كامل عباس

يحاول الأستاذ ميشيل كيلو في مقاله بين خيارين (العربي الجديد: 13/8/2018) سحب مفهوم الماركسية اللينينية حول العلاقة بين الطليعة المثقفة والحركة العفوية، عرضه لينين بوضوح في كتابه (ما العمل)، الموازي لقرآن المسلمين عند الماركسيين، حيث حدد دور الطليعة المثقفة في نقل الوعي إلى الطليعة العفوية كي يتلازما العمل في الحزب الثوري الذي يعمل من أجل الجماهير التي لاتعي مصلحتها.
أفتتح كيلو مقاله بقوله:” ليس هناك ما هو أسوأ في أي ثورةٍ من الشعبوية: من السير وراء العفوية التي غالبا ما نتصّف بها نحن البشر، فتحركنا عواطفنا التي تملي علينا ردود أفعالٍ تعجز عن التعامل العقلاني والناجح مع مشكلاتنا. بدل أن تسير الكثرة وراء ما تضعه القلة من خطط وبرامج سياسية، تعبر عن مطالبها ومصالحها، يفضي الافتقار إلى الخطط والبرامج إلى هيمنة الكثرة على النخب التي يفترض بها امتلاك ما يكفي من معرفةٍ وخبرةٍ لتكون قائدة، وبالكثرة ما يكفي من حسٍّ سليمٍ تميّز بواسطته بين ما يقدّم لها من أفكار وتصوّرات، فتمنح ما تختاره قوة مادية تجعل تحقيقه ممكنًا، وفي حالات كثيرة حتميًا، كما قال فلاسفة عديدون”. وأضاف:” لذلك، تؤكد الخبرات التي قدّمتها تجارب تاريخية متنوعة أن العفوية لا تصلح لوضع خطط وبناء نظم وقيادات ثورية، وأن سير من النخب (هكذا في الأصل) وراءها يكون كارثةً تدمر أي ثورة، مهما كان اشتراك الشعب فيها كثيفًا، وكانت رهاناته نبيلة ونزيهة”…. فالثورة تنتصر في الواقع بقدر ما تكون قد انتصرت في الوعي، وبقدر ما تنجو من العفوية والارتجال، وفق قول أحد الفلاسفة، نقله عنه كيلو دون أن يسميه، لذلك، أدّى هذا الوضع المقلوب إلى فشل ثوراتٍ كثيرة، من الضروري لنجاة الثورة السورية منه أن تمتلك أخيرًا قيادة ذات صدقية، بدل أن تغرق معظم نخبها نفسها في التملق لما اعتقدوا أنه الشعب، بنتائج مأساوية. وأوضح غايته من كل ذلك: التنبيه من محاولات الذين تملقوه وحوّلوا ثورته من أجل الحرية إلى ثورةٍ مذهبيةٍ معاديةٍ للحرية، ولوحدة السوريين شعبًا، إحكام قبضتهم على يقظة جديدة في ما بقي من سوريين في الشمال السوري.
ملاحظتي الأولى مطالبة قادة المعارضة ومثقفيها الكف عن الاختباء وراء أصابعهم بمواصلة العزف على الدور المدمر للحركات الإسلامية ومواجهة الحقيقية عارية: نجاح تلك الحركات تعبير عن فشل القوى الوطنية والديمقراطية في لعب دور وازن في الثورة، وفشل مثقفيها في تطوير وعي الكتل الشعبية بواقعها وخياراتها ومستقبلها. لا يمكن دون مواجهة هذا الواقع والاعتراف به، وبنتائجه المدمرة، ترميم مسيرة الثورة واستعادة صدقية القوى الوطنية والديمقراطية جزئيًا؛ لأن أي حديث قبل ذلك سيتحول إلى سخرية سوداء ونصح على طريقة “كن كما أريد ولا تكن مثلي” .
ملاحظتي الثانية ضرورة الكفّ عن تقمص دور الناطق بلسان الحقيقة وإلقاء اللوم على الآخر؛ لأن ذلك غدا مكشوفًا وبائسًا، ولا يمكن أن يخفي شقاء الوعي الذي يعيشه مثقفون كثر على خلفية أخطائهم الفادحة وعدم امتلاكهم الجرأة الأخلاقية للاعتراف بذلك، وفقدهم صدقيتهم لدى الكثرة فتذهب جهودهم الجديدة هباء منثورًا.
ملاحظتي الثالثة والأخيرة: أن كثيرين من قادة المعارضة، وخاصة مثقفيها، كانوا طلاب سلطة لا طلاب تغيير ثوري، وقد انخرطوا في صراع على جلد الدب قبل اصطياده -حسب تعبير كيلو ذاته- تجلى ذلك واضحًا في تحالفاتهم وتحولاتهم التي برزت في كل انتخابات مؤسساتها، بهذا المعنى كانوا خطوة إلى الوراء قياسًا بالمثقفين الذي أرادهم لينين لمساعدة الثورة.
لقد وقعت الثورة السورية تحت ضغط ثلاثة عوامل ماحقة::
المعارضة وارتهانها لتصورات وخيارات القوى الداعمة، والدليل على ذلك موقف “الهيئة العليا للمفاوضات” التي قبلت بمنصات لاعلاقة لها بالشعب السوري، ورفض وفدها إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة حضور اجتماع “الآلية الدولية المستقلة والمحايدة للتحقيق في الجرائم المرتكبة في سوريا” التي شكلتها الأخيرة؛ لأنها تشكلت باقتراح قطري وحضور وزير خارجية قطر لهذا الاجتماع، وموقف “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” في عفرين الذي انطلق من مصالح تركيا أكثر من مصالح الشعب السوري.
السياسيون والمثقفون الذين انحازوا لمصالحهم الخاصة وقبلوا الاستزلام والاستتباع بطيب خاطر فكانوا -بكل أسف- شرًا على الثورة والشعب.
المجتمع الدولي بمؤسساته الحالية وقيادات دوله التي تبحث عن مصالح مافياتها ولا تعنيها أبدًا القيم، ولا الإنسان وحقوقه.
لذا ما يلزم الثورة ائتلاف جديد، لا يستثني أحدًا من الثوار، يبنى من أسفل إلى أعلى، وهذا قد يحتاج إلى سنين طويلة، فنحن في أول الطريق، وعلينا جميعًا تقويم التجربة بشمولية وإخلاص، والتعاطي على قاعدة نفي النفي: “الجديد ينبثق من القديم ويأخذ خير ما فيه”؛ كي نمهد لمرحلة جديدة بشروط مناسبة نصل بها إلى هدفنا في الحرية والكرامة.