رسالة سياسية!

 تشهد البلاد تطورات ميدانية وسياسية متسارعة وخطيرة، تدلل على أننا دخلنا مرحلة جديدة مختلفة كلياً، ومفتوحة على كلّ الاحتمالات من الصراع الدولي والإقليمي في سورية وعليها، وأصبحت بموجبها الأزمة السورية بالغة التعقيد والتشابك بسبب تضارب المصالح الدولية والإقليمية، وأصبح هذا الصراع يفرز وسيفرز مزيداً من الاحتدام بين الدول المحتلة لسوريا، وإن قرار ترامب بالانسحاب العسكري من سوريا قد خلق حالة من الإرباك شملت جميع الأطراف المنخرطة في المسألة السورية، ودفعتها لإعادة حساباتها، خوفاً من ضياع مكتسباتها وأخرى أو طمعاً بالوصول إلى غيرها، ذلك أن الصراع الدائر في سوريا بكامل تعقيداته وتعدد أطرافه الخارجية والداخلية، ما زال مفتوحًا ومستمراً، ومن الصعب التكهن بمآلاته. وليس هنالك من طرف يستطيع الادعاء، بأنه منتصر في سوريا، أو أنه يستطيع فرض أجنداته ونفوذه. كما سيكون له الأثر الكبير في تحديد المسارات وتموضع اللاعبين، مما يعمق التناقضات بين أطراف استانا-سوتشي.

                                                      أولاً: الأوضاع في سورية

1-الصراع في الشمال السوري:  
  منذ اتفاق سوتشي حول ادلب، ورغم الخروقات المحدودة من قبل الروس واليومية من قبل النظام والميليشيات الإيرانية، لا تزال ادلب  منطقة تهدئة قد تطول بعض الوقت، لكنها تحولت إلى منطقة لتبادل الرسائل النارية بين المحتلين من أطراف استانا-سوتشي. يبدو أن هناك تفاهماً بين الأطراف الدولية على تجنيبها الكارثة ريثما تتبلور معادلات جديدة تؤدي إلى مقاربات للازمة السورية. وهذا يعني أن لا حسماً عسكرياً في ادلب ولا حلولاً سياسية في المدى المنظور، وإنما إطالة لأمد الازمة.
 بعد أن فرضت” هيئة تحرير الشام” سيطرتها ونفوذها على 75% من محافظة ادلب وقسم كبير من ريف حماه الشمالي وريف حلب الغربي، هذا التطور أثارت أسئلة واتهامات كثيرة طالت الموقف التركي، إلا ان الأكثر غرابة هو صمت واشنطن وكذلك موسكو وطهران، لكننا نجده يتلاقى مع المصلحة التركية ومترابطاً مع أهدافها الجيو-سياسية والعسكرية في الشمال السوري، وهي تصفية حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري pyd، وإقامة منطقة أمنة على امتداد الحدود السورية-التركية لحماية أمنها القومي وليس من أجل حماية السوريين. رغم الموافقة الأميركية على المنطقة الآمنة لكن هناك خلافات معها حول طول وعمق هذه المنطقة. كما فشل أردوغان في اقناع روسيا بها، وعرضت عليه بديلاً عنها وهو تفعيل أتفاق أضنه، بهدف تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام، وتسمح هذه الاتفاقية للأتراك بالتقدم 5كم داخل الأراضي السورية وبالتالي إقامة هذه المنطقة ضمن هذه الحدود.
عقدت قمة ثلاثية في 14/2 /2019 في سوتشي بين أردوغان وبوتين وروحاني، وانتهت بالفشل، بسبب تضارب المصالح والأجندات بينهما حول مصير ادلب والانسحاب الأميركي من شمال شرق سوريا والمنطقة الأمنة. فأردوغان يرفض أي عمل عسكري ضد ادلب أمام إصرار إيران بإطلاق عملية عسكرية لطرد الإرهابين منها وتسليمها للنظام. بينما تجد موسكو مصلحتها بهجوم عسكري محدود من أجل ابتزاز تركيا في ملف شرق الفرات، لكنها تدرك أن نتائج هذا الهجوم الغير مبرمج سينعكس سلباً عليها. لكن بيت القصيد في حدة التنافس بينهم هو الانسحاب الأميركي ومن يملأ الفراغ الذي سيحدثه، ولدى الثلاثي خشية من أن يتسبب الانسحاب في فك اللحمة الرابطة بينهم.
2-الوضع في الجنوب السوري:   
  بعد تخاذل قادة فصائل الجنوب، وافتضاح ارتباطهم بالأجندات الخارجية، وتسليم محافظتي درعا والقنيطرة للاحتلال الروسي والنظام عبر ما سميّ بـ “المصالحات”. ُتركَ الشباب المقاتلون يواجهون مصيرهم أمام همجية النظام وعصاباته، الذين أخذوا ينتقمون منهم بالاعتقال والتنكيل والتصفيات وسوقهم للخدمة العسكرية أو تجندهم في صفوف ميليشيا “حزب الله” والميليشيات الإيرانية، عدا عن معاقبة أهالي المحافظة بعدم تقديم الحد الأدنى من الخدمات. وأثناء زيارة الوفد الأمني للمحافظة طالب الأهالي بمعرفة مصير أبنائهم المعتقلين فرد عليهم المجرم جميل الحسن بكلمة واحدة “انسوهم”. في خضم هذه الأجواء، انطلقت عدة تظاهرات محدودة ترفع علم الثورة وتطالب بالمعتقلين وإسقاط النظام، وعادت الكتابات على الجدران التي تحيي الثورة وتؤيد مطالبها. كما أخذت تظهر خلايا للمقاومة الشعبية، تستهدف حواجز النظام وميليشياته وأزلامه.
3- قرار الانسحاب الأميركي وتأثيره على الصراع الدائر في سوريا وعليها:
  إن أكثر الأسئلة حضوراً بعد قرار الانسحاب، يتعلق بملء الفراغ الذي سيحدثه والطرف الذي يستطيع تحمل أعبائه. يجري الحديث مؤخراً عن بقاء قوة رمزية من القوات الأميركية كجزء من قوات متعددة الجنسيات مدعمة. لكن من المرجح أن يكون لتركيا دور فاعل في ذلك. يبدو أن واشنطن وأنقره تتفقان على منع إيران والنظام من ملء الفراغ الأميركي، لكنهما تختلفان حول الجهة الأنسب لملء هذا الفراغ. فواشنطن تريد أن يكون لميليشيات ” قسد” و”وحدات حماية الشعب الكردية” الدور الرئيسي في المنطقة بينما تصر أنقرة على تفكيك “الوحدات” وتصفيتهم وإخراجهم من المنطقة. لكن سعي أنقرة لاجتذاب دعم واشنطن لخططها وطموحاتها في الشمال السوري، مازال يصطدم في كل مرة بجدار من الرفض والتحفظ الأميركي. وبعوامل الكبح والإبطاء لتنفيذ قرار الانسحاب، والتي يعمل عليها الكونغرس.
 يرى أغلب المحللين إن قرار الانسحاب الآن يعزز النفوذ الروسي في سوريا، ويضعف دور الولايات المتحدة في التسويات السياسية القادمة، وسيخلّ بميزان القوى القائمة على الأرض؛ ويجعل الروس في موقع الصانع الأكبر للقرارات وإدارة الأزمة، وسيمكّن إيران من تعزيز نفوذها وتوسيعه في المنطقة، وهذا يتعارض مع سياسة ترامب نفسه التي جعلت من احتواء إيران أولويةً قصوى لاستراتيجيتها في المنطقة، ومنها سورية.
 إن الشعب السوري الذي حق له أن يبتهج بالخلاص من أحد الاحتلالات فهو يتساءل بقلق: عن مصير العملية السياسية ومستقبل الحل السياسي الذي تراجع إلى الخلف بعد قرار الانسحاب، ولم يعد يسمع عنه شيئاً وحتى عن تشكيل ” اللجنة الدستورية” التي كان من المفترض أن تباشر عملها نهاية العام الماضي، وهذا يدلل أنه لا حلاً سياسياً يلوح في الآفق للأزمة السورية.
4-واقع حال النظام:
  يمر النظام بأسوأ حالاته من الهشاشة والضعف، ومن افلاس على كافة الصعد والمستويات، وتسود مناطق سيطرته حالة من التدهور الأمني الظاهر للعيان، وهي تعكس صراعات مراكز القوى والشبيحة وأجهزة المخابرات والميليشيات والاقتتال على الغنائم في عدة مناطق وخاصة في ريف دير الزور بين الميليشيات الإيرانية وميليشيا الدفاع الوطني. وبلغ الصراع مداه، ليس على المكاسب والنفوذ وتقاسم السرقات والاتاوات فحسب، بل وصلت لضرورة محاصصة آل الأسد على السلطة والنفوذ، وما يعكسه هذا من صراعات عشائرية وجهوية داخل النظام. لكن الصراع الأهم هو بين مراكز القوى الموالية لإيران من جهة والقوى الموالية للروس من جهة أخرى، حيث الاغتيالات والتصفيات والتفجيرات في دمشق واللاذقية، والمواجهات المسلحة، كما جرى ويجري بين الفرقة الرابعة الموالية لإيران والفيلق الخامس الموالي للروس، حيث قتل من الطرفين في معارك حماة العشرات ومئات الجرحى وامتد القتال إلى سهل الغاب. ويعمل الروس على إعادة بناء الجيش وأجهزة المخابرات بما يخدم أجندتهم في سوريا، وتصفية القوى الموالية لإيران، حيث تمت إزاحة عدد من كبار ضباط هيئة الأركان، واعتقال العديد من الضباط، كما يصر الروس على حل الفرقة الرابعة لضلوعها بالتعفيش الممنهج لممتلكات المواطنين وتشكيل بعض قادتها عصابات للسرقة والسطو والخطف والقتل من أجل المال. وتزداد خشية الأسد من التلاعب بمصيره وهو ما بات يقض مضجعه في الأونة الأخيرة وليس أدل على ذلك سوى سوية الخطاب الذي القاه مؤخراً والذي حمل جرعة زائدة من التوتر والقلق وسوق الاتهامات في كل اتجاه ولم يوفر حتى الحلفاء وأن كان بشكل مبطن، إضافة إلى ما تضمنه من تناقضات وحالة من الهذيان لأنه يشعر أن سلطته مهددة أكثر من أي وقت مضى. كما عكس استدعائه المفاجئ إلى طهران واقع الضعف والهوان الذي وصل إليه.
 كما تشهد البلاد حالة من الفوضى والفلتان الأمني، تقودهما ميليشيا وعصابات تحتمي بالنظام، تمارس جرائم القتل والسرقات والاغتصاب والاختطاف. وتلحظ حالة من التململ والامتعاض تجتاح الطائفة العلوية، لاسيما في الساحل السوري. وترتفع أصوات الاحتجاج المعترضة على الأوضاع المعيشية، وحال الطائفة المتردي مقابل الامتيازات التي يتمتع بها رجالات النظام المقربين.
5- الوضع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي:
  تشهد البلاد منذ انطلاق الثورة، حالة مستمرة من التدهور والانحدار المتواصل على كافة الصعد الاقتصادية والاجتماعية والمعاشية. فكل المؤشرات الاقتصادية تدهورت عاماً بعد عام، أي أن الاتجاه الانحداري الشديد مستمر، وبالتالي تنعدم مقومات الاقتصاد الحقيقي. فحجم الكارثة التي لحقت بالبلاد خلال سبع سنوات وأكثر من الصراع بلغت مئات المليارات من الدولارات الأميركية. فدمرت القاعدة الإنتاجية وقوى الإنتاج وتم تحويلها إلى خدمة النظام في حربه على الشعب، وتحوّل الاقتصاد بقطاعاته المختلفة إلى اقتصاد حربٍ، مع تصاعد لاقتصاد الظل القائم الاحتكار والتهريب والسرقة وقبض الرشوة وتزوير الوثائق وتجارتها وابتزاز الناس والاتاوات واستغلال الحواجز الأمنية وكل ما يفرزه من ظواهر اقتصاد الحرب جنباً إلى جنب مع اقتصاد جرمي من سطو مسلح واختطاف وصناعة المخدرات والاتجار بها وشبكات الدعارة. كما دُمِرَ العديد من المدن والبلدات، ولحقت أضرار كبيرة بالمساكن والمباني الخاصة والعامة والبنية التحتية والمصانع والمعدات وغيرها من موجودات مادية. كما خُرِبت الزراعة الذي أدى إلى تقليص إنتاج الغذاء محلياً. لكن الأهم هو اختفاء قوة العمل، وخاصة الشباب الذين التهمت الحرب مئات الآلافٍ منهم، وهنالك مئات الآلاف الذين هاجروا إلى الخارج، ومثلهم الذين تخفّوا هربًا من التجنيد بصفوف الجيش، إضافة إلى عشرات الآلاف من المعتقلين والمختفين قسرياً ومئات الآلاف من المجندين الإلزاميين في الجيش وأجهزة الأمن والمليشيات، إضافة إلى عشرات الآلاف في صفوف فصائل المعارضة، فلم تبق قوة عمل للإنتاج. كما تآكلت الطبقة الوسطى إلى نسبة 8% بعد أن كانت تشكل 60% من السكان.
 لقد قارب عدد القتلى المليون قتيل، وضعفهم من الجرحى، أي أن تقريباً 13% من سكان سورية هم إما قتيل وإما جريح بنهاية 2018، وبنتيجة هذه الأوضاع فقد تراجع متوسط العمر من 70.5 عام 2010 الى 55 في عام 2018، وإن 1,8 مليون طالب لم يلتحقوا بالمدارس حسب تقرير الأمم المتحدة أوائل عام 2019، وأن 60% من السكان غادروا اماكن إقامتهم منهم قرابة 6,5 مليون لاجئ ومهاجر إلى الخارج و7 مليون نازح داخل سوريا. ويتدهور الوضع المالي لحكومة النظام، ويتزايد عجز الموازنة العامة، فالإيرادات تقلصت الى حد بعيد بعد توقف النفط وتوقف الاقتصاد وتوقف الاستثمار ودمار البنية التحتية. بينما زاد الانفاق العسكري عدة أضعاف. مما يضطر النظام للاستدانة، وهذا ما يرتب ديون خارجية ضخمة على البلد، عدا عن مبالغ الديون الكبيرة التي استجرّها النظام من إيران وروسيا لتمويل حربه، لكنه يحيط هذا الموضوع بكثير من السرية.
   لكن الكارثة الأكبر في الصراع السوري، هي تدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين وتفاقم معدلات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة وصلت إلى أكثر من 86%من اجمالي عدد السكان، واضمحلال الطبقة الوسطى، وارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات تجاوزت 1000%، وانخفاض معدلات الدخل والتي صنفت الأسوأ عالمياً 458$ في السنة، وكذلك غلاء الأسعار بسبب تدهور قيمة الليرة السورية وقدرتها الشرائية، واستمر سعر صرف الليرة السورية في التدهور مع بداية عام 2019 إلى ما يتجاوز الـ 500 ليرة، ويُتوقع أن تتدهور قيمتها بشكلٍ كبير. بينما بقيت الأجور في مستواها دون قدرة على زيادتها، بل بدأ النظام يقلص دعمه للسلع ويرفع من أسعار الوقود والطاقة. بالإضافة إلى السياسات الاقتصادية المجحفة من قبل النظام والتي أدت مؤخراً إلى انعدام مقومات الحياة البسيطة، حيث الأزمة على رغيف الخبز ويباع بأسعار مضاعفة، وفقدان حليب الأطفال وانقطاع التيار الكهربائي لأكثر من 16 ساعة يومياً وانعدام وسائل التدفئة ووصل سعر ليتر المازوت في السوق السوداء إلى 700 ل.س، واسطوانة الغاز المنزلي بين 8 إلى 10 آلاف ليرة سورية واحياناً بـ 12 ألف ليرة. أدت هذه الأوضاع الكارثية إلى رفع صوت الاحتجاجات الشعبية عالياً وانتشارها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ضد النظام، وخصوصاً من قبل المؤيدين في مناطق سيطرته بسبب ضنك العيش، ويشارك في حملة الانتقاد فنانون واعلاميون وغيرهم. فيوجهون انتقادات حادة للحكومة والوزراء الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً بل ينتظرون توجيهات أجهزة المخابرات وأوامر القصر، كما وجهت رسائل إلى ” قائد الوطن” مستغيثة في إشارة غير مباشرة إلى مسؤوليته وعجزه عن تلبية مطالب الناس التي لا تزيد عن تأمين المازوت والغاز والكهرباء ورغيف الخبز والدواء وحليب الأطفال وضبط الأسعار وزيادة الرواتب، وغيرها من مستلزمات مقومات الحياة. فبعد أن تراجعت رقعة الحرب، بدأ يظهر بشكل جلي أمام الناس انسداد الأفق بالسلام والاستقرار وفرص العمل والإنتاج والرخاء بسبب نهج النظام الذي يرفض تقديم أي تنازل، فالسلطة الكاملة أولاً أو لا شيء، ويرفض الاعتراف بأنّه أفلس ولا أمل في إعادة تأهيله، وأن الرهان على إيران أحيانا وعلى روسيا في أحيان أخرى لن يفيده في شيء. فالأزمة مستمرة بل ستزداد تفاقماً. فبدون حلٍ سياسي وفق قرارات الشرعية الدولية لا علاج للكارثة السورية.

                                                                 ثانياً: تطورات الوضع العربي

  تشهد الأوضاع العربية حالة من الاهتراء والتهتك والتفسخ. نتيجة للصراعات والانقسامات التي باتت تتحكم بمصالح الأنظمة العربية وتناقض أجنداتها. لكن الخطر الأكبر آت من حالة اليأس وانسداد الأفاق التي أصبحت تلفّ الشارع العربي بالكثير من القتامة والسوداوية، نظراً لمسيرة الهزائم في مواجهة التحديات المتنامية التي تتربص بمصير العرب ومستقبل المنطقة. إذا كانت ثورات الربيع العربي قد أخفقت في زحزحة الحكام عن عروشهم، بفضل دعمهم لأصحاب المشاريع الرامية لضرب تطلعات شعوبهم، فإن الاثمان الباهظة ستكون مزيداً من الارتهان والتبعية لمصيرهم، قبل أن يبدأ موسم تساقطهم على وقع ثورات وانتفاضات جديدة، بدأت في السودان ولن تتوقف في الجزائر. ها هم السودانيون والجزائريون يهبون في وجه الطغاة بنفس قوة وشجاعة السوريين وسوف تلحق بهم شعوب أخرى.
أ-الوضع السوداني:
 أكثر ما يمكن الكلام عن السودان هو انتفاضة شعبه التي دخلت في شهرها الثالث، بعد أن غطت فعالياتها أغلب الولايات، وتنضم إليها باطراد قطاعات شعبية جديدة، بمشاركة فعّالة من تجمع النقابات المهنية والقوى السياسية، وخاصة من حزب الأمة والحزب الشيوعي السوداني. وما يميز انتفاضة السودان هو نجاحها في جذب النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني للمشاركة في هذا الحراك الثوري ونشاطاته. لا تختلف هذه الانتفاضة عن أخواتها في ثورات الربيع العربي بدوافعها وأهدافها وشعاراتها، فكلها تنهل من معين واحد تشكلَّ عبر عقود من الزمن، مفجراً لحالة الاحتقان والغضب الشعبي في مواجهة تسلط واستبداد الأنظمة وفسادها، ورداً على عقود من التهميش والافقار الممنهج على كافة الصعد والمستويات. كما تتطابق في أهدافها وتطلعاتها نحو انتزاع حرية الشعب وكرامته، بإسقاط هذه الأنظمة وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية لكل أبنائها.
إن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية وانعكاساتها كانت وراء اشعال الفتيل بعد وصول معدلات الفقر والبطالة والغلاء إلى مستويات غير مسبوقة، وصولاً إلى فقدان الخبز والمحروقات والسيولة النقدية، والإمعان في نهب وتبديد ثروات السودان وتحويله من بلد الأنهار والثروات بلا حدود إلى بلد مستجدٍ للمساعدات الإنسانية. إلا أن الأزمة السياسية بعمقها وشمولها نجد عناوينها في السطو على حقوق الشعب وقمعه واعتقاله وامتهان كرامته، ومصادرة حرياته الأساسية وتزوير إرادته والتفريط بوحدته وسيادته، مروراً بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحقه. لعل إصرار الطاغية على تمديد سلطته عبر تعديل “الدستور” كانت الصاعق الذي أطلق المارد السوداني من قمقمه ليعلن بشجاعة أنه سيدشن عصراً جديداً، عصر الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة. والانتفاضة السودانية بدأت تلقى عداءً ملحوظاً من معظم الأنظمة العربية التسلطية ومن نظام السيسي، ولكن في المقابل أخذت تلقى قبولاً من أوساط جديدة من الشعب السوداني. ويبدو أن المنتفضين السودانيين قد استفادوا من دروس الانتفاضات العربية التي انتصرت عليها الأنظمة والثورات المضادة والتطرف الأعمى. ولذلك ما هو ملموس حتى الآن إصرار المنتفضين السودانيين على عدم استخدام العنف رداً على عنف السلطة والبحث عن حلول من داخل البلاد للتخلص من نظام البشير القمعي التسلطي. والظاهرة الجديرة بالاحترام في الانتفاضة السودانية عدم الانسياق وراء شعارات التطرف الديني، وخاصة انها اندلعت للتخلص من دولة استبدادية صعدت عام 1989 على مطية الشعارات الإسلامية. ويجب عدم تجاهل ابتعاد ناشطي هذه الانتفاضة عن الانخراط في الأجندات الخارجية وهذا ما بدأ يسمح بطرح حلولٍ ممكنة للأزمة من الداخل السوداني وكانت أولها مبادرة جامعة الخرطوم التي كان لها دوماً باعاً طويلا إبان الانتفاضات الشعبية في عام 1964 ضد حكم العسكر وانتفاضة عام 1985 ضد نظام جعفر النميري.
ب-الوضع العراقي:
  تشهد السياسة العراقية، منذ إعلان نتائج الانتخابات والاتفاق على تسمية الرئاسات الثلاث، حالة من التعطيل والشلل، بسبب وقوعها أسيرة للاستقطاب والصراع الأميركي الإيراني، الذي دخل طوراً جديداً من التصعيد على خلفية فرض العقوبات على إيران، وسعي واشنطن لمحاصرة نفوذها، وهذا ما تسبب بتعثر ولادة الحكومة وتكميل عدد أعضائها حتى الآن.
 لقد أصبح العراق يحظى بموقع متقدم في استراتيجية واشنطن بعد قرار الانسحاب من سوريا، ولقد لحظنا ذلك في زيارة ترمب المفاجئة التي أعقبتها زيارة وزير الخارجية بومبيو، التي حملت المزيد من الترتيبات العسكرية والسياسية والأمنية الهادفة إلى زيادة الضغط على طهران لمنعها من استخدام العراق حديقةً خلفيةً لسياساتها، ونافذة لتصريف أزمتها الاقتصادية. تدرك إدارة ترمب صعوبات المواجهة المباشرة مع إيران في العراق، كما تدرك أيضاً أن محاصرتها وتطويق نفوذها لن يكون فعالاً دون أن يشمل العراق. إلا أن طهران ترى أن ترسيخ نفوذها فيه والتحكم بقراراته المصيرية يشكل قاعدة لاستقرار نظامها، ومنطلقاً لتفعيل مشروعها الإقليمي. فالعراق هو ساحتها المفضلة لتحدي إجراءات واشنطن. والامتداد إلى المواقع الأخرى في المنطقة.
ج-الوضع اليمني:  
  لعبت الهزائم العسكرية لميليشيات الحوثي على مختلف الجبهات، وخاصة الحديدة، دوراً رئيسياً في اجبارهم على الجلوس على طاولة المفاوضات التي توجت باتفاق السويد، القاضي بانسحابهم من الحديدة ومينائها. اعقبها صدور قرار دولي لمراقبة تنفيذ الاتفاق بإشراف رئيس فريق المراقبين الجنرال (باتريك كاميرت). تحتل اليمن أهمية كبرى في استراتيجية طهران في المنطقة، لما يوفره من حضور عسكري وسياسي لها في بحر العرب والبحر الأحمر وباب المندب الواصل بينهما ومحاصرة السعودية المنافسة لها في منطقة الخليج، وهي لن تسلم بخسارتها بسهولة. لكن اليمن بسبب هزائم الحوثيين تحول إلى خاصرة رخوة في مشروعها. وكان لا بدّ من شراء الوقت لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق ليوفرَ لديها فرصةً للمناورة والالتفاف حول هذا الاتفاق لا حتوائه وإجهاضه، وقد تجلى ذلك بوضوح بسلوك الحوثي المخادع لبعثة المراقبين، وكذلك في استهداف قاعة العند بمحافظة لحج، ومواصلة ارتكاب المجازر والانتهاكات بحق المدنيين. أعطت كل هذه التطورات مؤشراتٍ واضحة إلى قرب انهيار الاتفاق. إن خروج الأزمة اليمنية عن اهتمامات واشنطن لإطالة أمدها واستنزاف اللاعبين فيها. فتح الباب من جديد أمام المجتمع الدولي المتمثل بالأمم المتحدة للعمل على إدارة الأزمة بدل انهائها، وظهور الموقف المتواطئ مع الحوثي عبر المبعوث الدولي(غريفيش)، تجلى ذلك في التناقض مع (كاميرت) الذي فضح موقفه وموقف الحوثي المراوغ لتطبيق الاتفاق مما دفع المبعوث لإقالته. وهذا يؤكد مسؤولية الأمم المتحدة عن انهيار الاتفاق بسبب سياسة استرضاء الحوثي والتلكؤ في تنفيذ القرارات الدولية. ولا يوجد أدنى شك في أن وراء موقف الأمم المتحدة رغبة الكثير من الدول النافذة التي لا ترغب في حل الأزمة اليمني لاستدامة الحروب وعدم الاستقرار في العالم العربي.
د-الوضع اللبناني:  
 استمر حزب الله اللبناني منذ نشوئه في القيام بأدوار إقليمية لصالح ملالي طهران، وليّة نعمته على كل المستويات كما يصرح امينه العام دائماً. وفي ظل تصاعد الضغوط الأمريكية والأوربية ضد إيران والاستهداف الإسرائيلي المتكرر لقواعدها العسكرية في سوريا، وتهديدات نتنياهو بقرب استهدافها أيضاً في العراق ولبنان سارع حزب الله للعب دور إقليمي جديد في الداخل اللبناني لصالح استراتيجيتها التوسعية المعروفة، إذ لم يعد كافياً إمساكه  بقرار الدولة اللبنانية والتحكم بمستقبلها فحسب، بل لا بدّ من الاستعجال بتكريس لبنان ساحةٍ للنفوذ الإيراني، وتخريب علاقاته بمحيطه العربي والضغط عبر حليفه عون لإعادة نظام الأسد إلى الجامعة العربية والعمل على عودة اللاجئين السوريين إلى حظيرة الأسد كبداية لتثبيت شرعيته عربياً.
  حاول حزب الله زرع العقبات المتكررة في وجه تشكيل الحكومة، وهذا ليس غريباً، فلقد تمرس استناداً إلى تحالفه مع أمل والتيار العوني في صنع الفراغات التشريعية والحكومية والرئاسية، وكانت أخرها مطالبته بتمثيل حلفائه النواب السنة الستة بوزير، ولكن هذه العقبة لم تؤثر فقط على إطالة أمد انهيار مصالح الشعب اللبناني بأكمله اقتصادياً ومعاشياً، وكذلك على سمعة الدولة اللبنانية في الأوساط الدولية، وإنما راحت تؤسس لبداية شرخ في تحالف حزب الله مع التيار العوني الذي كان مستقتلاً من اجل الحصول على الثلث المعطل داخل الوزارة وهذا مالا يرغب به حزب الله. كادت هذه العقبة ان تسقط ورقة التوت الأخيرة للدولة اللبنانية. فإن تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية والبطالة وتدهور الخدمات ومشاكل البيئة والفقر، وإبقاؤها معلقة، أخذت تهدد وجود الدولة اللبنانية وبدأ الكلام يتواتر عن إلغاء الطائف واستبداله بنظام المثالثة الذي يهدد مصالح المسيحيين والسنة والدروز. وهنا بدأت المؤتمرات المذهبية فالبطريرك الماروني دعا إلى اجتماع طارئ في بكركي لكل النواب والقيادات السياسية المارونية وشيخ عقل الدروز دعا إلى الخلوة الدرزية وسعد الحريري زعيم السنة اللبنانيين في هذه الأيام لم يعد يتحمل أي تنازلات جديدة من حسابه وهدد بالاعتذار. يبدو ان كل هذه الأمور لم تعد تخدم مصالح الجنرال عون وصارت لديه مخاوف من ان يمضي فترة حكمه كلها بلا وزارة. ضمن هذه الظروف والضغوط الداخلية والخليجية والضغوط الإسرائيلية في جنوب لبنان والتهديد بحرب والضغوط الدولية من أميركا وأوربا وكذلك دخول روسيا على الخط، قد مهدت لصعود الدخان الأبيض في قصر بعبدا وصدرت مراسيم تشكيل الوزارة اللبنانية العتيدة. ولكن من مراقبة ما بعد الوزارة. ويبدو من ردود أفعال شرائح واسعة من الشعب اللبناني عدم الثقة بهذه الحكومة وبقدرتها على إنتاج ما يعيد الثقة للشعب اللبناني بحكومته.
هـ-الوضع الفلسطيني:
 تعيش الأوضاع الفلسطينية أصعب واسوأ مراحلها وتتجه نحو المزيد من الأزمات والفوضى. فجولات الحوار المتكررة لم تسفر سوى عن تعميق الانقسام الداخلي وتكريسه واشتداد النزعة الفصائلية على وقع أزمات المحيط العربي والاستقطاب الإقليمي، وبدأت مخاطره تنتقل من حالة الانقسام والتدهور إلى الانحدار نحو شكلٍ من أشكال التدمير الذاتي، وتحوله إلى انفصال ناجز بين القطاع والضفة الغربية. لكن الأشد خطورة هو تزامن هذا الخراب مع اشتداد وطأة التحديات المصيرية التي لم تكتف بتدمير وحدة الصف الفلسطيني بل وتسعى للإطاحة بمقومات مشروعه الوطني، والقضاء على حقوق الشعب الفلسطيني عموماً.
 وعلى رأس التحديات التي تواجها القضية الفلسطينية مشروع ترمب الذي يهدف إلى تصفيتها، وما سيترتب عليه لتنفيذه من تفاهمات وزيارات دولية وإقليمية مكشوفة وعلنية تبعث على الكثير من القلق. أما التحدي الثاني فهو وقوع الأطراف الفلسطينية تحت مطرقة الصراعات الإقليمية والعربية لتصبح جزءاً منها، بعد أن تحول البعد العربي من رافعة لقضية فلسطين إلى أداة ضغط مباشر عليها لشطبها وإنهائها. ولعل التحدي الأهم هو غياب أي رؤية أو مشروع وطني جامع يوقف مسيرة الانحدار، ويعيد إحياء مؤسسات العمل الوطني وتفعيل دورها وخاصة لتحقيق الوحدة الوطنية كمقدمة لبلورة الخيارات السياسية التي تعيد قضية فلسطين إلى واجهة المشهد الدولي، ووضع الخطط لتقرير الشعب الفلسطيني مصيره.
                                                              ثالثاً-الأدوار الإقليمية الراهنة

 يبدو بشكل واضح منذ فترة ليست بالقصيرة، أن الدول العربية مجتمعة عبر الجامعة العربية، أو بضع دول مجتمعة خارج الجامعة، أو دولة عربية منفردة لوحدها، لا تلعب أدواراً سياسية كبيرة في المنطقة يمكن أن تمنحها لقب اللاعب الإقليمي بحسب معايير الجغرافية السياسية.  وأدوارها كانت غير مؤثرة في موازين القوى طول كل فترة الصراعات التي تحدث في المنطقة العربية منذ حوالي عشر سنوات. فمصر منذ فترة طويلة مشغولة بأزمتها الاقتصادية ووضعها الداخلي، والمملكة العربية السعودية رغم أنها تملك بقدرتها النفطية والمالية ومركزها الديني وعضويتها في دول العشرين في العالم، لم تستطع إلى الآن أن تقوم بالدور الذي يوازي أدوار تركيا وإيران وإسرائيل.
1-الدور التركي:   
 تواصل أنقرة سياساتها المعقّدة للتكيف مع المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة، وخاصة بعد قرار ترامب الانسحاب العسكري من سوريا، وهي في إطار سعيها لتحقيق مصالحها بما يحفظ دورها في المنطقة وسوريا على وجه الخصوص وملء الفراغ الأمني بعد قرار الانسحاب الأميركي، وإبعاد شبح دولة pyd الكردية المهددة لأمنها القومي ووحدتها. تواجه تركيا العديد من التحديات، ربما أبرزها مواقف واشنطن الغامضة ومناوراتها اتجاه دورها في الملف السوري، وكذلك حجم التناقضات المتزايدة مع شريكيها في مسار أستانا. وفي مواجهة هذه الخيارات الصعبة تبدي حرصها على عدم القطع مع الولايات المتحدة رغم اكتوائها بسياساتها، مثلما تبدي تمسكها بمحور أستانا الذي يؤمن حضورها في الأزمة السورية ويمكِّنها من تحاشي الضغوط الأميركية الساعية إلى تحجيم دورها.
  تدرك أنقره، رغم كثرة تصريحات أردوغان النارية، استحالة الأقدام على أي عمل عسكري سواءً في منبج أو شرق الفرات بدون توافق مع الإدارة الأميركية وتفاهم مع شركاء أستانا، لأن هذه المعارك جوهرها سياسي ولا تحسمه الآلة العسكرية فقط. في اجتماع القمة مع بوتين في موسكو، فشل أردوغان بأخذ موافقته على مشروع المنطقة الآمنة، داعياً تركيا لفتح حوار مع الأسد وpyd. لكنه أبدى الكثير من المرونة إزاء تطورات الوضع في إدلب مؤكداً بقائها تحت اتفاق سوتشي. وتعلل الطرفان باتفاقهما على الحل السياسي ما عدا مصير الأسد. لقد تمرس القادة الأتراك بلعبة ركوب أرجوحة التوازن بين الغرب والشرق خلال الأزمة في سورية. ويلعب أردوغان لعبة عدم القطع سواء مع روسيا أو أميركا أو إيران. ولا يخفي القادة الأتراك طموحاتهم بمد نفوذهم في المنطقة إلى مناطق إرثهم التاريخي
2-الدور الإيراني:  
 يبدو المشهد الإيراني على درجة كبيرة من التعقيد، فانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات عليها، واطباق الحصار لعزلها إقليمياً ودولياً، كل ذلك لم يغير من سياسات ملالي طهران المزعزعة لاستقرار المنطقة وتصدير ودعم الميليشيات والإرهاب. لا أحد يستطيع انكار مؤشرات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية التي بدأت تتفاقم يوماً بعد يوم بسب أوهام ملالي طهران ببناء الإمبراطورية الفارسية. فميزانيتها انخفضت إلى النصف وسعر صرف الدولار بلغ أرقاماً خيالية، في ظل عجز كبير عن بيع نفطها حتى للشركات الخاصة، وترك نصف الشعب الإيراني تحت طائلة الفقر، وسط غلاء فاحش وفقدان العديد من السلع الأساسية، عدا عن القمع والاعتقال والإعدام ضد المعارضين. ولم تخل شوارع مدنها منذ أكثر من عام من مظاهر الاحتجاج والتظاهرات التي تطالب بإسقاط نظام الملالي ومحاسبة الفاسدين، ووقف دعم المليشيات وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.  
  إلا أن نظام الملالي مشغول بمواصلة تحدي إجراءات واشنطن بمزيد من التصعيد والتصريحات الاستفزازية واستعراض القوة، رغم صمتها عن ضربات إسرائيل الموجعة لقواعدها في سورية، لكن ردها يتمحور في فرض إرادتها وترسيخ نفوذها في العراق ودعم ميليشيات الحشد الشيعي وتعزيز دورها للإمساك بالحدود مع سورية، واستخدامها في تهديد الوجود الأميركي، وتعطل قيام حكومة عراقية كاملة إلا من خلال شروطها وفرض أزلامها. أما في لبنان فهي تواصل إطباق الخناق عليه والتحكم بمصيره وقراره السيادي، عبر تحالف حزب الله-عون . وفي سورية، رغم الإصرار الإسرائيلي والأميركي على إخراجها منها وموافقة موسكو الضمنية، إلا أنها تواصل ترسيخ وجودها العسكري والسياسي والاقتصادي والمذهبي في مختلف المناطق التي تتواجد فيها. وفي اليمن حيث دأبت على اجهاض أي محاولة لوقف القتال والتوصل إلى اتفاق سياسي، فقد نجحت في افشال اتفاق السويد وتنفيذ هجوم واسع على قاعدة العند والعودة إلى المربع الأول مستفيدة من التواطؤ الدولي مع الحوثيين.
3-الدور الإسرائيلي
    منذ انطلاق الثورة السورية دعمت إسرائيل نظام الأسد الذي حمى حدودها الشمالية أربعين عاماً، وعملت إلى جانب قوى إقليمية ودولية على ضرب الطابع السلمي لها وتشويهه، وسمحت لحزب الله وإيران بالتدخل لقمعها، لما يشكله نجاحها من خطر عليها وعلى نهجها القائم على الاحتلال والتوسع والتهجير واغتصاب الحقوق، ورأت في اجرام الأسد وميليشيات إيران بحق السوريين ما يفوق عشرات المرات ما فعلته بحق الفلسطينيين، مما يغطي أفعالها ويعزز دورها في المنطقة.
 لكن إسرائيل اليوم تقع في مقدمة اللاعبين الإقليميين والدوليين الأكثر استفادة من الأزمة السورية، فتدمير سوريا على يد النظام وحلفائه، وفر لها حزمة من المكاسب السياسية والعسكرية والاقتصادية، ليس فقط باستنزاف قدرات سوريا وحزب الله وإيران وشطب سوريا من معادلات المنطقة فحسب، بل بالنتائج التي آل إليها الصراع وخصوصاً الإبقاء على نظام الأسد حليفاً موثوقاً كي يستمر دوره في حماية أمنها وحدودها. كما استغلت الواقع الجديد في إعادة تموضعها في المنطقة من البوابة السورية، وإعلان نفسها كرأس حربة في مواجهة النفوذ الإيراني، مستندةً للدعم الأميركي والتنسيق مع روسيا، وذلك لتأمين المزيد من التوافقات مع الأنظمة العربية مما يجعلها أكثر قبولاً من دول المنطقة على طريق التطبيع معها، وفي ذلك مكسب استراتيجي هام تأمل أن تحصد ثماره قريباً في تكريس احتلالها للجولان السوري باعتراف دولي وإقليمي، وتحويل الصراع في المنطقة إلى صراع عربي إيراني، واستثمار العلاقة مع هذه الأنظمة في الضغط على الفلسطينيين لإتمام صفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية بأيد عربية. وتواصل غاراتها على الأهداف العسكرية لإيران وحزب الله في سورية بالتواطئي مع موسكو، لإضعاف الدور الإيراني الذي ينافسها على النفوذ في سوريا.

                                                              رابعاً: الوضع الدولي

 تسود المشهد الدولي حالة من الفوضى والارتباك، على خلفية الانقسام في مواقف وتوجهات القوى الدولية المؤثرة فيه، واختلاف مقارباتها للأزمات الناشئة إقليمياً ودولياً، التي باتت لا يهمها إلا تأمين مصالحها دون الأخذ بالاعتبار مصالح وتطلعات الشعوب. فلقد أدى تراجع دور المؤسسات الدولية في إيجاد حلول للصراعات الإقليمية إلى طغيان مصالح الدول النافذة التي وصلت إلى حالة من التنكر المخيف للمواثيق الدولية وشرعة حقوق الإنسان، والضرب عرض الحائط بالقرارات الأممية. وما فاقم هذا الوضع ما أفرزته توجهات ومواقف إدارة ترامب الانعزالية. هذا ما كشف عنه مؤتمر ميونخ للأمن، الذي عقد مؤخراً، حقيقة هذا الوضع المفكك والمتصارع أكثر من أي وقت مضى ووصول العلاقات الدولية إلى حالة من الفوضى وتغليب المصالح الضيقة والنزعات الانعزالية المحافظة، قد تؤسس إلى ما هو أسوأ مما كان سائداً زمن الحرب الباردة
 جاء قرار ترامب بإعلان الانسحاب عسكرياً من سورية مفاجئاً لحلفائه وخصومه، وخارجاً عن السياقات الدولية والإقليمية والمحلية معيداً خلط الأوراق في المنطقة من جديد. لكن ما يثير القلق هو غموض الدوافع والأهداف من وراء هذه الخطوة، وإدراك تبعاتها على أزمات المنطقة ولاسيما الأزمة السورية. فيبدو أنه يفضل التخفف من أعباء الولايات المتحدة وتلزيم حلفاءها بحماية مصالحها، والاشراف على إعادة توزيع الأدوار والمصالح بما يحقق أهدافها وتوظيف تناقضات خصومها لملء الفراغ، ودق إسفين في التفاهمات القائمة ما بين تركيا من جهة وروسيا وإيران من جهة أخرى. فهو يريد أن يترك أزمات المنطقة ولاسيما في سوريا فريسة لصراع الأجندات والمصالح والنفوذ لكل من موسكو وطهران وتركيا وإسرائيل. فالاستراتيجية الأميركية المشوبة بالغموض حتى الآن تضرب عرض الحائط بتطلعات شعوب المنطقة نحو السلام والاستقرار. متخذة من لعبة الحرب على الإرهاب وسيلة لا بقاء هذه الشعوب تحت رحمتهم.
  ومن جانب آخر، أثار قرار الانسحاب قلقًا وردّات فعل داخل الولايات المتحدة وخارجها. أهمها استقالة وزير الدفاع ماتيس، والإدانات الصادرة عن قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس إلى جانب الديمقراطيين. أما خارجيًا، فأثار قرار ترامب الذي لم يسبقه تنسيقٌ مع الحلفاء الإقليميين والدوليين (باستثناء تركيا) المخاوف من أن تنهج الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب نهجًا انعزاليًا، يجعلها قوةً لا يمكن الركون إليها والاعتماد عليها، وقد ركزت بشكل تفصيلي رسالة الاستقالة التي بعث بها ماتيس حول تداعيات قرار الانسحاب الأميركي من سورية على صدقية الولايات المتحدة، وعلى الأمن والاستقرار الدوليَين.
يبدو أن هذه الخطوة تأتي تلبيةً لحاجة إدارة ترامب إلى تعزيز موقعها في مواجهة المصاعب التي تتعرض لها داخلياً، ومحاولةً منها لخطب ود الناخب الأميركي بعد فوز الديمقراطيين بأغلبية مجلس النواب. والخروج من العزلة التي فرضتها صراعات ترامب مع مؤسسات كثيرة كان آخرها فرض الاغلاق الحكومي الجزئي رداً على امتناع الكونغرس تمويل بناء الجدار مع المكسيك.
   من بين المتغيرات الكثيرة في مواقف ترامب، تبرز مسألة حماية أمن إسرائيل وحلفائها ميليشيات “قسد”، هي الأكثر ثباتاً من أهداف إدارته، أما استراتيجيتها لمحاصرة إيران واخراجها من سوريا، فنرى أقوالاً لا أفعال، لكن يبدو أن هذا  الدور قد أوكل لإسرائيل بالتنسيق مع موسكو، والسعي لزج الحكام العرب في أتون هذه المعركة تطبيقاً لسياسة الاحتواء المزدوج لكل من تركيا وإيران، مستغلاً خوف الأنظمة ولاسيما دول الخليج ومصر والأردن من تعاظم دوريهما في المنطقة وانعكاسه على استقرارها، وهو ما هدفت إلية جولة بومبيو الواسعة عبر دعوته لتشكيل (ناتو عربي) وتحالف دولي لمواجهة إيران والتصدي لسياساتها المزعزعة لاستقرار المنطقة، وعقدت مؤخراً قمة دولية في وارسو لهذا الغرض، لكن تبين أن هدفها مقايضة التصدي لإيران مقابل الموافقة على صفقة القرن. وبذلك تضع هذه الأنظمة إلى جانب إسرائيل في حندق واحد بمواجهة الخطر الإيراني، وطي صفحة الصراع العربي الإسرائيلي، وتصفية القضية الفلسطينية بغطاء دولي وموافقة عربية. وهذا الخط يبدو أكثر وضوحاً في الاستراتيجية الأميركية (حلف إقليمي يحارب عنها ويؤمن لها مصالحها).
 لا دلائل تشير إلى استعداد واشنطن للدخول في مساومات مع الروس بعد قرار الانسحاب. لكنها تواصل ترتيب أوراقها وتمرير سياساتها تاركة لموسكو حسم خياراتها بما يحقق المصالح المشتركة. وإذا رغبت روسيا في نيل الاعتراف الأميركي بدورها، عليها أن تلعب دوراً فعالاً إلى جانب إسرائيل في احتواء إيران وإضعاف دورها في سوريا، وكذلك حماية حليفها الكردي الذي يتزعم ميليشيات “قسد”. أما ما يتصل بحل الأزمة السورية، فإن واشنطن ترفض مخرجات أستانا وخاصة الدستور والانتخابات، فمن الواضح أنها لن تتدخل لفرض حل سياسي للأزمة بمواجهة الروس، لكنها أيضاً –وكما تعلن-لن تساهم في تمويل إعادة الإعمار طالما بقيت موسكو تمنع تحقيق الانتقال السياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254.
  بعد ثلاث سنوات وأكثر من الجهد العسكري البربري، أصبحت موسكو صاحبة اليد الطولى في الملف السوري، لكنها تشعر اليوم بأن وجودها في سوريا قد تحول إلى مأزق كبير لها، يعرضها لاستنزاف دائم يفوق قدراتها الاقتصادية والمالية، وأنها لم تعد تتحمل حجم الاكلاف الكبيرة كقوة احتلال للأراضي السورية. كما أن قدراتها على موائمة مصالحها مع مصالح الأطراف الأخرى بدأت تتراجع تحت ضغط التناقضات، ويعرضها ذلك لهزات جدية لاسيما مع إيران وإسرائيل، وكذلك مع تركيا، بالإضافة إلى تناقضها الدائم مع الولايات المتحدة. وهي تحاول الخروج من هذا المأزق عبر مناوراتها الإقليمية والدولية.
    بعد قرار الانسحاب الأميركي، تدرك موسكو أنها معنية مباشرة بما بعده، وهي تتحسب وتستعد لإدارة خيوط اللعبة حال البدء بتنفيذه، وذلك عبر التمسك بمسار أستانا، في مواجهة مسار جنيف المعطّل. ورغم التناقضات التي بدأت تنغص على سياساتها من التحالف بين الأضداد، وإدارة لعبة التواطؤ المزدوج تجاه إسرائيل وإيران، فهي تفضل الإبقاء على التنسيق مع تل أبيب كبوابة لحماية دورها، ومدخل لفتح باب المساومات مع واشنطن. كما أن شراكتها مع تركيا في مسار أستانا لم تمنعها من رفض مقترح المنطقة الأمنة لتركيا في الشمال السوري، عبر إغراقها بالمحددات والشروط. وتستخدم مثل هذه السياسة في علاقاتها مع إيران وإدارة مواجهات عسكرية مع ميليشياتها وأنصارها من قوات النظام. وهي إذ تبدي مرونة لتمرير بعض الأهداف الأميركية، لكنها تحتفظ بأوراق مهمة مثل الانخراط المباشر في مواجهة إيران، والحل السياسي في سوريا وفق القرار 2254، ومصير الأسد، التي ستبقى مرهونة بمقايضتها بملفات أخرى ولاسيما في أوكرانيا والعقوبات المفروضة عليها، وكل ما يمس بأمنها ومصالحها، وتسعى موسكو لصفقة مع الولايات المتحدة والغرب تعيد لها المكانة التي افتقدتها، وتحفظ لها دورها في المشهد الدولي إلى جانب الولايات المتحدة.
 يواجه الاتحاد الأوربي صعوبات بالغة في حماية دوره وحفظ مصالحه على الساحة الدولية والإقليمية، ويتعرض لضغوط ومنافسات جدية وتحديات كبيرة تقف على رأسها سياسات إدارة ترمب التي ما فتئت تمارس كل اشكال الضغط والابتزاز الاقتصادي والسياسي على دوله، وتسعى إلى تهميشه والحاقه بسياساتها. أما ثاني هذه التحديات فهي حالة الانقسام وتضارب المصالح لدى قادة دوله تجاه العديد من الملفات الساخنة ولاسيما الملف النووي الإيراني وملف الهجرة مع تركيا وكذلك العلاقة مع روسيا وأدوارها في المنطقة والعالم. لكنها تبدو اليوم مثقلة أكثر من أي وقت مضى بالأزمات الداخلية وتداعيات الهجرة من الجنوب إلى الشمال وصعود اليمين المتطرف والخشية من تنامي دوره في انتخابات البرلمان الأوربي في أيار المقبل، وكذلك أزمة البريكست لتأمين خروج آمن لبريطانيا من الاتحاد. ويعاني الكثير من الدول الأوربية من ازمات اجتماعية واقتصادية وهذا ما أدى إلى ظهور موجة الستر الصفراء بشكل عاصف في فرنسا وإسبانيا وبعض الدول الأخرى في الجنوب الأوربي.
 أما في الملف السوري ورغم ضعف تأثيرها السياسي فيه، إلا أنها تمتلك أوراق هامة مثل إعادة الإعمار التي تربطها بالحل السياسي، والمسألة الحقوقية، فالتحقيقات تتواصل في أكثر من بلد أوروبي حول جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبها نظام الأسد وصدر في المانيا وفرنسا مذكرات توقيف دولية بحق جميل حسن وعلي مملوك وغيرهم. كما أن التحقيقات الأممية التي تقودها القاضية الفرنسية كاترين مارشي حيث قالت: إن لدى هيئتها أكثر من 900 ألف وثيقة إثبات حول الجرائم المرتكبة في سورية. لكن لا توجد إرادة دولية على فتح هذا الملف الأن. ولعل ما يرجح كفة هذا الملف ويفتحه صدور قانون قيصر في الكونغرس الأميركي. كما لعبت الضغوط الأوربية والأميركية على الدول العربية وخاصة على السعودية ومصر والإمارات والأردن دوراً في وقف مسيرة التطبيع مع نظام الأسد، التي تعمل عليها موسكو، لأن هذا يبعث برسالة سلبية ليس للشعب السوري فحسب، بل للمجتمع الدولي ومفادها أن الاعتراف بنظام الأسد يعني أن كل فعله من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية كان صائباً وبالتالي الاستعداد للتغاضي عن هذه الجرائم والقبول بإفلاته من أي محاسبة، وهذه سابقة خطيرة ستكون لها تداعيات كبيرة على كافة الصعد. كذلك أن التطبيع مع نظام الأسد يعني التخلي عن قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن لحل الأزمة السورية لذا جاء التأكيد عليها من القمة العربية الأوربية التي عقدت في شرم الشيخ، ورفض دول الخليج التطبيع مع النظام وعودته للجامعة العربي قبل انجاز الحل السياسي ثناء زيارة لافروف لها. كما يعني التطبيع مع نظام الأسد الإقرار بواقع تقسيم سورية مناطق نفوذ بين روسيا وإيران وتركيا. وجاء قانون قيصر ليقطع الطريق على محاولات الروس المستميتة لإعادة تأهيل النظام.     
دمشق 9/ 3/2019
                                                                                                       اللجنة المركزية
                                                                       لحزب الشعب الديمقراطي السوري