رسالة سياسية!

  في أوائل حزيران 2018، عقدت اللجنة المركزية اجتماعها الدوري، عالجت خلاله التطورات الميدانية والسياسية المتعلقة بالشأن السوري، والنشاطات الدولية والإقليمية التي أعقبت انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي الإيراني وإعلان استراتيجيتها الجديدة اتجاه إيران. كما توقفت أيضاً عند الوضع الفلسطيني ونتائج الانتخابات اللبنانية والعراقية وخلصت إلى النتائج التالية:
  تشهد البلاد تطورات ميدانية وسياسية متسارعة وخطيرة، تدلل على أننا دخلنا مرحلة جديدة من الصراع الدولي والإقليمي في سورية وعليها، وأصبحت بموجبها الأزمة السورية بالغة التعقيد والتشابك بسبب تضارب المصالح الدولية والإقليمية وأصبح من الصعب حلها قبل خروج القوى المحتلة والمتدخلة. إن هذا الصراع يفرز وسيفرز مزيداً من الاحتدام بين الدول المتدخلة ويفتح الأفاق أمام مرحلة تصفية الحروب السورية. وإن قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني والاستراتيجية الأميركية تجاه إيران سيكون لهما الأثر الكبير في تحديد المسارات وتموضع اللاعبين، لأنه يستهدف النفوذ الإيراني في سوريا والمنطقة، مما يعمق المأزق الروسي. وإن التحالف الاستراتيجي بين روسيا وإيران أصبح غير مؤهل للصمود والاستمرار. وتعمل الدول الأوربية على انقاذ الاتفاق النووي بالضغط على إيران من أجل تلبية المطالب الأميركية، وهي وقف تخصيب اليورانيوم والبرنامج الصاروخي الباليستي، وإنهاء تدخلها في شؤون دول المنطقة والخروج من سورية، ووقف دعمها للمنظمات الإرهابية. ويمكن رصد أبرز الملامح العامة لهذه المرحلة كما يلي:
1-التفاهمات الجانبية بين جميع الدول المتدخلة في الشأن السوري، بهدف تصفية وجود كافة الفصائل المسلحة بما فيها الإسلامية والجيش الحر، بحيث لا تبقى منطقةٌ أو فصيل مقاتل خارج سيطرة القوى الدولية والإقليمية وأجنداتها. وهناك مؤشرات تدلل على وجود ضوء أخضر للقوات الروسية والنظام للسيطرة على أخر ما تبقي من أرضٍ بيد المعارضة في الجنوب السوري.
 2-انتقال الصراع إلى الدول المتدخلة فيما بينها وبشكل ظاهر للعيان، فكل دولةٍ تحاول توسيع حصتها مع ضمان القدرة على الاحتفاظ بها.  وخروج المعارضة والنظام معاً من دائرة الفعل والتأثير في هذا الصراع. حيث أصبح مصير سوريا يقرر الآن من خارج إرادة السوريين ومثاله الناصع الاتفاق الروسي الإسرائيلي على الجنوب السوري.
 3-صعود الدور الإسرائيلي المباشر إلى ساحة الصراع عبر توجيه ضربات جوية لقواعد إيران العسكرية وميليشياتها في سورية، وإرسال تهديدات جدّيّة لها، واعتبار وجودها العسكري بالقرب من الجولان المحتل خطراً على أمنها القومي. ومن الواضح أنه في حين يحظى هذا التدخل بموافقة من روسيا والولايات المتحدة الأميركية وتنسيق معهما، فإنه يتوازى مع تراجع في الدور السعودي والعربي عموماً.
 4-إن انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي الإيراني، وإعلان استراتيجيتها تجاه إيران كفيل بتغيير المعادلة الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وبنقل الصراع إلى مرحلة متقدمة، (إذا تم تنفيذ هذه الاستراتيجية بشكل جدي وحازم) الأمر الذي سينعكس بشكل مباشر على الوجود الإيراني في سورية والمنطقة، وعلى الصراع الإسرائيلي -الإيراني في سورية. لكن علينا أن لا نطمئن لهذه النتائج لأن ترامب يتعامل بميزان الربح والخسارة وليس انطلاقاً من رؤية استراتيجية راسخة.
5- إن الضربة الثلاثية والانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني، قد أنهى الوهم الروسي بالقدرة – مع إيران وتركيا -على الاستفراد بالحل السياسي وتقرير مستقبل ومصير سوريا عبر أستانا وسوتشي، وأوضح بأن سوريا أصبحت مشكلة دولية تفرض على الروس عدم الاستهتار بالمواقف الدولية ، وأن لا مخرج أمامها – مهما امتلكت من أوراق القوة على الأرض السورية – سوى العودة إلى الحل السياسي عبر مسار جنيف وعلى أساس القرارات الدولية.   
6-التراجع الكوري الشمالي المرتبط بالتخلي عن السلاح النووي سوف يصعب على الإيرانيين التمسك بالاتفاق النووي ، وسيشجع الولايات المتحدة على ممارسة الضغط على إيران وأوربا لتلبية مطالب ترامب الإضافية المطلوب تنفيذها من قبل إيران.
  إن المرتكزات السالفة الذكر التي تؤسس ملامح المرحلة القادمة تجعلنا نستقرئ مرحلة التفاهمات الأمريكية-الأوربية بشأن التدخل بشكل واضح في المسألة السورية والتي عبرت عنها الضربة الثلاثية وإصدار وثيقة اللاورقة التي تحدد رؤيتها لتنفيذ القرار 2254، رغم أن العلاقة بين الطرفين تتعرض اليوم لامتحانات بالغة الصعوبة. هذا لا يعني وجود رؤية متكاملة أو استراتيجية واضحة لدى الأمريكان حيال سورية. ذلك أن تركيزهم ما زال منصباً على القضاء على داعش ومحاصرة إيران والتضييق على الروس في محاولة لإفشال المسعى الروسي الخاص في حل الأزمة السورية.
                                                          أولاً-الوضع السوري!
أ-الأوضاع الميدانية:
الغوطة الشرقية حرب إبادة وتهجير بقيادة روسية: إن سنوات من الحصار والتجويع الممنهج، من قبل قوات النظام والميليشيات الإيرانية، وأسفرت تفاهمات دولية وإقليمية على إنهاء وضع الغوطة ووجوب تسليمها للروس وحلفائهم. إنها أسبابٌ أدت إلى ما آلت إليه كارثة الغوطة.
  لقد قاد الاحتلال الروسي وحلفاؤه معركة السيطرة على الغوطة الشرقيةً، التي أخذت شكل حرب إبادة جماعية، عبر الآلاف من الغارات الجوية، واستخدام جميع أنواع الأسلحة، منها ما حرم دولياً ومنها ما يجري تجريبه على أجساد أطفالنا، في حملة تدمير شاملة لقتل أكبر عدد ممكن من السكان. لقد ارتكبت مجازر وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لتنتهي تلك المقتلة بمجزرة مروعة بغاز السارين السام التي نفذتها قوات النظام تحت الإشراف الروسي، وراح ضحيتها المئات من الأبرياء بين شهيد ومصاب جلهم من الأطفال والنساء. كل ذلك أدى إلى قبول الفصائل (جيش الإسلام وفيلق الرحمن والآخرين) بالشروط الروسية والتي كان جوهرها تسليم السلاح والتهجير القسري للأهالي والمقاتلين إلى الشمال السوري. جرى كلُّ هذا في ظل تواطؤ وصمت المجتمع الدولي والأمم المتحدة وعجزهما عن تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 2401.  
 أما في القلمون الشرقي وجنوب دمشق فبعد التلويح الروسي بسياسة الأرض المحروقة أو “المصالحة” مع النظام فلم تبد الفصائل المقاتلة هناك أي مقاومة للشروط الروسية ووافقت على تسليم السلاح والتهجير إلى الشمال السوري. بينما سُلِم مخيم اليرموك والحجر الأسود بعد تدميرهما بالطيران والبراميل المتفجرة. يمكن القول إن النظام وحلفاءه قد أحكموا السيطرة على محيط دمشق.
 في دير الزور: أسفر التفاهم الروسي الأميركي عن استيلاء التحالف الدولي على القسم الشرقي منها مسيطراً بذلك على مصادر الثروة، وتاركاً القسم الغربي للروس وإيران والنظام. وما زال الصراع مستمراً لأن العرض الروسي المتمثل بإقناع “قسد” بإشراكهم في إدارة المناطق التي سيطروا عليها شرقي الفرات وترميم المنشآت النفطية مقابل تقاسم العائدات قد فشل. لكن القوات الموالية للنظام ما زالت تحاول السيطرة على بعض المواقع النفطية، مما دفعها إلى شن عدة هجمات على معمل كونيكو وحقل الجفرة باءت جميعها بالفشل، وتكبدت تلك القوات جرّاءها المئات من القتلى بعد تعرضها لقصف طيران التحالف الدولي. يبدو أن أهداف الروس وحلفائهم صعبة التحقق أمام الحزم الأميركي. وهم يدركون أن تنازل الولايات المتحدة عن منشأة “كونيكو” وغيرها أمر مستحيل، لذلك قد يكون مسعى تلك الأطراف مقتصراً على خلق حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، لدفع واشنطن للعودة إلى طاولة المفاوضات، مما يؤدي لرسم خريطة جديدة لمناطق النفوذ بحيث تضمن فيها روسيا والنظام وإيران جزءاً من الثروات النفطية أو حصة منها على الأقل. أما محاولات السيطرة على الطريق الدولي من طهران إلى بيروت. فلم يتمكن حتى الآن حلفاء النظام من إخضاع تلك المنطقة. ولذلك تتواصل المعارك في محيط الميادين والبوكمال وما بينهما مخلفة خسائر كبيرة في صفوفهم. وأصبحت هذه المناطق تشكل حالة استنزاف كبيرة لهم. وتخوض الآن “قسد” معارك ضد داعش للسيطرة على الحدود السورية العراقية.
ب-المشهد السياسي:
 إنّ الصراع في سوريا وعليها دخل مرحلة الصراع المفتوح بين الدول المتدخِّلة، فكل دولةٍ تحاول توسيع حصتها مع القدرة على الاحتفاظ بها. هذا ما فعلته الولايات المتحدة الأميركية في شرق الفرات. وهو ما يحاوله الروس من توسيعٍ لسيطرتهم خارج مدن الساحل السوري وأريافه. وهو الأمر الذي فعلته تركيا عندما أطلقت معركة (غصن الزيتون) وسيطرت على عفرين وطردت ” قوات حماية الشعب ” الكردية، وأنهت وجودها العسكري والسياسي غربي الفرات. وهذا ما تحاول أن تفعله إيران في محيط دمشق وصولاً إلى جنوب غرب سوريا وجنوبها الشرقي لتثبيت وحراسة ممرها إلى المتوسط، ولتكون أيضاً قريبة من الحدود السورية الإسرائيلية. لكن التفاهمات الروسية الإسرائيلية الأخيرة قد تنهي الوجود الإيراني في الجنوب السوري.  
كانت معركة تدمير الغوطة الشرقية حاجةً روسية لتعظيم انتصاراتها الوهمية، واستعادة هيبتها التي اهتزت عسكرياً على أيدي الأمريكان. أما سياسياً فقد فشلت في سوتشي في تمرير حلها السياسي. ولذلك فهي تريد معاقبة المعارضة على موقفها المقاطع لسوتشي ولا مانع لديها من تكرار سيناريو حلب.
مع بدايات الهجوم على الغوطة الشرقية تحرك مجلس الأمن، ومرّر القرار 2401، لكن تم تجاهله من قبل الروس، وأصروا على الحسم العسكري أو الرضوخ لشروطهم فيما يسميه المحتل الروسي بـ “المصالحة”، بينما بقيت بعض دول مجلس الأمن الأخرى مكتفية بتكرار إدانتها للموقف الروسي دون أن تكون راغبةٍ في وضع حدٍ له. ولكن أمام هول فجيعة استخدام غاز السارين في دوما من قبل النظام والروس، صعّدت كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا مواقفها ضدهما محمّلة إياهما المسؤولية عن استخدامه وأكدوا على تجاوز النظام للخطوط الحمر والاتفاقيات الدولية التي وقع عليها ودعوا إلى محاسبته. لكن روسيا قامت كعادتها بفبركة الأكاذيب كي تبرئ ساحة النظام وتوجّه الاتهام للمعارضة، ومنعت مجلس الأمن من اتخاذ أي قرار أو حتى تشكيل لجنة تحقيق دولية بشأن هذه الجريمة وذلك باستخدام حق النقض الفيتو، مما يؤكد ضلوعها فيها وفي جرائم كيماوية أخرى.
 وجهت الدول الثلاث في الرابع عشر من نيسان ضربة عسكرية صاروخية استهدفت البنية التحتية للسلاح الكيماوي لدى النظام، والهيبة الروسية في طريقها، وذلك لتأكيد الحضور ووجوب احترام الخطوط الحمر من قبل الجميع. وعليه فأن هذه الضربة لم تكن من أجل إضعاف النظام أو تأديبه أو رغبة في تعديل ميزان القوى أو نصرة للشعب السوري. بل كانت ذات حمولة سياسية أكثر منها عسكرية، وفهمت على أنها تفويض غير مباشر للأسد بعدم الاعتراض على مواصلته قتل الشعب السوري بكل الوسائل الممكنة باستثناء الكيماوي.
 صحيح أن الضربة كانت محدودة في حجمها العسكري، لكنها أظهرت الحضور الغربي الفاعل في الأزمة السورية. واكتسبت أهميتها من بعدها السياسي ومن توجيهها رسائل عدة إلى موسكو، منها أنها لا تستطيع حماية الأسد ولا إعادة تأهيله، فهو مجرم حرب ومصيره محتوم عبر الجنائية الدولية. وأن الغرب لن يكون بحاجةٍ إلى قرارات دولية في حال قرر القيام بأعمال عسكرية في سوريا، وأن الانتصارات العسكرية الروسية على المعارضة ليست هي من تقرر مصير الحل في سوريا، بل يعتمد ذلك على موازين القوى بين أميركا ودول الغرب الرئيسة وبين موسكو، وأنها ليست لصالح موسكو وسياسات القوة التي تتبناها.
 فالرسائل السياسية التي تلقتها موسكو توحي جميعها بتغيير القواعد التي حكمت الصراع في سوريا حيث تُرك النظام، وحلفاؤه، يذهبون إلى المدى الأقصى. وجاء الآن من يقول لهم إن التفويض والتفرد الروسي في الشأن السوريّ قد انتهى. وإن الأزمة السورية مشكلة دوليّة وحلها يمر عبر التوافقات وقرارات الشّرعية الدوليّة.
 منذ بداية الثورة، مارس النظام سياسات التهجير الممنهج، لكنها برزت على السطح بشكل فاضح بعد التدخل الإيراني وميليشيا حزب الله كحالة تهجير قسري بهدف التغيير الديموغرافي في سورية الذي بدأ بالقصير وامتد إلى مدينة حمص وحلب الشرقية والزبداني ومضايا وداريا، أما مع بدء جولات استانا فقد جاءت بقرارات مناطق خفض التصعيد لتدخل روسيا على الخط. فقامت بتهجير أهالي وادي بردى والغوطة الشرقية والقلمون الشرقي وبلدات جنوب دمشق وريف حمص الشمالي وريف حماه الجنوبي. وقد استهدفت بهذا التهجير فئة معينة من الشعب السوري بشكل طائفي تحقيقاً لمشروع ملالي طهران. ومن اللافت أن المجتمع الدولي والأمم المتحدة ظلا ساكتين عن هذه الجريمة. علماً أنها قد صنفت من ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة.
فبعد تهجير أغلب أهالي الغوطة الشرقية، واحتجاز الآلاف منهم في سجون سميت بمراكز إيواء!  أصدر الأسد “القانون 10 لعام 2018″، والذي هدف من ورائه استكمال جرائم التهجير القسري، القاضي بمنع عودة المهجرين ومصادرة ممتلكاتهم وسلب حقوقهم من خلال الادعاء بإعادة تنظيم المناطق التي هجرّ أهلها، والعمل على بناء أحياء جديدة على أنقاض الأحياء التي ثارت ضد النظام من خلال نص يسقط حقوق ملكية من لم يحضر خلال فترة محددة من البدء بإعادة التنظيم. علماً أن الحقوق المسجلة في السجل العقاري لا يلغيها أي قانون.
                                                           ثانياً-الأوضاع الدولية!
 كانت مواقف الإدارة الأميركية حيال الملف السوري منذ بداية الثورة وحتى الآن متسمة بالانكفاء عن التأثير بفعالية في مجرياته، والاكتفاء بإدارة الصراع والإمساك بخيوط اللعبة واستنزاف الجميع. وسمحت أو غضت النظر عن التدخلات الإقليمية والدولية لبعض الجهات في سوريا، لأن تؤدي أدواراً عسكرية وسياسية غايتها إطالة أمد الأزمة.
 لكن مع بداية عام 2018، ظهرت مؤشرات تدلل على انخراطها بشكل مباشر في الصراع السوري عسكرياً وسياسياً، ظهر ذلك من خلال تواجدها العسكري وقواعدها الجوية في شرق وجنوب البلاد، وفي سرعة ردها العسكري في شرق الفرات، والعمل على حشر الروس وإفشال خططهم (الضربة الثلاثية – عقوبات اقتصادية-الانسحاب من الاتفاق النووي)، وطرح استراتيجية تجاه سوريا تم تمثلها في وثيقة اللاورقة، والتوافق مع تركيا على منطقة منبج، هذا الانخراط يجعل الولايات المتحدة اللاعب الرئيسي المقرر في الصراع السوري، لكن المشكلة في ضبابية موقفها من التحول السياسي، وتصريحات ترامب عن قرب الانسحاب الأميركي من سوريا يدلل أيضاً على تخبط في استراتيجيتها، وعلى عدم وجود رؤية واضحة لها حيال الملف السوري، وهو أيضاً غطاء لاستدراج التمويل من الحلفاء. ثم عادت لتؤكد أنها لن تسحب قواتها من سوريا حتى تحقق أهدافها التي تركز على هزيمة داعش والتأكد من عدم قدرة النظام على استخدام الكيماوي ومراقبة أعمال إيران في سوريا. لكن انسحابها من الاتفاق النووي الإيراني دلل على وجود استراتيجية أميركية تجاه إيران لا تقتصر على سوريا، بل تهدف إلى تحجيم دورها في أرجاء المنطقة مما سيكون له انعكاس إيجابي على الحل السياسي للأزمة السورية.
 أما روسيا التي سعت من وراء تدخلها العسكري في سوريا إلى إثبات وجودها كقوة عظمى، تعود إلى المسرح الدولي على أنقاض الاتحاد السوفيتي، فقد وجدت في الساحة السورية فرصتها لإعادة الاعتبار لنفسها وتأكيد قوتها وأهمية دورها وتجريب أسلحتها. فتدخلت بحجة مكافحة الإرهاب لتقوم بالنيابة عن الغرب والولايات المتحدة _سواء بالاتفاق المباشر أو بدونه_ بالأعمال القذرة التي لا يرغبون القيام بها لأنها تمسُّ بسمعتهم الأخلاقية والمبادئ التي ينادون بها. لتبدو روسيا وكأنها المسؤولة الوحيدة عن كل ما يجري في سوريا من قتل وتدمير وتشريد وتهجير قسري، وتعزيز للنفوذ الإيراني ونسفٍ للحلّ السياسي وفق مرجعياته الدولية. ورغم إنجازاتها العسكرية فقد فشلت في تحويلها إلى مكاسب سياسية ملموسة. فهي تواجه حالة استعصاء في عدم قدرتها على فرض أجنداتها في سوريا دون التوافق الدولي. وباتت تشعر أكثر فأكثر أن انتصاراتها تتهاوى في ظل الصدّ الأميركي عن فتح باب المساومة معها لا في سوريا ولا في غيرها. وتعمل روسيا على تعزيز استراتيجيتها في سورية عبر البوابة الإسرائيلية، وتنسج تفاهمات أو اتفاقات معها كان أخرها ما سمي باتفاق الجنوب، الذي يسمح للنظام بالسيطرة على الجنوب وقبول تواجد قواته على الحدود، مقابل إخراج إيران وابعادها 60 كم عن حدود الجولان المحتل. وهذا يتقاطع مع الموقف الأميركي على تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا. لكن موقفها ما زال غير محسوم، عبر عنه تحذير من الخارجية “بإجراءات حاسمة ومناسبة إذا تم خرق إطلاق النار في الجنوب”.
 بعد الضربة الثلاثية استعادت أوربا بعض خيوط اللعبة في سوريا، ولم تعد موسكو تمسك وحدها بزمام المبادرة، وأصبح الحضور الفرنسي لافتاً حيث تتواجد بعض القوات العسكرية الخاصة في منبج وشرق الفرات. وتقدم الدول الأوربية الفاعلة عروضاً للروس للتخلي عن إيران والمساهمة الجدية في حلّ الأزمة السورية، ومن هذه العروض القبول بقواعدها العسكرية في سوريا، وتقديم دعم مالي لإعادة إعمارها، والاعتراف بها كدولة كبرى، والمساعدة في رفع العقوبات الاقتصادية عنها. وتعمل أيضاً على إنقاذ الاتفاق النووي بالضغط على إيران من أجل تلبية المطالب الأميركية.
 كانت إسرائيل هي القطبة المخفية في القضية السورية وأطراف الصراع فيها. وهي مهتمّة خصوصاً بقواعد إيران العسكرية في سوريا وبالأسلحة والصواريخ التي تكدس فيها أو تمرر إلى حزب الله في لبنان، أما الآن فقد دخلت بشكل مباشر في هذا الصراع وذلك عبر توجيه ضربات جوية وصاروخية إلى القواعد والمراكز الإيرانية وميليشياتها في سوريا، وفي الفترة الأخيرة وجهت ضربة كبيرة طالت العشرات من المواقع الإيرانية وادّعت بعدها بأنها دمرت البنية التحية للوجود العسكري الإيراني في سوريا. أتبعت ذلك بتدمير المستودعات والمنشآت الهامة في مطار حماة حيث يتواجد الحرس الثوري الإيراني.
إن تل أبيب لن تسمح بتكريس الوجود العسكري الإيراني في سوريا ولن تكتفي بالضربات العسكرية لأن تأثرها محدود في بنية الوجود الإيراني لذلك فهي تنسق خططها مع موسكو وواشنطن على إنهاء هذا الوجود. وهي تتشارك مع إدارة ترامب في ثلاث قضايا ضد إيران: التخلي عن الاتفاق النووي، ووقف التغول العسكري الإيراني في سوريا، والتشجيع على تغيير نظام الملالي.
 تطرح التطورات الأخيرة عدداً من الأسئلة الهامة:
 هل سيؤدي تصاعد الضغط الأميركي الإسرائيلي إلى امكانية تراجع إيران ولا سيما إذا فشلت باقي الأطراف الدولية ومنها الاتحاد الأوربي في تقديم ضمانات لاستمرار العمل معها بالاتفاق؟ وكذلك مع ادراكها أن روسيا لن تتجرأ على مساندتها بوضوح في هذه المعركة بسبب اضطرارها للحفاظ على مكانتها ومكاسبها.
 هل سيؤدي احتدام الصراع مع إيران إلى اضطرار موسكو لتقديم بعض التنازلات للمساعدة على حل الأزمة السورية وبالتالي حل أزمة المنطقة وهو ما يحافظ على علاقتها مع المجتمع الدولي ويقربها من عقد تفاهمات ضرورية لها مع واشنطن؟
 هل سيؤثر قرار ترامب على تماسك التفاهمات لدى الدول الضامنة في أستانا أو يهدد بفرط عقدها؟ أم على العكس، يدفع هذا المحور للتماسك أكثر؟                                                                                                                                                               هل سيكون للاتفاق الأمريكي – التركي حول منبج نتائج إيجابية على تصحيح العلاقة بين البلدين ووضعها في مسار مختلف ، مما يضعف موضوعياً مسار الأستانة – سوتشي ، ويزيد من حدة التباين والاختلاف بين الأجندتين الروسية والإيرانية ، وبالتالي يوجه ضربة لذلك الاصطفاف وما يتضمنه من نتائج سلبية على الوضع السوري ؟
                                                       ثالثاً-بعض التطورات الإقليمية!
 شكل قرار ترامب بنقل سفارة واشنطن إلى القدس، ضربة قوية للقضية الفلسطينية وبصورة خاصة لمشروع حل الدولتين (المبادرة العربية للسلام). هذا التطور فجّر غضباً فلسطينياً عارماً وردود أفعال واحتجاجات دولية وعربية وإسلامية واسعة.
 يأتي هذا القرار المتفرد والشاذ عن كل الرؤساء الأميركيين السابقين في سياق استغلال الأوضاع العربية المتردية، والتي هي في اسوأ حالاتها لتحقيق أحلام الصهاينة في دولة يهودية تكون القدس عاصمتها. لعل القلق الشديد الآن من هذه الخطوة، أن الصهاينة سيتشجعون لفرض سيطرتهم بالقوة على ما تبقى من الضفة الغربية وبالتالي أنهاء القضية الفلسطينية وشطب حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه، بما يخالف جميع قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. وقد تجلى ذلك في حجم العنف الذي واجهت به إسرائيل المتظاهرين العزل في قطاع غزة. من الصعب الآن تقدير العواقب الخطيرة لهذه الخطوة، والتي سيكون لها تداعيات واسعة، فهي سوف تؤجج الآن وفي المستقبل الصراع العربي الإسرائيلي ولن يكون قرار ترامب المنفرد والمعزول نهاية المطاف.
 اسفرت الانتخابات النيابة اللبنانية عن تحقيق فوز واضح لحزب الله وحلفائه، حيث حصلوا على نسبة 55% من مقاعد مجلس النواب، وبهذا حققوا فوزاً سياسياً يمكنهم بموجبه السيطرة على القرار السياسي اللبناني وتشكيل الحكومة بمفردهم إذا أرادوا. كما عكست نتائج الانتخابات تراجعاً في مكانة تيار المستقبل، حيث خسر ثلث مقاعده، ظهر ذلك بوضوح في دائرة بيروت الأولى. يعزو المراقبون أسباب هذا التراجع إلى التنازلات التي كان الحريري يقدمها باستمرار بسبب الضغوط التي واجهها من حزب الله وتيار عون والتي أدت إلى تراجع شعبيته، وانفضاض العديد من الشخصيات من حوله، أضافة إلى الانقسامات التي بدأت تطال تياره. كما طال هذا التراجع تيار ميشيل عون بسبب تحالفه مع حزب الله. لكن اللافت أيضاً في هذه النتائج هو بروز انتصارين، الأول: هو التقدم الكبير للقوات اللبنانية التي ضاعفت عدد مقاعدها من ثمانية إل ستة عشر مقعداً على حساب التيار العوني. والثاني: هو تقدم أنصار النظام السوري في أكثر من دائرة انتخابية، وكان في صدارتهم “جميل السيد” المتهم في اغتيال رفيق الحريري.
يبقى السؤال بعد التزم عون والحريري بالتفاهم حول رئاسة الحكومة، هل وافق حزب الله وحركة أمل على تكليف الحريري بدون شروط؟ حتى الآن لم يفصح حزب الله عن شروطه، لكن هذا السكوت قد يعني الموافقة في ظل تحديات دولية وإقليمية لا تساعده على استثمار هذا الانتصار ولا سيما الموقف الإسرائيلي من إيران ولبنان معاً.
 بالرغم من ظاهرة العزوف الواسع لدى قطاعات كثيرة من الشعب العراقي عن المشاركة في الانتخابات العراقية، لأسباب بات يعرفها القاصي والداني، إلا أن نتائجها حققت اختراقاً لافتاً بخلاف كل التوقعات.
 لعل أبرز نتائجها تمثلت في تهديد النفوذ الإيراني وتحجيم مكانه رموزه التي حكمت العراق لعقد ونصف وكانت السبب الرئيسي في عدم استقراره وادخاله في أزمات مستعصية سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً ومعيشياً. كما عكست أيضاً درجة الاستياء الشعبي الواسع من التدخلات إيران ومسؤوليتها عن احكام القبضة على العراق واستغلال مقدراته في خدمة مشاريعها وأجنداتها، وتمزيق وحدة شعبه ونشر الفتن الطائفية، وجعله قاعدة انطلاق لتحقيق أهدافها في المنطقة.
 عُبر عن رفض هذا الواقع، النجاح الكبير الذي حققته قائمة (سائرون) بقيادة مقتدى الصدر والتي تضم في صفوفها العديد من القوى والأحزاب والمنظمات المدنية والديمقراطية واليسارية، راكمت جملة من المواقف والنضالات الداعية لنبذ المحاصصة ومحاربة الطائفية والفساد وإنقاذ العراق من براثن التدخلات والأجندات الخارجية. ما حققته هذه الانتخابات هو انتصار للوطنية العراقية وهزيمة لعملاء لإيران أمثال المالكي. كما أن عدم تصدر قائمة العبادي لنتائج الانتخابات عكست خيبة أمل كبيرة للأمريكان. أما باقي الكتل بمختلف اطيافها فقد توزعت على نتائج متفاوتة وأحرزت حضوراً مقبولاً.
لقد أصبح الصدر وما يمثله من خيار سياسي مع أنصاره وحلفائه هم اصحاب اليد الطولى في صياغة شكل الحكومة القادمة والتي يستطيع من خلالها التعبير عن برنامجه الوطني والتحرر من الأسر الإيراني. لكن من الواضح أن إيران لن تبلع الواقع الجديد أو تقبله بسهولة، لذلك سارع قاسم سليماني إلى التدخل شخصياً عبر تواجده في العراق لمنع العراقيين من تحقيق إرادتهم الوطنية على أرضهم.
                                                            رابعاً-استنتاجات ومهام!
1- لا نبالغ إذا قلنا إن هناك قراراً دولياً بإنهاء الثورة في الغوطة الشرقية والقلمون الشرقي وبلدات جنوب دمشق آخر معاقل المعارضة في محيط العاصمة. وإن سيطرة الحلف الروسي على هذه المناطق كانت له أضرار فادحة على الثورة توازي أو تفوق فداحة إسقاط حلب ولاسيما بعد ظهور فضائح صور تسليم السلاح كماً ونوعاً تكاد تصل حدّ الخيانة. أوصلتنا إليها عوامل عدة منها:
أ-الهمجية الروسية في القصف والقتل والتدمير بضوء أخضر دولي. والتي أخذت شكل حرب إبادة جماعية فاقت جرائم النازية.
ب-عدم وجود إرادة القتال لدى قادة الفصائل بسبب ارتباطهم بالأجندات الدولية والإقليمية. وهذا لا يقلل أو ينال من شجاعة وبسالة المقاتلين الذين سجلوا ملاحم أسطورية في البطولة والتضحية في معارك الغوطة المحاصرة خلال أكثر من ست سنوات.
ج-عدم مناصرة ومؤازرة الفصائل والبلدات والمناطق لبعضها في المعارك ضد النظام. ثم جاء ما سميّ بمناطق خفض التصعيد الذي ساعد النظام على تجميع قواته والاستفراد بالمناطق تباعاً.
د- الصراع على مناطق السيطرة والنفوذ بين الفصائل المقاتلة ما استدعى حالة من الاقتتالات البينيّة والتشرذم بدلاً من التوحد والتنسيق وتشكيل غرف عمليات مشتركة .
هـ-ظهر أن الفصائل كانت مخترقة من قبل النظام ,وأطراف أخرى ما ساهم في تسريع انهيار بلدات الغوطة الشرقية و”الشيخ الضفدع” كبير شرعيي فيلق الرحمن أنموذجاً.  
و-ظهر أن الفصائل كانت أقرب إلى مشاريع سلطة وتسلط منها إلى مشروع الثورة وأهدافها، وكانت تسعى إلى إقامة إمارات إسلامية متناحرة وسلطات تحاكي بنية النظام الأسدي. والكلام عن فشل هذه الفصائل لا يعني فشل الثورة. فالذي فشل هو مشروع أسلمتها.
2-منذ بداية الربيع العربي، كان السلوك الدولي والإقليمي يهدف إلى اسقاط أي مشروع تغييري جذري وشعبي في المنطقة العربية وخاصة في سوريا. فعملوا على منع قيام دول وطنية ديمقراطية فيها، وعملوا أيضاً على منع توحيد قوى الثورة ،بل سعوا إلى تمزيقها وتشتيتها وربطها بالأجندات الدولية والإقليمية.
وتمكن الخارج الدولي والإقليمي من اطلاق ثورة مضادة للإطاحة بكل انتفاضات الربيع العربي والعمل على انهائها. وهذا درس كبير لنا من زاويتين الأولى: أنه لا يمكن نجاح ثورة متعددة الرؤوس وذات أجندات خارجية. والثانية: لا يمكن نجاح ثورة بدون خطاب وطني جامع بعيداً عن أي مسمى ديني أو مذهبي أو ايديولوجي، وأن يؤكد على بناء الدولة الوطنية الديمقراطية.
3- إن ما حدث في البلاد أحدث واقعاً كارثياً، وهذا لن يساعد على استقرار النظام في مناطق سيطرته وبالتالي على استمراره وإعادة تأهيله هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن هزيمة الفصائل ذات الأجندات الخاصة لا يعني هزيمة الثورة لأن الثورة متجذرة في نفوس وعقول السوريين، ورغم عثراتها فهي مستمرة حتى تحقق أهدافها في الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية والعدالة.
4-تعيش المعارضة السورية حالة مزرية حيث الفوضى والعطالة والضياع والتشرذم وغياب المرجعية الوطنية، هذه الحالة يجب الوقوف عندها وبحث كيفية الخروج منها، وهذا يضعها أمام تحديات مصيرية. فوجود الائتلاف وهيئة رياض2 لا يعني الشيء الكثير، فهي مؤسسات مسلوبة الإرادة أمام الدول الراعية، ولا تفعل شيئاً غير بعض الزيارات واللقاءات وإصدار البيانات، تخضع لإرادة الآخرين ولا يؤخذ برأيها. فهي حالة ميؤوس منها بنظر الغالبية من نشطاء الثورة وحاضنتها الشعبية. وأمام تعقد الصراع في سوريا وتعدد الدول المتدخلة والمتصارعة فيما بينها، تصبح الحاجة ماسة إلى وجود كتلة وطنية تتمسك بالثورة وأهدافها مستفيدة من مجريات السنوات السبع الماضية لتجاوز الأخطاء والعثرات سورياً وإقليمياً ودولياً. تتقوى بشعبها وتنفتح على جميع السوريين وتتبنى خطاباً وطنياً جامعاً وموحداً للداخل وجاذباً للخارج ومطمئناً للغرب لتحقيق إرادة الشعب بالانتقال السياسي وبناء النظام الوطني الديمقراطي، وسوريا الدولة المدنية التعددية ذات السيادة. كتلة وطنية تعيد طرح قضية الثورة السورية كقضية وطنية لإنقاذ البلاد من الاحتلالات والمتدخلين والميليشيات واستخدام كل الوسائل المتاحة من أجل إخراجهم من البلاد. وتقدم رؤية متكاملة بهدف استعادة زمام المبادرة، وتحديد الدور الذي ينبغي أن يلعبه السوريون في ظل الواقع العربي والإقليمي والدولي الجديد. كتلة وطنية تخرج من لعبة الدول وتحافظ على قرارها الوطني المستقل، وتنسج علاقات مع الدول لخدمة القضية السورية. كتلة وطنية تتمسك بعملية الانتقال السياسي ورحيل بشار الأسد على أساس المرجعيات الأممية للحل السياسي من بيان جنيف1 إلى قراري مجلس الأمن الدولي 2118 و2254 وبقية القرارات ذات الصلة.
دمشق أوائل حزيران 2018
                                                                                                        اللجنة المركزية
                                                                                               لحزب الشعب الديمقراطي السوري

[gview file=”http://www.syria-sdpp.org/wp-content/uploads/2018/06/الرسالة-السياسية-2.docx”]