كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

إذا كانت الغالبية الساحقة من مراقبي المشهد السعودي الراهن قد اتفقت على أنّ إعفاء أحمد عسيري وسعود القحطاني واللواء الطيار محمد بن صالح الرميح واللواء عبد الله بن خليف الشايع واللواء رشاد بن حامد المحمادي من مناصبهم في الديوان الملكي والاستخبارات، أتى من باب تقديم أكباش الفداء؛ فإنّ ما يستحق التمعن أكثر احتمال أن تكون هذه هي “قرصة الأذن” التي بادر إليها الملك سلمان، بحقّ ابنه وليّ عهده، عقاباً على جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي.

في عبارة أخرى، قد يتضح أنّ ذلك الإجراء هو أقصى عقوبة شاء الملك أن ينزلها بخليفة له اختاره بنفسه، بعد أن قلب موازين ولاية العهد لكي يمكّنه من أعنة السلطة، وأطلق يده في داخل المملكة وخارجها، وأتاح له أن يهزّ ثوابت في تقاليد الحياة اليومية ظلت راسخة منذ قيام المملكة، بل سانده سرّاً وعلانية في “الإصلاحات” التي استفزت المؤسسة الوهابية المكينة ابتداء من منبر خطبة الجمعة وليس انتهاءً بسلطة الإفتاء العليا.

فهل يجيز الملك لنفسه تقويض كلّ هذا البنيان الذي سمح لابنه بتشييده، لا لأيّ اعتبار آخر سوى أنّ الفتى ارتكب خطأ، قد يكون فادحاً بالفعل، ولكنه ناجم عن طيش الشباب وتهوّر الناصحين؟ ولعلّ الملك قلّب الأمر هكذا، وأضاف أيضاً أنّ مليارات المملكة التي اشترت تواطؤ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يمكن أن تشتري مستويات أخرى من التواطؤ في اسطنبول وسواها؛ وأنّ بلاغة الغضب والاستنكار والإدانة سرعان ما تتكفل المليارات إياها بإسكاتها، قبيل إخمادها نهائياً.

بذلك فإنّ المراهنين على سيناريوهات إعفاء محمد بن سلمان من ولاية العهد، وتسمية أخيه ولياً لولي العهد تمهيداً لتنصيبه، أو حتى انتشال محمد بن نايف من إقامته الجبرية وإعادة تأهيله للخلافة… قد يخيب فألهم، وخلال زمن قياسي ربما، لأسباب لا تخرج في الجوهر عن المنطق الذي ساقته السطور أعلاه.

صحيح أنّ الضجة العالمية، بصدد جريمة خاشقجي، آخذة في التصاعد والتصعيد؛ ولكن من الصحيح، أيضاً، أنها ــ إذا لم تخفت رويداً رويداً، وتدريجياً ــ فإنها لن تتجاوز حدود الاكتفاء بمبدأ أكباش الفداء (في داخل المملكة)، والمزيد من إنفاق المليارات السعودية (خارجها، هنا وهناك في “العالم الحرّ”، دون سواه). والعالم الذي استفظع تفريق ترامب بين عقود الـ110 مليارات، وبين جريمة اغتيال خاشقجي؛ ها أنه، اليوم، يستمع إلى حديث الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون عن “ديماغوجية” الربط بين مبيعات الأسلحة الفرنسية إلى السعودية، ومقتل الصحافي السعودي.

صحيح، من جانب آخر، أنّ “دولة” محمد بن سلمان هي على شاكلة المستشار في الديوان الملكي سعود القحطاني، من حيث “الرجال”؛ وعلى مقاييس التخريف الاستثماري والاقتصادي لمشاريع 2030، من حيث “الرؤية”؛ وتحت سقف قاعدة “ادفعْ وإلا…”، التي سنّها ترامب خصيصاً للمملكة. ولكن من الصحيح أيضاً، وفي المقابل، أنّ 16 شهراً من الحكم الفعلي (في مناصب ولي العهد، ونائب رئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع، ورئيس مجلس الشؤون السياسية والأمنية، ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية…)، قد جعلت عوده، داخلياً، أشدّ صلابة من أن تكسره جريمة قتل واحدة، أياً كانت بشاعتها. فكيف يعقل أنّ الوالد سيعاقبه بأكثر من “قرصة أذن” واحدة، ما دام الوالد نفسه قد عهد إليه بمهمة “إعادة هيكلة” المخابرات؛ أي الأجهزة ذاتها التي، كما يقول المنطق السليم البسيط، تلقت منه أوامر تصفية خاشقجي جسدياً؟

يبقى أنّ تاريخ المملكة، خاصة في العهود الدموية لأمثال فيصل الدويش وسلطان بن بجاد وضيدان بن حثلين، كبار زعماء حركة “الأخوان” الوهابية المتشددة، أو “رُسُل الهول ورسل الموت في كل مكان” كما أسماهم أمين الريحاني؛ لا يفتح الحاضر على رؤى المستقبل، بقدر ما يردّه إلى أشباح الماضي.