مجرد كيان ينفذ السياسة التركية بحذافيرها، ومن المحتمل جداً ألا يناسب ترسيخ الوضعية الجديدة أشخاصاً آخرين، بصرف النظر عما إذا كانت دوافعهم ثورية أو وطنية. ومن المحتمل على نفس الدرجة أن تبعية الائتلاف لتركيا لم تعد مقبولة دولياً وإقليمياً، وحانت لحظة الإجهاز عليه، من خلال تقليص صفته التمثيلية (التي باتت شكلية أصلاً)، وهذه ستكون رسالة موجهة إلى أنقرة قبل توجيهها إلى الائتلاف وما تبقى من حيثيته السورية.

من المتوقع دفع الائتلاف إلى الظل، الذي دُفع إليه المجلس الوطني من خلال تأسيس الائتلاف نفسه، وبعد أن أنجز تأسيس الهيئة العليا للتفاوض جزءاً من المهمة. النتيجة المختلفة في حالة الائتلاف أنه حظي باعتراف دولي ضخم غداة تأسيسه بصفته ممثلاً للسوريين، وانهياره اليوم مع تلك الصفة يتزامن مع محاولات حثيثة لإعادة تدوير الأسد، من دون البحث عن رابط مؤامراتي بين السياقين يهدف إلى تبرئة الائتلاف من تدهور صدقيته وصدقية المعارضة عموماً، التدهور الذي حصل في أوساط السوريين قبل الالتفات إلى بعده الخارجي.

بسبب تلك الصفة التمثيلية الدولية، كان هناك حذر عام في أوساط الثورة من الانقلاب على الائتلاف، ورغم شيوع التذمر من أدائه لم تكن هناك محاولات جدية لإنشاء كيان آخر. بالطبع لم تكن هناك آليات ديموقراطية لتغييره من الداخل، ومحاولة التغيير الوحيدة حدثت بدعم إقليمي وسط عدم اكتراث السوريين بها. أي أن الائتلاف، رغم عطالته، تسبب بحالة من العطالة السياسية في أوساط الثورة ككل، والمحاولات المتأخرة التي هدفت إلى تشكيل بدائل لم يُكتب لها النجاح لأن المبادرة أتت من ائتلافيين سابقين.

المنسحبون الجدد لم يكشفوا عن وجه غير معهود من قبل، فهم بشكل غير مباشر تبرأوا من مسؤولياتهم عن الحال الذي وصلت إليه مؤسستهم، مع أنهم تبوأوا مناصب عليا فيها. الأهم أنهم أرفقوا استقالاتهم بعزمهم على الاستمرار في العمل السياسي، ما يعني أن الاعتزال (بوصفه نوعاً من المظاهر الديموقراطية) لم يدخل بعد في قاموسنا السياسي، سواء أتى الاعتزال بسبب المسؤولية عن الفشل أو ضمن تسهيل التداول وإعطاء الفرص للآخرين.

المسألة لا تتعلق بالمنسحبين أخيراً، أو بمن انسحبوا قبلهم من الائتلاف، ولا تتعلق بأية شخصية إطلاقاً. هي في تمثّل تقاليد الديموقراطية التي ينادي بها السوريون، ومن مستلزماتها تحمل المسؤولية بشجاعة، وعدم مصادرة العمل السياسي واحتكاره. وما لا يمكن إنكاره أن استمرار الوجوه نفسها بحلة جديدة سيكون على حساب التجربة السياسية للمعارضة ككل، وواحد من آثاره السلبية المباشرة تجديد فقدان الثقة بالمعارضة، وتجديد انصراف شريحة الشباب تحديداً عن العمل السياسي ما دامت العقلية التي تديره هي ذاتها.

يزيد الوضع سوءاً شيوع قناعة بأن وجوه المعارضة تمرست بالارتباطات الخارجية، بمعنى تغليبها على الاعتبارات السورية، وبمعنى تمرسها باللعب على التناقضات الإقليمية. هذا يجعل الشكوك تحيط بأية مبادرة تصدر عن تلك الشخصيات، رغم وجود قناعة أخرى بصعوبة العمل السياسي المستقل مع وجود قرار خارجي بالإمساك بالوضع السوري وطرد «المشاغبين» لئلا يشوشوا على تقاسم النفوذ.

تصدّعُ الائتلاف في هذه الظروف قد يكون إيجابياً لجهة سحب جزء من الشرعية التي يمنحها للتحالف الروسي-التركي، إلا أنه أيضاً يأتي وسط حالة من اليأس تعيق التفكير في بديل يمنح القضية السورية تمثيلاً أفضل وأكثر استقلالية. المرحلة الحالية تختلف عن السنوات السبع الماضية لمصلحة حلفاء الأسد، وغياب تمثيل سياسي للمعارضة سيزيد من رجحان الكفة لصالحهم، بخاصة مع مضي جزء من المعارضة تحت الإشراف التركي. أما ما تبقى من المعارضة وأنصار الثورة، إذا لم يبرز فجأة مشروع دولي وإقليمي لإنشاء كيان جديد، فمن المرجح بقاؤهم مشتتين كما كان حالهم دائماً. اليأس وحده لا يفسر التصدع العام الذي يعانيه الوسط المعارض، على الأقل اليأس من المجتمع الدولي، ثمة فوقه يأس من قدرة السوريين أنفسهم على المبادرة. ثمة أيضاً وضع شاذ، أصبحت فيه «معارضة الضرورة» بمثابة معارضة مستدامة، وهذا الوضع يصعب الخروج منه ما لم تقرر الكتلة الضخمة المنكفئة عن العمل السياسي الخوض فيه، وانتزاع قرارها من المعارضة الحالية أولاً قبل انتزاعه من الهيمنة الخارجية.

قد يصحّ جزئياً القول إن أفضل أداء للمعارضة ما كان سيؤدي إلى نتائج أفضل بسبب المصالح الدولية، على ألا يكون هذا الكلام مدخلاً لتبرير الخطايا. وقد يبقى الأقرب إلى الواقع القول إن هذه المعارضة (المتهمة بافتقارها إلى تمثيل حقيقي) هي التي تمثّل حال الثورة حقاً، أي كلام آخر يبقى في حيز الأمنيات طالما بقي الواقع يشير فقط إلى هذه المعارضة بمؤسساتها وبأشخاصها.