حلّت بشأن سورية حكاية اللجنة الدستورية مكان النقاش عن الهيئة الانتقالية للحكم. تتناسب الأولى مع “انتصارات” روسيا ميدانياً، وقيادتها كلا من إيران وتركيا في سحق المعارضة، وتحجيم النظام، وضبط مشاريع الدولتين اللتين لم تعودا تفكران بمصالحهما، إلا في سياق العلاقات التحالفية مع روسيا. كانت حكاية الهيئة مطابقة سنوات الثورة الأولى، والتي كانت الكفّة فيها تميل إلى الثورة.
لا اعتراضات ذات قيمة من أميركا وحلفها على مشروع اللجنة الدستورية. يعزز ذلك ما ترسمه أميركا على الأرض السورية من نفوذ لها في شمال الفرات وشرقه وجنوب سورية، وتنسيق ميداني مع تركيا في منبج، ومع روسيا في كل مناطق سورية. صحيح أن أميركا لا تعلن تأييدها كاملاً لحكاية اللجنة هذه، وتُصرّح، بين الفينة والفينة، عن رفضها لها ورفض التجديد للرئيس السوري، لكن ذلك يأتي في إطار تدوير الزوايا مع روسيا والضغط عليها، وليس تعبيرا عن رؤية مختلفة للحل في سورية. بدقة أكثر: لا ترفض أميركا مشاريع روسيا للحل، سواء عبر طريق أستانة أو سوتشي، لكنها لا تعلن تأييدها كاملاً أيضاً. السبب تدوير الزوايا والضغط على روسيا لفكّ تحالفها مع إيران وطردها من سورية. لو فعلت ذلك، لحصلت على دعم الولايات المتحدة لخطة اللجنة هذه، لكن روسيا ستكون ضعيفة من ناحية أخرى، وستضطر حينها إلى إرسال قوات برية كبيرة إلى سورية، وهذا أمر معقد، نظراً لعقدة أفغانستان، وعدم وجود اتفاقيات مع أميركا تنظم احتلالها والسيطرة على سورية، وتلغي بالتالي ضرورة التدخل البري الواسع.
رسم مناطق النفوذ في سورية بين كل من أميركا وتركيا وروسيا وإيران يمنع تجدّد الحروب
“الاحتلالات وأدواتها المحلية السورية مشكلة سورية حالياً” الكبيرة، ويؤهل الأرض لمغادرة كل المليشيات، وقبلها التخلص من بقايا “داعش” وهيئة تحرير الشام في إدلب. وقد أعطى هذا الرسم لتركيا وظيفة ضبط الفصائل، ولأميركا التحكم بقوات سورية الديمقراطية (قسد)، ولروسيا إعادة تشكيل جيش النظام وحل المليشيات التي شكلّها إثر تقهقر الجيش واحتمالات خسارة العاصمة والعودة إلى الشريط الساحلي بعد العام 2012. منذ أتت روسيا بطلبٍ من إيران لمساعدتها في الحرب ضد الثورة وفصائلها، خسرت الأخيرة معظم مواقعها، وما لم تخسره أصبح تحت سيطرة تركيا وأميركا، والبقية تحت سيطرة روسيا وإيران معاً. تترافق هذه التطورات مع تطورات أخيرة تنقل بموجبها تل رفعت ومناطق في إدلب إلى تركيا، وربما تكون هناك صفقة تخص الجنوب السوري، ولا تضحّي بمصالح كل من إسرائيل والأردن وأميركا. ويتم بحث القضية الأخيرة مراراً وتكراراً، وجوهرها إنهاء أي وجودٍ لإيران، وإبقاء درعا منطقة خفض التوتر، وفتح طريق الأردن دمشق. وطبعاً موضوع إشكالي، نظراً إلى وجود فصائل قوية هناك، ولديه شرط مسبق، ويتحدد في إداراتها ذلك المعبر، أو تكون شريكة فيه، وهو ما يرفضه النظام وتصرّ عليه الفصائل.
النقاش الدولي بين الدول الضامنة للقاءات الأستانة، ولاحقا في 25 من شهر يونيو/ حزيران الحالي بين أميركا وحلفائها بشأن اللجنة، وآلية عملها، والتصويت فيها ومرجعيتها، وأعداد المشاركين فيها من المعارضة والنظام و”المجتمع المدني”، لا يعني هذا النقاش أبداً أن التوافق الدولي والإقليمي وصل إلى نهايته، وأن طريق الحل السياسي بدأ؛ فروسيا تعتمد بحلّها على الإصلاح الدستوري وانتخابات لاحقة للرئاسة ولمجلس الشعب، إي إعادة إنتاج النظام. بقية الدول لم تلغِ “جنيف 1″، ولا القرارات الدولية التي تُحمّل النظام مسؤولية ما حلَّ في سورية من كوارث. الاختلاف في الرؤى هذا يمنع القول إن حكاية اللجنة ستجلب إثر انعقادها حلاً سياسياً.
يخطئ من لا يربط بين فكرة اللجنة هذه والاحتلال الروسي الدائم من ناحية، وبينها وبين الاحتلالات المتعددة لسورية من ناحية أخرى. والسؤال: أية علاقة بينهما؟ ولا يلغي هذا السؤال فكرة تحكّم السوريين بمستقبلهم. وهنا أكرّر أن اتفاق “جنيف 1” كان بغياب النظام والمعارضة، فهل ستتشكل اللجنة بشكل مستقل، وبحضور الأطراف السورية؟ أعلن أحمد
“ربما سيُعتَمدُ دستورٌ روسيٌّ لسورية، وربما يتم إصلاح الدستور الحالي الرديء” طعمة، رئيس حكومة معارضة سابق، ورئيس وفد المعارضة لمؤتمري سوتشي وأستانة أخيرا، أن تركيا هي من ستُسلم أسماء وفد المعارضة، وهناك إعلان عن اجتماعات للهيئة العليا للتفاوض لمناقشة قضية اللجنة الدستورية، وتعمُّ المعارضة “رؤية” تشمل التنازل عن أية مسبقاتٍ للتفاوض والمشاركة في أية أوراق أو اجتماعات تتشكل بخصوص سورية، وبالتالي ستذهب هيئة التفاوض والائتلاف الوطني وبقية المجموعات إلى النقاش في جنيف وسواها بخصوص اللجنة الدستورية. وهذا يعني أن المشكلة لدى المعارضة لم تعد في التمسك بهيئة الحكم الانتقالية كاملة الصلاحيات، ولا بتحديد مسبق لمصير الأسد، بل في كيفية النقاش في اللجنة الدستورية، والانتقال إلى الحل السياسي وفقها.
القصد أن المعارضة تلتحق تدريجياً بالرؤية الروسية للحل، وباعتبار الروس ينطلقون من مصالح النظام مع إجراء تغييراتٍ شكلية فيه، فالمعارضة ستناقش الدستور ومواده وفقاً لما يرتئيه الروس. ربما سيُعتَمدُ دستورٌ روسيٌّ لسورية، وربما يتم إصلاح الدستور الحالي الرديء، ولكن وفي كل الحالات، خسرت المعارضة كثيراً من نقاط قوتها، حينما تخلت عن شروط مسبقة، يفترض بالنظام وروسيا أن تقدماها قبل أي نقاش أو حوار أو لقاء، كالإفراج عن المعتقلين ومصير الأسد، والتمسك بإعلانٍ دستوري، وبالتأكيد أصبحت الهيئة الانتقالية للحكم خلف ظهرها.
سألت أعلاه: ما علاقة اللجنة الدستورية بالاحتلالات؟ هو سؤال إشكالي من دون شك، فكيف سيتم شرعنة هذه الاحتلالات في عصرنا هذا؟ كيف سيتمّ تضمين الدستور المزمع تشكيله بنوداً تتعلق بالاحتلالات هذه؟ هذه القضية هي ما يجب نقاشه في إطار المعارضة السورية، وكذلك لدى الشعب السوري؛ فالاحتلالات وأدواتها المحلية السورية مشكلة سورية حالياً، وهي من يقال إنها ستناقش قضية اللجنة الدستورية، وبالتالي أي حلٍّ سوريٍّ ستحمله معها؟