«القيصر» فلاديمير بوتين، يشعر والعالم يوافقه على شعوره، بأنه «المنتصر الأكبر» في سوريا. لقد حقّق بوتين حلم كل «القياصرة» الروس في التمركز على شاطئ البحر الأبيض المتوسط والغطس في مياهه الدافئة. قبلاً كان الجيش السوفياتي موجوداً على هذا الشاطئ، لكن ضمن اتفاقات تحدّ كثيراً من حرّيته واستقلاليته. الآن بوتين هو السيد الذي يأمر فيُطاع، وهو يكاد يَملك «شيكاً على بياض» من واشنطن لمتابعة سياسته القائمة على استراتيجية مدروسة جيداً، أهم ما فيها أن تبقى التكلفة محدودة، والأرباح متصاعدة.

عندما حطت أسراب السوخوي الروسية وغيرها في مطار «حميميم» السوري، ومن ثم استخدمت مطار همدان في إيران، كان «لاعب الشطرنج» بوتين، يعرف جيداً أن عليه اللعب بحذر شديد لأنه ليس وحيداً. توجد واشنطن المنافسة، وطهران الحليفة – المزاحمة، وإسرائيل المشكّكة والمتطلّبة. استراتيجية بوتين نجحت بسبب براعته ولكن أيضاً لأن الظروف والتطورات ساعدته. انتخاب ترامب ومن دون الدخول في التفاصيل، دعمه بطريقة أو أخرى. تخلي واشنطن مؤخراً عن تدريب ورعاية قوات معارضة سورية (يقدّر الخبراء عددها بعشرين ألفاً) أضاف إلى رصيد بوتين ومنحه حرّية أكبر للتصرّف في سوريا. لكن هذا لا يعني أن واشنطن ستكون غائبة عن سوريا. موسكو تتابع وتراعي الوجود الأميركي الصامت في سوريا، وبوتين يعمل على عدم

الاحتكاك بمشاريعها، فالأفضل بالنسبة له استمرار التفاهم معها على الشقاق فالصدام، فالانزلاق نحو أوضاع تقيّد خططه.

موسكو منذ البدايات تريد إقامة «سلام روسي في سوريا» تحت شعار «عدم تكرار التجربة الليبية أو العراقية». عمود هذا السلام المحافظة على «الجسم الحيّ للجيش السوري» والباقي تفاصيل، يمكن رسمها تبعاً للتضاريس الميدانية ولموازين القوى الداخلية. في صلب هذه الاستراتيجية الروسية، وقف عملية «تناسل الحرب». إقامة مربّعات هادئة، يدفع بهذا الاتجاه. وصل الأمر بموسكو أنها دفعت بدوريات من الشرطة العسكرية معظم عناصرها من شمال القوقاز لفرض الأمن في المناطق التي يتم الاتفاق مع المعارضة المسلحة والنظام لجعلها آمنة ومستقرة (كما في حلب). سمحت هذه السياسة لموسكو بتعزيز نفوذها، فأقامت علاقات «إنسانية» مع السوريين الخائفين تحت شعار ضمان أمنهم.

في صلب استراتيجية موسكو الناشطة في سوريا، عدم السماح لإيران بتحويل سوريا مستقراً لها ينافسها ويضايقها، لأن طهران، وعلى قاعدة المشروع الخامنئي، «شرهة» لا تكتفي بالوجود ولا بالتقاسم، فهي تريد كل شيء، إلى درجة أن خبراء روساً يقولون إن موسكو تمنع طهران من تحويل سوريا إلى «مستعمرة لها». لذلك كله تعمل موسكو على ضرورة عدم الترابط الشامل مع نظام الأسد وإيران.

ماذا عن إيران؟

بعيداً عن الكلام الروسي غير الرسمي «الفجّ» عن منع إيران من تحويل سوريا إلى «مستعمرة لها»، فإن الفرق بين ما تريده طهران وما تريده موسكو واضح. الأولى لا تقبل بأقل من إلحاق الهزيمة كاملة ونهائية بالمعارضة السورية، وأن يبقى بشار الأسد ونظامه إلى الأبد، وبطبيعة الحال هي أيضاً إلى الأبد. وإذا كانت واشنطن تأمل ببروز شقاق روسي – إيراني، يدعم توجّهها في كسر المشروع الإيراني وإلحاق المزيد من الخسائر بالنظام الإيراني، فإن طهران تلعب بقوّة على التناقضات الأميركية – الروسية، لأنه كلما وقع الشقاق بين الجبّارين، كانت هي الرابحة. لكن طهران تدرك بقوّة أن وجودها على الأرض، مهما تمدّد أحياناً، سيبقى محدوداً وتحت رعاية موسكو وبطبيعة الحال واشنطن. لذلك تعتمد طهران استراتيجية مستمدة من نجاح تجربتها مع «حزب الله» في لبنان ومع الشيعة في العراق. المشكلة التي تواجهها أن أكثر من 70 في المئة من الشعب السوري من السُنَّة الذين تفصلها عنهم خنادق من التهجير والدماء.

تعمل إيران في سوريا على اختراق «النسيج السوري» في وقت تتابع فيه التمدّد داخل الجيش ومؤسساته وخصوصاً الأمنية منها، بحيث يكون حضورها نافذاً من دون أن يكون فاقعاً ومقلقاً، علماً أنها تستند في ذلك على الأقلية الشيعية وجزء من العلويين. من ذلك ما كشفه الخبير الروسي كيريك سيمينوف: «إن الفرقة الرابعة التي هي فرقة النخبة في الجيش والنظام والتي يقودها اللواء ماهر الأسد، أصبحت تضم كتيبة من الشيعة السوريين تحمل اسم «سيف المهدي»». ولم يعد خافياً أن حركة إيرانية من «التشيُّع» ناشطة وهي حتى ولو بقيت محدودة إلا أنها تُشكّل رأس حربة مهمّة لاختراق النسيج السُنِّي السوري على غرار «سرايا المقاومة» في لبنان.

يبقى في كل هذه «اللعبة الدموية»، أين إسرائيل؟ ضمنت إسرائيل أمنها، وبموافقة إيرانية ضمنية وباتفاق روسي أميركي – إسرائيلي بإقامة شريط حدودي بعرض أربعين كلم في جنوب سوريا (الجولان)، وهي بعد أن حققت ذلك، أوفدت إلى واشنطن وفداً أمنياً وعسكرياً رفيع المستوى ليعرض على واشنطن ضرورة إخراج إيران و«حزب الله» من سوريا. قد لا تنجح إسرائيل في تحقيق هذا المطلب، لكن بطريقة مدروسة وقّتت الكشف في تصريح لقائد الطيران السابق، أن الطيران الحربي الإسرائيلي شنّ في خمس سنوات مئة غارة على قوافل من السلاح لـ«حزب الله» وهي لم تواجه أي مقاومة ولا أي ردّ عسكري. أي أن «يدها الطويلة أصبحت حرّة في سماء وأرض مكشوفتين».

كيف ستنتهي الحرب في سوريا؟

كيف سيتقاسم «اللاعبون» الكبار الأرض والنفوذ؟

ما زال الوقت مبكراً على تحديد ذلك، طالما أن الحرب تتناسل حروباً!