صورة من الانترنت

تلاشى حلم داعش في فتح العالم، ونشر الرسالة انطلاقًا من دابق، وفروا منها لا يلوون على شيء؛ وهم يتابعون مسيرة النهاية التي يبدو أنها صارت ماثلة في الأفق القريب.

حفيد العثماني جدد نصره بعد أن جدد عدته، والحالم بدولة الخلافة التي تسود الأرض لم يجسد حلمه؛ لأنه تسربل بجلباب العثماني الذي انتصر في دابق قبل قرون، وحمل سلاحًا أكل عليه الدهر وشرب.

واضح أن داعش في طور الاحتضار، وهي نهاية لم يكن يستبعدها كلّ متابع لهذا الوباء الذي تسلل عبر الصحراء في لحظة شاذة من الزمن.

ولكن شبكات الثقة التي تُحكم الربط بين الأفراد في مجتمعنا من طائفية وعشائرية ومناطقية والتي استحكمت حلقاتها بفعل نظام الاستبداد الذي ألجًا الناس إلى النكوص أكثر فأكثر إلى أطرهم الضيقة؛ للاحتماء من بطشه، ولمحاربة شعور الخوف الذي كان يقتات منه ذلك الكائن المشوه؛ لكي يستمر في تمطيه على أشلاء دولة ومجتمع مصادرين، وفاقدي القدرة على النهوض.

شبكات الثقة هذه يمكن أن تعيد تفريخ تطرف جديد لا يقل خطورة عن داعش، بل يُخشى أن يجمع إلى ماهيته المتطرفة عواقب خلّفها داعش في نسيج المجتمع.

منظومة الفكر التي لا تستطيع مواجهة متغيرات العصر فتنفجر تحت ضغط العجز عن تلك المواجهة هي التي تستحيل تطرفًا يمثل خلاصة العنف الرمزي والمادي لتلك المنظومة بعد أن انفجرت.

وهذه المنظومة المتمفصلة مع شبكات الثقة لا تزال قائمة، ومهيمنة، وقادرة على استنساخ داعش جديد.

إحدى قرى ريف المنطقة الشرقية لم يشهد مواجهة مع داعش، وركن أهلها إلى أمراء التنظيم، وأحسنوا ضيافتهم؛ ليس بدافع الخوف فحسب، وإنما؛ بسبب أرومة عشائرية واحدة جمعت بين أفراد العشيرة التي تقطن تلك القرية وأمراء داعش العراقيين، ولم يكن ممكنًا لأي مغايرة في التوجهات أو الأعراف أن تغلب رابطة الدم.

وبعيدًا عن انتهازية العالم وأسباب أخرى دفعت الأمور في سورية إلى حالها المشاهدة اليوم، فإن هذا التنظيم المتطرف كان متنفسًا للكثيرين ممن يعيشون سردية مظلومية سنية؛ ليواجهوا تحت رايته نظامًا طائفيًا، وحليفًا شيعيًا لم يعد يخفي مطامحه القومية التي تتلطى خلف مذهبه المنحرف عن جوهر الإسلام المحمدي.

شبكات الثقة الأبرز في الأحداث الدامية في سوريا، هي شبكات الثقة التي زاد تقوقعها الاستقطاب الطائفي، وشبكات الثقة المتمثلة بالجماعات الجهادية التي تحيك عقدها الأيديولوجيا السلفية، وشبكات الثقة التي تقوم على أساس قومي، وأوضح تجسيد لها الأحزاب الكردية ذات النزوع القومي الطاغي على النزوع الوطني.

تفكيك شبكات الثقة عن طريق الاستبدال بها شبكات ثقة بديلة، أو إضعافها من داخلها عبر عمل جدي لمنح الفاعلين الاجتماعيين في داخلها ملاذات أخرى أمس رحمًا بالمدنية وبالمواطنة يمكن أن يمثل تجفيفًا للحاضن الذي وجد فيه التطرف موطنًا مثاليًا له.

“ولأن حلّ هذه الشبكات الانعزالية غير ممكن، ولأن استخدام القمع في سبيل دمجها أمر غير محمود وخصوصاً ونحن في معرض النضال في سبيل بناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية فإن الأداتين المتبقيتين لدمجها هما الرأسمال المادي، والالتزام.

بمعنى أنه لا ضير من استمالة أفراد هذه الشبكات عن طريق تقديم كل ما هو ممكن من خدمات تجعل اعتمادهم على النظام الوليد أكبر من اعتمادهم على الشبكة المنضوين تحتها، وعن طريق التزام تبادل موثق دستورياً مع وسطاء هذه الشبكات، وهم أمراء الحرب، وزعماء الأسر، وزعماء الأحزاب لكل من الجماعات الجهادية، والطائفية، والقوميين الكرد بالترتيب بخلق صيغة سياسية لصراع سلمي تضمن حقوقاً سياسية واقتصادية واجتماعية، وأن يكون التزاماً كفيلاً بالإطاحة بمن يخلّ به.

ولأن هذا الطرح يمكن أن يوصم ببساطة بالإغراق في المثالية، وبعدم إمكانية تطبيقه على  الرغم من أن محددات النضال الديمقراطي تجعله خيارًا ربما يكون الوحيد من أجل دمج شبكات الثقة هذه في السياسات العامة للنظام الديمقراطي أو المتجه إلى الديمقراطية، فإن خلق شبكات ثقة بديلة من ضمن هذه الشبكات تعمل على خلق توازن معها، وتحدّ من قدرتها على إعاقة التحول الديمقراطي هو طريق آخر يمكن انتهاجه وهو طريق تتفاوت وعورة الطريق فيه، ونظن أن أصعب مطباته ستكون شبكات الثقة التي تمثلها تيارات الأيديولوجيا السلفية الجهادية”.

دابق الجديدة التي مثلت مواجهة بين ديمقراطي علماني، وبين مهزوم في عقله قبل أن يلوذ بالفرار، ينبغي أن تعطينا درسًا أن اللائذ بالفرار هذا من مكان إلى آخر يجب أن توصد في وجهه الأبواب؛ لكيلا يكدر عيشنا مرة أخرى، ولن تغلّق الأبواب دونه ما دمنا لا نزال نلبس جلبابه القديم الذي صار يتعثر بذيله وهو يُدفع مدحورًا عائدًا نحو الصحراء التي تسلل إلينا عبرها.

ليس داعش مجرد “كوكتيل استخباراتي” لمجموعة دول استثمرته، وإنما هو تجسيد لمجتمع لا تزال نخبته الديمقراطية أضعف حلقاته، وأشدها وهنًا، وعدم قدرة على تمثل ما تدعيه من قيم.

رئيس التحرير