الوحدة والحرية والاشتراكية ثلاثة أقانيم رفعها مؤسسوا البعث كأهداف لحزبهم الذي أعلنوا عن تأسيسه في السابع من نيسان عام 1947.
عفلق المهجوس بأقليته إلى درجة يمكن أن يقال إن الفكر السياسي العربي لم يعرف أقلياً مهجوساً بأقليته مثله، وصلاح البيطار الدمشقي السني ابن الأسرة ذات الباع في العلم الشرعي والذي قدم ورفيقه السابق من باريس متأثرين بأفكار وتجربة الحزب الشيوعي الفرنسي الذي حافظ على جاذبية لم يستطع نظيره السوفياتي الاحتفاظ بها .
وجلال السيد القادم من مدينته الصحراوية على ضفاف الفرات، وهو مشغوف بالفكرة القومية التي كانت آنذاك موضة العصر وتقليعته الفكرية والسياسية.
لست بصدد تحميل هؤلاء مسؤولية الدمار الذي حل ببلدين عربيين مهمين في ظل نظام البعث، وليس هذا منحى علمياً أصلاً، فالثلاثة كانوا ذوي نيات صادقة، وكل من عرفهم عن قرب يعرف ذلك.
ولكن تحليل المزاج النفسي هو ما أريد أن أشير إليه .
أن تكون مسيحياً مهجوساً بأقليتك بصورة أقرب إلى تحكّمها بكل تفاصيل حياتك في وسط دمشقي مسلم محافظ كفيل بأن يكون دافعاً لجنوحك نحو مظلة جامعة للمسلم والمسيحي غير مظلة الدين .
وأن تأتي من بيئة قبلية بسيطة لا سبيل إلى إثبات وجودك فيها إلا عبر هوية قبلية أو زعامة دينية ربما كان له دور في تشوفك لأفق آخر مغاير لهذين العالمين، وليس مفارقاً لهما خصوصاً وأنت متجاوز ومتقدم فكرياً على مجتمعك الصغير .
لا أظن أن هذا الثلاثي القيادي قد استطاع أن يتخيل مهما بعد به الخيال في تلك اللحظة في مقهى الرشيد أن حزبه الوليد هذا سيمتلك مقدرات سوريا والعراق ويحكمهما لعدة عقود.
زكي الأرسوزي الذي كان له دور فكري أكثر من العملي في التأسيس يمكن أيضاً أن يساعد الاقتراب منه في تفسير الضبابية في الفكر السياسي البعثي .
فالأخير بسبب انتمائه لمذهب باطني غنوصي كان صريحاً في معاداته للإسلام الذي كان يعده مرحلة انحطاط في تاريخ الأمة، وأن مرحلة الازدهار في تاريخها كانت الجاهلية؛ وبسبب تياره في الحزب وصم البعض الحزب بأنه حزب ملحد.
يقول أحدهم إن الانخراط اللاحق في العمل لتحقيق الأهداف كشف عن طوباويتها واستحالة تحقيقها .
وهواكتشاف لم يتحرّ الأسباب؛ فأن تضع أهدافاً على هذه الدرجة من العمومية والانفصال عن عالم الواقع لا يجدتفسيره إلا في غلبة الجانب الوجداني والنوازع النفسية على الجانب العقلاني لديك .
السهولة التي تسلق بها قادة الانقلابين في سورية والعراق على حزب البعث، ومصادرة حافظ الأسد وصدام حسين فيما بعد للدولة والمجتمع باسم الحزب يجد تفسيره بالإضافة إلى عوامل موضوعية أخرى في عمومية الشعارات وقابليتها للتسويق عند العموم الذين من طبيعتهم أن يميلوا للسطحي والعاطفي وينفروا من العميق و العقلاني.
بعد هزيمة 67 اقترح الشاب البعثي خريج الجامعة الأمريكية في بيروت سعدون حمادي الذي أصبح مسؤولاً كبيراً فيما بعد في نظام البعث في العراق أن يعاد ترتيب الشعارات وتصبح:
حرية – وحدة – اشتراكية واقترح آلية لتطبيق الترتيب الجديد :
تقوم دولة عربية قوية بمهاجمة إسرائيل وهذا سبيل الحرية – الهدف الأول- فتزحف الشعوب العربية لمؤازرة هذا البلد العربي، فتتحقق الوحدة، ويصبح تحقيق الاشتراكية بعد ذلك مسألة وقت .
لا أدري إذا كان توقعي في محلّه، ولكنني سمعت صدى هذا الاقتراح في المؤتمر الصحفي الذي عقده صدام حسين قبيل مهاجمة القوات الأمريكية وحلفائها للعراق في عام 1991 عندما عبّر عن يقينه بأن الشعوب العربية ستسقط أنظمتها وتتتحد مع العراق في مواجهته لقوى الشر .
بعدها قام بمهاجمة إسرائيل ببضعة صواريخ، ولم تسقط الأنظمة، ولم تزحف الشعوب، ولم تتحقق فرضية “حمادي” التي أظن أن صدام استجلبها من أدبيات البعث في الستينات وحاول تطبيقها في بداية التسعينيات.
وكانت الفجيعة العبثية التي سببتها حماقة احتلال الكويت وكل ماجرى لاحقاً.
لولا قابلية النظرية بإيغالها في الخيال والمثالية لأن يستثمرها انتهازيون وحمقى لما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ولما استطاعوا التسلل عبر ثغراتها التي لم يحسن واضعوها سدّها، ليمسكوا بتلابيب حزب، وينفثوا في بلد مفرزات حماقاتهم، وفي آخر سموم حقدهم.

رئيس التحرير