رؤية إعلان دمشق لـ:

 توقيت القرار الأميركي حول القدس وتداعياته

 

   أقر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في السادس من الشهر الجاري قانون الكونغرس الأميركي الذي صدر عام 1995 وألزم الإدارة الأميركية بنقل سفارتها إلى القدس المحتلة. ذلك القرار منح الإدارة حق اختيار التوقيت المناسب، بما لا يضر بالأمن القومي الأميركي. وقد تجنب الرؤساء الأميركيون منذ ذلك الحين تنفيذ القرار، إلا أن الرئيس الحالي ارتأى أن التوقيت بات ملائماً، ودعا دول العالم لتحذوا حذو دولته؛ فالنظام العربي في أسوأ حالاته، وهو في ظل الظروف السائدة في المنطقة أعجز من أن يواجه انحياز الإدارة الأميركية وقراراتها الظالمة وصلف اليمين الإسرائيلي الذي عطل عملية السلام منذ انطلاق أوسلو؛ والأنظمة العربية الاستبدادية التي قمعت شعوبها وأجرمت بحقها لا تعدوا أن تكون أنظمة وظيفية يهمها الحفاظ على سلطتها، غير عابئة لا بالقضية الفلسطينية ولا بالقدس ورمزيتها الدينية والتاريخية. معلوم أن وضع القدس تقرر عام 1947 إثر قرار التقسيم رقم /181/الذي أعطاها نظاماً خاصاً وكياناً منفصلاً تديره الأمم المتحدة بعد عامين من صدور القرار. كما ينص اتفاق أوسلو على ألا يجوز لأي من الطرفين القيام بأعمال من شأنها التأثير على الوضع النهائي للقدس.
تعتبر قضية القدس أعقد قضية في الصراع العربي الإسرائيلي، لذلك رحلتَها اتفاقات أوسلو إلى قضايا الحل النهائي. فالإسرائيليون أصروا على الدوام أن القدس الموحدة هي عاصمتهم الأبدية، في الوقت الذي صدر فيه العديد من القرارات الأممية، التي ترفض الطرح الإسرائيلي وضم القدس الشرقية وتعتبرها أراض محتلة، يجب الانسحاب منها وفقاً للقانون الدولي. وخطورة القرار الأميركي الجديد لا تكمن في بعده القانوني، وكونه يمثل انتهاكاً صريحاً للقانون الدولي فحسب، بل تكمن الخطورة بمكانة الدولة التي اتخذته. فهناك خشية من أن يحذوا كثير من الدول حذو الولايات المتحدة بذريعة هذا الموقف، بخاصة وأن الدبلوماسية الإسرائيلية، طالما كانت نشطة في هذا الاتجاه على مدى عقود، في وقت اكتفى به العرب بترداد شعاراتهم حول عروبة القدس ومسجدها الأقصى. من جهة أخرى كيف سينعكس هذا القرار على الدور الأميركي كراع لعملية السلام وحل الدولتين الذي أضحى بعد ربع قرن تحت السؤال، في الوقت الذي لا توجد فيه دولة في العالم قادرة على تسنم هذه المهمة العويصة، وهو ما تريده إسرائيل رغم أهمية المواقف الأوربية التي رفضت القرار الأميركي، ونبهت إلى خطورته على عملية السلام، وما زالت تعتبر القدس عاصمة لدولتين.
لا يمكن فصل القرار الأميركي بتوقيته وتداعياته عن مآلات ثورات الربيع العربي ومعيارها الأخلاقي والنضالي؛ فالفظائع المريعة التي ارتكبت بحق السوريين والعرب الذين تطلعوا للحرية والكرامة، وما استجلبه النظام من ميليشيات إيران الطائفية والتدخل الروسي لقمع هذه الثورة، رهن بنتيجته سيادة سورية ومستقبلها لهؤلاء. ومنح التمددُ التوسعي الإيراني في العراق واليمن ولبنان، الإدارة الأميركية القدرة على اتخاذ مثل هذا القرار وفي هذا التوقيت. ومن المؤكد أن هناك دولاً عربية بعضها وازنة، لا تمانع قرار الإدارة هذا، إما نتيجة أوضاعها الداخلية المضطربة والهشة، وإما لشعورها باختلال موازين القوى في المنطقة لصالح إيران وتهديدها لأمن هذه الدول، الأمر الذي استدعى تغييراً في أولوياتها واستراتيجياتها.
إن التراجع الذي لحق بالمعارضة السورية منذ أن سقطت حلب نهاية العام 2016 نتيجة الإجرام الروسي الذي دمر 42% من المساحة السورية بما فيها حلب الشرقية، ما كان ليحصل بهذا الشكل، لولا أن سبقته تفاهمات دولية وإقليمية، أبرزها التفاهم التركي الروسي الذي شكل بداية تغيير في المواقف التركية من الثورة السورية وتالياً التغير في الموقف السعودي. وبالترافق مع هذه التطورات يعيش العراق حالة من الاضطراب والتفكك على أثر الاستفتاء في إقليم كردستان وما تلاه من تداعيات أصابت مكوناته الثلاثة وخاصة الكردي منها. كما يعيش اليمن أخيراً، ودول الخليج، تداعيات مقتل علي عبد الله صالح على يد الحوثيين، الأمر الذي يجعل من الطبيعي أن تكثر المشاريع والمؤتمرات التي تدعي بحثاً عن حل سياسي للقضية السورية التي باتت عبئاً على العالم، لكن بعيداً عن إرادة السوريين وتطلعاتهم.
لقد ركزت استراتيجية الإدارتين الأميركية السابقة واللاحقة وكذلك تكتيكاتهما على شقيهما العسكري والسياسي. لكنها مازالت غامضة وغير معلنة، وعلى خطين متمايزين أولهما: إضعاف المعارضة السورية وإدخالها في مسار تراجعي تدريجي من خلال ربط قرارها بالدول الداعمة وتمويلها المقونن أميركياً، منذ أن أعلنت عن قرارها سيء الصيت أن “لا حل عسكرياً للصراع في سورية”، وثانيهما: إضعاف موقف روسيا وتعميق مأزقها في سورية، وهي التي عجزت حتى الآن عن ترجمة إنجازها العسكري إلى نصر سياسي، وتسعى لاهثة وراء حل يضمن شيئاً من مصالحها، لأنها لا تريد تورطاً أكبر في هذا الصراع الدامي.
لقد عملت الولايات المتحدة جاهدة على تأجيج الصراع في مراحل سابقة على حساب دم السوريين والعراقيين دون أن يرتب عليهم تكلفة بشرية، ويبدو الآن أنها دخلت مرحلة تصفية القوى التي لها وجود عسكري في سورية ومنها المعارضة السورية، في حين أوكلت لحلفائها في المنطقة مهمة تصفية الوجود الإيراني وقطع أذرع إيران، الأمر الذي يرتب على المعارضة السورية ضرورة لملمة صفوفها وأن تحاول العودة إلى واجهة الحدث كفاعل فيه لا منفعلة باسم الواقعية السياسية. وليس من المبالغة القول أن ما سترسو عليه المنطقة، سوف يتوقف على مصير الثورة السورية.
مما لا شك فيه أن أميركا عاجزة بمفردها عن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كما بينت التجربة، وقرارها الجديد سوف يزيد من تعقيدات المنطقة، ولن يكون مدخلاً لدفع عملية السلام كما ادعت الإدارة في محاولتها التخفيف من وطأة قرارها، وإذا كان من المهم للقضية الفلسطينية وللسلام العادل موقف دول العالم التي رفضت القرار الأميركي الظالم وفي مقدمتها دول الاتحاد الأوربي، وإذا كان مهماً أيضاً ويمكن التعويل عليه التحرك السلمي للشعب الفلسطيني وبقية الشعوب العربية والإسلامية الرافضة لهذا القرار، إلا أن كل هذا لن يكون كافياً لثني الإدارة الأميركية عن قرارها وموقفها المتحيز. رغم كل هذا التعقيد، ورغم واقع الضعف، قد يدفع الخلاف الأوروبي الأميركي الطارئ الشعوب العربية لإعادة النظر بواقعها، والعمل المديد على تعديل ميزان القوى المختل لغير صالحها، ببناء عوامل القوة في مفهومها الشامل، وفي مقدمتها فوز الشعوب العربية بحريتها ودحر الاستبداد، فلم يعد ممكناً الركون إلى مواقف النظام الرسمي العربي المتهافت وبياناته الشاجبة.
تحية لأرواح الشهداء
عاشت سورية حرة وديمقراطية
دمشق في   16/12/2017

                                                                            الأمانة العامة
لإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي