مناف الحمد

14/8/2018

في تلك الأثناء كنا منكبين على تلقي العلم الشرعي شغفاً به من جهة، وتوقاً للتميز على أقراننا من جهة أخرى، وكان أذكانا طفل من أسرة فقيرة تعيش في منزل متهالك صغير.

وبسبب تفوقه اللافت وذكائه المذهل كنت أحرص على مرافقته للاستفادة منه، ولمحاولة اقتناص ما يتمكن من تحصيله هو، ونعجز نحن.

كان يكبرني ببضع سنوات، وقد بدت ثمار تميزه بالظهور باكراً عندما أبدع إنتاجاً علمياً متميزاً في سنّ مبكرة، ولكنه كان تميزًا مشوبًا بتعصب ضد كل مخالف، ليس في المعتقد فحسب، وإنما حتى في المذهب الفقهي.

كان “جاك” الرجل البسيط، ذو الثقافة العادية منفتحاً على أفق وطنيّ يستطيع أن يجذب مختلفين معه وحوله

وفتح صديقي جبهة مع المسيحيين في المدينة لكي يثبت لهم ما يقول إنه فساد عقيدتهم وتناقضات كتابهم المقدس، وجبهة مع السلفيين الذين يناصبون التصوف العداء وكانت جبهة مشتعلة لسنوات.

وكان قوي الحجة، ولكن حجته المستندة إلى أساس متين، والمصاغة بأسلوب رصين لم تفلح في تبديل اتجاه أي شخص ممن حاورهم.

في الطرف المقابل كان الرجل الكهل، ضامر الجسم، أصلع الشعر، الذي يمتلك مكتبة في وسط المدينة، قد جمع حوله شباباً معجبين بخطابه البسيط الذي لا يتميز إلا بشحنة وطنية عاطفية، وحزن  حقيقي على الحال التي وصلت إليها البلاد، ولم يكن الشباب الذي التفّ حوله معنيين بكونه مسيحياً.

وفي حادثة ذات دلالة انطفأت أضواء المكتبة فجأة، وصار صاحبها المسيحيّ يجلس على بابها في المساء، ولم نكن في الفترة الأولى نعرف السبب.

ولكي تكتمل دلالة الحادثة عبر تفسيراتها، سألني صديقي اللوذعيّ طالب العلم مرة، ونحن نمر من جانب المكتبة: لماذا لا يشعل “جاك” أضواء المكتبة في الليل؟

فقلت له: لا أعرف السبب، ربما يكون لأسباب مادية.

فأجابني بلهجة المرتاب: لا، الأمر على الأغلب مرتبط بمعتقد مسيحي أسطوري، فأنت لا تعرف تعصب هؤلاء المسيحيين، وذهابهم بعيداً خلف خرافاتهم.

علمت، بعد ذلك، أنّ ما أطفأ أضواء المكتبة احتجاج جاك على فواتير الكهرباء العالية، وإصراره على عدم تسديدها في تحدّ لسياسات النظام، وتحريض للناس على معارضة هذه السياسات التي لا تقيم وزناً لوضع المواطن وقدرته والتزاماته.

كم كان الفرق كبيراً بين توقع صديقي وبين دوافع جاك الحقيقية!.

كان صديقي الذي يُنتظر منه أن يصبح عالماً مسجوناً بين جدرانهوية ضيقة لم تفلح أبعادها الإنسانية أن تحرره من أسرها.

وكانت خيالات هذا السجن المستمدة من أوراق كتب صفر تجعله دائم الارتياب بالمخالف، ولهذا لم يتمكن من جذب أحد إلا بصورة مؤقتة.

بينما كان “جاك” الرجل البسيط، ذو الثقافة العادية منفتحاً على أفق وطنيّ يستطيع أن يجذب مختلفين معه وحوله، ولم يكتف بصياغة خطاب نظري، وإنما تمثل خطابه تمثلاً حقيقياً في معارضة حقيقية للظلم والجور فصار أكثر مصداقية وإقناعاً.

لا يمثل الأنموذج المغلق كل أصحاب الفكر الديني، ولكنه يشير إلى تعصب وانتهازية لعدم اصطباغها بصبغة وطنية

عندما قامت الثورة اختلف بالطبع مصير هذين الأنموذجين، فبينما ظل جاك مصراً على معارضته السلمية لنظام الاستبداد، تحول صديقنا الذكي الواعد فجأة إلى معادٍ للثورة، وانقلب موقفه الكاره للنظام إلى موقف شبه إيجابيّ، وقد ارتبط هذا التحول بتحسن كبير في وضعه المادي.

وبينما قضى جاك شهيداً في زنازين النظام؛ لأنّ جسمه الضامر، وسنه المتقدمة لم يحتملا التعذيب، ينعم صاحب الهوية الدينية المغلقة بعيشة رغيدة في الخليج، وينظّر في خطأ القيام بالثورة.

بالطبع لا يمثل الأنموذج المغلق كل أصحاب الفكر الديني، ولكنه يمكن أن يشير إلى تعصب وانتهازية يمكن أن يسببهما عدم اصطباغها بصبغة وطنية جامعة.

وهو ما يؤكده أنموذج “جاك” الذي لم تمنعه مسيحيته من النضال ضد الاستبداد شاباً وكهلاً وعجوزاً، وختم هذا النضال بختم الشهادة على يد الجلادين.

هذا هو الفرق بين الهوية الوطنية العابرة للفروق، وبين هوية دينية مغلقة تصرّ على ترسيخ الفروق وتحويلها إلى جبهات صراع، وعندما يحرجها واقع ثوري مناقض لها تنكفئ إلى مواقع المجاملة والانتفاع.