لم يكن حيّ العمارة الدمشقي في الليل بعد أن ينقطع الصخب مكاناً عادياً، فقد كانت تسري فيه روح غريبة تهبط بالسكينة على ذلك الشاب الخارج مع شيخه من المسجد بعد مجلس العلم، وكان لحديث الشيخ أثر السحر، ولعبارته وهو يصف علوم الدين بأنها “روح تنفخ لا مسائل تنسخ” صدى مطرب يتردّد في مسامعه بعد عشرات السنين.

عالم آخر مغاير كان يطلّ بوجهه ذي التقاسيم الخشنة بمجرّد الخروج من الحي، عالم صاخب تتجسّد فيه أوهام السوق التي اعتبرها فرنسيس بيكون أحد أوهام العقل، والتي تضيع فيها مدلولات الخطاب بسبب سوء التفاهم بين أفراده.

كان ثمّة برزخ عميق بين العالمين وأوهام سوق على نطاق أكبر من الأولى بينهما.

أما شارع الباكستان حيث يقطن الجدّ ذو التوجه القومي، فقد كانت له مفردات ومفاهيم مختلفة، فالروح السارية فيه قد صنعت صنعاً وأنشئت إنشاء.

هي روح الأمة التي أعيد نسج تاريخها نسجاً انتقائياً لكي تستجيب لمتطلبات عصر القوميات، ومفرداته أمسّ رحماً بالعصر الجاهلي العربي منها بما بعده.

بين العالمين تجهد لعقد الصلة، وترهق لجدل الخيط الرفيع الذي ما إن تظنّ أن حلقاته قد استحكمت حتى تفاجأ بانفراطها، لأنك تحاول ما هو قريب من المستحيل.

ولم يكن ذينك العالمين يستغرقان كلّ العوالم الموجودة، فقد كان ثمّة عالم ثالث يستعلي على الأولين معتبراً إياهما عالمين فقيرين معرفياً ومتخلفين حضارياً، هو عالم اليساريين الذين اتخذّوا مكاناً قصيّاً وإن أقاموا في الجغرافيا نفسها.

فقد استبدّ بهم وهم الحقيقة المطلقة التي يعيبون على أهل العالم الأول وهم امتلاكها، وانسلخوا عن تقاليد أفراد العالم الثاني، فترى معظمهم لا يقيم وزناً لعرف ولا عادة ولاتقليد.

وكانوا موقنين أن العالم الأول ماض إلى زوال بحكم الحتمية، وأن العالم الثاني موضة يسري عليها حكم الزوال ككلّ موضة.

الرجل العجوز الواقف على ناصية الطريق قرب حاوية القمامة في حي الشعلان لكي يلتقط بقايا ما يلقيه الناس فيها كان معادلاً موضوعياً لحالة الانفصال بين العوالم الثلاثة وبين قاع المجتمع، واللافت أيضا أنهم جميعهم يقولون إنهم يعبّرون عن أوجاعه ومآسيه.

كان ذلك المشهد في أواخر القرن الماضي مشهداً ممتعاً لنظام الاستبداد الذي لم يكن معنيّاً بالسرديّات الكبرى لدى أهل العوالم الثلاثة، كما لم يكن معنيّاً بالدرجة نفسها بمعاناة البؤساء إلا بالقدر الذي يفكّر فيه في تكريسها.

استطاع بتكتيك شيطاني أن يستميل من عالم الروح القادمة من عهد النبوة أفراداً يبرّرون وجوده بمفردات دينية، واستطاع أن يدجّن قوميين بشعاره القومي الزائف، وأن يضمّ إلى صفوفه يساراً متعفّناً بيساريّته المدعاة.

صفّق القوميون المدركون لانفصالهم لنماذج توتاليتارية جلبت الدمار بحماقاتها، ودبّج اليساريون المقدمات والشروح بتقريظ مبالغ فيه لمنظري تعريب الماركسية الذين لبّوا حاجة كامنة لديهم، ولم يفلحوا في تسويق الفكر لدى مستهدفيه الأصليين، ورفع الدينيون قبعاتهم لنماذج توفيقية كشفت الثورة هزالها وخنوعها.

ثورة الحرية والكرامة السورية كانت ثورة المرهقين والجوعى وفاقدي الأمل، ولربما أضيرت من انكفاء النخب عنها، بمثل ما انحرفت بمشاركتها فيها وهي على ما هي عليه من تخندق وانفصال.

والانكفاء والانخراط لنخب منفصلة كانا عاملين مساعدين للنظام في تشتيتها، وتسهيل استهداف مكامن ضعفها. وكانا كذلك عاملين مساعدين في فتح الشقوق التي انسلّت منها أفعى التطرف لكي تقتات على الدم وتكبر وتسرق الضوء والمشهد.

يكفي السوريين الحرب العالمية القائمة ضدهم، وهم لا يطيقون حرباً يشنّها المستلبون -بصرف النظر عن حسن النية- والصانعو التاريخ -بمعزل عن عقائديتهم- والروحانيون -مع التقدير لرهافة أرواحهم- على واقعهم وعلى حاجاتهم، ومن أجل نيل استحقاق تمثيلهم.

رئيس التحرير