خضر زكريا
نشر موقع مركز (حرمون) للدراسات المعاصرة، في 29 أيار/ مايو 2017، تقريرًا خطيرًا صدر عن مؤسسة (راند) الأميركية، في 22 من الشهر نفسه، تُبين فيه المؤسسة الشهيرة رؤيتَها لمستقبل العلاقات الطائفية في منطقتنا، وبخاصة في سورية والعراق، خلال السنوات العشر القادمة.

من تعريف الباحثين، ومن تقديم الشكر لـ “مركز السياسة الاستخباراتية الذي مكّن لهذا البحث”، يتبين، بكل صراحة وبما لا يقبل اللبس، أن مؤسسة (راند) -ذات النفوذ والتأثير الكبير في عدد من البلدان العربية- مؤسسةٌ تابعة مباشرة للاستخبارات الأميركية وتعمل في خدمتها. بل إنها تقول، في مقدمة التقرير: “إن صناع القرار في الولايات المتحدة، وجماعات الاستخبارات الأميركية هم جمهورٌ محتمل لهذا التحليل”. والفقرة التالية تعبر عن مدى الأهمية التي توليها الإدارة الأميركية كلها لهذا التقرير: “لقد أجري هذا البحث في مركز السياسة الاستخباراتية، لمعهد بحوث الدفاع الوطني (راند)، وهو بحث ممول اتحاديًا، وموضع تنمية أو ترقية برعاية مكتب وزير الدفاع، والموظفين المشتركين، وقيادات الوحدات المقاتلة، والبحرية، والغواصات، ووكالات الدفاع، ومجمع الاستخبارات الدفاعية”.

يخلص التقرير إلى رؤيةٍ، تتحدث عن أربعة سيناريوهات محتملة:

السيناريو الأول: صعود النزعة المحلية

والنزعة المحلية تعدّ، من وجهة نظر كتّاب التقرير، ردًا على إخفاقات الأحزاب الإسلامية بصفة خاصة. ففي تركيا تتعزز صلاحيات الرئيس رجب طيب أردوغان، على الرغم من تراجع شعبيته، وزيادة المعارضة له؛ وفي غزة تفقد (حماس) السيطرة على القطاع لمصلحة مجموعات تكنوقراطية تَعِد بتقديم خدماتٍ أفضل؛ والأحزاب الإسلامية تفقد أعضاءها في بلدان الربيع العربي نتيجة لخيبة الأمل الناجمة عن عدم قدرة تلك الأحزاب على تحقيق ما أعلنت عنه. وهذا الفشل يؤدي إلى تمكين المتطرفين الإسلاميين؛ مما يؤدي بدوره إلى تعزيز النزعة المحلية التي يعدّها التقرير ردة فعل على صعود الأصولية الإسلامية. بينما تعتمد الأنظمة في بغداد ودمشق على السيطرة المركزية، ومن ثم تتقاتل مع السكان الذين يسعون لمزيدٍ من الحكم الذاتي المحلي.

لننتبه هنا إلى أن التقرير يعدّ الأحزاب الإسلامية هي القائد لثورات الربيع العربي كلها، وبهذا يقلب الحقيقة الواضحة المتمثلة في أن تلك الأحزاب حاولت ركوب موجة الاحتجاجات الشعبية التي رفعت شعارات بعيدة تمامًا عن شعارات الإسلاميين، وغالبًا ما كان صعود التطرف الإسلامي ناجمًا عن الطريقة التي ردت بها الأنظمة المستبدة على مطالبة الشعوب بالحرية والكرامة.

لكن النزعة المحلية، في نظر التقرير “تضعف بوضوح تأثير الطائفية، وتلغي إمكانات أصحاب المشروعات الطائفية وعمومية الانتماء الديني على التعبئة بالقوة نفسها”.

السيناريو الثاني: معسكر شيعي موحد في وسط الفوضى السنية

يتضح من عنوان هذا السيناريو أن كتّاب التقرير يرون أن شيعة المنطقة، بزعامة إيران، سيظلون متماسكين يحشدون الأتباع لمواصلة ما يصوّره زعماؤهم على أنه إعادة للتوازن التاريخي الذي اختل لصالح السنة (المظلومية الشيعية)، بينما تؤدي المصالح المتباينة ضمن المعسكر السني إلى الاقتتال الداخلي، مما يحدُّ من فاعليته ويسمح للجهات الشيعية الفاعلة بأن تمضي في نفوذها.

ولكي يبين التقرير تقارب أعداد الشيعة مع أعداد السنة، يؤكد أنهم 1 إلى 1.5 عدديًا، ولكنهم 1 إلى 1 على خط الصدع الطائفي الذي يشمل شبه الجزيرة العربية، وإيران، والشام. ولا ندري لماذا يحذف كتاب التقرير تركيا هذه المرة، مع أنها منخرطة في الصراع الدائر مثل إيران والسعودية وغيرهما.

ولتأكيد وجهة النظر هذه، يمتدح التقريرُ الرئيسَ الإيراني المنتخب حسن روحاني الذي “بدأ الوفاء بوعوده الاقتصادية، وأمّن عددًا من المشروعات الاستثمارية الكبيرة من الشركات الأوروبية”. و”يتمتع (حزب الله)، من خلال أدائه في الحملات في الخارج، بشعبيةٍ واسعة في الداخل، محافظًا على تمثيل قوي في البرلمان اللبناني”. ويمتدح التقرير أيضًا حيدر العبادي، المدعوم بأغلبية قوية بفضل النجاحات في استعادة شمال العراق من (داعش)، كما يمتدح نجاحاته في مكافحة الفساد السياسي.

ويخلص التقرير إلى القول: “تقف الوحدة النسبية، والثروة الجيدة للجهات الشيعية الفاعلة، على النقيض من فوضى المعسكر السني”. فالقلق من أن ينزلق اليمن في مدار النفوذ الإيراني يضعف تماسك مجلس التعاون الخليجي؛ والعلاقات الأميركية مع الرياض تستمر بكونها متهلهلة، ومقبلة على انفجار؛ وبشار الأسد استعاد السيطرة على المدن الكبرى في سورية، ولم يبقَ سوى مجموعات صغيرة من المقاومة. وبالتالي فإن “التأثير الصافي أو النهائي هو أنَّ الجهات الشيعية الفاعلة تسعى للحصول على فرصٍ لتوسيع نفوذها، في حين إن الجهات الفاعلة السنية في حالة دفاع عن الذات”.

هل هذا ما تسعى له الاستخبارات الأميركية؟ إن صياغة هذا السيناريو، وقراءة ما بين سطوره توحي بذلك.

السيناريو الثالث: مجازفة سياسية تجلب الانفراج

يتحدث هذا السيناريو عن ارتداد الصراع الطائفي، المتصاعد والواضح أكثر ما يكون في اليمن وسورية، إلى صراع إقليمي من شأنه أنْ يهيئ السعودية وإيران لمواجهةٍ عسكرية مباشرة. ويقول التقرير بهذا الصدد: “لقد تخلت الولايات المتحدة إلى حدّ كبير عن الجهد الرامي إلى إيجاد حل للصراع، وبدلًا من ذلك، تركت للجهات المتحاربة استنفاد بعضها”. وهنا تسقط ورقة التوت التي ظلت الولايات المتحدة تحاول أن تغطي بها سلوكها تجاه الصراع في سورية واليمن وغيرهما. والواقع أن “ترك الجهات المتحاربة تستنفد بعضها”، هو أحد عناصر سياسة الولايات المتحدة الأميركية على اختلاف السيناريوهات المطروحة. وكذلك تفعل روسيا بعد أن أمّنت لأسطولها الوصول إلى الشرق الأوسط، عبر طرطوس.

وبعد احتمالات نزاع عسكري محدود، تسعى كل من السعودية وإيران إلى البحث عن وسائل لتخفيف التوتر، فتشدد كل منهما على الذين يدفعون بالأجندات الطائفية بدافع الخوف، خشية انفجار الحوادث التي لا يمكن للسلطتين الإقليميتين السيطرة عليها.

السيناريو الرابع: النزاع العرقي وإزاحة دافع الانعزال الذاتي

في هذا السيناريو، يتحدث التقرير عن إخماد جذوة العنف الطائفي كنتيجة للصراع العرقي والتشرد والنزوح؛ وبالتالي تصدّع المجتمعات المحلية. ففي سورية مثلًا، تؤدي عملية السلام إلى مناطق سيطرة معترف بها، ومقسّمة بين حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، والنظام، والمعارضة. فبعد الإعلان عن تقسيم المناطق، توطِّد موجة من النزوح الداخلي السكانَ الأكراد أكثر في منطقة سيطرة “حزب الاتحاد الديمقراطي”. والأقليات، بما في ذلك العلويين والمسيحيين والدروز، في منطقة سيطرة النظام. والعرب السنّة في منطقة سيطرة المعارضة. أما البلدات المختلطة والمناطق المتاخمة فهي مواقعٌ لإراقة الدماء العرقية، والطائفية خصوصًا.

ويختم التقرير هذا السيناريو بالقول: “إن أثر العلاقات الطائفية متشابك. فمن ناحية، تفاعلٌ أقل بين الطوائف يقلل من حوادث الصراع اليومية، ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ الفصل بين المجتمعات المحلية يعمّق التحامل، وينذر بصراعٍ يختمر، ويؤسس له ببطءٍ نحو الانفلات”.

خلاصة القول: لا تأملوا خيرًا من الولايات المتحدة الأميركية، فهذه السيناريوهات كلها بعيدة كل البعد عن أهداف ثورات الربيع العربي، ولا سيما الثورة السورية.

مركز حرمون