رئيس التحرير

يبدو أن التمدد الإيراني قد بلغ من القحة مبلغًا يتجاوز قدرة القوى الدولية الكبرى على الاحتمال، وهو ما يفصح عنه صمتها المترافق مع إشارات تعبر عن رضى عما يجري في العراق ولبنان.

وقد أصبح خلط أوراق اللاعب الإيراني الذي ظن أن الساحة باتت خالية له لتحقيق حلمه الامبراطوري القائم على أساس طائفي تكتيكًا  أقل كلفة بالنسبة للساخطين على تجاوز نظام الملالي حدوده، ولكننا نظن أن هذا التكتيك لا ينحو نحو التحول إلى استراتيجية حقيقية للتغيير، ولا يتجاوز شدّ الأذن لتحقيق بعض المكاسب.

إن انتفاضة الأحرار في لبنان والعراق تمثل غضبًا طال حبسه في الصدور على سياسات أتباع إيران في كلا البلدين، وهو -بلا شك- حراك مبشر بأن رياح التغيير التي هبّ نسيمها عام 2011 لا تزال ماكثة في الفضاء العربي، وأن ما حملته معها من  أمل بإسقاط أنظمة الفساد والطغيان لا يزال قائمًا.

ولكن الإسراف في التفاؤل يعيد إلى الذاكرة ما ساهمت به النخب من تضليل مقصود أو غير مقصود للشعوب الثائرة.

فهذه النخب التي كشفت عن سذاجة سياسية في كل من سورية ومصر وليبيا، وعن قصور في فهم متغيرات المشهد الإقليمي والدولي -وهو ما اعترف به بعض رموزها بكل صدق مع الذات- لم تع في سورية –مثلًا- حجم الممانعة الإقليمية والدولية لتغيير نظام دمشق، ولم تفهم مدى تجذّره، ولم تحفل بالعامل الأهم، وهو حسابات ومصالح الكيان الإسرائيلي.

وهي في قفز على الواقع نضت عن كاهلها العبء، وألقته على أكتاف الشباب الذي ظنته كائنًا كلي القدرة يستطيع تحويل كل ممكن إلى واقع.

ولربما كان من أسباب هذا التعويل المفرط إحساس عميق بالعجز، وإدراك مضمر لاستحالة وصول أي حراك شعبي إلى غاياته ما لم يحمل على حامل مجتمع مدني حقيقي لم تفلح هذه النخب في تكوينه، أو على الأقل لعدم توفر ظروف إقليمية ودولية مواتية تحمله إلى مرفأ الوصول.

وهنا يمكن العثور على كلمة السر؛ فتضافر العوامل الداخلية والخارجية -بغضّ النظر عن الوزن النسبي الأكبر لأي منهما- هو ما يحوّل ممكن الحرية إلى واقع، وإذا نظرنا إلى الإرث الذي خلّفه نظام الاستبداد المديد في العراق من تصحّر للحياة السياسية، وضمور -إن لم يكن عدمًا للمجتمع المدني- مع ما يكتفي به اللاعب الدولي الأكبر من مشاهدة بابتسامة الرضا يتطلب التأني قليلًا في تدبيج القصائد والإمعان في تضليل لشباب ينفثون ما في صدورهم من غضب من دون امتلاك أي وسيلة للمواجهة مع نظام مافيوي مجرم مستند إلى حليف إقليمي هو الأقوى بما يملكه من أوراق في اللحظة الحالية.

وإذا تتبعنا ما كشفه باحث ميداني غربي زار لبنان إبان الحرب الأهلية من عفن طائفي مستخف تحت شعارات أخرى، وما ارتكبته قوى الظلام بعد ذلك من جريمة بحق لبنان الدولة والمجتمع بمصادرتهما خدمة لمشروع ذات الحليف، مع ما يكاد يكون مؤكدًا من رفض الجار الإسرائيلي لتحوّل حقيقي نحو دولة المواطنة في لبنان، فسوف نتريث قليلًا في بناء القصور على الرمال.

إن من الضروري الفصل بين الحبور بصرخات الحرية في لبنان والعراق، ورفع القبعة لكل ثائر، والانحناء إجلالًا أمام كل شهيد، وبين ارتكاب ذات الخطأ في إغفال العوامل البنيوية التي لا تقوى إرادة فاعل واحد على تحويلها إلى الجهة التي يريد.

مجتمع دولي منكسر الميزان الأخلاقي ترك الشعب السوري يذبح عبر السنوات التي تصرّمت بكل أدوات القتل، ونظام عربي عاجز وغير شرعيّ، وكيان وظيفي إسرائيليّ، و نظام قروسطي إيراني هم الفاعلون الذين يواجههم الحراك في كل من لبنان والعراق، وهو خلو إلا من رغبة عارمة في الحرية.

إذا كنا نريد لهذا الحراك أن يحقق جزءًا من غاياته، فعلينا أن نفهم المشهد أولًا، وأن نتحرك لدعمه انطلاقًا من هذا الفهم بتجييش الرأي العام العالمي ومنظمات المجتمع المدني في العالم الحر لدعمه، وألا نكتفي بالتغزّل به، وتركه وحيدًا في مواجهة غير متكافئة مع قوى لا تتورع عن أي فعل قبيح.

تحتاج نسمات الحرية إلى أكثر من استرواحها وشكر من أرسلها، تحتاج إلى فعل يحيلها إلى رياح لواقح يهطل عقبها الغيث.

.