د. بشير موسى نافع

لم يكن اتفاق وقف إطلاق النار في سورية، 29 كانون الأول/ديسمبر، ممكناً بدون توفر قناعات جديدة لدى أطراف الأزمة الرئيسية، من ناحية، والتقارب المتسارع بين أنقرة وموسكو، من ناحية أخرى. ولكن أحداً لا يجب أن يتصور أن عملية تسوية الأزمة ستمضي سريعاً إلى الأمام، أو ستكون سهلة وميسرة. حتى اتفاق وقف النار قد لا يصمد طويلاً.
دخل الروس بصورة مباشرة في غمار الأزمة السورية لأنهم أرادوا وضع نهاية لتيار تغيير الأنظمة باسم الديمقراطية، ولأنهم تصوروا أن سوريا ستعيد بناء موقعهم ودورهم في الساحة الدولية، وأنها قد تصلح ورقة مساومة هامة في التدافع مع الغرب في الساحة الأوروبية، سيما في أوكرانيا. وليس ثمة شك أن الدخول الروسي إلى سوريا لم يكن ممكناً بدون التشجيع والدعوة المشتركة من النظام وإيران. الأمريكيون، الذين لم يعتبروا سوريا مطلقاً منطقة نفوذ أو أولوية، رفضوا وضع سوريا وأوكرانيا في سلة تفاوض واحدة.
وسرعان ما أدركت موسكو أن النظام، حتى بالدعم المقدم له من إيران وحزب الله، غير قادر على حسم الموقف عسكرياً، وأن هذا الحسم لن يتحقق بدون المزيد من التورط الروسي. الأهم، أن القوة العسكرية الروسية في سوريا باتت أداة لحرب طائفية، ولعملية تطهير وإعادة بناء ديمغرافي طائفي للشعب السوري، في الوقت الذي بدأت فيه المؤسسات الدولية جمع الأدلة على جرائم حرب تورطت فيها العسكرية الروسية أو وفرت لها الغطاء. ولم يكن خافياً، خلال الشهرين أو الثلاثة الأخيرة، أن موسكو ترغب في وضع نهاية لتورطها في الحرب، وإطلاق عملية سياسية، تعيد تقديمها باعتبارها صانعة للسلم، وقوة دولية قادرة على حل الأزمات.
من جهة أخرى، لم تنتهج تركيا استراتيجية ثابتة من الأزمة السورية، وقد تطورت مقاربة أنقرة للأزمة من مرحة إلى أخرى. في البداية، وحتى خريف 2011، كان التصور التركي يقوم على عملية إصلاح جذرية في سوريا، يقودها الرئيس الأسد. ولم تتعهد أنقرة دوراً مباشراً، حتى بعد أن دعت في نهاية أيلول/سبتمبر 2011 إلى تغيير النظام. خلال 2012، انتقلت الثورة السورية تدريجياً إلى العمل المسلح، وبدأت تركيا والسعودية وقطر تقديم مساعدات محدودة لقوى الثورة السورية، في مقابل الدعم الإيراني المتزايد للنظام وتحول حزب الله إلى شريك مباشر في صراع النظام مع شعبه. طوال العامين التاليين، وبالرغم من تصاعد دور إيران والحزب، والتأزم في العلاقات التركية ـ السعودية، والخلافات بين تركيا وأمريكا، ظلت أنقرة على قناعة بأن بإمكان الشعب السوري وقواه المسلحة إسقاط النظام. ولكن تركيا أدركت منذ نهاية 2015 أن الدخول الروسي صنع خللاً هائلاً في ميزان قوى الأزمة. لتعديل ميزان القوى، كان لابد من دور أمريكي مكافئ، وهو الأمر الذي رفضت إدارة أوباما تعهده. بإسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، تفاقم الخلل في ميزان القوى، وأصبحت حركة تركيا في سورية محدودة إلى حد كبير.
أنجزت المصالحة التركية ـ الروسية في حزيران/يونيو 2016، ولكن دور تركيا في سوريا تعطل قليلاً بفعل المحاولة الانقلابية في منتصف تموز/يوليو. خلال الشهور القليلة التالية، توترت العلاقات التركية ـ الغربية، سواء بفعل الموقف الأوروبي من إجراءات مواجهة الانقلابيين في تركيا، أو بفعل الدعم الأمريكي المتزايد للمنظمات الكردية السورية وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني. في المقابل، تسارعت وتيرة التقارب التركي ـ الروسي.
لم يكن الإيرانيون يجهلون حقيقة الموقف العسكري في سوريا وعجز النظام عن حسم الحرب عسكرياً. ولكنهم تصوروا أن الدعم الروسي العسكري سيستمر بلا انقطاع، وأن تركيا غير قادرة على المناورة، نظراً لانشغالها بوضعها الداخلي. وربما كان خطأ الحسابات الإيرانية الأكبر أن طهران تصورت أن تركيا، ومهما كانت خلافاتها مع الولايات المتحدة، ستبقى أسيرة عضويتها في الناتو وتحالفها مع واشنطن. في المقابل، كان لسان حال الأتراك يقول أن الإيرانيين رفضوا طوال خمس سنوات كل عروضنا لمحاولة حل الأزمة السورية إقليمياً، ولم يترددوا في تصعيد الأزمة دولياً واستدعاء الروس؛ فلنحاول نحن، إيضاً، التعامل مع الروس. منذ آب/أغسطس، وجد الروس والأتراك أن مصلحة الدولتين تقتضي المزيد من التعاون والتفاهم في سوريا، حتى بدون كبير اكتراث بالموقف الأمريكي. وافق الروس على عملية عسكرية تركية، بمشاركة الجيش الحر، لتحرير وتأمين الشريط السوري الحدودي؛ أيدت تركيا مساراً سياسياً روسياً لحل الأزمة؛ وأبلغ الروس النظام والإيرانيين أنهم ليسوا على استعداد لتحمل أعباء وعواقب حل عسكري، قد يستمر سنوات، ولا يمكن أن ينجز بدون ارتكاب سلسلة من المجازر. وكانت الاتفاقية على حلب، التي عمل الإيرانيون جهدهم على تخريبها، أولى الخطوات.
في مباحثات أنقرة لوقف إطلاق النار وبدء التفاوض من جديد، أبدى الروس، مرة أخرى، مرونة ملموسة، سواء بموافقتهم، في خلاف مع النظام والإيرانيين، على أن يشمل وقف النار كل الأراضي السورية، اعتماد جنيف الأولى وقرار مجلس الأمن 2254 أساساً للتفاوض، واستبعاد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري (PYD). وفي أول تعاون عسكري بين البلدين منذ دعم روسيا البلشفية لحرب الاستقلال في 1919 ـ 1922، وفر الطيران الروسي غطاء جوياً لعملية تحرير الباب في يوم توقيع اتفاق وقف إطلاق نفسه.
بيد أن ذلك لا يعني أن الحل السياسي أصبح وشيكاً. أنجزت اتفاقات 29 كانون الأول/ديسمبر الثلاث بتسرع فائق، وبدون وضوح كاف. ويتحمل المسؤولون الأتراك والروس المسوؤولية الأكبر عن هذا التسرع. وقعت الفصائل في المفاوضات على نصوص ليست ذاتها التي وقع عليها النظام في دمشق. وإضافة إلى أن وضع فتح الشام (النصرة سابقاً) ليس واضحاً في الاتفاقيات، فثمة غموض آخر يحيط بطبيعة الرقابة التركية ـ الروسية لالتزام الأطراف المختلفة بوقف إطلاق النار. الواضح أن لا الإيرانيين ولا دوائر النظام سعداء بالاتفاق، وسيحاول هؤلاء جهدهم إفشاله، سيما في المناطق التي يعمل الإيرانيون على تطهيرها طائفياً، مثل الغوطة الغربية. لقاء الأستانة نفسه يحمل طابعاً رمزياً، وقد أصر عليه الروس، كما يبدو، لتوكيد دورهم السلمي والتفاوضي. ولكن المفاوضات ستنتقل بعد الأستانة إلى جنيف، حيث ستبدأ المعالجة الجادة لمسائل التفاوض، برعاية أممية ووجود أطراف الأزمة السورية وغير السورية كافة. وما إن تبدأ عملية التفاوض، إن بدأت، حتى يدخل عامل إدارة ترامب إلى المعادلة. وليس ثمة من يعرف حتى الآن، لا في موسكو ولا أنقرة، ما ستكون عليه مقاربة ترامب للأزمة السورية.
ما أوصل الأزمة السورية إلى هذا المنعطف كان عدد من المتغيرات المتسارعة في ميزان القوى. وإن كان لقوى الثورة السورية أن تحقق القدر الأكبر من أهدافها، سواء في المسار التفاوضي أو ساحة القتال، فلابد من إعادة بناء شاملة وسريعة لأدوات الثورة السياسية والعسكرية. التشظي العبثي، والنزعات الإسلامية الإيديولوجية للفصائل، أصبحت عبئاً على الثورة السورية. الطريق الأنجع هو انضواء كافة الفصائل تحت راية الجيش الحر، من ناحية، والعمل على إعادة الحيوية إلى الائتلاف وإقامة علاقة عضوية بين مؤسساته وقيادة الجيش الحر، من ناحية أخرى.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث