رسالة سياسية!

ناقشت اللجنة المركزية في اجتماعها الدوري أوائل هذا الشهر، التطورات الميدانية والسياسية والنشاطات الدولية والإقليمية التي أعقبت ” الانتصار على داعش”. لعل طابعها الأبرز هو تصاعد حدة الصراع والتناقضات بين الدول المتدخلة بالشأن السوري، بحيث أصبحت صراعات المصالح والنفوذ أكثر وضوحاً، مع استمرار إصرار كل طرف على استكمال أجندته وفرض رؤيته للحل طالما لم تتبلور بعد تفاهمات لحلول متفق عليها، في ظل استمرار ضبابية المواقف الأميركية وتزايد حدة تناقضاتها مع الروس.
أولاً-الوضع السوري:
أ-التطورات الميدانية:
في الغوطة الشرقية: تستمر المأساة الإنسانية فيها بسبب سياسة الحصار والتجويع. ويواصل طيران النظام والروس سياسة الأرض المحروقة على المدن والبلدات بعشرات الغارات يومياً مخلفة دماراً واسعاً وسقوط عشرات الضحايا، وسط محاولات متكررة لاقتحامها والسيطرة عليها. إلا أن الفصائل المقاتلة وبعد معارك متواصلة نجحت في هزيمة النظام والميليشيات وكبدتهم مئات القتلى من قوات النخبة، والسيطرة على عدة أحياء من حرستا ونقاط أخرى، وربطها بعربين وصولاً إلى مشفى البشر وحصار مئات الجنود والضباط داخل إدارة المركبات.
في ادلب: في خرق واضح لاتفاق استانة بين الدول الضامنة، وعلى وقع تصريحات لافروف الداعية لضرب ” جبهة النصرة”، باشرت قوات النظام والميليشيات الإيرانية وداعش والطيران الحربي الروسي بإشعال كافة الجبهات على مناطق المعارضة، استهدف هذا التصعيد أرياف حماه وحلب وادلب مخلفاً مئات الضحايا من الأطفال والنساء وآلاف من المشردين والنازحين. وسيطر المهاجمون على عشرات القرى والبلدات في ريف ادلب الجنوبي وذلك بالتواطؤ مع جبهة النصرة التي انسحبت من هذه المناطق دون قتال مما خلق حالة غضب عند الأهالي عبروا عنها بمظاهرات ضدها، وطالبوا بإعادة السلاح المصادر، والخروج من مناطقهم. إن هدف النظام الوصول إلى مطار أبو الظهور والسيطرة عليه، وكذلك الوصول إلى طريق خناصر-حلب باتجاه مناطق النظام.
يأتي هذا التطور كهدف مباشر للضغط على المعارضة لإجبارها على حضور سوتشي. أما الهدف الأساسي فهو قطع الطريق على الدور التركي، وتأمين محيط مناطق النفوذ الروسي في الساحل باعتبارها جزء من سورية المفيدة لهم.
بعد سوتشي، صعد النظام وحلفاؤه والطيران الحربي للاحتلال الروسي عدوانهم على الغوطة الشرقية وادلب، جواً وبراً وبحراً، آخذت شكل حرب إبادة جماعية، ومستخدمين كافة صنوف الأسلحة بما فيها المحرمة دولياً كالسلاح الكيماوي، مستهدفين المدنيين في منازلهم والمشافي والأسواق الشعبية والجوامع ومراكز الدفاع المدني، مرتكبين جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ومجازر راح ضحيتها المئات من الأبرياء جلهم من الأطفال والنساء. يجري هذا في ظل صمت وعجز المجتمع الدولي عن إيقاف هذه الجرائم ومحاسبة مرتكبيها. هذا التصعيد هو انعكاس لخلافات كبيرة بين كافة أطراف الصراع المنخرطة في الشأن السوري، ويدفع شعبنا الفاتورة الدموية له.
في دير الزور: أسفر التفاهم الروسي الأميركي عن استيلاء التحالف الدولي على القسم الشرقي منها والسيطرة على مصادر الثروة، وترك القسم الغربي للروس وإيران، وما زال الصراع قائماً للسيطرة على الطريق الدولي من طهران إلى بيروت. لم يتمكن حتى الآن حلفاء النظام من اخضاع المنطقة. وتتواصل المعارك في محيط المياذين والبو كمال وما بينهما مخلفة خسائر كبيرة في صفوفهم. وارتكبت العديد من المجازر بحق المدنيين الهاربين من الموت من قبل الطيران الروسي.
ب-تطورات المشهد السياسي:
يبدو أن المهلة الافتراضية لوظيفة داعش في طمس ملفات الصراع الداخلي وتشويه صورته وتحويل وجهته قد أتت أُكُلُها وشارفت على نهايتها. هذا على الأقل ما تناوب على اعلانه بصفته انتصاراً كل الأطراف المتدخلة. من المفترض بالتالي أن يعقب مرحلة ما بعد داعش التحول نحو إيجاد حلول لأزمات المنطقة ومنها الأزمة السورية وفق مبررات المجتمع الدولي. إلا أن ما نشهده على المستويين الميداني والسياسي هو ازدياد حدة الصراع والتناقضات بين الدول المتدخلة، والتي أصبحت أكثر وضوحاً.
على الرغم من ازدحام المشهد السياسي بمؤتمرات التفاوض والحوار، وانتقاله من فشل إلى أخر. فما زالت حالة انسداد الآفاق وتعطيل كل فرص الوصول إلى حل سياسي مع ما يرافقه من تصعيد عسكري هو السائد.
لم تفضِ جولات استانا إلا إلى ما سمي بـ “خفض التصعيد”، والهدف منه مزيد من اضعاف الفصائل وتشتيتها، وإعطاء النظام الوقت لتجميع قواه والانقضاض على مناطقها. أما هدف الروس منه هو الإمساك بالملف العسكري كمقدمة للإمساك بالملف السياسي. من هنا حملت استانا8 موعداً لمؤتمر “الحوار الوطني ” في سوتشي. أما جنيف8 وفي ظل غياب أمريكي فاعل عنه، تكاثفت جهود روسيا وإيران والنظام لإفشاله تحضيراً ليكون البديل عنه سوتشي.
إن اطلاق مسار سوتشي الذي تتحكم موسكو بكل تفاصيله، وهدف الروس من عقده واضح، هو تغيير مسار الحل السياسي والإطاحة بمرجعياته ودفع الجميع للقبول والاعتراف بنظام الأسد.
لم تكن تحضيراته جديدة ولا طارئة، بل كانت حاضرة في كل من رياض2 وجنيف8 وأستانا8. المفارقة أنه رغم كل هذه التحضيرات والتخطيط المسبق، يبدو للكثيرين أن هذا المسار غير مقنع لحل الأزمة السورية.
بدت موسكو على عجلة من أمرها لأسباب باتت معروفة، حيث أراد بوتين بإصراره على سوتشي استغلال تفاهمه الغامض مع الأمريكان إلى أقصى حدٍ بعد انشغالهم بمشاكلهم الداخلية المتعاظمة، وترجمة غروره بالهيمنة على المحيط الإقليمي والدولي بعد فرض وجوده كلاعب رئيسي في الأزمة السورية. فهو افتتح مساراً جديداً تطلّب تأسيسه تغيير مرجعياته الدولية وكل قواعد اللعبة السياسية، إضافة إلى تغيير المفاوضين، بل والتحكم بإعداد قوائم المدعوين إليه. ومارس ضغوطاً متزايدة على الأمم المتحدة وعلى ديمستورا لتوفير الغطاء الشرعي له. لكن المسألة تبدو معقدة، فالأميركي غير موافق على سوتشي وما يزال متمسكاً بجنيف دون غيرها، ومن غير الممكن للغرب وأوربا أن يغامرا بإضفاء شيء من الشرعية عليه. عدا عن الخلافات بين الدول الضامنة وخاصة بين الروس والأتراك بعد التصعيد الروسي في ادلب، في الوقت الذي كان يعول فيه على الدور التركي لإنجاحه عبر الضغط على الفصائل والائتلاف لحضوره. واضح أن سوتشي سيقدم الهدايا والمكاسب ليس فقط للروس بل لإيران وللنظام ولكل الطامحين والباحثين عن مصالحهم. لذلك كثرت الترشيحات للحضور من قبل هذه الأطراف حتى وصل العدد / 1700/. كل ما هو مطلوب منهم أن يوقعوا على دستور وانتخابات ونظام حكم وفق الحل الروسي، بعد أن تمّ استبعاد كل من يذكر مصير الأسد. الشيء المخزي للغاية، إن الأمم المتحدة أصبحت تعمل بهدي الأجندة الروسية ولم يعد الانتقال السياسي مطروحاً لديها. لكن المقاربة الروسية للحل السياسي عبر سوتشي فشلت فشلاً ذريعاً لأنه تعبير عن فشلها السياسي والدبلوماسي.
تحت ضغط جمهور الثورة وفعاليتها الثورية والمدنية والسياسية، ومواقف دولية داعمة، اتخذت هيئة رياض2 موقفها الرافض حضور مؤتمر سوتشي، التي سعت موسكو عبره لإعلان هزيمة الثورة، وأن الصراع في سورية ليس بين ثورة ونظام مستبد وفاسد ومتوحش، بل هو صراع بين مكونات الشعب السوري على قضايا الدستور والانتخابات. وهذا يعني تبرئة نظام الأسد من كل الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري وهي مقدمة لإعادة تأهيله. يمكن القول إن المؤتمر فشل في تحقيق أوهام بوتين من خلاله التأكيد على دور روسيا المتفرّد بالملف السوري، وأن الحل السياسي بيدها. لكن ما زالت هناك مخاطر من الضغط الروسي على الأمم المتحدة وديمستورا من أجل استغلال مخرجات سوتشي وتوظيفها للتأثير لاحقاً في مسار جنيف.
ج-حال المعارضة السياسية:
جاء انعقاد مؤتمر رياض2، ليكون بديلاً عن رياض1،استجابة لضغوط دولية وإقليمية وخاصة من قبل الروس نفذتها السعودية وسط صمت أميركي. لقد واجه هذا التطور رفضاً واسعاً من قبل السوريين والكيانات الوطنية والثورية وهيئات المجتمع المدني. حوى بيانه كلاماً مبهماً يصعب إيجاد تفسير واحد له، وأبقى الباب موارباً حول مصير الأسد، وضمت هيئته خليطاً متنافراً من أفراد ومنصات ومتسلقين وممثلي دول، لكن الأخطر ادخال منصة موسكو في وفدها التفاوضي، وأصبحنا بموجبه أمام هيئة واحدة بمرجعيات متعددة. قد تتكشف المخاطر والتحديات في الأيام القادمة بعد مؤتمر سوتشي، الذي رفضت حضوره قوى الثورة والجيش الحر ومجلس العشائر والمجلس السوري الإسلامي، إضافة إلى بيان حمل توقيع مئات الشخصيات وعشرات الكيانات السياسية والمدنية. إن مقاطعة المعارضة لمؤتمر سوتشي جعلته مجرد فكرة فاشلة بلا قيمة، وإن قيمته الوحيدة الفرز داخل صفوفها، وكشف لقوائم المتسلقين والمرتبطين بالأجندات الإقليمية والدولية. غير أن مخاطر استخدام نتائجه من قبل الوسيط الأممي مازالت قائمة.
هناك دعوات كثيرة من أجل إطلاق حراك سياسي يضم أوسع أطياف السوريين من الناشطين والسياسيين وسائر الفعاليات المدنية لتعبئة المواقف ضد سوتشي ورياض2. فالجميع يعبر الآن عن حاجة الوطنية السورية لإعلان موقف موحّد بمواجهة العدوان الروسي والتواطؤ الدولي، واثبات أن المعارضة السورية لم تفقد البوصلة، وهي لا تتسول الاعتراف بها سوى من شعبها، وتأسيس حركة سياسية قوامها الشخصيات الوطنية والشبابية المشهود لها بمناقبيتها وتجربتها، وعقد مؤتمر لها، وصياغة خطاب وطني جديد يرتكز إلى إرادة ومصلحة السوريين متجاوزاً كل عثرات واخطاء الماضي، ومبتعداً عن المحاصصات مهما كانت خلفياتها وترك المسايرات والمجاملات نحو مؤسسة مبنية على النهج الوطني السوري.
ثانياً-المؤثرات الدولية والإقليمية:
أ-المؤثرات الدولية:
أعلن ترامب عن استراتيجية الولايات المتحدة والتي تحمل في مضمونها الاستمرار في محاربة داعش حتى القضاء عليه، والتركيز على محاصرة النفوذ الإيراني، والتطلع نحو تشكيل تحالف دولي ضدها. وإعادة النظر بالاتفاق النووي بعد أن قوبلت تهديدات ترامب بإلغائه برفض أوربي واسع. أما فيما يتعلق بالموقف من برنامج إيران الصاروخي والملف الإقليمي فقد حظي بدعم فرنسي الماني. لكن الحديث حتى الآن يبدو خالياً من أي ترجمة فعلية على الأرض، وقد ضاع في زحمة التصريحات المتناقضة لإركان الإدارة الأميركية. أما التأكيد على أولوية المصالح الأميركية عالمياً وتحديد الصين وروسيا كدول منافسة، وكل من إيران وكوريا الشمالية كدول معادية، وضرورة استئصال الإرهاب الإسلامي الراديكالي فكلها تتجه نحو الداخل الأميركي بسبب موقع الإدارة المهتز والمرتبك وسط خلافات واسعة بين البيت الأبيض وسائر مؤسسات الحكم، وتسليط الأضواء على قيادة ترامب وتخبطه ووصفه من قبل نواب مرموقين بالفاشل والعاجز عن إدارة دفة السلطة لافتقاره للخبرة والموثوقية وقصر نظره في رؤية المصالح الأميركية والدفاع عنها، وهو ما يفسر حاجته لإصدار موقفه حول القدس كعاصمة لإسرائيل عبر قرار بنقل سفارة بلاده إليها، وبذلك يحصل على دعم اللوبي الصهيوني. ظهر ذلك أيضاً حيال المكسيك وفي انسحابه من بعض الاتفاقيات الدولية كاتفاقية المناخ، وأيضاً في علاقته الشائكة مع الحلفاء الأوربيين ومع تركيا أيضاً.
أما مواقف الإدارة الأميركية حيال الملف السوري فقد كانت استمراراً لسياسة إدارة أوباما والتي تقوم على إدارة الصراع والإمساك بخيوط اللعبة واستنزاف الجميع، مع السماح للروس بحرية التصرف بهذا الملف دون أن يعني ذلك تسليماً لهم بفرض رؤيتهم للحل السياسي، في محاولة لإغراقهم بالوحل السوري. هذا ما تدلل عليه العديد من الإشارات في سلوك الإدارة من تطورات جنيف8، والسكوت عن اجرام النظام وإيران والروس ومجازرهم المتواصلة بحق المدنيين السوريين. ومكتفية بتعزيز حضورها العسكري في الشرق وشمال شرق وجنوب سورية، ومواصلة الاعتماد على “قسد” بزيادة دعمها وتسليحها، وهذا سيمكنها من أن يكون لها اليد العليا حين البحث عن حلول جدية لإنهاء الأزمة السورية.
مؤخراً أعلن تيلرسون عن استراتيجية جديدة للولايات المتحدة في سورية. تؤكد أن المعركة ضد داعش لم تنتهِ وهي مستمرة وتساوي بين داعش والقاعدة ونظام الأسد. وتؤكد رفضها لمخرجات أستانا وسوتشي وأنها لن تعترف بها لأن الحل يمر عبر مسار جنيف التفاوضي وعلى أساس انتقال سياسي حقيقي وفقاً للقرار الدولي 2254، وربط إعادة الاعمار بالانتقال السياسي، كما أن وجودها العسكري سيكون طويل الأمد، مع تشكيل جيش نظامي لحماية مناطق نفوذهم وجهاز شرطة لضبط الأمن، وإبلاغ إيران أن واشنطن لن تقبل وجودها في سورية مذكرةً الروس بتعهداتهم بتقليص نفوذها تلبيةً للمطالب الإسرائيلية. كما أكدت على تأمين عودة طوعية وآمنة للمهجرين والنازحين. وأن تكون سوريا خالية من أسلحة الدمار الشامل، في إشارة لعدم التزام الروس باتفاقية 2013، التي جردت النظام السوري من السلاح الكيماوي.
لم تقتصر عودة الأمريكان القوية للملف السوري بإعلان تيلرسون شخصياً لهذه الاستراتيجية الجديدة، بل تعدتها إلى عقد مؤتمر دولي في باريس لمحاسبة مرتكبي جرائم الكيماوي في سورية، وتشكيل مجموعة اتصال من الدول الخمسة (الولايات المتحدة وفرنسا وانكلترا والسعودية والأردن)، وإصدار وثيقة (اللاورقة) التي تحدد رؤيتها لتنفيذ القرار 2254، ووضعها في عهدة الأمم المتحدة.
أوربياً ما تزال العلاقة مع ترامب يشوبها الكثير من الحذر والريبة بسبب خروج هذه الإدارة عن سالف عهدها برعاية المصالح المشتركة، وظهور خلافات كثيرة بين الطرفين ولا سيما في ملفات المنطقة. إلا أننا نلحظ مؤخراً عودة التنسيق بينهما في الشأن السوري، والتركيز على ملفين أساسيين، الأول: هو السلاح الكيماوي والثاني: يتعلق بملف حقوق الإنسان. حيث يكمن في خلفيتهما الإطاحة بالأسد وربما النظام.
في ضوء هذا الواقع الدولي، تواصل موسكو إدارة تحالفاتها الإقليمية والدولية وعلى تفاهمات غامضة مع الأمريكان، لكنها تنفرد برسم مسارات معقدة لتأمين الشروط اللازمة لفرض رؤيتها لحل الأزمة السورية بما يلبي مصالحها ويضمن لها وجوداً دائماً في سورية كنقطة انطلاق لتمدد نفوذها في المنطقة مروراً بمصر وليبيا والسودان وصولاً إلى الملف الفلسطيني، ومحاولة تجميع الأوراق الرابحة التي تمكنها من حل التناقضات الكثيرة مع الغرب من موقع الند.
ب-التطورات الإقليمية ومؤثراتها:
لعل أبرز ما يميز التطورات الإقليمية وتأثيرها المباشر على الأزمة السورية، هو التراجع الملحوظ في مواقفها الداعمة للشعب السوري وثورته. فقد أضيف إلى الاستدارة التركية، التي أثرت سلباً على مصير الثورة السورية، بداية تراجع للمملكة العربية السعودية عن مواقفها السابقة تجاه القضية السورية. ظهر ذلك في التحضير لمؤتمر رياض2. ربما كان الرابط بينهما هو الخذلان المشترك من الإدارة الأميركية وضغطها المتواصل مع الروس لإضعاف دورهما.
على الرغم من خلافات تركية واسعة مع الروس، إلا أنها مازالت ترزح بين مطرقة الغرب وسندان موسكو، هذا ما دفع الموقف التركي للانكفاء أكثر نحو الاهتمام بالمصالح الخاصة والتركيز على أمن حدودهم. أما السعودية فقد واجهت المزيد من التحديات سواء في الداخل السعودي أم على صعيد الأزمة مع قطر والأزمة اللبنانية وصولاً إلى محاولات استنزافها في الملف اليمني. إن تأثير هاتين الدولتين كبير على المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، وبالتالي قدرتهما على اضعاف مواقفها إقليمياً ودولياً.
مع تصاعد حركة الاحتجاجات الشعبية في إيران، وانتشارها في عشرات المدن، والتي جمعت آلاف المتظاهرين من مكونات المجتمع، أغلبهم من جيل الشباب. تعكس هذه الاحتجاجات الهوة الواسعة مع نظام حكم استبدادي ديني فاسد. لكن التطور السريع لمطالب المحتجين، جاء من ربط الانتشار الكبير بين الفقر والجوع والغلاء والبطالة التي يعاني منها نصف الشعب الإيراني والمطالبة بالحريات، وتحدي سلطة الملالي واحراق صورهم. هذا يذكرنا بتشابه كبير بينها وبين بدايات ثورات الربيع العربي. فالشعارات المطروحة تربط ما بين القضايا الاجتماعية وإهدار ثروات البلاد في المغامرات الإقليمية والتدخل في شؤون الدول ودعم الميليشيات خدمة لأوهام استعادة الإمبراطورية الغابرة. كذلك وضع الشارع الثائر كل أطراف النظام في سلة واحدة من اصلاحيين ومعتدلين ومتشددين، لأنه أدرك بعمق أن المرشد الأعلى هو صاحب السلطات المطلقة والمسؤول عن سوء أوضاع البلاد.
مما لا شك فيه أن تطور الحدث الإيراني يمثل أهمية كبرى للقضية السورية وقضايا المنطقة عموماً، لما لملالي طهران من دورٍ كبير في نشر التطرف والإرهاب والطائفية والفوضى في المنطقة.
هذه الهبة الشعبية وأن بدت متراجعة بسبب العنف والقمع الذي واجهته، لكنها تحمل عناصر تفجرها في كل لحظة. ومن اللافت القلق الروسي ازاءها سواء خشيته من انحسار نفوذ حليفها الإقليمي أو خوفاً من قدوم رياحها العاتية إليها.
على الجانب الأخر تبرز الهبة الشعبية المتصاعدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة ضد قرار ترامب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل. علماً أن هذا القرار صدر عن الكونغرس الأميركي عام 1995، والآن ينفذه السيد ترامب لأسباب داخلية ولكسب ود اللوبي الصهيوني، مستغلاً حالة التردي والتفسخ الكبيرين اللذين يعيشهما العالم العربي.
لقد أدركت إدارة ترامب ومن خلفها إسرائيل بأن الفرصة الذهبية قد حانت لمثل هذا القرار الذي لن يتسبب بردود فعل يطال أمنها وحدودها، لكنه يأتي أيضاً كخطوة سوف يبنى عليها لاحقاً لتنفيذ ما عرف بصفقة القرن التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وتحويلها إلى بضعة جزر معزولة ترتبط مع محيطها في الأردن ومصر باتفاقيات أمنية ترعاها إسرائيل.
لاقت هذه الخطوة رفضاً واسعاً من دول العالم وخاصة من الاتحاد الأوربي والعالم الإسلامي، لكنها اتسمت بالفتور على المستوى العربي الرسمي باستثناء الموقف الفلسطيني الذي هزه الحدث عميقاً، ومضت قيادته السياسية في التصدي له ومقاطعة الولايات المتحدة كدولة راعية للمفاوضات ورفضها استقبال أي مسؤول أميركي، مما دعا ترامب إلى تجميد دعمه لمنظمة الأونروا للضغط على السلطة الفلسطينية لمواصلة التفاوض مع الجانب الإسرائيلي.
ثالثاً-استنتاجات ومهام:
1- إن عودة الولايات المتحدة إلى الملف السوري تهدف في أحد وجوهها إلى منع الروس من استثمار انجازاتهم العسكرية وتحويلها إلى مكاسب سياسية، وتوظيفها في ملفاتها الدولية، لقد تسبب هذا الحضور في افشال مساعي موسكو في التفرد بالحل السوري، واصرار الأمريكان على مسار جنيف ورفض كل ما عداه، وهو ما يضعنا أمام مرحلة جديدة من الصراع بين الدول المتدخلة عسكرياً ولا سيما بين الروس والأمريكان.
من غير الواضح لنا درجة التشدد في الموقف الأمريكي وبالتالي أثره على تحولات الموقف الروسي، والذي ستبنى عليه لاحقاً طريقة معالجة هذه التناقضات التي قد تسفر عن حلول وسط بينهما، أو بقاء الصراع مفتوحاً الأمر الذي يبقي الحل السياسي ليس في المدى المنظور.
2- بعد اسقاط حلب وما تبعها من تراجعات ميدانية مهدت الطريق لظهور أستانا التي تكفلت باحتواء الفصائل المقاتلة واضعافها، إلا أن محطة رياض2 وما نشهده من تداعيات سياسية لها كانت هي الأخطر على الثورة وأهدافها، لأنها تأتي في سياق التحضيرات الروسية لمؤتمر سوتشي، الذي يريد بوتين من خلاله اعلان الانتصار على “الإرهاب”، والتأكيد على دور روسيا المتفرّد بالملف السوري، والحل السياسي. وفرض الاستسلام على المعارضة السورية. فهو جوهر معركتها الآن التصدي للحل الروسي عبر سوتشي واسقاطه. كما ينبغي عليها أن تدرك بعمق أن رسالتها السياسية لا علاقة لها بنتائج الصراع العسكري، لأن جوهر معركتها ينصب على التصدي لحملة التدليس والخداع التي يمارسها الاستبداد والاحتلال والمجتمع الدولي، ورفض الحلول التي لا تلبي تطلعات الشعب السوري في الحرية والديمقراطية والكرامة وانهاء نظام الاستبداد. فهي نقطة الارتكاز كي يعيد المجتمع الدولي النظر بمواقفه وتنفيذ قراراته وفق مرجعية جنيف والقرارين 2118 و2254 وبقية قرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
3-جاء التدخل العسكري التركي في مدينة عفرين، التي تسيطر عليها ميليشيا pyd، كي تحوز تركيا على مناطق نفوذ تتساوى فيها مع الأطراف الأخرى المتدخلة في الشأن السوري، وبالتالي تضمن مصالحها وحماية أمنها القومي. من هنا فإن معركة عفرين لا علاقة لها بسورية والسوريين ولا بصراعهم مع النظام والمحتلين، بل هي بنت المصلحة التركية، وتعبير عن قلقها الجدي إزاء المخاطر التي تحيط بها. وهي تشكل نقطة ضعفها إزاء الثورة السورية، لكنها انكشفت بعد الاهمال الأمريكي لمواقفها.
4- اللافت مؤخراً، أن المواقف الأميركية الغامضة بدأت تتوضح أكثر، وهناك لهجة جديدة للإدارة تحمل الكثير من الحزم مرفقاً بشيء من التحذير والتهديد تجاه روسيا وإيران، ربما جاء هذا التطور على خلفية رفض جدي لمواقف موسكو وتصريحات مسؤوليها سواء لجهة سعيها لفرض حل سياسي عبر سوتشي أو مطالبة الأمريكان بالانسحاب من سوريا باعتبار أن وجودهم غير شرعي.
فالمواقف الجديدة تؤكد أن المعركة ضد داعش لم تنتهِ وهي مستمرة وهي منفصلة عن دور الفصائل المسلحة المعتدلة التي تسعى موسكو لضربها تحت ستار محاربة الإرهاب، كما تؤكد رفضها لمخرجات أستانا وسوتشي وأنها لن تعترف بها لأن الحل يمر عبر جنيف فقط. كما أن وجودها العسكري سيكون طويل الأمد. وأخيراً أنها لن تتسامح مطلقاً بالوجود الإيراني في سورية مذكرةً الروس بتعهداتهم بتقليص نفوذ إيران تلبيةً للمطالب الإسرائيلية.
نحن إذ نرى تطوراً ايجابياً في المواقف الأمريكية الجديدة، نأمل أن تترجم هذه المرة إلى أفعال ملموسة على الأرض , تساهم في دفع العملية السياسية إلى الأمام على أساس بيان جنيف 1 والقرارات الدولية 2118 و2254 .
5- استنادا للعرض السياسي والميداني الوارد في هذا التقرير يجعلنا ندرك أحوال المعارضة السورية التي تمر بأصعب حالاتها. فهي اليوم تقف على مفترق طرق في ظل تسارع التطورات السياسية والعسكرية العاصفة والتي تضعها امام تحديات مصيرية. من هنا يجب الحفاظ على دورها السياسي وتفعيل أدائها. بوابة هذا الدور تبدأ بإجراء مراجعة شاملة لمسيرة الثورة والقوى الفاعلة فيها، وكذلك مواقفها السياسية، عبر قراءة شفافة ودقيقة لمجريات الأمور والاعتراف بالأخطاء، والتأكيد على أهمية العمل السياسي وأفضليته لإظهار أهمية الثورة وموجباتها الحتمية. مطلوب طرح المسألة السورية كقضية وطنية لإنقاذ البلاد من الاحتلالات والمتدخلين، والخروج من لعبة الدول وأجنداتها، وأن تحافظ على قرارها الوطني المستقل، وإبقاء الرهان على استنهاض الشارع بوجهه المدني والثوري. مطلوب أيضاً تنظيم مقاومة شعبية وسياسية طويلة الأمد تحت قيادة سياسية موحدة، وحشد الطاقات العسكرية خلفها لمقاومة المحتلين. وهذا يتطلب إعادة صياغة الخطاب الوطني ليصبح أكثر وضوحاً، وإعادة الصلة بالمجتمع لاستعادة ثقته وطرح الحلول الممكنة التحقيق. وتشكيل أوسع تيار سياسي يجمع شمل السوريين من خلال مؤتمر وطني شامل لقوى الثورة والمعارضة يقطع الطريق على دعاة سوتشي، وأن تنصب الجهود للعمل على اسقاطه، وطرد منصة موسكو من هيئة التفاوض، في رسالة واضحة للداخل والخارج بأن هذا الشعب مازال ممسكاً بقضيته ولن يسمح لأحد بالتلاعب بمصيره.
دمشق أوائل شباط 2018

اللجنة المركزية
لحزب الشعب الديمقراطي السوري