فتح باب الجماعية بعد قرع عنيف وقرقعة أصوات “سلسلة” المفاتيح التي يحملها السجان، وزعق السجان: “إستلم” …

كنا وقوفاً ووجهنا إلى الحائط، وقد قارب الليل على الرحيل ككل ليالي الزنزانات المنفردة والجماعية، حيث لا نوم حقيقي بل أرقٌ وتهيؤات بالحرية وأحلام تتمرد على الواقع … واقعٌ من ظلم وتعذيب وقهر لا يتحمله إلا أصحاب الإرادة و من يحمل الثورة في روحه وعقله.

رجل قارب السبعين بحالة فظيعة … مجرد من الثياب باستثناء سروال قصير، تفوح منه رائحةٌ قاتلة لمزيج من الدم والقيح والصديد، وعلامات التعذيب على جسده النحيل، سقط على الأرض فوراٌ فتلقاه رئيس “الجماعية” (وهو طبيب) بكل هدوء … حاول معرفة من هذا الرجل القادم فناداني: “أستاذ، دير بالك عليه، ضعه جانبك واعتن به، ريثما يستعيد وعيه”.

أزحنا بعضنا البعض نحن من نتمتع بميزة الاستناد لحائط الزنزانة، ميزةٌ حصلنا عليها بموجب قرار اتخذه رئيس الجماعية، الطبيب القادم من دير الزور لدراسة الطب في دمشق، احتراماً لنا لكبر سننا … وكوني أقلّ المعتقلين إصابة وأذى، تقدمت بين مجموعة من الأخوة المعتقلين بصعوبة وأنا لا أكاد أرى شيئاً في العتمة الغالبة على المكان، تجاوزتهم وهم قاعدين على أرض الجماعية، ولكل منهم بلاطته 40×40 سم هي المكان المخصص ونزله الدائم ليل نهار، بحيث يبقى متلاصقاً مرصوصاً مع 123 معتقلاً في مساحة 6×4 متر زودت بفتحة تهوية أعلى الجدار تنفذ منها خيوط ضوء واهن لا يساعدنا على تمييز الموجودين من حولنا.

بعد جهد، تجاوزت الأجساد المعذبة المقهورة ووصلت إلى الوافد الجديد وأمسكت بيده ووضعتها على كتفي لأساعده على النهوض، فنظر إليّ بغرابة من خلال أصوات ألمه، حاولت ثانية لكنه سقط علي، فتقدم آخران وساعداني لنقلة للزاوية وهو منطوٍ شبه غائب عن الوعي، وبالكاد أوصلناه مسافة ثلاثة أمتار بين الباب والزاوية تجاه الحمام المتعدد الاستعمالات: حمام وتواليت وصنبور لشرب الماء بمساحة 120×60 سم، حيث الجلوس بقربه فرصة حظ … أجلسته أرضاً وطلبت من الرجل الصامت أن يرتاح لدقائق بانتظار إحضار الفطور مع أول خيوط الصبح المطلة من الفتحة أعلى الجدار، فهي الفرصة الوحيدة التي تساعدنا لنعرف أن يوماً جديداً قد في تعداد أيامٍ نشتهي ألا تأتي علينا هنا أبداً.

نصف رغيف مع ثلاث زيتونات، أو نصف ملعقة لبن، أو 10 غرام من الحلاوة، أو قريب من هذا كي تبقى حياً، هي حصتة المعتقل … بعد ساعتين بدأ الرجل بالتقاط أنفاسه، وتعرفت عليه بمساعدة شاب ثوري فلاح كادح من ريف دمشق الثائر، كان الوافد الجديد واحداً من ثلاثة يحملون نفس الاسم، اعتقلهم النظام لتشابه أسمائهم مع شخص مطلوب لم يجدوه، فاعتقلوا الثلاثة “على ذمة التحقيق” الواسعة …ّ قمنا بغسل جسده مما علق به من دم وقيح ووو…، بدأنا بسكب الماء وتنظيفه، ولامست الجلد والوزمات أسفل مقعده، حصلت على قطعة قماش نظفتها ثم مسحت فيها جروحه وأعدته للزاوية كي لا يصطدم به أحد أثناء تداول الحمام دخولاً وخروجاً … غسلت سرواله مما علق به بينما ظلّ الرجل السبعيني عاريا متكوماً على نفسه خجلاً مني أنا الخمسيني … لم أكن لأستغرب اعتقال أي سوري من المناطق الثائرة انتقاماً من أهلها الذين كسروا حاجز الصمت الذي هيمن على سوريا لخمسين عاماً في  ثورةٍ أنطقت القبور الصامتة والشعب المقهور، رغم أنف واستهجان واستنكار الجلاد.

حاولت إطعامه لقيمات الخبز “الملوثة” باللبن، لكن الرجل لم يقوى على فتح فمه ولا على مضغ الطعام نتيجة التعذيب والضرب، فأخرجت طقم أسنانه الصطناعية التي كانت تؤلمه ووضعتها على طرف ظاهر من الحائط، وبدأت بإطعامه لقيمات مبللة ليبلعها فورا، ثمّ سألته عن حاله وأولاده ومن هو، استعنت  بمعتقل من بلدته لفهم كلماته ولهجته المتحشرجة وقصته المحزنة؛ حين خرج من منزله نحو عمله في مجال البناء هو وولده في غوطة دمشق الغربية، فتم اعتقاله مع ابنه الثلاثيني على أحد الحواجز لمجرد كونهم أبناء أيقونة بلدات الثورة … وأودع منذ أيام قيد الضرب والتعذيب و الجوع.

بدأ العجوز المتألم يغيب عن الوعي، فأخبرت رئيس الجماعية بحاجته لطبيب لكون الالتهابات الجلدية بجسده تتكاثر، فأخبر بدوره السجان بوضعه بعد يومين من تواجده بيننا … في مساء اليوم التالي نادى السجان على اسمه ليخرج، وكونه غائباً عن الوعي اضطررت مع معتقل آخر لحمل “أبو الزين” بعد أن غطوا عيوننا، لنحمله إلى الطبيب  الذي أعطاه قرص مسكن ووعد بتحويله للمشفى خلال أيام … عدنا للزنزانة الجماعية، وفي الليل صحا قليلا فطلبنا منه المزيد من الصبر ريثما يحول للمشفى العسكري، لكنّ أوجاع جاري الجديد الملاصق لي “أبو الزين” ازدادت في اليوم التالي وغرق بسبات وإغماءٍ وحشرجات استمرت حتى الفجر، حيث فارقت روحه المتعبة جسده المعذب.

مات “أبو الزين” بعد ثلاثة أيام من نقله لجماعيتنا، وبعد أسبوع على اعتقاله بدون سبب ولا مبرر ودون أي وجه حق … مات سوري آخر من بين مئات المعتقلين الذين يقضون يومياً في معتقلات الفروع الأمنية في سوريا “الأسد”، لكن صورة الرجل لازمتني ولم تفارقني، لوقاره وطيبته وقسوة الزمن والجلاد عليه.

مرت سنتان، خرجت من المعتقل، وبينما كنت أتصفح موقعاً يهتم بالمعتقلين والمغيبين؛ فاجأتني صورة “أبو الزين” ضمن صور”سيزر”، وصعقت لأنني كنت أعتقد أن النظام لا يهتم لأمر عجوز لذلك سيسلم جثمانه لأهله لكي يدفن بكرامة، ولكن هيهات، فأجساد هؤلاء الشهداء تدفن جماعياً أو تحرق، كي لا يبقى لهم قبر أو ذكرى لأحبتهم وأهلهم،  وكأنهم لم يملأوا الدنيا حياة وصخباً وحباً وعملاً خلال مرورهم بها.

مات “أبو الزين” بين يدي وهو يلعن الظالم ويدعو على السجان، ويفتقد أولاده وأهله، مات مع ألمه وجسده المعذب … قرعت باب الزنزانة لأعلم السجان أن رجلاً عجوزاً أزهقت روحه هنا، مات “أبو الزين” قهراً وهو المظلوم مثل ملايين السوريين، مات بلا سبب ولا ذنب، مات جسداً لكنه لم يمت في عقلي وخواطري ليضيف لأرواحنا ساعات من القهر شعرناها مضاعفةً مع معاناة “أبو الزين” الرجل الطيب الطاعن بالسن والقهر، ساعات ونقاطٍ في لوحة قهر الوطن وإنسانه، لوحة الظلم والاستبداد والاستعباد … لك الله أبا الزين.

مروان العش / سياسي وكاتب سوري

مركز آفاق مشرقية