كاتب سوري

أثارت روسيا، بشكل مفاجئ، فتح ملف عودة اللاجئين السوريين، بإعلان وزارة الدفاع الروسية يوم 18 الشهر الماضي (يوليو/ تموز) عن خطة لإعادة 1.7 مليون لاجئ: 890 ألفاً من لبنان، 300 ألف من تركيا، 200 ألف من أوروبا، 150 ألفاً من الأردن 100 ألف من العراق، و100 ألف من مصر. وقولها “إنه يمكن استقبال حوالى 336 ألف لاجئ في مراكز لجوء داخل سورية، 134.500 منهم في حلب و73.600 في ريف دمشق، و64 ألفاً في حمص، و45 ألفاً في دير الزور. وتقدمت موسكو بطلبات إلى 45 دولة، للحصول على بيانات وأرقام دقيقة عن اللاجئين السوريين المقيمين فيها، وأرسلت وفدا كبيرا رفيع المستوى، من 13 مسؤولاً، شمل نائب وزير الخارجية، سيرغي فيرشينين، ومسؤولين في وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية برئاسة مبعوث الرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف، إلى الأردن ولبنان، لتسويق الخطة، وأخذ موافقة البلدين عليها، والإعلان عن افتتاح مراكز لتسجيل أسماء اللاجئين الراغبين بالعودة، وتحديد معابر رسمية لعودتهم. كل هذا بالتنسيق مع وزارة الخارجية، حيث زار وزير الخارجية، سيرغي لافروف، يرافقه رئيس هيئة الأركان العامة، فاليري غيراسيموف، ألمانيا وفرنسا لمناقشة الخطة. وكان لافتا فرض الملف الإنساني ببند رئيس، عودة اللاجئين، على جدول أعمال اجتماع أستانة 10 الذي عقد يومي 30 و31 يوليو/ تموز في مدينة سوتشي الروسية، فقد صرح نائب مدير قسم الإعلام والصحافة في الخارجية الروسية، أرتيوم كوجين، “إن اجتماع سوتشي سيولي اهتماماً خاصاً للأوضاع الإنسانية في سورية وعودة اللاجئين السوريين”. وقد أثار (التوجه) استغراب مراقبين ومحللين سياسيين، في ضوء تصدّر ملف الإصلاح الدستوري جدول أولويات روسيا، طوال الأشهر الأخيرة، وتحرّكها المحموم لتشكيل اللجنة الدستورية، على طريق إحلالها بديلاً عن مسار التسوية السياسية.
عكست تصريحات المسؤولين الروس، وقراءات المحللين والمعلقين، الغاية من المناورة الروسية الجديدة، بإعطائها أولوية قصوى لإعادة اللاجئين التي تمثلت في هدف مزدوج: تعويم النظام السوري إقليميا ودوليا. وبرز ذلك في ربط المبعوث الرئاسي الروسي بين مسار عودة
“عقبات واقعية يمكن أن تعيق المسعى الروسي إلى إعادة اللاجئين واستثمار عودتهم” اللاجئين ومسارات عدة سياسية وأمنية وعسكرية، ما يعني ضرورة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، لضمان تنفيذ كامل وسريع لخطة إعادة اللاجئين. وهذا ما حقّقه المبعوث الرئاسي في محادثاته في الأردن ولبنان، وفق قراءة مراقبين روس، وما منعه من زيارة أنقرة، حيث أكبر عدد من اللاجئين (3.5 ملايين)، أن تركيا غير مستعدة بعد للتطبيع مع النظام. واستدراج دول إلى رفع العقوبات الدولية المفروضة على النظام، والمساهمة في عملية إعادة الإعمار، عبر ربطها بعودة اللاجئين إلى مواطنهم الأصلية، وتوفير شروط حياة مستقرة لهم. وهذا دفعها إلى الضغط على النظام، لإعلان موقف ايجابي من عودة اللاجئين، تجلى بدعوة رئيسه إلى عودة اللاجئين، وترحيبه بالخطة الروسية، دعوة تتناقض مع حديثه السابق عن المجتمع المتجانس الذي نشأ في سورية، بعد هجرة 5.6 ملايين من أبنائها، لتسهيل المناورة الروسية، وإنجاح عملية تعويم النظام، ورفع العقوبات الدولية، والمساهمة في إعادة الإعمار.
جاءت النقلة الروسية في سياق إدراك موسكو أن طريق التسوية الروسية للصراع في سورية وعليها غير سالكة، لاعتبارات ثلاثة، أولها عدم ثبات الموقف الأميركي وتردّده في تنفيذ تفاهمات قمة هلسنكي، خصوصا بعد العاصفة التي أثارها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إنْ في الداخل الأميركي أو في الدول الأوروبية الحليفة، بتصريحاته في المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يوم 16/7/2018، عن تقويم المخابرات الأميركية للتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، ما دفعه إلى تغيير هذه التصريحات، وتأجيل القمة الأميركية الروسية إلى العام المقبل، خوفا من انعكاسات أدائه فيها على فرص نجاح المرشحين الجمهوريين في انتخابات الكونغرس النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني، وخسارتهم الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، وإلى التشدّد في الملف السوري، حيث رفض المشاركة في اجتماع أستانة 10، وأعلن تمسّكه بمسار جنيف، باعتبار المسارات الأخرى ليست أكثر من “عامل صرف أنظار عن تنفيذ القرار الدولي 2254″، وفق تصريح ناطق باسم الخارجية الأميركية، نقلته وكالة تاس الروسية، جدد التأكيد على تمسك واشنطن بمسار جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة طريقا للوصول إلى حل سياسي، وردّها المتحفظ على الدعوات الروسية بخصوص عودة اللاجئين “نحن ندعم عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، على أن تكون آمنةً وطوعيةً وكريمة (…) لا أعتقد أن الوضع يسمح بذلك حاليًا، وفقًا لما تقوله المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”، وفق تصريح المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الأميركية، هيذر نويرت.
ثاني تلك الاعتبارات تمسّك دول الاتحاد الأوروبي بموقفها الذي يربط بين المساهمة في إعادة الإعمار وتحقق انتقال سياسي حقيقي وحل سياسي يرضي جميع الأطراف في سورية، وقد تبنت الموقف نفسه مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى (الولايات المتحدة وكندا واليابان وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا) في قمتها في مقاطعة كيبك جنوب كندا يوم 8 يونيو/ حزيران الماضي، فمساهمة الاتحاد الأوروبي، والدول الغنية الأخرى، مثل كندا واليابان ودول الخليج، ضرورية وحيوية في ضوء تكلفة عملية إعادة الإعمار الكبيرة (قدرت ما بين 200 و 400 مليار دولار من عشر سنوات إلى 15)، ناهيك عن الاحتياجات الفنية والتقنية التي
“لن يعود اللاجئون إلى حكم النظام، من دون ضمانات حقيقية تقيهم بطشه وتحميهم من مخاطر التصفية والملاحقة على أيدي مليشياته” يمكن أن توفرها الدول الغربية المتقدمة، وعجز روسيا وحلفائها عن توفير المال اللازم للعملية.
ثالث الاعتبارات، الشروط الإسرائيلية التي لم تكتف بالعرض الروسي إبعاد القوات الإيرانية ومليشياتها الشيعية مسافة مائة كيلومتر عن حدود الجولان السوري المحتل، بل أصرت على سحب الصواريخ طويلة المدى، والدفاعات الجوية المرافقة، وتفكيك مصانع الصواريخ الدقيقة في سورية ولبنان، وإغلاق المعابر على الحدود السورية العراقية والسورية اللبنانية في وجه حركة الإيرانيين، لمنع نقل الأسلحة إلى حزب الله، ومنع إقامة جبهة مستقلة ضد إسرائيل مع المليشيات الموالية لها، ومع حزب الله في الأراضي السورية، باعتبارها خطواتٍ على طريق إخراج القوات الإيرانية من سورية بالكامل، وهذا ما لا تريد روسيا الانخراط فيه، الآن على الأقل، نظرا إلى حاجتها للدور الإيراني في بسط سيطرة النظام على الأراضي، واستخدام الورقة الإيرانية في المقايضة مع الولايات المتحدة بشأن القضايا العالقة بينهما.
رابعها، التعارض العميق في المصالح بينها وبين تركيا، وحاجتها، في الوقت نفسه، للإبقاء على العلاقة المستجدة معها، لضبط تحركاتها في سورية، حيث في وسعها إجهاض العملية السياسية التي تقودها، عبر تسليح فصائل المعارضة في الشمال، واستدراجها إلى التخلي عن تبني مشروع المعارضة ضد النظام، ما يضطرّها هي للإقرار بمصالحها في سورية، وغض النظر عن خططها ضد كرد سورية، وتوظيف تحرّكها ضدهم ودفعهم إلى التفاهم مع النظام، ولدق إسفين بينها وبين حلف شمال الأطلسي (الناتو).
بقي أن ثمّة عقبات واقعية، يمكن أن تعيق المسعى الروسي إلى إعادة اللاجئين، واستثمار عودتهم سياسيا، أولها غياب مصداقية روسيا، في ضوء الضمانات التي قدمتها لمناطق خفض التصعيد، وعمليات المصالحة مع الفصائل المسلحة التي لم تأخذ طريقها إلى التنفيذ؛ بل بالعكس اخترقت وتلاشت بمشاركة روسية فاعلة. وثانيها عدم توفر المعايير الدولية لعودة اللاجئين، من العودة الطوعية من دون إكراه، إلى توفير الحد الأدنى من معايير الحياة الكريمة في مجالات الصحة والتعليم والسكن اللائق، مرورا بشروطٍ تتعلق بتأمين الاحتياجات الأمنية والمعيشية للسكان العائدين، كانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قد صاغتها في عشرين شرطاً، لا بد من تحققها قبل أن توافق على التعاون مع الدول المعنية بتنظيم عودة اللاجئين. ثالثها وأهمها موقف اللاجئين أنفسهم من العودة إلى سورية تحت حكم النظام، من دون ضمانات حقيقية تقيهم بطشه وتحميهم من مخاطر التصفية والملاحقة على أيدي مليشياته.