أحياناً تكون بعض المفردات مفاتيح لولوج بوّابة من الخطاب أوسع، لشرح عالم كامن خلف تلك الأبواب .
انتبهت أكثر من مرة، لبعض أصدقائي “العلمانيين الجدد”، إذ –دائماً- يحاولون الظهور بمظهر المختلف عن الآخر(الذي يتشكّل المجتمع منه)،لإثبات علمانيّته، و لو على مستوى الخطاب.
من مثل القول(السلام لروحه)، لدى الترحم على متوفّى مثلاً، بدل الاستخدام الشائع(رحمة الله عليه)، أو إبدال صيغ المخاطبة لدى التحيّة بأيّ صيغة أخرى غير ( السلام عليكم)، أو حتى الاستهزاء من عقائد الناس إثباتاً لعلمانيّتهم!
مفتاحية هذه المفردات، من حيث أنها مقدّمة للخطاب المراد إيصاله، على أنه –الخطاب- وظيفة إنتاجية للثقافة المعبّر عنها ،عن طريقه، و مدى تأثيره أو عدمه في الناس.
لكن ما المطلوب من علمانيّينا الجدد في نقد خطابهم؟
هل المطلوب أن يصلّوا على النبيّ مثلاً!
ربما تكون الإجابة لدى جارتنا أم جورج !
في الحي الذي أسكن به في الرقة، كانت جارتنا أم جورج صاحبة المخبز الموجود في الحيّ، عندما يشتدّ الزحام من المشترين و تريد تخفيفه، كانت تتّجه للمشترين ( طولوا بالكم، و صلّوا عالنبي يا شباب، الكل راح ياخذ خبز، بس انتظموا بالدور)، وعندما تضيق ذرعاً، كانت تقول:(قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: داروا سفهاءكم)، و كذا نجد في خطاب جورج صبرة (معارض سوري) و فارس الخوري (رئيس وزراء سوري).
إذاً.. هل أم جورج و فارس الخوري و جورج صبرة لاعلمانيين، لمجرد تكيّفهم مع الخطاب السائد في الشارع !
المذكورون أعلاه، وخارج أي تصنيف ، إن كانوا علمانيين أم إسلاميين(ثقافياً)، فخطابهم يتحرّك ضمن الحيّز الثقافي للمجتمع الذي يعيشون فيه من(عادات ، وتقاليد، واحتفالات، وزواج، وسلوك وأنظمة وأعراف، من طريقة تناول الطعام، إلى طريقة التنشئة الاجتماعية للأبناء ….) أي ما يطلق عليه ثقافة مجتمع.
الإشكالية ليست إشكالية لغوية، في توحيد الخطاب او مواءَمته للمجتمع .و لا دخل لها أيضاً بسيكولوجية اللغة في عدم وصول الخطاب.
بقدر ما هي في إلغائية الحيّز الثقافي، الذي تتحرّك ضمنه الأفكار في إمكانية تأثيره في المجتمع من عدمه.
تتعدّد إشكالية إلغاء الحيّز الثقافي على اكثر من صعيد، فهي بداية لاغية للمجتمع في إلغاء صلة التواصل معه، و نافية لوصول الخطاب بعد إلغاء المجتمع، و مؤسّسة لشكل تمييزي أقرب للهوياتي، (العلمانيون الجدد)، رافض للمجتمع من طرف، و متعالٍ عليه في الوقت نفسه، ممّا يمنحه وصائية أبوية عليه، (شعب جاهل لا يتعلّم)، ليتحوّلوا، وهو الأخطر، إلى طبقة مفارقة للمجتمع، و منغلقة على نفسها في غيتو يتبع نفس الآليات النفسية التي تتّبعها الجماعات الأصولية في انعزالها عن المجتمع، ضمن غيتواتها الخاصة بها.
على اعتبارية أنها، أي المجتمعات (متخلّفة و جاهلة) لدى الاول “العلماني الجديد”، و لا سبيل لإصلاحها سوى بإلغائها(تراث، وعادات، وتقاليد، ودين)، و بنفس الآلية لدى الثاني (الأصولي) ،(نجسة، وجاهلة)، يشترك الاثنان في التأكيد على الجهل المؤسّس لديهم(العلماني الجديد و الأصولي) لإلغاء المجتمع، لتتمّ صياغته من جديد، عبر تأكيد الجهل مفتاحاً لإزالة (التخلّف) و (النجاسة).
و بين إلغائيتين للمجتمع (تخلّف) و(نجاسة) عن طريق إفراغ الحيّز الثقافي للمجتمع، تكون الغلبة دائما للأصوليين، و هذا أخطر ما يقع به “علمانيّوننا الجدد” فهم يؤسّسون دون أن يعوا مجالاً لحراك الأصوليين.
غلبة الأصوليين بعد إلغاء الحيّز الثقافي لا تكون بملئه، بقدر ما تكون بالمقدرة على إدارة الفراغ الناتج عن إلغاء هذا الحيّز.
فهم لا ينشطون، أي الأصوليون، سوى في الفراغ ،أو حتى نستطيع أن نقول بأن صناعة الفراغ هي إستراتيجية الأصوليين (تشترك معهم الأنظمة التوتاليتارية في هذا، النظام السوري مثال للعمل ضمن الفراغ ، بعد إفراغه من كل ما يمكن أن يسمّى مجتمع، بعد إلغائه الحيّز الثقافي للسكان بشكل لا يؤثّر على حكمه)، إدارة الفراغ لدى الأصوليين لا تحتاج للكثير، فالمقدّس الذي يسوّقون له متعالٍ عن المعرفة و الثقافة و متجاوز لها ، و المعرفة أصلاً تعرف لدى الأصولي استناداً إلى المقدّس، وليس إلى المنطق الذي تحتكم إليه المعرفة، فيغدو هو البرهان للمعرفة و لاغيها في الوقت نفسه ، إذا تعارضت مع المقدّس الذي تنجّسه في عدم تطابقها معه.
إشكالية العلمانيين الجدد، أنهم بعد أن يُستولى على المجتمع من الأصوليين، لا يحاولون البحث في أسباب هذا الاستيلاء.
بل يعودون مرة أخرى ليلتقوا مع الأصوليين في النتائج المتأتّية عمّا آلت إليه الأمور ،من حيث تأكيدها، لا من حيث نقدها ،كما أسلفنا سابقاً.
و تأكيد المؤكّد مرة أخرى، فعندهم المعرّف لا يُعرّف، فالمجتمع سلفاً (متخلّف) و سلفاً(نجس).
فعملية إلغاء الحيز الثقافي من الطرفين تساعد الأصولي في اختطاف الدين من المجتمع(دين الناس) ليتعامل معه كأيديولوجيا ، تقابل أيديولوجيا أخرى (حتى و إن لم توجد أيديولوجيا) ليحقّ له الدفاع عن نفسه ضمن الأيدلوجيا التي صنعها ،عبر توكيد مظلومية عن طريقها يبرّر كل سلوك يبدو لنا منطقياً .
و تتوكّد المظلومية أكثر عبر (العلماني الجديد) في تأكيده على إزاحة الدين من حياة الناس ، بينما يفترض بالعلماني إعادة الدين للناس(و هو ما يرفضه الأصولي)، و ليس إلغاؤه منه ،لأنه يشكل جزءاً مهمّاً، أي الدين، من الحيّز الثقافي .
أخيراً: لا أعلم سوى أن خبز أم جورج ألذّ خبز في الرقة، فلتكن أم جورج لكم قدوة حسنة ، في تصديركم خبزاً للناس ، و ليس أوصافاً له، دعوا لخبزكم نكهة و مذاقاً ، فالناس لا تتعامل مع صورة الخبز ، بقدر ما تستلذّ الخبز ذاته .
المهمّ.. طولوا بالكم و صلّوا عالنبي يا شباب، أحسن ما نقول السلام لروح العلمانيّة.