طرح تنظيم (داعش) عدة إصدارات، خلال معاركه الأخيرة في ريف دير الزور الشرقي. الإصدارات الأخيرة تكشف مدى الوحشية التي يعامل بها هذا التنظيم الإرهابي أسراه من (قوات سوريا الديمقراطية/ قسد)؛ فمن قطع الرؤوس إلى الخوازيق إلى حرق الأسرى وهم أحياء، عمل التنظيم على إرسال رسائل دموية ووحشية إلى أعدائه، كعادته منذ نشأته. لكن اللافت في شأن هذه الإصدارات، التي حرص التنظيم على أن تكون مسبوقة بتعريف الأسرى بأنفسهم وانتماءاتهم القومية والعشائرية والمناطقية، أن كل الأسرى الذين ظهروا في هذه الإصدارات الأخيرة كانوا عربًا، باستثناء شخص واحد كان آثوريًا من رأس العين. الملاحظة الثانية في ما يخص هذه الإصدارات هي أن الأسرى جميعًا من الشبان الذين جندتهم (قسد) قسرًا، بعد بسط سيطرتها على مناطق سكناهم في الجزيرة السورية، ومعظم من ظهروا في هذه الإصدارات كانوا من أرياف الرقة الغربية والشرقية. والملاحظة الثالثة هي حداثة تجنيد هؤلاء الشبان، إذ تراوح مدة التحاقهم بين بضعة أيام وعدة أسابيع.

الاستنتاج الذي يخرج به المرء، من توصيف هذه الحالات، أن (قسد) تواصل اتباع سياسة منهجية في وضع المجندين العرب في مواجهة تنظيم (داعش) فيما يقوم عناصر “وحدات حماية الشعب” و”وحدات حماية المرأة” بالأدوار القيادية واللوجستية والأمنية، وخاصة الإعلامية والاستعراضية، بعد انتهاء المعارك، بقصد إظهار هذه (الوحدات) بدور مقاتل، وكذلك بقصد السطو الرمزي والسياسي على كل مخرجات المعارك، أمام الإعلام والرأي العام. إلّا أن هذه السياسية ليست جديدة، فمنذ أن تشكلت (قوات سوريا الديمقراطية)، على إثر نصيحة أميركية باتخاذ اسم يُخفي الهوية والأجندة القوميتين لـ “وحدات حماية الشعب” الكردية، وبوجه خاص بعد أن بدأت هذه الميليشيا التوسع على الأرض، في محافظات الحسكة وحلب والرقة ودير الزور مؤخرًا، كانت تُجند الشبان العرب في المناطق التي تستولي عليها، بغية وضعهم في الواجهة. هذا ما حدث في ريف الرقة الشمالي، منذ عام 2015 ومنبج، ولاحقًا الطبقة والرقة وأريافهما.

هذه السياسية التمييزية العنصرية تستبطن أن العرب، سواء أكانوا في عداد (قسد) أم في عداد تنظيم (داعش) هم طرف واحد، ويجب التخلص منهم. وبالفعل، فإن معظم قتلى حملات التحالف الدولي ضد تنظيم (داعش) هم من العرب المجندين إلزاميًا في صفوف ميليشيا (قسد)، تُشير إحصاءات الأيام الأخيرة من معارك “هجين” إلى أن أكثر من 220 مقاتلًا عربيًا في صفوف (قسد) قد قُتلوا، وهذا العدد لا يشمل من قُتلوا بعد أسرهم في إصدارات (داعش) الأخيرة.

وبموازاة العدد الكبير من القتلى العرب في صفوف ميليشيا (قسد) وتفريغ مناطقهم من العنصر الشاب، كان ثمة آلية أخرى تعمل على استثمار هؤلاء المجندين، واستغلال أسرهم من خلال ابتزازها بدفع رشًا لقيادات في (قسد) كي تنقل المجند القادر على الدفع، إلى أماكن هادئة أو أقلّ سخونة من جبهات القتال مع (داعش).

وأسعار تنقلات المجندين العرب معروفة، في أوساط الأهالي والمجندين الراغبين في الابتعاد عن جبهات القتال وخطر الموت أو الوقوع في الأسر، وهي كالآتي: يجب أن يدفع المجند الراغب في نقل خدمته، من ريف دير الزور الشرقي إلى مناطق هادئة أو أقل سخونة، مثل تل أبيض أو عين العرب أو الرقة، 1500 دولار أميركي. أما نقل مجند من ريف دير الزور الشرقي إلى ريف دير الزور الغربي أو ريف الحسكة الجنوبي البعيدين نسبيًا عن ميادين القتال، فيكلف 1000 دولار. بينما الإعفاء النهائي من التجنيد، فيكلف الشاب 3000 دولار. ويصل الفساد والرغبة المحمومة في جمع المال أوجهما، في فسح المجال أمام تهريب شبان انشقوا عن ميليشيا (قسد) ذاتها، ويودون التسلل إلى تركيا عبر الحدود التي تُسيطر عليها الميليشيا من الجانب السوري، حيث يجب أن يدفع المجند المنشق مبلغًا يراوح بين 3500 و5000 دولار أميركي. أما إذا كان الشاب غير مجند، لكنه في سن التجنيد ويود الهرب قبل طلبه إلى التجنيد، فإن عليه أن يدفع مبلغًا يراوح بين 1500 و2000 دولار. أما الشبان النازحون من دير الزور وأريافها المعنيون بنظر (قسد) في الانخراط بالمعارك الدائرة في ريف دير الزور الشرقي ضد تنظيم (داعش)، والذين يقطنون مع أسرهم في المخيمات التي تُديرها (قسد) في ريف الرقة الشمالي، مثل مخيم عين عيسى، فيمكن أن يحصلوا على أوراق تُثبت أنهم من ريف حلب كي ينجوا من التجنيد، لكن عليهم أن يدفعوا رشوة لهذا الغرض، تراوح بين 200 و500 دولار أميركي.

هذه الحال فرَّغت المناطق العربية في شمال سورية من العنصر الشاب؛ حيث يفضل معظم هؤلاء الهرب إلى تركيا على التجنيد الإلزامي والزج بهم في المحرقة، فيما يعيش مئات الشبان في سن التجنيد حياة ليلية، في قرى منطقة تل أبيض والطبقة والرقة، فيقضون نهارهم مختفين أو نيامًا، كي لا تُلقي دوريات (قسد) القبض عليهم، وتسوقهم إلى جبهات القتال.

ابراهيم العبدالله – جيرون