كان كتاب «فن الصفقة» واحداً من المعالم التي صنعت اسم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتسجيله مبيعات كبيرة وبإعطائه صورة رجل أعمال كبير لديه رؤية.
رجل الأعمال الكبير ذاك قرّر أن يحوّل الوصول إلى أقوى منصب سياسي في العالم، الرئاسة الأمريكية، إلى أكبر «الصفقات» التي سيقوم بإنجازها.
اكتشفنا لاحقاً أن الكتاب نفسه كان «صفقة» أبرمها شخص يكره القراءة والكتابة مع صحافي مشهور هو توني شوارتز الذي ندم ندامة شديدة على ما فعله.
سكّة ترامب نحو البيت الأبيض ظلّت سالكة، وصار مفهومه للسياسة باعتبارها صفقة مجالا لمغامرات عملاقة تدفع ثمنها الكرة الأرضية، لم ينج منها شركاؤه المفترضون في الاتحاد الأوروبي وكندا، وجيرانه في المكسيك، ولكنّ غضبه الأكبر انصبّ على شعوب العالم الفقيرة، التي أهال عليها الإهانات (كما حصل بالنسبة لشعوب أفريقيا التي وصفها وصفا مقذعا، وبعض شعوب أمريكا اللاتينية).
أعلن ترامب شديد كرهه للمسلمين فحظر 6 من شعوبهم من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنّه خصّ الفلسطينيين بنازلة كبرى حين أعلن القدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، وبدأ بتنفيذ خطة إسرائيلية قديمة لتهميش الفلسطينيين وقضيتهم، والتنازل عن حقوقهم تحت مسمّى «صفقة القرن».
صار معروفاً طبعاً دور روسيا فلاديمير بوتين في نجاح ترامب في حملته الانتخابية، فرغم المصالح المتضاربة بين البلدين، فإن الأجندات السياسية لزعيمي البيت الأبيض والكرملين غير متباعدتين.
لجمت التحقيقات القضائية في الدور الروسي، لفترة كبيرة، لقاء الأجندتين الأمريكية والروسية، وكان حقل المفاوضات النارية بين موسكو وواشنطن هو سوريا (وكذلك مناطق أخرى كالعراق وكوريا الشمالية وأوكرانيا وحدود أوروبا الشرقية)، وقد استهلك ترامب في طريقه المحموم نحو روسيا وزير خارجية (ريكس تيلرسون) ومديرا للإف بي آي (جيمس كومي) ومستشارا للشؤون الاستراتيجية (ستيفن بانون) ومستشارا للأمن القومي (مايكل فلين) ومسؤولين آخرين كثيرين.
آخر الأنباء أن هناك خلافات لترامب مع وزير دفاعه جيمس ماتيس، وهو لا يمكن أن يكون خلافا شخصيا والأولى أن يكون لاختلاف رؤية ترامب لما يجري في العالم، وخصوصا مع روسيا، مع رؤية ماتيس ومن ورائه المؤسسة العسكرية الأمريكية (فهو جنرال قديم)، ويمكننا أن نتكهن أن لذلك علاقة أيضا بما يجري في سوريا حيث نرى قرارا أمريكيا واضحا بالتراجع أمام روسيا والنظام السوري (وحتى ميليشيات إيران العراقية في سوريا)، فهل يتعلّق الأمر بغرام ترامب الأيديولوجي المعلوم بقيصر روسيا (وهو أمر تتشاركه اتجاهات اليمين المتطرّف الأوروبية والعالمية)، أم بمكافأته على تدخّله في الانتخابات الأمريكية لصالحه، أم أن هذه الحلقة الأولى في «الصفقة الكبرى» التي يقوم ترامب وحلفاؤه في العالم والمنطقة بتطبيق فقراتها الواحدة بعد الأخرى.
اشتكى صهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنر، ومستشاره ومندوبه للشرق الأوسط (وشريكه في «الصفقات»)، من رفض الفلسطينيين لـ«خطة السلام» التي يطرحها، رغم كل الإجراءات الاخضاعية التي قامت بها بلاده ضدهم، والواضح أن عرقلة الفلسطينيين للصفقة المذكورة دفعت باتجاه ساحات أخرى للتمهيد وتحقيق بعض المكاسب المحسوسة، وقد تمّ خصّ الأردن بالكثير من التركيز والضغط لإبعاده عن الفلسطينيين، وكذلك لتعويضه ماليا واقتصاديا، ويبدو أن استيلاء النظام السوري على الحدود مع الأردن، رغم الثمن الفظيع الذي سيدفعه المدنيون، هو جزء من «الفوائد» التي ستجنيها عمّان مع انفتاح خط الشحن والبضائع من وإلى سوريا.
وفي الوقت الذي تنهال فيه قذائف الطائرات الروسية على درعا وبلداتها، أعلنت موسكو سحب 1140 عسكريا و27 طائرة مروحية، وهو أيضاً أسلوب محبّذ لروسيا في «الصفقات» السياسية على طريقة المتنبي: فليسعد النطق إن لم تسعد الحال، أو: فلنقصف ونسيطر ونحن نعلن، مرة تلو الأخرى، عن انسحاب لقواتنا.
أهم الإشارات أن «صفقة» بوتين ـ ترامب قد نضجت، طبعا، هو إعلان موسكو عن لقاء تاريخي للرئيسين في هلسنكي الشهر المقبل، ونتائج هذه الصفقة، من دون شك، ستكون مخيفة بكل المقاييس.