يمكن للمنظومة الدينية أن تزودنا بتأصيل منطقي لمطالبتنا بتحويل الإيمان إلى شأن شخصي، ونعلم أن عش الدبابير سيثور، ولكن مناقشة القضية بالاستناد إلى مرجعية المعترض أصل من أصل الجدل العلمي لكي ينطلق المتناظران من أرضية واحدة تفسح المجال للقاء في منتصف الطريق.

لا شك أن تحويل الإيمان إلى شأن فردي ركن أساسي من أركان تكريس حيادية الدولة التي تعد مطلبًا لا مندوحة عنه لبناء دولة مدنية لجميع أبنائها.

وبناء عليه فإن النقاش سيتناول ثلاث قضايا من صلب الثيولوجيا الإسلامية:

الأولى:

التعاطي مع “الله” كاسم علم وليس كمفهوم

إن التعامل مع “الله” كمفهوم يجعل القضية “الله هو الأساس الأخير للوجود” قضية تحليلية ليس لها مدلول وجوديّ; بمعنى أن وجود اسم العلم “الله” ليس شرطاً لصدقها. 
أما إذا كان المقصود بـ “الله” اسم علم فإن القضية السابقة تصبح ذات مدلول وجودي لأنّ صدقها يتوقف على وجود موضوعها، وهو في هذه الحالة “الله” كاسم علم، وهو توقف وجود الشيء على وجوده وهو أمر مستحيل.

إن عاقبة اعتبارها كذلك تخرجها من دائرة الطبيعة المنطقية للقضايا ذات المدلول المعرفي، التي هي قضايا جائزة يمكن دحضها بواسطة التحقّق من صدقها أو عدم صدقها، والتحقّق شأن بيذاتي لا يمكن لأي أحد ادعاء احتكاره.
يتطلب مفهوم الفردية لكي يستقيم عوده ركنا الاستقلالية وهي استقلالية للعقل، واستقلالية للإنسان كفاعل أخلاقي. (انظر عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية).

أما الأولى فقد أوجزنا ما خلاصته أنها لا تنفكّ عن طبيعة المعرفة التي هي شأن بيذاتيّ، وعن الطبيعة المنطقية للقضايا ذات المدلول المعرفي، وأنّ التعاطي مع الكائن الأزليّ السرمديّ كاسم علم ليس محظوراً، ولكن بشرط إدراك أن هذا لا يلزم إلا صاحبه لأنه يحيل ما هو قضية تحليلية- في حال اعتبار الله مفهوماً- ضرورية منطقياً وليس أنطولوجياً إلى قضية وجودية تشترط وجود المسمّى لكي تكون صادقة وتعطّل استقلاليّة العقل التي تتطلّب قدرته على الدّحض بمصادرتها على المطلوب.

إن التعاطي مع النصّ المقدس (وهو بالمناسبة نص معجز بدليل التحدي وهو دليل واقعي) الصّادر عن المسمّى باسم الله نتاج غير مباشر لمحاولة تحويل المعرفة الخاصة غير القابلة للدّحض المتمثلة في القضية “الله -كاسم علم – موجود” إلى معرفة عامة مع أن الأخيرة لا يمكن لها إلا أن تكون بيذاتيّة، وبالتالي قابلة للدحض والتحقق وعدم قابلية الاحتكار.

لا يمكن لأحد أن ينكر على أحد غيره ادعاء امتلاك معرفة خاصة بموجود مطلق عن طريق تجربة روحيّة فردية، فهذا جزء من خبرة التفرّد، ولكن من غير المسموح تحويل هذا الادّعاء الى معرفة ناجزة تفرض على الجميع؛ لان المعرفة لا تكون كذلك إلا إذا كانت معرفة بيذاتيّة أي عامّة. 

الثانية

معضلات أدلة العقيدة الإسلامية

إن هذه الأدلة تعاني معضلات ثلاث (طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، ص 29-26). تجعلها قاصرة عن تحقيق اليقين الديني الذي تسعى إليه.

أولها: أنها رمزية لا وجودية؛ بمعنى أن أدلتها تستخدم اللغة التي لا تشخّص الوجود، ولا تستحضره؛ فاللغة بنيات رمزية، تعبر عن تصورات، وهي مستقلة عن مستوى الوجود.

وثانيها: أنها تشبيهية لا تنزيهية، فصفات الموجود المطلق لا يمكن أن تُدرك من دون تشبيهها بحالات محدودة، هي أنموذجات مثلى للحالات العينية المدركة..

وثالث المعضلات: أن مقدماتها ظنية، لا يقينية؛ فاالاستدلال التالي:

 إما أن الكون غير موجود، أو أن الله موجود، ولكن الكون موجود. إذن الله موجود.

 مقدمته الكبرى ظنية، لا يقينية.

 صحيح أن استدلالات علم الإلهيات كفيلة بتحصيل ظن راجح، ولكنها تحتاج شيئًا آخر يحيلها إلى يقين.

هذا الشيء الآخر هو ما يمنحه “العقل المؤيد” حسب توصيف طه عبد الرحمن، وهو العقل الذي يعتمد على العلاقة العمودية الروحية بين الفرد وخالقه، وهي علاقة لا يمكن إنكار وجودها وأهميتها.

المعرفة الأخلاقية أصل

إن تفكيك الأصل الأول من أصول المعرفة الدينية، كفيل بكشف عوار المقولة التي تلزمنا بالاستناد إلى المرجعية المتجاوزة، وهي المقولة التي فحواها: أن المعرفة الأخلاقية لا يمكن اشتقاقها إلا من المعرفة الدينية؛ فالأصل الأول للمعرفة الدينية يقوم على أساس وجود خالق واحد كليّ القدرة، كليّ العلم، كليّ الإرادة، كليّ الخير، والصفة الأخيرة تفترض -ضمنًا- قدرة لدى العقل البشري الذي يدعي متبنّو الأطروحة التي نناقشها، أنه واسطتهم إلى المعرفة الدينية، وعلى تمييز الخير من الشر، أو ميزانًا يزين به الخير من الشر، وإلا فما أدراه أن هذا الخالق الواحد ليس خالقًا شريرًا.

ولا ينفع في الإجابة عن هذا السؤال القول: إن ما يأمر به الخالق هو الخير، وما ينهى عنه هو الشر؛ لأن هذا يستلزم طاعته حتى لو أمر بقتل أبرياء مثلًا، كما لا ينفع القول إن أوامره هذه تنطوي على خير آجل، غير مدرك؛ لأن هذا يعيدنا إلى سؤالنا الأول عن كيفية تمييزنا لخيريته الكليه المدّعاة، من دون امتلاكنا ميزانًا نزين بواسطته الخير من الشر.

نخلص من هذه المناقشة إلى أن المعرفة الأخلاقية لا بدّ منها منطقيًا؛ للوصول إلى المعرفة الدينية، فهي سابقة عليها، وليست مشتقة منها.

يعني هذا أن بإمكان المسلمين أن يؤسسوا نظام دولتهم الذي يحمي مصالحهم من دون مرجعية متجاوزة، ويمكن الاكتفاء باستلهام قيم الإسلام، التي تتقاطع تقاطعًا كبيرًا مع قيم الحداثة، وتضمين أحكام شرعية في مدونات قانونية بشرطين: الأول أن يُتفق على أن وجودها ضمن مدونة قانونية يزيل عنها صفة القداسة، والثاني: أن يحصل هذا بإرادة ممثلي الشعب، لا بالقسر.

هذه القضايا الثلاث تجعل اثنتان منهما العلاقة مع المطلق شأنًا شخصيًا بالضرورة وهو ما يكرس مفهوم الفردية، وتلزم الثالثة بضرورة اشتقاق المعرفة الدينية من المعرفة الأخلاقية، لا العكس.

وهو ما يؤكد أن علمانيتنا المؤمنة- والتي أعيشها أنا- معايشة يومية حية ضرورة منطقية يلزمني بها عقلي وتلزمني بها تجربتي الروحية مع الله.

رئيس التحرير