سكوت بيوشامب* – (ذا أميركان كونسيرفاتيف) 25/10/2015
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
“ثمة حزب واحد في السلطة، وجميع الأحزاب الأخرى في السجن”.-(ميخائيل تومسكي)
لم يبدأ هذا الإحساس الغامر برهاب الاحتجاز الاجتماعي والفكري الذي انتشر في أميركا بانتخابات العام 2016 وقدوم ترامب. يجب أن يكون هذا القدر واضحاً. كان الغِلُّ الاجتماعي والتكلس الأيديولوجي حاضرين في السياسة الأميركية منذ التأسيس. ويحتاج أي شخص يعتقد بأن “هذا هو أسوأ انقسام شهدناه على الإطلاق” إلى قضاء لحظة من التأمل قرب “البركة الدامية” في شيلوه، تينيسي، فحسب. ومع ذلك، فإن لحظتنا الراهنة لا تبدو فريدة في انسياقها للنسق. ويتم التعامل مع كل حدث جديد مثل لعبة ملء الفراغ على وسائل التواصل الاجتماعي. وتجري مقايضة التنوع بآلية متعجرفة؛ والتعقيد بالتسطيح.
السؤال، كما يجري القول، هو ما إذا كان هذا علّة أم ميزة. في تأمله لمقالة باتريك دينين “لماذا فشلت الليبرالية”، كتب محرر مجلة “الأشياء الأولى”، آر. آر. رينو، في أيار (مايو) الماضي: “طالما أن الليبرالية أصبحت أيديولوجية أكثر من كونها تقليداً ينطوي على التباين، وحتى التناقض، فإننا أصبحنا غير قادرين على التعامل بمنطقية مع مشاكلنا الاجتماعية والسياسية. لقد تحولت ليبرالية ضبط النفس إلى تحررية ميكانيكية، متحالفة في كثير من الأحيان مع النظريات الاقتصادية التي تم تحويلها إلى إيديولوجيات… ويمنعنا وقوعنا في إسار النظرية على هذا النحو من التجريب في الاستجابات السياسية للانهيار الكارثي الذي أصاب الزواج بين الطبقات العاملة والوسطى… في الأثناء، أصبحت ليبرالية التمكين بمثابة عقيدة صلاح ذاتي سياسي تطهيري جديد”. والمشكلة، كما يراها رينو، هي أننا صنعنا أصناماً ومُثُلاً من التراث الحي لليبرالية. وهكذا، ليست المشكلة في الليبرالية في ذاتها، وإنما في الأيديولوجيا.
يصل رينو، من خلال تأملاته في أطروحة دينين إلى، تطوير انتقادات لليبرالية الأميركية، مألوفة لأي قارئ لروبرت نيسبيت أو أليكسيس دي توكفيل. لكن ثمة مفكراً آخر مفيداً لفهم اللحظة الراهنة، هي المفكرة الصوفية والسياسية الراحلة، سيمون ويل. ويشكل مقالها “عن إلغاء الأحزاب السياسية كافة”، متطرفاً كما هو، من أفضل الأدوات التشخيصية لتحليل رد فعلنا الجمعي الراهن الآلي وغير المحسوب. ويشكل المقال الذي كتبته في لندن في العام 1943 قرب نهاية حياتها القصيرة، نوعاً من التقطير لنظرياتها الاجتماعية. وفيه تتجسد أفكارها المسيحية والمنتمية إلى فكر الأفلاطونية الجديدة، إلى جانب فهم دقيق لتاريخ الفكر السياسي الديمقراطي. ولأنها كانت ناشطة في السياسة اليسارية الفرنسية خلال ثلاثينيات القرن العشرين (وضع تروتسكي فعلياً خطط كتابه “الأممية الرابعة” في شقة والديها)، وقضت بعض الوقت في برلين حول وقت حريق الرايخستاغ، فقد توفرت لدى ويل خبرة شخصية مع القَبلية السياسية، والتي كانت بالكثير من الطرق أكثر تعقيداً وخبثاً من خبرتنا نحن معها. ولكن، بدلاً من تحريض عقلية منغلقة، دفعتها تجاربها مع الشيوعية والفاشية إلى التحرك -ليس أبعد يساراً أو يميناً- وإنما عمودياً في اتجاه المبادئ الأولى. وجعلتها خيباتها السياسة متعطشة إلى الحكمة.
كما يكتب سيمون ليز في تقديم ترجمته لمقالها، فإن “السمة الأولى للسياسي هي النزاهة. وتتطلب النزاهة استقلال ملَكَة الحُكم. ويرفض استقلال الحكم الفتاوى الحزبية، لأن هذه الفتاوى تخنق ضمير المرء وكل شعور لديه بالعدالة وكل طعم للحقيقة”. وحيث ينتهي ليز، تبدأ ويل: من البحث عن الحقيقة. وتكون الديمقراطية، كما تقول، قيّمة فقط بقدر ما تكون وسيلة لتحقيق غايات الحقيقة والعدل. إنها ليست غاية في حد ذاتها. ويمكن أن يكون ألف شخص مخطئين بقدر ما يكون مخطئاً إنسان واحد، والديمقراطية تكون قيّمة فقط بقدر ما تكون فعالة كآلية لتحقيق الحقيقة. وبالبناء مباشرة على جان جاك روسو، تقول ويل إن “الإرادة الجمعية” فقط هي الأكثر احتمالاً لأن ينتهي بها المطاف إلى الحقيقة لأن الجميع يتقاسمون إحساساً مشتركاً بالعقلانية والمنطق. وسيكون المكان الذي نختلف فيه هو عواطفنا. وباستخدام مجاز رائع محرِّض للخيال عن الماء الساكن مقابل الماء المضطرب كسطح عاكس، تجادل ويل بأنه حتى تتجمع العقلانية الجمعية حول اكتشاف الحقيقة، فإنه “يجب أن لا يكون هناك أي شكل من أشكال العاطفة الجمعية”. وقد يبدو تحقيق هذا الشرط صعباً إلى حد مذهل، لكن ما تدافع عنه ويل فعلياً هنا هو شأن أكثر إدهاشاً في الحقيقة: إنها تعتقد بضرورة وجود المزيد من تنمية العواطف الفردية. إنها تسعى إلى نوع من التحييد الشافي لإراداتنا الفردية من خلال التعبير عنها على الملأ. إنها العاطفة الجمعية هي العدو هنا. وتكتب: “العاطفة الجمعية هي أكثر إلزاماً بلا نهاية بالجريمة والكراهية من أي عاطفة فردية… الدوافع الشريرة -بعيداً عن إلغاء بعضها البعض- تضاعِف قوتها ألف مرة”.
ما تصفه ويل هنا هو النقيض الكامل تقريباً للسياسة كما نفهمها الآن. وعندما تمضي إلى كتابة أنه، إلى جانب تدمير العاطفة الجمعية، فإن بحثنا عن الحقيقة والعدالة يتطلب أيضاً أن يعبر الجمهور العام فقط عن الآراء “فيما يتعلق بالمشكلات في الحياة العامة –وليس مجرد الاختيار بين أفراد مختلفين؛ أو الأسوأ، الاختيار بين منظمات مختلفة غير مسؤولة”، فإننا نشعر أيضاً بأننا أصبحنا أبعد عن حقيقتنا الخاصة. وما ترمي إليه ويل هنا هو أن بحثنا الجمعي عن الحقيقة والعدل يتطلب إلغاء كافة ما تسميها الأحزاب السياسية. وربما يكون من الصعب علينا أن نتخيل ذلك، وقد قصدت ويل شيئاً محدداً للغاية بعبارة “الأحزاب السياسية”. إن فكرتها عن ما هو الشيء الذي يوجد الحزب لأجله (توليد عاطفة جمعية وممارسة الضغط على أفراده، مع الهدف النهائي المتمثل في ضمان “نموه الخاص، بلا حدود”) يمكن تطبيقه بسهولة على أي عدد من القوى، والقبائل، والطوائف والنوادي في أميركا. وما عليك سوى أن تُدخِل أي قبيلة أسيرة لأيديولوجية محل عبارة “حزب سياسي”: “كل حزب سياسي هو استبدادي -من حيث الإمكان، وبالطموح. وإذا كان حزب واحد ليس توتاليتارياً، فذلك ببساطة لأن تلك الأحزاب التي تحيط به ليست أقل توتاليتارية”.
يبدو هذا الطرح متطرفاً. وهو كذلك. فلدى ويل عادة المبالغة في عرض قضيتها حتى تتمكن من برهنة فكرة أكثر عمقاً. وفكرتها هي ما يلي: إن الحقيقة تقع فيما وراء العقيدة السياسية. وكما تكتب، فإن “المرء يستطيع أن يتحدث، وهذا صحيح، عن العقيدة المسيحية، والعقيدة الهندوسية، والعقيدة الفيثاغورية، إلخ -ولكن المقصود بهذه الكلمة لا يكون عندئذٍ فردياً ولا جمعياً؛ إنه يحيل إلى شيء أعلى بلا نهاية من هاتين المملكتين. إنه الحقيقة، ببساطة وبكل معنى الكلمة”. والحقيقة هي غاية ذاتها. كما أن العدل والخير، المتصلين بالحقيقة بعلاقة تماثلية، هما غايات في حد ذاتهما أيضاً. ومع ذلك، فإن “غاية الحزب السياسي هي شيء غامض وغير حقيقي. ولو أنها كانت حقيقية، لكانت قد تطلبت جهداً كبيراً من الانتباه، لأن العقل لا يستوعب بسهولة مفهوم المصلحة العامة. وعلى النقيض من ذلك، فإن وجود الحزب هو شيء ملموس وواضح؛ إنه يُفهم من دون أي جهد. وبذلك، وعلى نحو حتمي، يصبح الحزب في الحقيقة هو غاية ذاته”.
كانت ويل صوفية، ولذلك ليس من المفاجئ أن تقيم تحليلها على شيء يشبه وصفاً لعبادة الأصنام. وفي مكان فهم الخير كخير، فإننا نضع صحة الحزب (أو القبيلة، الفريق، إلخ) مكان الخير. وبذلك “يصبح النمو المادي للحزب هو المعيار الوحيد الذي نقيس به خيرية أو شر كل الأشياء. ويكون الأمر تماماً كما لو أن الحزب هو رئيس قطيع ماشية، والذي ينبغي تسمينه، وكما لو أن الكون كله قد خُلق لتسمينه”. ومن المنطقي تماماً أن الناس سيجدون هذا جذاباً. فعبادة الأصنام سهلة. وواضحة. إنها أشبه بحافز لإفراز الدوبامين السريع، الذي يجعلنا عندما يقترن بوسائل الإعلام الاجتماعية مشتتين ومنصرفي الانتباه بإخلاص عن الاشتباك مع تلك الغايات النهائية المراوغة: الحقيقة، والخير، والعدل. إن الأحزاب السياسية تتملقنا. إنها تعطينا إحساساً جميلاً إدمانياً بالتفوق وتغوينا بكراهية شبه غريزية للجماعات الأخرى المعارضة. هذا هو الجزَر في الأمر. لكن ويل تصف عصيَّ الأحزاب السياسية أيضاً. يمكن أن تكون هناك تداعيات اجتماعية وخيمة لتجنب المشاركة القبَلية: “لا معاناة تصيب أحداً يتخلى عن العدل والحقيقة، في حين أن نظام الحزب يفرض عقوبات مؤلمة على العصيان. وتمتد هذه العقوبات إلى كل مناحي الحياة: الحياة المهنية، العواطف، الصداقة، السمعة، العناصر الخارجية للشرف، بل وحتى الحياة العائلية في بعض الأحيان. وقد طور الحزب الشيوعي هذا النظام إلى حد الكمال”. وما تصفه ويل هنا ليس “سياسياً” ببساطة كما نفهم الكلمة. إن ما تصفه هنا هو كيف تقوم السياسة المعاصرة، عن طريق استبدال الغايات النهائية بمصالح مصطنعة للمجموعات الأيديولوجية، بتدمير الروح الإنسانية.
أعتقد أن وصف ويل المصالح الأيديولوجية بأنها “اصطناعية” هو شيء مهم. وهناك معنى مزدوج في هذا الوصف. إنه من ناحية، إحالة إلى التعريف اليوناني للموضوعات الفنية، أو “الحرف اليدوية”. فمثل الحلي الذهبية التي جمعها آرون لصياغة العِجل، فإن غايات الأحزاب السياسية التي تتحدث عنها هي من صناعة بشرية بالكامل. لقد تم بناؤها. كما أن الوصف يقترح أيضاً التزييف، التزوير. إن الناس يُباعون حقيقة كاذبة تخفي معتقداتهم الحقيقية. وتكتب ويل: “تتوافق البلورة الاصطناعية للأحزاب سياسية بقدر ضئيل جداً مع الانتماءات الحقيقية، بحيث يجد عضو في البرلمان نفسه في كثيراً من الأحيان وهو يختلف مع زميل من داخل حزبه نفسه، بينما يتفق بالكامل مع سياسي من حزب آخر. كم من المرات في ألمانيا 1932 يمكن أن يصاب شيوعي ونازي يتناقشان في الشارع بنوع من الدوار الذهني لدى اكتشاف أنهما في اتفاق كامل حول كل القضايا”!
تنهي ويل مقالها بفقرة تبدو وكأنها كُتبت بالأمس: “في كل مكان تقريباً –حتى لدى التعامل مع مشكلات فنية بحتة في كثير من الأحيان- بدلاً من التفكير، فإن المرء ينحاز إلى جانب فقط: مع أو ضد. ويحلّ مثل هذا الاختيار محل نشاط العقل. هذا جذام عقلي؛ إنه يتأسس في العالم السياسي ثم ينتشر عبر الأرض، مصيباً بالتلوث كل أشكال التفكير. هذا الجذام يقتلنا…”.
كان تشخيصها دقيقاً بطريقة رائعة. فغريزة الحزب التي تصفها ويل تستعمر الأنماط والمزاجات الأخرى للحياة، وتختزل الفني والديني إلى مجرد إيماءات سياسية. وليس كذلك فقط، بطبيعة الحال: إنها أعلى الإيماءات صوتاً وأكثرها ابتذالاً. ولكن، ليس الجميع يشترونها. وثمة بعض السلوى في هذا، تماماً كما أن هناك نوعاً في الطمأنة في حقيقة أن الحقيقة والخير، كما تقول ويل، لا يحتاجان إلى الإقناع. إنهما تُنوِّران فقط.
*ظهرت أعماله في “باريس ريفيو”، “بوك فورَم”، و”بابليك ديسكورس” من بين أماكن أخرى. سوف يصدر كتابه “هل قتلتُ أحداً؟” عن دار “زيرو بوكس” قريباً.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Tribal Passions, Totalitarian Parties

الغد الأردنية:17/11/2018