منذ أكثر من نصف قرن لم يكن لمنظمات المجتمع المدنيّ السوري غير وجودها الزائف كلازمة تخدم نظام التسلط والاستبداد الأسدي في إحكام سيطرته على المجتمع واحتوائه بإعادة هيكلته عبر مؤسّسات شكلية جوفاء تدعمه وتمكّنه في الداخل، وتروّج لصورته المطلوبة لدى الغرب الذي ما انفكّ يطالبه بتعزيز المجتمع المدنيّ وتفعيل دوره.
ولم يألُ وريث أبيه، منذ أن صار إليه الحكم، جهداً في قمع منتديات المجتمع المدني وإخضاع المنظمات غير الحكومية، ممّا أدّى إلى شللها أو تفكيك بعضها لاتّهامها بخدمة أجندات أجنبية أو التآمر على النظام. ومع قيام الثورة 2011 وتهتّك الحُجُب حول النظام، واضطراب قدرته في الضغط على الحراك الثوري واتّساع مداه وعلوّ سقف مطالبه، وقدرة بعض المنظمات من النفاد من شراك قوانينه وانتهازها فرصة العمل بهامش ضيّق أو بمخاطرة وربما مغامرة أدّت إلى انتقالها من مكان إلى آخر، لتستقرّ خارج الحدود، بعدما ازدادت شراسة النظام في مواجهة الشعب وناشطي منظمات المجتمع المدني اعتقالاً وتغييباً وقتلاً.
وهكذا أضحت كل منظمات الداخل مُستلَبة من قِبَل النظام وخاضعة لمشيئته، وتعمل لتحقيق رؤيته في مجالها، وأغلب منظمات الخارج مُرتهَنة لداعميها ورؤيتهم للصراع، واستشراف مموّليها مآلات القضية السورية وخدمتها لمشاريعهم. وازداد شرخ المجتمع المدني ومنظماته عمقاً بعد تصنيفها بين مؤيّد ومعارض ورماديّ، لتجتمع بخلافاتها فيما سمّي “غرفة المجتمع المدني” التابعة للمبعوث الدولي ستيفان ديمستورا.
ليكون مؤتمر بروكسل الثاني “24-25″ نيسان 2018 لدعم مستقبل سورية والمنطقة ذروة التأزيم عقب الرسالة التي وجّهتها المنظمات المشاركة في غرفة المجتمع المدني التابعة لديمستورا، والتي تحوّلت إلى بيان رسميّ بعد أن نشرها الاتحاد الأوروبي على موقعه. فصارت وثيقة يحتاجها حلفاء النظام وداعميه، ويتلهّف لها ديمستورا وفريقه؛ لأنها أكّدت، عبر صياغتها، تمثيلها لكلّ المجتمع المدنيّ، فصادرت حقاً لغيرها وفوّضت نفسها بما ليس لها، وتناست دورها في المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، وحمايته وصون كرامته ببقائه في أرضه ووطنه، ووقوفها معه ضد العسف والاستبداد هذا من جهة، ومن جهة أخرى انزلقت في عملية تفاوضية فيما بينها حول أمور تخصّ مساراً من مسارات مؤتمر جنيف، فانحرفت عن تثبيت القِيَم والحقوق والقوانين، لتطرح قضايا سياسية أكثر من الإنسانية والحقوقية، فتدعو إلى إعادة النظر في بعض العقوبات المفروضة على النظام، وهو مطلب أثير استطاع النظام وداعميه تحصيله -مجاناً- بعيداً عن جنيف وقرارات مجلس الأمن وخاصة القرار 2254، إذ يعطي النظام المسوّغ لاستعادة قدرته على العمل السياسي ضمن المجتمع الدولي، خاصّة وأن الرسالة/البيان لم تُشِر إليه كمجرم حرب قام بمجازر جماعية، ولم تحدّده بالاسم في قيادة حرب مستمرّة أدّت إلى تدمير مدن وبلدات وتشريد المدنيين الآمنيين، استخدم فيها مع حلفائه كل أنواع الأسلحة بما فيها السلاح الكيماوي المحرّم دولياً، ولتزيد في ضبابيّة الموقف أكثر؛ استخدمت الرسالة ” الهندسة الديمغرافية “تعبيراً منمّقاً بدلاً من الاقتلاع بالقوة والترهيب والتهجير القسريّ، ووضع اليد على أملاك الغائبين في المرسوم رقم ( 10 ) الذي لا تقرّه شرائع السماء ولا تقبله قوانين الأرض. ولم تذكر أرقام المفقودين والمختفين والمخطوفين والقتلى تحت التعذيب في الأقبية والسجون، لتردّد لازمة التهرّب بقولها: كل الأطراف، وكل الاحتلالات، والميليشيات الأجنبية.
لقد أظهرت الرسالة/البيان الماهيّة الهلاميّة لكثير من منظمات المجتمع المدني، وأبرزت ضرورة استقلاليّتها تجاه قضيّتها الوطنية، وأهمّية دورها في فرض القضايا التي يجب مناقشتها بعيداً عن تدخّل فريق ديمستورا – الذي يهتمّ قبل كل شيء بإنجازه عملاً مع سوريين، انتقاهم ممثّلين أو دعاهم ليكونوا كذلك – إذ هي في موقف مُزرٍ، فلا هي قادرة على اتّخاذ موقف بعيد عن النظام وليّ نعمتها أو المرتبطة به في الداخل، ولا هي مالكة إرادتها في تحديد رؤيتها بعيداً عن مشروع داعمها ومشغّلها في الخارج، بل في أحسن الأحوال ترى في مسار التلفيق والانتهازية والانتقائية خلاصاً لها، لتَسبَح في تحوّلات مواقف الآخرين التي تتغيّر تبعاً لتطوّر القضية السورية في جولات صراع الأطراف المحلّية والإقليمية والدولية المشاركة فيها، والتي باتت تعتمد الساحة السوريّة ميداناً خصباً لإبداع حلول للملفّات العالقة بين جميع القوى على حساب مستقبل سورية وشعبها.
هيئة التحرير