ناشونال إنترست – التقرير

قد لا تسمح الديمقراطية الليبرالية باستخدام أساليب الكذب والتحايل، إذا ما اقتصرت على شعوبها، بينما لا تتطبق هذه القواعد بحذافيرها على سياسات التعامل الخارجية، حيث يفضل استخدام هذه الأساليب، كمبرر لتحقيق مصالحهم الوطنية، ما تعتمد عليه الثقافة العسكرية تمامًا، فتجد أن القوات العسكرية عادة ما تستخدم هذه الأساليب لوضع استراتيجياتها، خصوصًا في استخباراتها ولمكافحة التجسس.

وكشف لنا “إدوارد سنودن” عن أساليب المراقبة الجماعية المستخدمة من قبل “وكالة الأمن القومي” الأمريكية، فلم تكتف الحكومة الأمريكية بالتجسس على أعدائها، إنما استخدمت هذه الأساليب للتجسس على وأصدقائها أيضًا، مثلما شارك “الكريملين” في حملة التضليل من أجل خدمة السياسة الروسية الخارجية للتدخل العسكري، ولتوسيع الرقعة الروسية بالسيطرة على أوكرانيا.

تتبع عادة هذه السياسات المعتمدة على الأكاذيب والتلاعب بالحقائق، من أجل أهداف قومية خاصة، والحفاظ على توازن القوى، لكنه ينطوي على مخاطر عديدة، فاستخدام هذه الأساليب قد يعيق مبادرات سياسية جيدة، عن طريق ردود فعلية سلبية تنتج عن المواطنين والحكومات الأجنبية، وإجبار الحكومات على الرضوخ لسياسات قد لا تخدم أهدافها القومية.

ومن أهم المخاطر وتوابعها السلبية، التي تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية، هي ما زرعته في الشرق الأوسط، حيث فشلت التدخلات العسكرية والدبلوماسية الأمريكية في المنطقة، التي تقوم على الواقعية ظاهريًا،  ولم تكتف بهذا فقط,، إنما إنطوت هذه التدخلات على ما أضر بالمصالح الأمريكية، ففشلت في الحفاظ على توازن القوى في إقليم الشرق الأوسط.

وبينما عكفت السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية على خلق كيان يسمح لها باستمرار عملها كقوة خارجية تقتحم أي مكان تريده، ونجحت في خلق حالة من اختلال توازن القوى بالشرق الأوسط، لم تعزز دول الشرق الأوسط من ديمقراطياتها، ولم يَسُد القانون بها، وفشلت في الحفاظ على السلام والأمن بين الدول. وبحلول عام 2016، تورط الشرق الأوسط بالفعل في حروب أهلية عديدة، ماعدا دولتي تونس وعمان.

فنرى انحراف الولايات المتحدة عن المبادئ الأساسية في سياساتها الخارجية تجاه القوى العظمى في منطقة الشرق الأوسط، فعملت على بناء سياسة خارجية قائمة على مبادئ علمية واقعية: أولا، ما هي المصلحة الاستراتيجية لاستمرار حفاظ الولايات المتحدة على أكذوبة الأسلحة النووية، التي أطلقتها إسرائيل، مع أن السياسة التي تتبناها أمريكا تجاه العالم أجمع، تنص على مساعيها لتخليص العالم من الأسلحة النووية؟ فهل من المحتمل ألا تتبنى موقفًا تجاه انتشار الأسلحة النووية، يتعارض مع مصلحة إسرائيل؟ فلم تعد أكذوبة الأسلحة النووية مبررًا كافيًا للحفاظ على موازين القوى في المنطقة. فعلى العكس تمامًا، مشاركة أمريكا لقوة إسرائيل العسكرية، تركت الخيار لإسرائيل للتصرف بعدوانية شديدة تجاه الدول المجاورة لها، وبالأخص تجاه الشعب الفلسطيني. حيث استطاعت إسرائيل إطلاق العديد من الهجمات العسكرية ضد لبنان، وسوريا، وعلى حدود فلسطين المحتلة، في الأعوام القليلة الماضية، بجرأه كبيرة غير عابئًا للعواقب المترتبة على تصرفاتها.

تضر المراوغة في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، مكانة أمريكا في المنطقة واستقرار القوى بها، أكثر من تأثيرها المزعوم على أمن إسرائيل.. وبالطبع ستظل حاجة إسرائيل لامتلاك لوسيلة ما لردع ما يهدد بقائها، نقطة استراتيجية مهمة بالنسبة للأمن الوطني الأمريكي.

وهنا يظهر سؤال ما؛ وفقًا لتغيرات الأمن العسكري في منطقة الشرق الأوسط, هل تستمر صلاحية هذه الاستراتيجية؟ فقدرتها على صد الهجمات الإرهابية أصبحت منعدمة، فليس لديها قدرة عسكرية كافية تساعد في القضاء على الإرهاب.
فقدت “أكذوبة الأسلحة النووية” مصداقيتها؛ للتأثير على مجرى الأحداث الراهنة،وفشلت في حماية إسرائيل من التهديدات الأمنية الموجة لها. فها قد أصبح العالم منيعًا ضد تأثير أكذوبة الأسلحة النووية، فلابد أن تتخلى أمريكا وإسرائيل عن هذه السياسات، وأن يشرعا في الاعتراف بوجودها من عدمه، لتستطيع مثل هذه الخطوة بوضع حجر الأساس لإقامة النقاشات السياسية والعسكرية، تعزيزًا للإستقرار بالشرق الأوسط عن طريق توحيد القوى الإقليمية معًا، بدلا من محاولة تفريقهم.

هذا النظام المؤذي، السبب الرئيسي لما آل من العنف القائم بين دولتي السنة والشيعة، ومجتمعاتها في الشرق الأوسط.. بعد غزو العراق في العام 2003، أصبح بوتقة الصراع السياسي في المنطقة، وحلقة الوصل بين أهم القوى الإقليمية. تسبب تحديد إيران والسعودية لقواعد اللعبة في العراق وسوريا، وفقًا لمعايير عنصرية، لاندلاع معارك عنيفة، سواء من قبل الميليشيات أو الأفراد المدعومين من طهران والرياض، وكان من المفترض أن دعم السعودية لتحرك كتلة السنة في العراق ثم في سوريا، أهمية كبرى لإعادة توازن القوى الإقليمية الجديدة, خصوصًا في إيران وأغلبية شيعة العراق، ما تحول إلى حرب بالنسبة للسوريين والعراقيين.

لم تثبت المستندات التي كشفت عنها الحكومة الأمريكية، تواطئ السعودية في أحداث هجمات الحادي عشر من سبتمبر, كما زعم بعض منتقدي العلاقات الأمريكية مع السعودية في الكونجرس. لكن كشفت هذه التصريحات عن طبيعة الاتحاد الاستخباراتي بين الدولتين, لم تتعاون السلطات السعودية معظم الوقت بمشاركة أمريكا بالمعلومات اللازمة، إذا ما لم يتعارض ذلك مع أمنها القومي. وأشارت السلطات الأمريكية الى انعدام الحماس السعودي للحد من تمويل المملكة للإرهاب العالمي.

مع العلم أن تجاوز الكونجرس الأمريكي للفيتو الخاص بأوباما، من أجل تمرير قانون يسمح لأسر ضحايا أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر بمقاضاة الحكومة السعودية لمساندتها للإرهاب، سيترتب عليه مشاكل هائلة للسياسات الأمريكية الخارجية، ما قد يشير إلى دفع الحزبين السياسيين الأمريكيين الجمهوري والديمقراطي، لإعادة تقييم العلاقات الثنائية بين أمريكا والسعودية. فمهما كان الأمر، لا تلتزم أمريكا بأي اتفاقية محددة ترغمها على الالتزام بعلاقاتها مع السعودية.

من السهل أن تلصق مصطلح “أكذوبة بوش” بقرار أمريكا لغزو العراق في العام 2003. حيث استقرت التحقيقات التي أجريت من قبل الكونجراس والبرلمان في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على أنها كانت حرب غير مهمة بالمرة، اختار أن يخوضها جورج بوش، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك, ورئيس وزارء بريطانيا توني بلير، باقتناع تام عن وجود أسلحة دمار شامل بالعراق، غير حقيقية، وتجاهل مخاطر الصراع الداخلي، والاستقرار الإقليمي، وتزايد العنف السياسي الناتج عن الغزو الأمريكي للعراق.

اقتنع كلا الزعيمان بحرب هدفها تحقيق الحرية في العالم والحفاظ على أمنه، ما شكل استراتيجية لإقناع الشعب الأمريكي بمثل هذه التهديدات.. وبنجاحم في اقناع العالم بالحرب والأطاحة بصدام حسين من السلطة، وجدت إدارة كل من بوش أوباما، أنهم يعانون من أجل تحديد سياسة عسكرية سارية، لتطبيق الديمقراطية والاستقرار في العراق، بعد صراع طويل مع الخلافات الداخلية، سواء العنصرية أو الدينية أو المنافسات الإقليمية، والتمردات الداخلية.

وفي العام 2011، دافع الليبراليون في إدارة أوباما عن التدخل العسكري في ليبيا، وطالبوا بالإطاحة بنظام بشار الأسد أثناء الحرب الأهلية، فساعدت امريكا في الإطاحة بالقذافي، تحت مظلة حلف الناتو،  فقط لأنها لديها القدرة على فعل ذلك. فقد كان نظام القذافي مكروهًا وغير مرغوب به في الشرق الأوسط وإفريقيا، بالتالي لم يكن له أي حلفاء يساندوه على الصمود أمام أمريكا، بينما كانت تفتقر ليبيا لامتلاكها لأي رادع محتمل، بعد تسليمها لأسلحة الدمار الشامل في العام 2003. وهنا اعتبر أوباما عدم التخطيط لاستقرار ما بعد العمليات العسكرية، أسوء الأخطاء التي أرتكبت في ليبيا، واصفًا حالة ليبيا بالفوضى، فتسبب التدخل في الشؤون الليبية في تفككها، وفي نشوب صراع اجتماعي، فأصبحت بذلك مركزًا للإرهاب في المنطقة.

مثلت سياسة أوباما غير المتسقة في سوريا، خطرًا كبيرًا بها، حيث فشلت في تحريك التوازن العسكري بشكل حاسم لصالح “الثوار المعتدلين” المدعومية والمدربين من قبل خبراء ال CIA، وفشلت أيضًا في توفير مناطق آمنة لمنع حدوث أزمة اللاجئين عبر الشرق الأوسط وأوروبا. ووضع الرئيس أوباما خطًا أحمر لمنع النظام السوري من استخدام الأسلحة الكيماوية، وعندما تخطاه بشار الأسد، فشلت أيضًا في تنفيذ رد عسكري عنيف ذي تأثير قوي على النظام السوري. وبذلك، شرعت روسيا في ملئ هذا الفراغ.

ولا بد أن نشير إلى أن الصراع السوري سيتسبب في تغيير الخريطة السياسة لجيل كامل في العالم العربي، فستسيطر الجماعات الإسلامية على المشهد لفترة طويلة من الزمن، لكن بالتأمل في سياسة إدارة أوباما تجاه إيران، سنجد أنها بنيت على أسس علمية واقعية، أثبت خطأ تعريفات العديد من المحليلين السياسيين للاتفاقية “بأسوء الإافاقيات التي عقدت في تاريخ أمريكا”، فهي اتفاقية بنيت على أسس برجماتية دبلوماسية سليمة وواقعية.

كان لدى أمريكا تصور ما عن طبيعة إيران الشريرة، بعد الثورة الإسلامية في العام 1979، وأزمة احتجاز الرهائن الأمريكيين، فتحولت إيران إلى أسطورة في مخيلة الشعب الأمريكي، وبذلك عملت إدارة أوباما على خلق اتفاقية بعيدة كل البعد عن الأفكار ومعتقدات الإيرانية، إنما اهتمت بتغيير سياساتها تجاه إيران بعد موازنتها لمدى خطورة التهديدات التي تمثلها، حيث عكفت إدارة أوباما على التخلص من التهديدات النووية، بتبنيها لأخطر تهديدات النظام الإيراني، ثم حشدت المجتمع الدولي حول هذه القضية، ليتحد العالم حول معارضة طهران. فأجبرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لأول مرة،  على الخضوع لأمريكا والالتزام بتنفيذ بنود الاتفاقية، على الرغم من زيادة إنتاج مخزونها النووي، وقدرتها على استخدامه كوسيلة ضغط.

وبدأ إنهيار ما بنته أمريكا في الشرق الأوسط. فقد حان الوقت لتلتزم أمريكا بتطبيق سياسات خارجية جديدة، تتوافق مع واقع التغيرات الجديدة في الشرق الأوسط، ومن أهم هذه العناصر هو تبنيها لاتجاه سياسي جديد، يتوافق مع حاجات الشرق الأوسط، دون التدخل في شؤونه الداخلية والالتزام بلاعتراف بالقوى الإقليمية الجديدة مثل إيران، فمن الممكن أن يتسبب أي تخبط مع إيران في تحول الانتمائات السياسية في الشرق الأوسط وتغيير معايير القوى به، فستجد أن أمريكا وإيران يتصادمان في سوريا، بينما يساندان الحكومة العراقية، فلا بد أن تسمح أمريكا بالتدخل العسكري الإيراني في الشرق الأوسط، إن كان يساعد في الحفاظ على استقرار الشرق الأوسط.