بيان

مثل كل الثورات الكبرى في التاريخ ، تستمر ثورة السوريين بكل حمولتها من البطولة والصبر والمعاناة ، من الانتصارات والانكسارات . ويستمر السوريون وحدهم، يسبحون في بحر من الدم والنار صاعدين نحو الحرية في محيط من الخذلان والنفاق مخز لأصحابه، ويلوث وجه العالم. وبقيت بلاد الأبجدية وأهلها يصرخون في وجه الدول بعد ست سنوات مريرة: ” يا وحدنا ” .
كان الاحتلال الروسي السافر والمباشر أخطر التطورات عام 2016، إذ لم يكتف باحتلال البحر والجو وتقاسم النفوذ على الأرض شراكة مع إيران، بل تطاول على الملف السياسي لحرف العملية السياسية عن مسارها الأممي، الذي بدأ ببيان جنيف1 لعام 2012، واستمر عبر قرارات مجلس الأمن ذات العلاقة، مستغلاً إلى أبعد الحدود الفراغ الذي تُرك له في محاولة لتحقيق مصالحه الإقليمية والدولية وفرض إرادته على الجميع. وصارت القضية السورية قضية إقليمية ودولية ، هنا على الأرض وهناك في أروقة الأمم المتحدة والمؤتمرات الدولية . بدأ هذا المسار الجديد في فيينا باجتماع مجموعة الدعم لسورية 2015 مروراً بالاتفاق الثنائي الأمريكي – الروسي 2016 ، وبعدها في اتفاق أنقرة واجتماعي الأستانة 1و2 عام 2017 . ففي هذا الوقت جعل الطيران الروسي الحياة مستحيلة في المدن والبلدات . فأحرق حلب وشتت أهلها ، وقاد سياسة التهجير والترحيل لإفراغ داريا والمعضمية وقدسيا ومضايا والتل وغيرها من تجمعات الريف الدمشقي من سكانها تحت شعار ” المصالحات والهدن المحلية ” بعد سنوات من التجويع والترهيب . وفتح الباب لاستمرار نظام الكيماوي وزمرته المجرمة في الحكم ، وبقاء الهيمنة الإيرانية بنهجها التدميري الفئوي والمذهبي تعبث في البلاد .
كانت المحاولات الروسية واضحة لتثبيت القرار 2254 كمرجعية وحيدة للعملية السياسية ، وطي بيان جنيف1 وقرار مجلس الأمن 2118 وقرار الجمعية العامة 262/67 ، لأنها تتحدث عن ” الانتقال السياسي ” عبر تشكيل ” هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية ” لاستبدالها بـ” حكم ذي مصداقية وغير طائفي ” وفتح طريق موارب ، يحقق بقاء النظام وإجهاض الثورة وتقزيم أهدافها إلى شكل من أشكال المصالحة معه ، مستغلاً الظروف الصعبة التي مرت بها الثورة خلال العام الماضي بفعل عوامل ذاتية وموضوعية ، وتحت تأثير الفوضى التي عمت المنطقة نتيجة تبدل العلاقات والأولويات والتحالفات بين الدول ، والوضع العربي البائس الذي بلغ الذروة في تهتكه وفواته . تم ذلك في ظل تراجع غربي وأمريكي على وجه الخصوص ، وصل حد التواطؤ والخذلان . وبدا كأن العالم ترك الشرق الأوسط لمصيره تحت عربدة الآلة العسكرية الروسية وغطرسة الأطماع الإيرانية، التي تشعل في المنطقة صراعات وحروباً مدمرة لا تنتهي .
غير أن الآلام الداخلية للثورة لم تكن أقل وطأة في مجريات العام الماضي . فمن الاقتتال الداخلي إلى أعمال الالتهام والإلغاء من قبل الفصائل كبيرها لصغيرها ، وحركات التوحد والانقسام الاعتباطي لأسباب لا تتعلق بالثورة ، إلى اشتداد وتيرة الغلو والتطرف والتصرفات الإرهابية والعنف الأعمى الذي تواجهت به بعض الفصائل ، ومورس على الناس في العديد من الأماكن ، مستسهلة التخوين والتكفير المتبادل والمسح عن الخريطة أيضاً . وهنا نقول : لقد آن الأوان لتصويب المسار والخروج من أوهام السلطة والإمارة ومحاولة فرض الإرادات والخيارات أوالهيمنة الكيفية والاعتباطية على السوريين . فالمطلوب إسقاط النظام الغاصب أولاً واحترام إرادة الشعب في بناء دولته الجديدة ثانياً ، وبعد ذلك فليختلف المختلفون .
وفي الميدان السياسي ، كان العمل التخريبي منصباً على تبديد جهود الهيئة العليا للمفاوضات . بعد أن قادت بنجاح مفاوضات جنيف3 ، وساهمت في فتح الطريق أمام الإمدادات الإغاثية للمناطق المحاصرة ، ونالت ما تستحق من اعجاب العالم وثقة السوريين . كانت الهيئة في بؤرة الاستهداف الروسي – الإيراني لاختراقها وتدميرها ، كما كانت – وللأسف – موضع حرتقات وطموحات صغيرة من قبل بعض المعارضين أفراداً ومنظمات ، جعلها في موقع الدفاع عن النفس ، ومحط ألاعيب لبعض الدول لإفشالها في مهمتها ، وزحزحتها عن خطها الملتزم بأهداف الثورة . وجاءت جولة المفاوضات جنيف4 حصيلة لهذا الأمر . حيث تمكن الروس والوسيط الدولي من وضع منصتي القاهرة وموسكو بمواجهة وفد الهيئة العليا ، وإضافة بند الإرهاب إلى محاور المفاوضات التي رسمها القرار 2254 وحده ، وفرض التناول المتوازي لهذه المحاور في المفاوضات . كان ذلك نتيجة التغيير الكبير الذي طال الوفد المفاوض ، والهجوم الذي قاده الروس في ملعب مفتوح لهم ، استسلمت له الدول في جنيف قبل جولة المفاوضات وأثناءها .
ليس لأحد أن ينتظرتقدم العملية السياسية في جنيف أوغيرها بغياب الولايات المتحدة . فالإدارة الأمريكية الجديدة لم تعلن بعد عن رؤيتها لمعالجة قضايا المنطقة وللشأن السوري بالتحديد ، لطالما كان ترتيب شؤون الشرق الأوسط ودوله يبدأ من ترتيب البيت السوري ، ويتحكم به . وما زالت أوجه الصراع حول سورية في المحاور الإقليمية والدولية في تصاعد ، يظهرها بوضوح هذا التزاحم العسكري حول منبج كموقع ، لكن العين تبقى على الرقة . وتحاول الولايات المتحدة وروسيا وتركية تجنب احتمالات الصدام على الأرض بعد أن تبدلت المواقع والأوراق ، وتغيرت الخطط بعد تجول العلم الأميركي في المنطقة فوق قوة عسكرية ميدانية أمريكية للمرة الأولى ، أو تغطية لقوة يدفع بها الأمريكيون للمشاركة في معركة الرقة . وهنا تتداخل الحرب الدولية ضد داعش في العراق مع مثيلتها في سورية ، خاصة وان الوجود الأمريكي عامل مشترك ومشارك في الجانين . وهي من المهام التي أعلن الرئيس الأمريكي الجديد التزامه بها .
ليست الأمور ناضجة بعد للحل السياسي . ولا بد من سياسة بديلة للعاملين في الحقلين السياسي والعسكري استراتيجياً وتكتيكياً ، تستند إلى طاقة الثورة الكامنة ، وتحرص على إنقاذ القرار السوري من أيدي الدول والمحافظة على استقلاليته قدر الإمكان ، وإبقائه في دائرة الوطنية السورية ومصلحتها العليا باستمرار .
وفي هذا المجال لا زالت الثورة تعطي دروسها البليغة والناصعة لمن يريد أن يسمع ويرى . فالمظاهرات التي خرجت من بين أنقاض المدن خلال فترات وقف إطلاق النار تعلن تصميماً لا حدود له على استمرار الثورة . واللافتات التي رفعها الشباب المحاصرون بالجوع والموت والانتهاكات تعلن رفض المنصات ، لأنها منصات خلبية . وإبداعات السوريين في موطنهم ومهاجرهم التي خطفت أنظار العالم وإعجابه مازالت تقول بالفم الملآن : ” عاشت سورية ويسقط بشار الأسد ” .
الرحمة للشهداء والشفاء للجرحى
الحرية للموقوفين والسجناء والمخطوفين
الخزي والعار للقتلة المحليين والإقليميين والدوليين
الحرية لسورية وشعبها البطل
دمشق منتصف آذار 2017
اللجنة المركزية
لحزب الشعب الديمقراطي السوري