بعيدا عن التحليل السياسي المباشر لحادثة اسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا، فإن ما يمكن تأكيده أن سقوطها معادل موضوعي لسقوط المشروع البوتيني القيصري الذي رسم مخططه عقل بوتين الاستخباراتي بأدوات تاريخانية لا تأبه لتفاصيل الواقع التاريخي بقدر ما تصاغ بدالة تاريخ غير مرئي متوهّم في عقل صاحبه فقط.

هذا القيصر القادم من حقبة الاستبداد ومؤسساته، والذي تتمحور عدّته حول هدف قابع في مستقبل يستشرفه ويلغي لصالحه معطيات الواقع الواقعي، ويقتل لأجله الحياة السياسية في بلده ويسطح بغية تحقيقه المعرفة والثقافة لا يدرك أن كل اسلافه من الساعين الى مستقبل في مخيلتهم قد تحطمت مشاريعهم على صخرة الواقع الذي يأبى أن يتنكّب أمثال بوتين مواجهته والصراع معه والاعتراف به.

الوهم بتحقيق المشروع الامبراطوري الذي كرّسه الزهو بإنجازات اقتصادية رافقت بدايات تسلمه للسلطة بعد سلب قدرات القطاع الخاص لصالح تقوية سلطة الدولة، والتضييق على حرية الإعلام وخنق الحياة السياسية، والجور على الديمقراطية لصالح الارتقاء بقدرة الدولة كان بداية انتشار التصدع في مشروعه والفخ الذي نصبه لنفسه.

“الطعنة في الظهر” حسب وصفه لما أقدمت عليه تركيا كانت بخنجر سلّمه هو لخصومه، وأفضى به في ضلوعه ولم يفعل الأتراك شيئاً غير سله منها فصاح من الألم، ولكن بتعبير يخدع به نفسه ويخفف عن اناه المنتفخة عبء الاعتراف بحجمها الطبيعي الذي كشفته الحادثة.

قانون العطالة الذي لا بد سيحكم الاندفاعة الحمقاء خارج الحدود سيحكم تصرفاته، ولن يوقف هذه الاندفاعة إلا الوصول إلى حافة الهاوية أو تجاوزها إلى واد سحيق.

وسيظلّ اللاعبون الذين يرجون هزيمته يستغلّون مرور الوقت الذي يعمل لغير صالحه إلى أن يصبح استسلامه واقعاً موضوعياً أو هزيمته النكراء بشارة يستبشرون بها.

ليس إلغاء الواقع الواقعي الذي يسرف التاريخانيون من أمثاله في الاستخفاف به هو العامل الوحيد الذي يبشر بنهاية مشروعه نهاية مأساوية بالنسبة إليه، ولكن تخلّفه عامل اخر لا يقل أهمية.

ففي تحليل شائق لأسباب هزيمة النازي في الحرب العالمية الثانية يقول أحد أبرز مؤرخي الفكر الاقتصادي إن علم الحسابات القومية الذي وضع الحلفاء اسسه وساعدهم على تنظيم أعمالهم العسكرية شكّل فجوة علمية تفوّقوا بها على النازي الذي لم يكن يمتلك هذا العلم وأحدثوا فرقاً في موازين القوى لصالحهم فما بالك بهوة فاصلة شبيهة بالفرق بين أجهزة الاتصالات الحديثة وجهاز التلغراف العسكري الذي يستخدم شفرة المورس.

وليس في المقارنة مبالغة فروسيا دولة متخلفة بالمقاييس المعاصرة وامتلاكها لترسانة عسكرية هائلة وطاقة نووية لا يغير هذه الحقيقة.

هذا النمر الورقي يمكن أن ينخدع بقوته أمثاله من زعماء الأنظمة الشعبوية ويمكن أن تعشى باستعراضاته عيون أمثال بشار الأسد والسيسي، ولكنه لا يمكن أن يتخايل قرب حدود دولة ديمقراطية تستمد قوتها من شعبها كتركيا بدون أن يدفع الثمن.

بقايا إرث الاستبداد السوفياتي الذي كرّس التخارج بين القيمة والواقع، فقمع الواقع لصالح قيمة من اختراعه سيرتد عليه الواقع بطعنات أكثر ايلاماً، وسيؤول حلمه إلى كابوس ولكن قبل ذلك بقليل سيدفع بحلفائه البؤساء إلى مزبلة التاريخ قبل أن ينكبّ فيها على وجهه.