مناف الحمد

لا شك في أن ابن تيمية ظلّ من ظلال الحركات السلفية المعاصرة في الماضي، ومرجعية أساسية من مرجعياتها، في الحاضر، والمنتمون إلى هذه الحركات يتخذون من فتاويه مستندًا لجلّ أفعالهم.

فباستحضارهم اسمه وفتاويه باستمرار، قد منحوا بعض المتطفلين على عالم الفكر ذريعةً؛ لمهاجمة منهاجه الفكري، وسببًا؛ للمطالبة بتجاوزه.

 

ليس الأمر -بتمحيصه- غريبًا؛ فالأولون لا يعرفون منه إلا فتاويه التي يستخدمونها استخدامًا ذرائعيًا؛ لأنها توفر متنفسًا لانفجار الوعي، هذا الانفجار الذي يحدث للمنتمي إلى منظومة فكرية لم تعد قابلة للصرف في العالم المعاصر؛ فلا تجد سبيلًا للتعاطي مع المتغيرات إلا العنف الرمزي والمادي، تمظهرًا لانفجارها تحت وطأة الضغط الذي تعانيه، ولا تجد ما تواجهه به.

 

والآخرون من المتطفلين يفتقرون إلى جواز السفر الصالح لولوج الحقل المعرفي الذي يقتحمونه عنوةً، وهو الجواز الذي يجب أن يُختم بخاتم الاعتراف بتاريخ الحقل، وبخاتم معرفة أدواته النظرية؛ لكي يصبح صالحًا.

إضافة إلى أنهم يتوهمون أن مهاجمة المرجعية المستخدَمة تساعد في صبغهم بصبغة التنوير الأثيرة لديهم.

 

ما يغيب عن هؤلاء وأولئك أن ابن تيمية لا يمكن أن يُعامل كهدف للمدح أو القدح، أو الأخذ أو النبذ، من دون الحفر -عميقًا- في بنية الجذر الفلسفي لأعماله.

لعلّنا لا نجانب الصواب إن قلنا: إنّ شيخ الإسلام، ابن تيمية، قد وضع الأساس المكين لنهضة فكرية، كانت كفيلةً بمنع ما أصاب الفكر العربي من فوات، لولا شروط موضوعية حالت دون تبلورها.

 

توضيح الأمر يحتاج إلى بحث فلسفيّ طويل الذيل، يمكن أن نحاول اختصاره، من دون إخلال، بهذا الشرح المقتضب:

فالمنطق الأرسطيّ الذي استثمره فلاسفة الإسلام لم يكن أداة صورية خالصة، ولكنه استبطن قضايا ميتافيزيقية بالغة الخطورة، تفطّن ابن تيمية إليها، وحاول أن ينقّي الفكر الإسلامي منها؛ لأن تغلغل لوازم المنطق الأرسطي فيه يحرفه عن جوهر الإسلام المحمدي.

فهذا المنطق يعدّ الكليّات واقعًا موجودًا بالقوة، صائرًا إلى موجود بالفعل، بمجرد تحقق شروط الانتقال من الممكن إلى الواقع.

 

وهو كليّ نظريّ واقعيّ، تصبح الماهيّة بسببه متعالية على العلم، وليست ثمرة له.

أما ما ينسجم مع مفهوم الاستخلاف القرآني، فهو كون الماهيّة ثمرة للعلم، يصنعها الإنسان في تاريخه.

التطابق بين المنطقي والوجودي لازم من لوازم المنطق الأرسطي الذي يجعل من هذا المنطق منهاجًا معياريًا، تنقلب بسببه النظرية إلى ميتافيزيقا تتعالى على تاريخ العلم.

 

أما ابن تيمية، فقد نقض واقعية الكلي النظري عندما قال: إن الأسماء ليست مطابقة للماهيات، وإنها اختراع بشري، وإنها رمزُ تميّزِ ابن آدم الذي أشارت إليه الآية الكريمة ” وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة… إلى آخر الآية” (البقرة، 31)؛ فبعلم الأسماء مُنح الإنسان مكانة أعلى من مكانة المخلوقات الأخرى.

 

لكن هذا العلم ليس إلا فعالية إنسانية، تنتج التشاكل عن طريق إضافات منطقية ورياضية بين الرموز (بما هي أعيان الأسماء)، والمرموزات (بما هي أعيان المسميات).

فالحدود لا تطابق الماهيات، كما يدعي المنطق الأرسطي، ولكنها تحتوي صفات تُنتقى من بين صفات الموجودات؛ للإشارة إليها، ومن الطبيعي ألا يطابق المنطقي الوجودي؛ لأن الوجودي أكثر بكثير من أن يحصى” قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا” (الكهف، 109). أما المنطقي اللغوي، فيمكن حصره، ولا يطابق المحدود غير المحدود.

 

هذه الفعالية الإنسانية التي تستحيل الكليات -بسببها- إلى كليات اسمية، لا كليات واقعية، هي الكفيلة بتجسيد تميز الإنسان، واضطلاعه بمهمته التي استخلفه الله في الأرض؛ للقيام بها.

إنها إبداع العلم الذي لا تطابق رموزه طبائع الأشياء، وتجعل من هذا العلم فعلًا تاريخيًا، لا يتعالى على الطبيعة، ولا يتعالى على التاريخ.

 

وهي الكفيلة بوضع الأساس لعلم الطبيعة التي يمثل المنطق الصوري-بما هو حسابات لعلاقات صورية فحسب-، والمنهج التجريبي أداتي التعاطي معها.

من الجدير الإشارة إلى أن الانتقال من الكلي الواقعي إلى الكلي الاسمي، في الفلسفة الغربية، كان العامل الذي كرّس المنهج الاستقرائي التجريبي، والمبادرة الفاعلة للإنسان الفرد الحر.

 

إن ابن تيمية الحراني رائد المنظومة الإصلاحية التي استعجل النهضويون العرب استعادتها بمحاولة استثمار نتائجها، من دون امتلاك أساسها النظري، واستغل المأزومون ما رافقها من فتاوى تصلح لزمانها، لا لزماننا؛ للتنفيس عن أزمتهم، وينبغي استثمار منظومته الفلسفية الإصلاحية، الآن أكثر من أي وقت مضى؛ في ظلّ طغيان خطاب الاعتذاريين ( الذين يتزلفون لأبناء الحضارات الأخرى، بادعاء تمثل قيمهم، والتلفيق بينها وبين القيم الإسلامية؛ لكي يوصفوا بأنهم تنويريون) من المتطفلين على الفكر، وخطاب المتطرفين الذين ينذرون بمسخ حضارتنا، ولا يكتفون بسفك دمائنا.

المصدر..