ما كانت قوى الشر التي تقتل أطفالنا لتسرف في إجرامها لولا أنها تُحدث أثرها في موضوع قابل للتأثر بما يحدث فيه.

أن يظل الزوجان منهمكين في تدبير أمور حياة لا طعم لها ولا رائحة، بينما يقتصر لقاؤهم الحقيقي على ما تتطلبه الحاجة، في غياب شبه كامل للعاطفة، وللاعتناء الكافي بالطهارة التي لا يسمح بالاهتمام بها الاستغراق في العمل، وما يفعله نقص الاهتمام بها من تلطيخ للروح، وأن تظل شعارات تمجيد القائد تطرق سمعهما ليل نهار، في تكريس لسكون الحياة التي يحلّق في سمائها شبح لا يريانه ولكنهما لا ينفكان عن الشعور الدائم بمراقبته، وسرقته للذة الحياة.

أن يحدث كل هذا مع الأنموذج المعتاد لشريحة أكبر من السوريين على مدار عقود الاستبداد الأسدي كفيل بخلق استعداد كامن في غور عميق للتحريض ضد المتسبب في مسخ الحياة، وسلب الإحساس بقيمتها، وطعمها.

وهو الاستعداد الذي يفسر تحقق فرضية العدوى التي سرت إلى سورية من الثورات السريعة التي سبقتها.

ولكن التحولات التي طرأت على المشهد، وكانت سببًا في تطاول المأساة لا يكفي لتفسيرها عامل واحد، فلا العسكرة ظاهرة تعدم عللها، ولا التطرف السلفي نبتًا غريبًا عن الأرض التي أينع فيها، ولا ضمور أثر التيار الديمقراطي العلماني سببه التصحر الذي أحدثه الاستبداد الطويل.

الركود الذي يسيطر على بنية الشريحة التي تتعرض لحرب الإبادة سابق على الاستبداد، فعالمها الرمزي قد استحال منذ زمن طويل الى دوال ومدلولات جامدة تأبى الانفكاك من أسر الفهوم العتيقة، ولذلك تجده غير جاذب للشباب الباحث عن إشباع فضول المعرفة، وتسكين قلق الشك، فهو عالم رمزي لا يأخذ من الفكر الفلسفي إلا شكله بينما استقر مضمونه على دلالات تئن تحت طبقات غبار تراكم عبر القرون.

ولما كان الإبداع والتجديد مقترنًا بمدى حضور الفكر الفلسفي، والنكوص ملازمًا لغيابه، فإن المضمون النقلي للتراث السني الذي يؤطره شكل عقلي مثّل حاجزًا أمام الحركة الفكرية المنتجة.

وليت الشكل العقلي المؤطر للمضمون النقلي كان شكلًا متجددًا! إذن لكان الأمر أقل سوءًا، ولكنه جمد كمضمونه عند شكل قروسطي جاعلًا من الجمود صبغة للشكل والمضمون.

ولهذا تجد النخب في هذه الشريحة تهلل وتصفق لأي تجديد فكري لافت، حتى لو كان غير قادر على التقولب وفق القوالب الراسخة، وغير قابل للتشكل كما تقتضي الطبقات الجيولوجية المشكلة للبنية الفكرية والنفسية للبيئة المستقبلة.

ولهذا تجد التطرف السلفي أبرز الفاعلين في هذه البيئة، فليس ثمة أنسب من الدوال المتقرنة مستندًا للغلو في الحرفية، ولهذا أيضًا تجد التيار الديمقراطي العلماني ضامر الفعل، عديم الأثر؛ لأنه تعالى على عالم بيئته ومجتمعه الرمزي، وتوجه إلى هذا المجتمع بخطاب لا يكاد يجد صدى له حتى يرتد عليه الواقع المتجذر عبر القرون طاردًا إياه من ساحته، ولا غرابة في هذا، ولكن كل الغرابة في إصرار الفاعلين في هذا التيار على المناحرة عكس التيار، وعدم البحث عن سبب العجز عن التأثير.

عالمنا الرمزي الذي رضي به المشتغلون به، ولم تعدُ محاولاتهم لإحياء مواته محاولات خجولة لا ترتقي إلى عتبة الصدمة الكهربائية فضلًا عن احياء الميت، وتعالى عليه مثقفونا جهلًا بحقيقة أن جسده الهائل رغم ركوده لا يقبل شريكًا له في أرضه، خصوصًا وأن حراس هذا الجسد ثقافة شعبية راسخة، ومؤسسات رسمية ضاربة جذورها في الأرض، هو الذي تسبب في الرضا بالخضوع للاستبداد أربعة عقود؛ جاعلًا من أنموذج الزوجين البائسين أنموذجًا غالبًا، وهو السبب في جرأة حلفائه على سفك دمنا من دون أن يرف لهم جفن.

ولهذا تجد خصومنا لا يتفوقون علينا إلا باحترامهم لعالمهم الرمزي الذي لا يقل تخلفًا، ولكن حراسه أقدر على استثماره لخدمة قضاياهم، من دون استعلاء نخبوي أجوف، ومن دون الاكتفاء بالتبرك به، كما نفعل نحن.

قبل النوح والتذمر مما نعانيه، علينا أن نسائل الشريحة الاجتماعية الأكبر التي تتعرض للإبادة اليوم -نخبًا وغير نخب-: هل يمكن أن تذهب الهزائم هذا المذهب لولا استعداد كامن في بنية المهزوم لها، وهل يعقل أن يعربد الروسي المتخلف، والإيراني الأكثر تخلفًا على أشلائكم لولا فقدان عدة المواجهة أو صدأ هذه العدة؟

رئيس التحرير